الفصل الحادي عشر

حكم الخليفة عبد الله

لم يحدث شيء ذو أهمية في دارفور منذ أن غادرتها، فإن خالد درزريك كان قد أرسخ حكم المهدي في المديرية بأجمعها، وبعث الأمراء والجيوش لكي يقوي حكم المهدي في جميع الأنحاء. وقد تظاهر ضابطِي القديمُ عمر واد دارهو بالولاء للنظام الجديد، ولكنه عند وفاة المهدي قام في ذهنه أن يستقل، فكاد له خالد حتى أوقع به، وحُمل إلى دارفور حيث قُطع رأسه.

وكان أبو أنجة في كردوفان، وكانت هذه المديرية قد خضعت كلها للمهدي ما عدا الجزء الجنوبي فيها، وأرضه جبلية، فاعتبر أهل هذا الجزء عبيدًا لم يدفعوا الجزية وطلب منهم الهجرة إلى أم درمان.

ولما لم يجيبوا هذا الطلب، دعي أبو أنجة إلى إخضاعهم وإلى احتلال بلادهم بجيشه وإجبارهم على تموينه وإرسال عدد منهم عبيدًا إلى المهدي، وتمكن أبو أنجة بعد أن فقد مقدارًا كبيرًا من الذخيرة وعددًا عظيمًا من رجاله من القيام بجميع ما أُمر به تقريبًا، وكان السودان الغربي باستثناء هذا الجزء الصغير منه خاضعًا لسلطة المهدي من حدود وادي النيل إلى الأبيض.

أما في السودان الشرقي فقد ثبتت سنار وكسلة ودافعت كلٌّ منهما المهديين. ولما علمت الحكومة المصرية بالحالة الخطرة التي بات فيها الجنود في الحاميات الشرقية، أرسلت إلى يوحنا ملك الحبشة تستنجد به لكي ينقذ حاميات القلابات وجبرة وسنهيت وكسلة وينقلهم إلى مصوع، ولكن حاكم كسلة صرح بأن الحامية مؤلفة من أولاد البلدة، فهو لذلك لا يمكنهم أن يجعلهم يتركون بلدتهم إلى مصوع.

وأرسل المهدي كلًّا من إدريس واد عبد الرحيم وحسين واد صحرا بالأمداد لكي يعجلا بإسقاط المدينة، وفي هذه الأثناء كان الملك يوحنا قد أنقذ حاميات سنهيت وجبرة والقلابات وأرسلهم إلى مصوع، وصار العرب المقيمون في المثلث بين سواكن وبربر وكسلة من أتباع المهدي الخاضعين له، وكان عثمان دجنة قد انتخب واليًا على هذا القسم، وأرسل محمد الخير إلى دنقلة لكي يحتلها بعد خروج الإنجليز منها.

هذه إذن هي حالة السودان عند تولي الخليفة، ومن هنا نفهم السبب الذي دعاه إلى أن يحث القبائل العربية الغربية على الاتحاد؛ لأنهم أغراب في البلاد التي يحتلونها؛ فإنه كان يعرف أن «أولاد البلد» من برابرة وجعالين وسكان الجزيرة لا يستمرئون قدوم هؤلاء العرب الغربيين الذين يختلفون عنهم في الأفكار والأخلاق إلى بلادهم.

وكان أول ما عمله الخليفة أنه فصل حمد واد سليمان من منصب مدير بيت المال وعين بدلًا منه إبراهيم واد عدلان، وكان من عرب الكواحلة على النيل الأزرق، ولكنه أمضى عدة سنوات يشتغل بالتجارة في كردوفان، وكانت له حظوة عند الخليفة.

وطلب من عدلان أن يجعل حسابًا للوارد والمنصرف، وأن يكون لهذا الحساب دفاتر تمكن مراجعتها في أي وقت وتعرف منها الحالة المالية، وأمره أيضًا بأن يضع قائمة عن جميع أولئك الذين يتسلمون أي مبلغ من المال والذين يقبضون مرتبًا.

وعند وفاة المهدي جاءت الأخبار بأن الغارة على سنار قد فشلت، وأن عبد الكريم قد صد عنها، فأرسل الخليفة عبد الرحمن النجومي لكي يتولى القيادة، وذلك في سنة ١٨٨٥، فسلمت الحامية لهذا القائد القويِّ. وحدثت الفظائع المعتادة بعد سقوط المدينة؛ فإن عددًا من أهالي سنار أرسلوا إلى الخليفة، وكان بينهم بنات الموظفين الجميلات، فاحتفظ الخليفة بأجملهن ووزع الباقي على الأمراء.

