في أثَر السيدة الجميلة

ذات صباح مبكِّر دافئ صادفتها عند منعطف البرج، وليس في الطريق غيرنا سوى الكنَّاس. كنت قادمًا من المنعطف من ناحية، وهي قادمة من الناحية المقابلة وبيننا أشعة الشمس المشرقة تحبو فوق الأرض الخضراء.

ألقيت نظرة عابرة فشُدَّت بقوة باهرة؛ لتستقر فوق صفحة وجه ذات مواصفات خاصة لا جدوى من وصفها. الجميلات كثيرات، ولكنَّ إحداهن تُخصُّ بميزة سرِّية يتسلَّل منها إلى قلب ما نداءٌ مبهم لا يقاوَم. قوته الحقيقية في الأمر الصادر منه، وقوته الحقيقية أيضًا في الاستجابة الحارَّة إليه التي لا تفسير لها. من أجل ذلك وقعتُ أسيرًا بلا معركة، أو من خلال معركة لم أشعر بها قط. انشرح صدري بقوة عجيبة، واستسلم قلبي بلا قيد أو شرط، كأنها غاية الدنيا وثمرتها النهائية، هي ما أريد، وما تعلو على جميع ما تَعِدُ به الدنيا من جاهٍ ومال وسعادة. ونسيت شواغلي جملة، وهموم اليوم والغد، وما كنت ماضيًا لأؤديه مما يمتُّ بصلة لأسرتي أو عملي. تلاشى كل شيء، ولم يبقَ إلا هذه الصورة العذبة المتوَّجة لجسم رشيق يمضي بها في مشية معتدلة هادفة على مبعدة أمتار، وأنا في أثرها مركِّز الوعي في حركتها اللدنة المتتابعة. وهالني وأثقل مهمتي هالة الجدِّيَّة التي تكسوها، ورصانة الخطو التي تحملها بعيدًا عن ألفة المرح وأمل القرب. تُرى ماذا أبغي؟

ولكنني أبغي شيئًا محددًا ولا أملك خطة واضحة. المسألة بكل بساطة أنني عاجز عن الانفصال عنها مهما تكن العواقب.

إنه أمر خطير في الواقع. ليس لهوًا ولا عبثًا، ولكنه فقدان كامل للذات، واندفاع أهوَجُ في سبيل جديد لم يلِجْ من قبل في جدول أعمالي. ضعت بالطول والعرض، وأصبح الماضي كله في خبر كان. وبعد مسيرة دقائق مالت الفتاة — أو المرأة — إلى المستشفى، ودخلت فواصلت سيري أمتارًا ثم توقفت تحت شجرة. أتعمل في المستشفى أم تعود مريضًا؟

لم أفكر في الذهاب على أي حال، ولا في التخلي عن أن أكون ظِلًّا لها.

وتذكرت في فترة الانتظار حريتي، وبأنه لا يمكن إرجاع الزمن خطوة والإفاقة من هذه السَّكرة الغامرة؟!

ومن شدة شعوري بالأَسْر دعوت إرادتي أن تمدني بالرعاية الواجبة، ووردت على ذاكرتي تجربة سابقة متشابهة، ولكنها بعيدة عن التطابق.

ثمة سحر كان، نفثته نظرة ساجية تحت ظلال حاجبين مقرونين وفترة جنون طال وفعل بي ما لا يُقال، ولكن التجربة الجديدة، رغم ذلك، جديدة تمامًا وغير مسبوقة بنوعها، ولا تبدو القديمة بالقياس إليها إلا «بروفة» باهتة. ومر وقت ثقيل قبل أن تُغادر المستشفى مقبلة نحو موقفي ماضية في طريقها. ولدى مرورها بي تلقيت نظرة عابرة، فلم أدرِ إن كانت تذكَّرَتني أم لا، وذهبتْ مجلَّلة بجدِّيَّتها ومناعتها وفِتنتها الغامضة، ساحبةً إياي وراءها.

