تطوُّرات غير متوقعة

قضى الأصدقاء اليوم التالي في مرح يلعبون، ويركبون دراجاتهم في سباقات قصيرة جائزتها أكواب الجيلاتي اللذيذة … لم يكن هناك شيء يشغلهم حتى يوم الجمعة التالي، حيث قرَّروا الذهاب إلى المتحف الإسلامي … ولكن هذه الزيارة لم تتم؛ فقد طلبت والدة «محب» منه أن يصحبها في زيارة لمستشفى «العجوزة» لزيارة قريبة لهم هناك.

لم يُرحِّب «محب» كثيرًا بهذه الزيارة؛ خاصةً أنها ألغت رحلتهم إلى المتحف، ولكنه لم يستطِع إقناع والدته بأن تذهب وحدها؛ خاصةً وأن والده كان مسافرًا.

جلس «محب» بجوار والدته التي كانت تقود سيارتها ببراعة، برغم الزحام الشديد الذي جعل شوارع القاهرة كعلب السردين … كان «محب» مستغرقًا في تأمُّلاته، حتى إنه لم يتبيَّن أنهما وصلا إلى المستشفى إلَّا بعد أن وقفت السيارة، وطلبت والدته منه النزول فقال: هل يمكن أن تذهبي وحدك؛ فإنني في الحقيقة لا أُحب رائحة الدواء، كما أن رؤية المرضى تعصر قلبي وتُؤرقني ليلًا.

الأم: كيف تقول هذا الكلام؟! … لا بد أن تأتي معي.

اضطُر «محب» أن يذهب معها وهو لا يدري أن ذهابه هذا كان سببًا في تطوُّرات غير متوقعة … فلم يكد يدخل المصعد حتى قابل الرسَّام «مأمون» فيه … وكانت مفاجأةً طيبةً لهما معًا … وقال «مأمون» ﻟ «محب» إنه جاء لزيارة صديقه الجريح مرةً أخرى، وقد أحضر له معه بعض أدوات الرسم كطلبه ليتسلَّى وهو في فراش المرض.

وخرجوا معًا من المصعد … دخل «مأمون» الحجرة رقم «٢٨»، واتجه «محب» ووالدته إلى غرفة أخرى حيث كانت قريبتهم المريضة … وبعد التحيات المعتادة، جلس «محب» في طرف الغرفة، واستغرقت والدته في حديث طويل مع قريبتها، وأحسَّ «محب» بالملل، فاستأذن والدته، ثم خرج إلى دهليز المستشفى، وأخذ يتمشَّى … ومرَّ في أثناء سيره بالغرفة رقم «٢٨» التي كانت مفتوحة، ولمحه «مأمون» فدعاه للدخول … ولم يجِد «محب» بأسًا في أن يزور المريض … فدخل.

وقدَّم «مأمون» «محب» والصديق أحدهما للآخر قائلًا: يسرني يا «محب» أن أُعرِّفك بالأخ الرسام «رزق».

كان «رزق» شابًّا نحيلًا أبيض البشرة وله لحية سوداء.

وقال «مأمون»: إن «رزق» قضى وقتًا طويلًا في باريس يدرس الرسم، وقد عاد منذ شهرَين إلى القاهرة … وكان ينوي السفر مرةً أخرى لولا إصابته.

محب: هل هي إصابة شديدة؟

قال «رزق» وهو يُشعل سيجارة: إنها إصابة في الفخذ … عطَّلتني عن الحركة، ولن أستطيع المشي إلَّا بعد أيام.

لاحظ «محب» أن علبة السجائر التي يُدخِّن منها «رزق» غير عادية … فلونها أزرق وقصيرة، ولا تُشبه علب السجائر المصرية … وكان قريبًا بحيث يستطيع قراءة اسمها … كان اسمها «جولواز».

وتذكَّر «محب» أن الاسم مرَّ به منذ فترة قريبة … وأخذ يعتصر ذاكرته محاولًا أن يتذكَّر أين سمعه أو قرأه … ثم خرج من المحاولة عندما سأله «مأمون» عن المتحف الذي سيزوره هو والأصدقاء في المرة القادمة، واستمرَّ الحديث فترة … ثم عاد «محب» إلى المحاولة … وأخيرًا تذكَّر … إنها السجائر التي وجدوا منها مجموعةً من الأعقاب في حديقة متحف «محمد محمود خليل» … ووجد نفسه يسأل «رزق»: هل زرت متحف «محمد محمود خليل»؟

قال «رزق»: نعم … زرته مرةً أو مرتَين.