وشرع الخليفة في تأييد سيادته، وكان يعرف أن عبد الكريم مزاحم قويٌّ فاستدعاه إلى الحضور إلى أم درمان بجميع جيوشه، ثم دبر له هو والخليفة علي واد هلو مكيدة؛ بحيث سلم عبد الكريم جميع ذخيرته وجنوده، وكذلك سلم الخليفة شريف جميع جنوده السود لأخيه يعقوب، وأصبح كلٌّ منهما مقلم الظفر لا خطر منه.

وبينما كانت هذه الأخبار تشيع في العاصمة، وصلت الأخبار بأن كسلة سقطت، وأن عثمان دجنة يقاتل الأحباش الذين يقودهم الرأس الوله. وقد انتصر الأحباش على عثمان دجنة واضطروه إلى الالتجاء إلى كسلة، ولكنهم اكتفوا بذلك ورجعوا إلى بلادهم.

واتهم عثمان دجنة حاكم كسلة السابق أحمد بك عفت بأنه فاوض الأحباش وحرضهم على مقاتلته، ولم يكن هناك أقل ما يثبت هذه التهمة، ومع هذا فقد قبض على ستة موظفين في كسلة وشدت أيديهم خلف ظهورهم وضربوا بالرصاص كأنهم مجرمون.

وكان الخليفة عبد الله يعرف أن جوره على سائر الخلفاء سيثير غضب قرابة المهدي الذي كانت علاقته بهم سيئة، ولكنه لم يبال بذلك، فقد عقد عزمه على أن ينفذ أغراضه ولو احتاج في ذلك إلى استعمال العنف. وقد كان مع ذلك يخشى الرأي العام، ويعرف أن الأهالي كانوا يحبون المهدي وأنهم يعطفون على قرابته، فلم يكن يظهر بمظهر العداء لهم، بل سار في طريق مرضاة الجمهور إلى أن أهدى إلى الخليفة شريف طائفة من العبيد وبعض الخيول العتيقة والبغال الفارهة، ووهب أتباعه أيضًا عددًا من العبيد، وقد اجتهد في أن يجعل هذه الهبات والإنعامات علنية حتى يعرفها جميع الناس، وقد نال وطره؛ فإن الناس حمدوا له فعله وامتدحوا سخاءه في قصائد كانوا يتغنون بها.

وكان واضحًا أمام الخليفة أن ترك البلاد البعيدة في أيدي قرابة المهدي مما يعود بالخطر على حكمه؛ ولذلك لم يتوانَ في إرسال قرابته هو إلى دارفور وكردوفان لكي يلوا الحكومة.

وقد طلبني الأمير يونس الدكيم لكي أرافقه إلى سنار، ولكني قبل أن أغادر أم درمان قال لي الخليفة: «إني أحثك على أن تخدمني خدمة صادقة، فإني أنظر إليك نظرة الأب لابنه وقلبي يعطف عليك، والله يعد المؤمنين بالمكافأة كما أن غضبه ينزل على الخونة، ويونس يحبك ويرجو لك الخير وسيسمع لنصائحك، وإذا شرع في عمل يعود عليه بالأذى فيجب أن تحذره منه، وقد أخبرته بأني أعتبرك أحد أولادي وسيستشيرك في كل ما يعمله.»

فقلت: «سأعمل بما تأمرني، ولكن يونس رئيسي فهو لذلك سيستبد برأيه، فأرجوك ألا تنسب إليَّ عملًا لا يكون وفق هواك وتجعلني مسئولًا عنه.»

فقال: «إن لك أن تشير ولكن ليس لك أن تعمل، فإذا كان عمله وفق مشورتك، وإلا فهو المسئول.»

ثم تحول الحديث إلى مسائل دارفور وجِهات أخرى من السودان.

واستمر الحديث مدة، ولكني حين أوشكت أن أهم بالقيام هتف الخليفة بأحد الخصيان وهمس في أذنه كلمة، وكنت أعرف مولاي معرفة جيدة وأعرف أن إشاراته نذير شؤم.

