صاحبةُ العِصْمة

يوم جاءت كان يوم بياض نهاره توارى في عتمة غاشية تحت السُّحب المتراكمة، ونسائمه جالت مثقلة بالبرودة تسفع الوجوه وترعد الأطراف، ونُذُر المطر تهيم في الفضاء. وتوجَّس الناس فحملوا السلع إلى أعماق الحوانيت، ولاذت عربات اليد بالأفنية. لم يبقَ في الحارة إلا الصغار يتحدَّون عبوس الجو بمرحهم المستهتر. جاءت في حنطور يتأوَّد فوق أديم مبلط، يشده حصان مهزول، ويسوقه حوذي عجوز نعسان، مسبوقة في اليوم السابق بأثاث فخيم بهر الأعين المتفحصة. وقف الحنطور أمام آخر بيت من ناحية القبو، فمرَقت منه إلى الداخل امرأة رشيقة محجبة، لم يكشِف نقابها المحكم عن ملمحٍ من ملامحها، وتبِعَتْها عجوز سافرة مقوَّسة الظهر من الهرَم. أذاعت صاحبة البيت بأن الدور الثاني والأخير اكترته أسرة ذات شأن ووزن، ولكن لم يتصور أحد أن تتكون من امرأة وحيدة وخادم عجوز. ولما دارت العربة بصعوبة لضيق المكان لترجع من حيث أتت، وثَبَ رجل نحو الحوذي وسأله: من أين جئت بحمولتك؟

فأجاب العجوز وهو يهز اللجام مستحثًّا حصانه على السير: من زين العابدين.

ولم يُشبع الجواب نَهَم أحد، وأخذ الرذاذ يرش الأرض. وقال صوت: الخير على قدوم الواردين.

فتعجب آخر: أي خير في هذا الجو العاصف!

ورغم انهماك الخلق في غيابات الحياة اليومية وانغماسهم في الحساب، نفثوا مع أبخرة أفواههم الظنون وجاشت صدورهم بالأَخيِلة المحرَّمة، واستفحل الخطب بتسلُّل أنباء عن ترملها المبكر ووحدتها المثيرة وترفعها المتحدي، وما خلَّفتْه وراءها من احتدام الأهواء الجامحة. تقول مالكة البيت بفخار: أرمل الشيخ النقيب صاحب الوقف المعروف باسمه، وشرطه الأول أن يبقى استحقاقها ساريًا ما بقيت أرمل، فإذا تزوجت سقط حقها في الريع.

ويطالبها صاحب الوكالة بوصفها فتقول: لمحة عابرة، ولكنها ثمرة ناضجة قُبيل منتصف العمر، ليس كمثل جمالها شيء.

ويتجهم وجه المرأة الغامق مثل قشرة الدوم، وتقول محتجة: لا تُرحب بلقاء أحد، ولا أنا صاحبة البيت، أُصبح على وجه خادمتها الكركوبة أم طاهر، أما كوثر هانم …

ويقاطعها أكثر من رجل: اسمها كوثر؟

– كوثر البدري كما هو مرقوم في عقد الإيجار.

وأم طاهر تجول في الحارة مع تعاقُب الأيام. تطوف بالجزَّار والبقَّال والفاكهي والعطار والبنَّان وتُعرض عن المتطفلين. وسيدتها قابعة في أعماق ذاتها، لا تُغادر البيت، لا تلوح في نافذة، ولكنها غزت الأخيلة بسحرها الخبيء، وأشعلت الوجوه والأطراف بوَقْع نظرتها المتسلِّلة الخفية من وراء النوافذ المغلقة، تَرى ولا تُرى، تقيم وتزن وتحكم من جانب واحد، وهم تحت رحمة مجهولها لا عِلْم لهم بما يَروق أو يُسخِط، بما يفتح الأبواب أو يُغلقها، بما يُقرِّب أو يُبعِد. وهي وفدت إلى الحارة في وقت استقر فيه زحل في برج الحظ المائل، فأرسل نحسه ليغمر القاصي والداني. ثقلت الأرواح ففقدت خفة مرحها، وصمَّت الآذان عن سماع الغناء، وجفَّت القلوب فتلاشت خفقة الحب والحنان، ومضت الشمس تُشرِق وتَغرُب والقمر يسطَع ويأفُل، فلا يظفر بمن يدهش أو يفرح أو يتذكر، ولكن احتدم البيع والشراء وتناطح الربح والخسران، وتوالى الملء والتفريغ، وكثر الغش والحلف بالطلاق، والحج لعقد الصفقات والزواج لتأمين الدعارة، واندلاع الخصومات لأتفه الأسباب، حتى حارَ من أمره ينسون، الشاب المجهول الأب النحيل الجسم ذو قلب الطفل ووجه العذراء، ما بال أحد لا يداعبه أو يعطف عليه كالأيام الماضية؟ ما زال سقَّاء الحارة يطوف على البيوت بالقِرَب ولا يجد عند المساء من يلهو معه أو يَطرَب لصوته إذا غنَّى. وفدت إلى الحارة وهي على تلك الحال، فما فعل مجيئها إلا أن أرَّث الطمع وهيَّج الجشع وقدح زناد الهدم والتخريب. وقال مدَّعو الحكمة: إن امرأةً هذا حالها لا تُفرِّط في الوقف من أجل الشرع، ولكنها في النهاية تمهِّد فراشها للزنا لصاحب القسمة والنصيب؛ فيفوز بالحب والمال معًا. وفي الليالي الساهرة التي يحتفلون فيها بالصفقات الرابحة تنهزم جحافل الليل أمام أضواء الكلوبات، وتغصُّ الأرض بالجماهير، وتزدحم الأبواب والنوافذ بالنساء. وترتسم هامتها وراء خِصاص النافذة فتنبض العروق بالحماس، ويثمل بالنشوة السكارى والمفيقون، فيتبارون في الرقص والمصارعة والمزاح، يقدمونها قرابين تحت النافذة؛ استثارة للرغبات الكامنة وتمهيدًا للاقتحام. ويراقب شيخ الحارة ما يجري بعين تطفح بالكآبة، فيحدس قلبه المتاعب المقبلة في طيات السُّحب، ولم يجد من يحاوره إلا ينسون المستقر في رحاب الطيبة والأسى، فيقول له: لا يتذكرون قتلى أسلافهم يا ينسون.