محب: هل كنت هناك منذ ثلاثة أيام تقريبًا.

رزق: لا أذكر بالضبط … ولكن لماذا تسأل؟

محب: مجرَّد سؤال … فقد تذكَّرت شيئًا ما دفعني إلى السؤال.

رزق: وما هو هذا الشيء؟

أحسَّ «محب» أنه تورَّط في الحديث … ويجب عليه كمخبر ألَّا يكشف أوراقه، خاصةً وأن وجود السجائر «جولواز» وإصابة «رزق» … ودبابيس الرسم التي وجدوها في الحديقة … كل هذا جعله يتصوَّر أن «رزق» هو شبح حديقة المتحف … ولكن كان يجب أن يُخفي استنتاجاته حتى لا يشعر «رزق» أنه يشتبه فيه … دارت هذه الخواطر في ذهنه بسرعة البرق قبل أن يُجيب: لقد تصوَّرت أنك كرسَّام في فرنسا لا بد أنك زرت متحف «محمد محمود خليل»؛ لأن أغلب ما به من لوحات لرسَّامين فرنسيين.

لم يُعلِّق «رزق» على هذه الإجابة … وانهمك في الحديث مع «مأمون»، فاستأذن «محب» … وخرج، وكانت والدته قد انتهت من زيارتها لقريبتها فخرجا معًا … وذهبا إلى وسط القاهرة، حيث كانت والدة «محب» تُريد شراء بعض الأشياء … ولكن «محب» كان متعجِّلًا العودة؛ فقد كان يُريد أن يُخبر الأصدقاء بما سمع وشاهد … فانتهز فرصة دخول والدته إلى أحد المحلات وأسرع إلى تليفون قريب، واتصل ﺑ «تختخ»، ولكن لم يجده في البيت، فاتصل ﺑ «عاطف» وطلب منه أن يجمع الأصدقاء بعد ساعة في الحديقة كالمعتاد؛ فإن عنده أخبارًا هامة عن شبح المتحف.

وبعد ساعة تقريبًا كانت السيارة تحمل «محب» ووالدته إلى المعادي مرةً أخرى، فأسرع إلى حديقة «عاطف» حيث وجد الأصدقاء قد اجتمعوا. وكان «عاطف» قد عثر على «تختخ» في الكازينو وأخبره بمكالمة «محب» التليفونية.

عندما جلس الأصدقاء جميعًا وتهيئوا لسماع «محب» قال: أعتقد أنني عثرت على شبح المتحف … إنه رسَّام يُدعى «رزق»، ولا أعرف بقية اسمه … لقد وجدته يرقد مصابًا في مستشفى «العجوزة» … وهو نحيل وله لحية سوداء كثة!

عاطف: وما هي الأدلة على أن «رزق» هذا هو شبح المتحف؟

محب: هناك ثلاثة أدلة … أولًا: أنه رسَّام، وقد اتفقنا على أن الشبح يعمل رسَّامًا … ثانيًا: أنه مصاب، ونحن نعلم أن الحارس أصاب الشبح بطلق ناري … ثالثًا: أنه يُدخِّن سجائر «جولواز»، وهي نفس نوع السجائر الذي وجدنا بقاياه في الحديقة … أليست هذه أدلةً كافية؟!

تختخ: إنها أدلة كافية إلى حدٍّ ما … ولكن هل سألته كيف أُصيب؟

محب: في الحقيقة إنني خشيت أن يُدرك شكي فيه، خاصةً بعد أن سألت عن زيارته للمتحف … فلو سألته كيف أُصيب لأدرك فورًا أنني أشك فيه … بل إنني أظن أنه قد شك فعلًا؛ لأنني لاحظت أنه تغيَّر عندما سألته عمَّا إذا كان قد زار المتحف أم لا.

نوسة: على كل حال يمكن أن نتأكَّد إذا زرناه غدًا على أننا أصدقاء الأستاذ «مأمون»، ويمكن ببعض الأسئلة أن نعرف.

تختخ: لا داعي لأن نذهب كلنا، يكفي أن يذهب «محب» و«عاطف»، وسأذهب أنا و«لوزة» و«نوسة» إلى المتحف؛ فلنا حديث مع الحارس.