وقال لي: «لقد أشرت عليك بأن تترك أهلك؛ لأنهم قد جاءوا بعد سفر شاقٍّ؛ فهم في حاجة إلى الراحة، وسيعطيك يونس خادمًا، وها أنا ذا أعطيك زوجة حتى إذا مرضت وجدت من يُعنى بك.» ثم تبسم وقال: «وهي جميلة وليست مثل تلك التي قدمها لك حمد واد سليمان.»

ثم أشار إلى المرأة التي دخلت فرفعت نقابها ونظرت إليها فإذا بها جميلة على الرغم من سمرتها.

ثم قال الخليفة: «هذه زوجتي وهي طيبة صبور، وعندي كثير من النساء، ولذلك أنا أعتقها فيمكنك أن تأخذها.»

فارتبكت وكنت طول الوقت أفكر في طريقة أرفض بها مثل هذه الهدية بدون أن أغضب الخليفة، فقلت: «اسمح لي يا مولاي بالكلام.»

فقال: «لا تخشَ شيئًا، قل ما تريد.»

فقلت: «هذه المرأة يا مولاي زوجتك، وأنت سيدي وأنا خادمك، فكيف يجوز لي أن آخذ زوجتك؟ ثم إنك تقول يا مولاي إنك تنظر إليَّ كأني ابنك.»

ثم أغضيت الطرف وقلت وأنا أنظر إلى الأرض: «لا يمكنني أن أقبل هذه الهدية.»

فقال وهو يشير إلى المرأة بأن تذهب: «لقد قلت حقًّا وأنا أوافقك.»

ثم هتف بالخصي قائلًا: «يا ألماس، أحضر جبتي البيضاء.» وذهب وأحضرها، فسلمها لي وهو يقول: «خذ هذه الجبة التي لبستها أنا مرارًا والتي باركها المهدي، وسيغبطك ألوف الناس عليها، فاحرص عليها لأنها تأتيك بالبركات.»

فابتهجت بهذه الهدية وقبلت يديه وأنا مرتاح إلى تخلصي من تلك المرأة التي ما كانت سوى حجر عثرة ونفقة لا أتحملها، ووجدت في الجبة بديلًا طيبًا منها، ثم استأذنت في الخروج وأخذت هديتي الغالية معي.

وعين يونس يوم السفر، ولكن قبل السفر طلبني الخليفة وحثني على الصدق في الخدمة والأمانة أمام يونس.

وفي المساء برحنا أم درمان في الباخرة «بردين»، وفي اليوم الثالث بلغنا شاطئ النيل الأزرق وتراءت لنا سنار على بعد.

وقد اخترنا مكانًا لخيامنا قطعة مستطيلة من الرمل شمالي وادي العباس؛ لأن الأرض التي حولها منخفضة لا توافق الإقامة مدة فصل الأمطار، ولم يكن رأسي يفكر الآن بشيء سوى الفرار، ولكن لما كان جميع الأهالي راضين عن الخليفة، فإني كنت في حاجة إلى أن أحذر أشد الحذر في اتخاذ واحد أثق به. ولم يمض عليَّ طويل زمن في وادي العباس، حتى جاءني خطاب من الخليفة يقول فيه إنه جاءته أخبار بأن زوجتي قد وصلت إلى كروسكو، وإنها ترتب الترتيبات اللازمة لفراري، ثم حضني على أن أترك هذه الأفكار وألزم الإيمان، وتسلم يونس أيضًا خطابًا جاء فيه هذا المعنى، ثم تعلل بأنه يريد أن يوقف الخليفة على الأحوال في سنار، وأمرني بالسفر إلى أم درمان، وعلى ذلك ذهبت تدبيراتي للفرار ضياعًا، ورأيت نفسي بعد أيام في حضرة مولاي الخليفة.

وبدأ الخليفة الكلام عن الخطاب الذي جاءه من بربر، فأكدت له بأنه إذا كان هذا الخطاب قد وصل بالفعل، فإنه لم يكتب إلا بغية الأذى لي، وإلا فقد يكون هناك خطأ، وبرهاني على ذلك أني لم أتزوج قط، فليس لي زوجة تصبو إلى لقائي. أما إذا جاء أحد إلى أم درمان وأراد إغرائي بالهرب فإني لن أتأخر عن إبلاغ أمره للخليفة.