فيسأله الفتى الذي سعد بإقباله: كيف قُتلوا يا شيخنا؟

فيقول ماضغًا مرارة الذكرى: لأتفه الأسباب، يا ينسون.

ومضت أيام ذاك الشتاء العاتي، دون أن تصيب شهوة مرماها، فانفجر غضب الكبرياء في القلوب المحتدمة بالضجر، وتمخَّضت ليالي الغُرَز عن مكيدة، فاختفت أم طاهر هاجرةً خدمة السيدة الوحيدة، وتعهَّدت مالكة البيت بالامتناع عن تقديم أي مساعدة للجميلة المتوارية. دبَّروا ذلك ليُجبروا المرأة على الظهور والمشي في السوق، ثم يكون بعد ذلك ما يكون. ولم تكن المكيدة مما يتفق مع تقاليد الحارة وشهامتها الموروثة، ولكنها لم تنبُ عن ذوقها الذي اكتسبته أخيرًا في دوَّامة الأعاصير الجارية، ووعدت الجميع بإشباع نهمهم ودغدغة غرائزهم، وتحقيق أخيلتهم المحمومة. ولم تشغلهم أعمالهم عن التربص بالمسكن المغلق. عما قليل ستهلُّ عليهم بقامتها الممشوقة، كاشفة عن ذاتها، ويتهادى إلى الآذان صوتها الناعم. وباقتراب اللحظة المترقبة اضطرمت المنافسة في الأعماق، وتوتَّرت العلاقات، واندلع الاستفزاز في المحاجر، فأنذر بأوخم العواقب. مَنَّى كلٌّ نفسه بها، ورأى ذاته في مرآة الوجود الأجدرَ والأحقَّ بملكيتها شرعًا أو سفاحًا. وتوثب شيخ الحارة للعمل ولكن الأحداث لم تُمهله، فنشِبت معارك وحشية، كلما سد ثغرة انفتقت ثغرة، وتعرَّت الأنفس بلا حياء. وجمع الشيخ عزيمته ومضى إلى البيت، وطرق باب الست. ومن وراء شرَّاعة الباب المواربة قال: أنا شيخ الحارة.

فجاءه صوتٌ غاية في العذوبة وهو يقول: انتظرتك من أول يوم!

– عظيم، ماذا ترين حلًّا لهذه الوحلة؟

فقالت بعتاب: ظننتك قادمًا بالحل!

– الوحش انطلق بلا رادع، ولن يرجعه إلى قفصه إلا أن تذهبي بسلام.

فقالت بأسًى: جئت هربًا من هذا الوحش!

فتفكر قليلًا ثم قال: اختاري أحدهم.

فقالت بازدراء: لا خيار بين هؤلاء الحُقراء.

– منهم من يُعَدُّ من أغنى الأغنياء.

– ليس المال ما ينقصني.

– ستخرجين اليوم أو غدًا إلى حارتهم.

– لم أعتَدِ الجوَلان في الطرقات.

– لن يسعى إليكِ الطعام على قدمين؟

فصمتتْ مليًّا ثم قالت: يا شيخ الحارة، أرسِل إليَّ الفتى ينسون!

فهتف الرجل ذاهلًا: ينسون؟!

فقالت بهدوء: نعم. إنه يصلح للخدمة.

– سيغرونه بهجرك كما فعلوا مع أم طاهر وصاحبة البيت!

– قلبي يحدثني بخلاف ذلك.

– أخاف عليه سوء العاقبة.

– أرسله، ودَعِ الأمر لي.

وانتبه الرجال، فإذا ينسون يعمل في خدمة السيدة الجميلة. يذهب ويجيء في طمأنينة الغافل عن النُّذُر المُحدِقة به. وتغير منظره. خطر في جلباب صوفي وطاقية بيضاء ومركوب أحمر. وفي حمَّام السلطان تجلَّى لونه الحقيقي لأول مرة. وثبت لكلِّ ذي عين أنَّ له شبابًا ورونقًا. وتفاقمت الشائعات المُغرضة عن العلاقة بينه وبين كوثر هانم. ولم تنهزم المرأة، ولكنها تحدَّت الجميع بإرادة لم تجرِ لأحد في بالٍ. استدعت المأذون في رابعة النهار، وأتت — من بين معارف أسرتها — بشاهدينِ خطيرينِ، حمل حضورهما معها فصل الخطاب، هما شيخ الأزهر ومدير الأمن العام، وقالت المرأة لشيخ الحارة: ضحيت بنصيبي في وقف النقيب قانعةً بالحب والأمان، ومدَّخَر من المال يكفي لبدء حياة جديدة.

•••

وحتى اليوم أتذكر هذه الحكاية كأسطورة من أساطير الصِّبا، ولكني أتذكر أيضًا أن أبي أقسم لي مرة أنها حكاية حقيقية، وأنه عاصرها على عهد شبابه المُولِّي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