وانقضَت حوالي نصف ساعة قبل أن يتراءى لنا ميدان التحرير. وصاحبني تساؤل دائم عن جدوى إصراري أو معناه أو الهدف منه، ولكنه لم يقلل من حدة نشاطي المندفع. وساورتني احتمالات ممكنة كأن تستقل سيارة فتغيب عن أفقي، ولكنني لم أنثنِ عن السير. وأظنها على علم ما بمتابعتها، ولكنها لم تُبدِ عن أي ردة فعل، فضلًا عن أنها لا يعتريها تعب أو ضجر. وقلت لنفسي: إن محاولة التعارف خطوة لا بأس بها، وربما تمخَّضت عن جديد، وهي على أي حال خيرٌ من السير الأخرس. وأسرعت لألحق بها، وهمَمْت بالكلام عندما أقبل نحوها رجلٌ قوي البنيان فخم المنظر، وهو يهتف متهللًا: أشرقت الأنوار.

تصافحا بحرارة، فواصلتُ السير حتى وجدت مأوًى قريبًا وراء حجرة تفتيش كهربائية. وراقبت انهماكهما في حديث غير مسموع. وأشار الرجل إلى محل «باباز»، فمضت برفقته إليه ثم اختفيا داخله.

أنْتظِرُ أم أدخُل؟

لبثت فترة تمزُّق وحيرة، ثم اقتحمتُ المحل كأنما أبحث عن شخص ما. وجعلت أجول في الأركان ببصري، فرأيتهما جالسَين حول مائدة، أمامها زجاجة بيبسي، وأمامه فنجان قهوة وهو باسط أمامه صفحة يتلوها بعناية، وتبادلا حديثًا حول التلاوة، في الغالب. فدوَّن الرجل بعض الملاحظات، ثم صفق داعيًا الجرسون فأسرعتُ إلى الانتظار في الخارج وخرجا في أعقابي، فتصافحا أمام المحل، أما الرجل فرجع إلى الداخل، وأما المرأة فسارت نحو شارع خيري، وفي الحال تحركتُ في خَطِّي المرسوم.

وبعد مسيرة دقائق انحرفتْ نحو دكان ساعاتي، فوقفتُ تحت شجرة مستقبلًا حرارة متصاعدة وأصواتًا متضاربة، وزحمة تنقضُّ ما بين مركبات وآدميين، وكأنما الدنيا تقذف بأناسها وآلامها من كافة الأنواع والأشكال.

وغادرَتِ المحل بعد ربع ساعة، فتواصلت المطاردة المحمومة الخفيَّة.

كيف يتأتى لي أن أهمس في أذنها بما أريد وسط هذا الانفجار الآدمي الآلي الذي يتعاظم بين دقيقة وأخرى تلهبه أشعة الشمس والأنفاس الحارة؟ رأيتها تتَّجه نحو «البنك الأهلي» وتغوص داخله، فتوقفت في ضيق شديد، ثم دخلتُ وراءها متعللًا بفكِّ ورقة مالية. لمحتها تقف أمام شباك لعله لصرف الشيكات، ثم تقف جنب أريكة مكتظَّة تنتظر. ولبثت واقفًا، ولكنني خفت أن أثير ريبة فذهبت خارجًا، وانتظرت أمام بيَّاع جرائد ومطبوعات، رحت أتفحصها وأراقب باب البنك في الوقت ذاته. حتى متى أستطيع اتقاء الشعور بالتعب؟

ها هو الوقت يمضي في توتُّر أعصاب وتصلب عضلات. ثم تلوح في باب البنك بشموخها الفطري، فيخفق فؤادي بارتياح عابر عميق. أتبعها متجدِّد النشاط متحيِّن الفرصة للالتحام بها، ومهما كلفني ذلك من مخاطرة. ولكنها مالت إلى السنترال. هذا مكان لا يثير الوجود فيه تساؤلًا أو ريبة. دخلتُ بجرأة، وانتظرت قريبًا من المدخل أتابع سعيها لطلب رَقْم ما. وسمعت العاملة وهي تقول لها «رقم ١١»، رأيتها وهي تدخل المقصورة وتسحب الباب خلفها. تُرى ألم يُفتن بها سواي؟ أي قضاء قُضِي به عليَّ هذا الصباح؟ ثمة تعب خفيف بدأ دبيبه في ساقيَّ، وهناك شبح الإحباط أيضًا. وظل الشك المؤرق. ويوجد أيضًا شعور قائم بتفاهة كلِّ شيء خارج نطاق المغامرة المجنونة. ها هي خارجة من المقصورة بوجه مورَّد بالرضا. تحرَّكْ .. تحرَّكْ .. لا يجوز التراجع بعد ما كان.