فأكد لي الخليفة بأنه لم يصدق هذه الإشاعة، ثم سألني هل أحب البقاء معه أو مع يونس، وكنت أعرف قصده من هذا السؤال، فقلت إني لا أعدل بالبقاء معه شيئًا. وابتهج من تملقي له، ولكنه قال بصوت جديٍّ إنه يذكرني بالولاء والأمانة وألا أحادث أحدًا خلاف أهل دارة، ثم أمرني بلزوم مكاني كما كنت سابقًا على باب الدار.

وعند خروجي لم أشك في أن شبهات قد تأصلت في قلبه، وأنها ابتدأت في النمو. وكانت قوة الأبيض تحتوي في هذا الوقت على مائتين من الجنود السود، وقد زاد عددهم بما انضم إليهم من جنود دارة السود أيضًا، وكان كثيرون منهم يقطنون جبل دبرو وهم على عداوة دائمة مع المهدي، وكان الدراويش قد أسروا بعضًا منهم واستعملوهم في بناء أكواخهم واستعبدوهم.

واغتاظ هؤلاء الجنود من هذه المعاملة وعزموا على أن ينالوا حريتهم، وكان الأمير سيد محمود غائبًا لحسن حظهم في أم درمان، وتمكن المتمردون من الاستيلاء على الترسانة، فأخذوا منها السلاح، ثم اقتتلوا مع سائر الجنود وخرجوا إلى جبل النوبة.

وبلغت هذه الأخبار السيد محمود في أم درمان، فسافر في الحال إلى الأبيض، وتولى قيادة الجند وسار إلى جبل النوبة، وحاول أن يهزمهم ولكنه فشل في ذلك وقُتل هو وعدد كبير من الجند.

ولم يكن الخليفة يجهل تزايد قوة خالد — زوجال — واستقلاله في دارفور، وكان يعرف أنه لقرابته من المهدي يعطف على الخليفة شريف، فتعلل بأنه يرغب في أن يتوسط خالد بينه وبين الخليفة شريف في إيجاد الصلح والوفاق، ودعاه لذلك إلى الحضور إلى أم درمان مع جميع جنوده.

ولكن عندما وصل خالد إلى بارة وجد نفسه محوطًا بأتباع أبو أنجة، وكان الخليفة قد أمرهم بأن يأخذوا جنود خالد ويضموهم إلى جيشهم ويذهبوا جميعًا إلى جبل النوبة لمقاتلة المتمردين، ولم يكن بدٌّ من أن يخضع خالد بعد أن وقع في هذا الشرك، فقُيد بالسلاسل وأُرسل إلى أم درمان، ثم صودر في أملاكه وبقي سجينًا عدة أشهر، ولكن عُفي عنه بعد ذلك وعُين بدلًا منه عثمان واد آدم ابن عم الخليفة.

ونجح أبو أنجة في هزيمة المتمردين، فقتل جميع الزعماء وجعل معظم الجنود المتمردين عبيدًا.

وعلمت من تاجر قدم إلينا من كردوفان في ذلك الوقت أن صديقي يوسف أوهروالدر قد غادر الأبيض، وأنه سيصل قريبًا إلى أم درمان. ومع علمي بأني سأجد أكبر مشقة في لقائه فقد فرحت بأن أحد بني وطني سيكون قريبًا مني، وكنت طول الوقت على باب مولاي الخليفة أنفذ أوامره، وكان يخاطبني أحيانًا بلهجة الرأفة ويدعوني إلى الطعام فآكل معه، وفي أحيان أخرى كان ينساني نسيانًا تامًّا أو ينظر إليَّ نظرة الحقد والغضب بلا مناسبة أستطيع فهمها، ولكني صرت أنسب هذه الأحوال إلى مزاجه الشخصي، وصرت أسوم نفسي على الرضا.

وكنت لا أبدي أقل اكثراث لما يحدث في البلاد من الحوادث؛ وذلك حتى لا يجدوا سببًا في زيادة شبهات الخليفة الذي كان على الدوام يتوجس مني شرًّا ويسأل عن مسلكي، ولكن الحقيقة أني كنت أرقب الحوادث بعين الاهتمام بمقدار ما يسمح لي مركزي، وكنت أحاول أن أنقشها في ذهني حتى لا أنساها؛ لأنه لم يكن يسمح لي بكتابة شيء. وكان الخليفة يقتر عليَّ في مئونة بيتي، وقلما كان يأذن بإعطائي بعض الأرادب من الذرة أو منحي بقرة أو شاة.