وهكذا افترق الأصدقاء بعد هذا الاتفاق … وفي صباح اليوم التالي تجمَّعوا على محطة المعادي، فقال «تختخ»: سنلتقي جميعًا بعد أن ننتهي من مهمتنا في كازينو قصر النيل … فأنتم مدعوون لأكل الجيلاتي على نفقتي هناك.

وفي القاهرة تفرَّق الأصدقاء، فذهب «تختخ» و«نوسة» و«لوزة» إلى المتحف، واتجه «محب» و«عاطف» إلى المستشفى.

وصل الأصدقاء الثلاثة إلى المتحف، واتجهوا إلى الحارس … وبعد أن حيَّاه «تختخ» قال له: هل تذكر أنك شاهدت في المتحف شابًّا يطلق لحيته السوداء؟

ردَّ الحارس: لماذا تسأل؟

تختخ: لأننا نُريد أن نُقابله وقد يكون هنا الآن.

الحارس: إنني أعرف هذا الشاب واسمه «رزق»، ولكنه ليس هنا الآن.

أدرك الأصدقاء الثلاثة أنهم وراء الأثر الصحيح، فقال «تختخ»: هل كان يتردَّد على المتحف كثيرًا؟

الحارس: نعم … لقد ظلَّ خلال الشهرَين الأخيرَين يتردَّد على المتحف يوميًّا، ويبقى فيه طول النهار تقريبًا، ولا ينصرف إلَّا مع موعد إغلاف المتحف.

تختخ: وهل كان يبقى كل هذا الوقت يُشاهد الصور؟

الحارس: لا لقد كان يرسم … وقد أخبرني أنه مكلَّف من هيئة في باريس أن ينقل نُسخًا دقيقةً لبعض اللوحات في المتحف!

تختخ: ومتى انقطع عن الحضور؟

الحارس: منذ نحو أربعة أيام.

تختخ: وهل كان موجودًا في اليوم الذي أطلقتَ فيه النار على الشبح الذي كان يجري في الحديقة؟

الحارس: أذكر أنه كان هنا حتى آخر النهار … ولكنني لم أُشاهده وهو ينصرف في ذلك اليوم، برغم أنه اعتاد أن يمر عليَّ كل يوم تقريبًا ساعة انصرافه.

شكر الأصدقاء الحارس، وقال «تختخ» وهم ينصرفون: لقد حصلنا على معلومات في غاية الأهمية. تعالَوا ندخل المتحف.

لوزة: لماذا؟ لقد شاهدناه قبلًا.

تختخ: هناك شيء أُريد أن أتأكَّد منه.

ودخل الأصدقاء الثلاثة المتحف، وأسرع «تختخ» إلى اللوحات العالمية، وأخذ يقف أمامها متفحِّصًا في دقة شديدة … ثم قال ﻟ «لوزة» و«نوسة»: إنني أُريد مقابلة الرسَّام «مأمون» فورًا.

نوسة: ولكن علينا أن نُقابل «محب» و«عاطف» أولًا.

تختخ: فعلًا … هيا بنا إلى كازينو قصر النيل.

ركب الأصدقاء تاكسيًا إلى الكازينو … وعندما وصلوا إلى هناك وجدوا «محب» و«عاطف» في انتظارهم، وقد بدا عليهما الانزعاج الشديد …

قال «محب»: هناك مفاجأة عجيبة … لقد هرب «رزق» من المستشفى.

تختخ: هرب! كيف؟

محب: لقد كانت أمامه فترة للعلاج، ولكنه لم ينتظر تعليمات الأطباء … وترك المستشفى وخرج دون أن يراه أحد.

تختخ: لقد توقَّعت هذا فعلًا!

عاطف: توقعته؟!

تختخ: نعم … فإن «رزق» هو فعلًا شبح المتحف، وبرغم الجرد الذي أجرته اللجنة للمتحف وقالت إن شيئًا لم يُسرق منه … فإن «رزق» — إذا صحَّ استنتاجي — قد سرق من المتحف لوحات تُساوي مئات الألوف من الجنيهات.

لوزة: ولكن يا «تختخ» كيف سرقها وقد قالت اللجنة إنه لم ينقص شيء من المتحف، وقد كنا هناك اليوم، وليس هناك شيء غير عادي؟!

تختخ: إن في ذهني فكرةً ما … وأُريد أن نُقابل الرسَّام «مأمون»، وهو الشخص الذي يستطيع أن ينفي هذه الفكرة أو يُؤكِّدها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