لعلها نسِيَتني تمامًا ولكن لا محيد عن السير، بلغ رِكابنا شارع طلعت حرب، فبلغ الزحام والحر أشده. ولا فرصة البتة للمناورة. أسبقها مرَّة وأتأخر عنها أكثر الوقت؛ لعلها تتذكر رجل البرج. لم أتمكن من قراءة أصابعها أهي متزوِّجة؟ مخطوبة؟ حرة؟ وصادفتها امرأة من معارفها فانتحيتا جانبًا، وتوقفتُ مائلًا نحو باب عمارة. ما أجمل ابتسامتها وأرشق إشارتها! وانتهى اللقاء فواصلتْ سيرها مارةً أمامي، لمحتني ما في ذلك شك. وكردٍّ على ذلك زادت من سرعتها ومن جدِّيَّتها. وأعود للتساؤل عن معنى ذلك. ولكن لا حيلة للعقل في الموضوع كله. أو لعله يقرُّني على سلوكي طالما أجد فيه أملًا أو سعادة. يقول لي: استمر إذا شئت، ولكن لا تتورط في خطأ. وأصبح الشعور بالتعب واضحًا. وعرَّجتْ إلى شارع البورصة المكتظ بالسيارات الواقفة على جانبيه. ويقل الزحام هنا لدرجة تُغري بالجرأة. ودون تردد أحث الخطى حتى أحاذيها فوق الطوار.

أنظر نحوها، فتتلقَّى نظرتي بعين متحفزة. أقول: هل …

ولكنها تقاطعني بصرامة: احترمْ نفسك.

– أود أن أتشرَّف.

ولكنها لم تسمعني غالبًا؛ لاندفاعها إلى الأمام. إنه رفضٌ صادق. تكاثف الإحباط والشعور بالتعب.

يجب أن أعدل عن مطاردة عقيمة، لكنني لم أستطع. إنه حكم مؤبد فيما بدا. ورأيتها تدخل مكتبة الفجر الجديد. دخلتُ وراءها مطمئنًّا كما دخلت السنترال، ورحت أُقلِّب عيني في الكتب وأسترق النظر.

امتدت يدها البضة القمحية إلى كتاب «القوى الخفية». ابتسمتُ رغم القهر، وتناولتُ نسخة تحية لها. ثم تبعتها إلى الخارج كالمنوَّم. ودخلنا أيضًا صيدلية، واضطررت إلى ابتياع حُق أسبرين. بدأت قدماي تشكوان. توسطت الشمسُ السماء. عجبت لطول ما انقضى من النهار. ولم أجد أمامي إلا الحظ فلَعَنْته وتساءلت: على وجه مَن أصبحت اليوم؟ وعبرتني عتمة الهواجس، فلم أدرِ كيف وصلنا إلى شارع التحرير. ورأيتها ماضية نحو مطعم «الشامي»، فسرعان ما نهشني الجوع. وبجرأة اخترت مائدة مقابلة لها. ودون مبالاة غادرتْ مائدتها إلى أخرى في أعماق المحل. صفعة متوقعة على أي حال. وأمرتْ بطبق شاورمة مع السلطة الخضراء، وختمتْ بفنجان قهوة. وأنا أرقب مدخل المحل بعناية وغمرتني رغبة في الاستلقاء، وعلى عكس ما قدَّرت استفحل إحساسي بالتعب. ولما رأيتها تتهادى خارجة قمت من فوري فتبعتها. وتريَّثتْ أمام محل أثاث لترى في مرآةٍ معروضةٍ الطريقَ وراءها. ورأتني بلا شك، وواصلت سيرها في هالة تنطق بالغضب والاحتجاج. وصدَرت إليها إشارات من سيارات عابرة تدعوها للركوب، فتجاهلَتْها ومضتْ في شموخ مَنيع. المصيبة أنها لا تكل ولا تمل ولا توحي بقصد هدف محدد. على الأقل هي تعلم، أما أنا فلا أعلم، وحتى اليأس القاطع تمنَّيته. وعثرت بشيء فوق الطوار فكدت أفقد توازني، وارتطمت برَجُل قذفني بجملة كالطعنة: «فتَّحْ عينك.» وانضاف إلى الإرهاق العام إحساس بالظمأ ورغبة في إفراغ المثانة، وبألم نصفي في الرأس. وثمة تساؤل مقلق: هَبْها استجابت، فماذا عندي لأقدِّمه؟ لماذا يتمادى فيَّ الجنون بلا طائل؟ ورأيتها تتجه نحو حديقة «لبتون»، فتجدد أمل مُبهم. ووجدتها تمضي إلى مائدة عامرة بالرجال والنساء، وتُستقبل بمناورة بالغة. آثرت في الحال أن أنتظر في الخارج لشدة الزحام، ولكن حتى متى أنتظر؟ ما بي قوة، والصبر يتلاشى بسرعة. وتذكرت العمل الذي كان عليَّ أداؤه والمواعيد التي أخلفتها، والرسائل التي كان عليَّ تحريرها. ولكن ما جدوى الندم؟ واشتد ضغط المثانة، جُلْت بنظرة زائغة، اقتربت من سيارة واقفة. انهارت قوى المقاومة. استسلمت وأنا أتلفَّت. وعندما أخذت أُزرِّر البنطلون غمَرَني ظل رجل طويل، مكفهر الوجه، صاح: على السيارة يا وقح!

رمقته بعين خجول معتذرة، ولكنه دفعني بغضب فترنحت فاقدًا صوابي، وبغير تقدير للأمر لطمته، فما كان منه إلا أن انهال عليَّ ضربًا، حتى تركني على أسوأ حال. جعلت أمسح وجهي بمنديل وأُجفف به دمًا سال من أنفي، ثم أُسوي رباط الرقبة والسترة. أصبح منظري زريًّا، وتضاعف تعبي وضعفي. عليَّ الآن أن أذهب بلا تردُّد، غير أنني لم أتحرك. حملت تعاستي ووقفت على ساقين تئنَّان من التوجع. ما زلت أنتظر وأُناجي جنوني البيِّن. وتهادت إلى سمعي أغنية «الزهر في الروض ابتسم»، فتابعتها بأسًى لا يناسب معانيها بحال. وخطر ببالي بيت أبي العلاء:

فسلم إلى الله ربك
فكل ما جاءك من عنده

غير أنني فكَّرت في اغتيال الرجل الذي انهال عليَّ ضربًا، ولعلها أنسب نهاية لرحلة سخيفة عقيمة لا معنى لها. وانتبهت منزعجًا إلى ما حولي، وأنا أرى نُذُر المغيب تحدث بالوجود وتطوق جسدي الذي أنهكه السير وهاضَتْه اللكمات. ولأول مرة أفكر جادًّا في الإقلاع عن جنوني والرجوع من خيبتي القوية.

وهممت بالتحرك عندما رأيتها تغادر مدخل الحديقة وحدها، وتتجه بخطوات ثابتة نحو شارع الشيخ ريحان. توهَّج الأمل من جديد في قلبي الذابل، وتناسيت هواجسي وتبعتها وأنا أجُر نفسي جرًّا، وأُحِدُّ من بصري المنجذب إلى ظهرها لتكاثف العتمة. وقُبيل نهاية الشارع بقليل فقدت ذاتي بغتة. لم أُدرك قبل مرور ثوانٍ أنني سقطت في حفرة. زُلزلت مفاصلي، وفغمت خياشيمي رائحةٌ ترابية عميقة لم أعهدها من قبل. ولم يبقَ مني على السطح إلا عنقي ورأسي. حاولت الخروج ولكن خذلتني قواي الخائرة.

وأرسل عينيَّ صوب المرأة بآخر ما أملك من طاقة على اللهفة، فلا أعثر لها على أثر. أفلتت إرادتي وأشواقي، وهيهات أن ألحق بها! الأمر يقتضي معجزة إن يكُن ثمة مجال للمعجزات.

وانتظرت أن يقترب مني عابر سبيل لأستنجد به. وبلغ مني الإعياء غايته، فأسندت رأسي إلى حافَة الحفرة مستسلمًا إلى قدري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