وكنت أعرف إبراهيم عدلان مدة الحكومة السابقة فكان يرسل لي كل شهر مبلغًا يتراوح بين العشرة والعشرين ريالًا، وكان بعض الموظفين والتجار يساعدونني أيضًا بالمال من وقت لآخر، وعلى ذلك يمكنني أن أقول إن حالي وإن لم تكن في يسر فإني لم أشعر بالحاجة إلى ضروريات المعيشة، أو كنت أشعر بها قليلًا من وقت لآخر فقط. وعلى كلٍّ كانت حالتي تفضل حال صديقي لبتون، الذي وعده الخليفة بمساعدته ولكنه لم يفِ بوعده. وكان لبتون يتمتع بشيء من الحرية؛ يجول أين شاء في أم درمان، ويحادث الناس، ولم يكن مضطرًّا إلى حضور الصلوات الخمس في المسجد، ولكن حياته كانت مع ذلك مملوءة بالمتاعب والأحزان، وقد رجوت عدلان أن يساعده ويعطيه شيئًا من المال ولكن هذا لم يكفه. وكان لبتون يجهل التجارة ولكن الحاجة اضطرته إلى أن يربح شيئًا بإصلاح البنادق الفاسدة. ولما كنت أعرف أنه كان مستخدمًا في السفن الإنجليزية قديمًا خطر في بالي أنه ربما يعرف شيئًا عن الآلات.

والتقيت به أحد الأيام في المسجد، فشكا إليَّ سوء حاله شكاية مرة، فاقترحت عليه أن أبحث له عن وظيفة في البواخر يستعين بها على العيش، فطرب لمقترحي ووعدته بأني سأعمل جهدي لكي أحقق له ذلك.

وبعد أيام بينما كان الخليفة في مزاج موافق ينظر إليَّ بعين الرضا؛ لأن أبا أنجة أرسل إليه جوادًا عتيقًا وبعض المال وعددًا من عبيد خالد، فعدت لتناول الطعام معه، وذكرت له حال البواخر وأنها يُخشى عليها من التلف؛ لأنه ليس فيها من يفهم آلاتها وكيفية إصلاح ما يفسد منها، فقال لي إنه لا يعرف شيئًا عنها مطلقًا، وإنه في حيرةٍ ماذا يفعل لصيانتها؛ فإنها ضرورية. فاقترحت عليه في الحال بأنه يمكن أن نستخدم لبتون فيها لصيانتها وإصلاحها، وقلت له إن لبتون كان مهندسًا في إحدى البواخر الإنجليزية، فوافقني الخليفة على اقتراحي وأمرني بالبحث عنه.

وفي اليوم التالي بحثت عن لبتون ودعوته للحضور، فحضر وأخبرته بما قاله الخليفة، ولكني نصحت له بألا يعمل شيئًا مفيدًا للبواخر التي يملكها أعداؤنا.

فأكد لي لبتون بأن معرفته بالآلات سطحية جدًّا، وأنها ستسوء بإدارته، وأن الحظ السيئ هو الذي سيجبره على قبول هذه الوظيفة، وخاطب الخليفة عدلان في هذا الشأن، وفي المساء أرسل إليَّ لبتون يقول إنه قد تعين في هذه الوظيفة براتب قدره أربعون ريالًا في الشهر، وفي هذا المبلغ كفاف المعيشة.

وأشيع في ذلك الوقت في أم درمان أن الأحباش سيغيرون على القلابات، وقيل أيضًا إن من يدعى الحاج علي واد سالم من الكواحلة كان يقيم في القلابات، وقد تعين أميرًا على قبيلته، وكان يسيح في تخوم الحبشة فأغار على جبطة وهدم كنيستها.

وكان من يدعى صالح شنجة، وهو رجل تكروريٌّ، كان يقيم قبلًا في القلابات فلما أخلاها الجنود المصريون ذهب وأقام في الحبشة، ولكن ابن عمه أحمد واد أرباب عين أميرًا في ذلك القسم.

وكان حاكم أمهرة — في الحبشة — الرأس عدل قد طلب من «أرباب» أن يسلم له الحاج علي الذي أغار على جبطة، فرفض طلبه فجمع جيشًا وأغار به على القلابات.

وكان «أرباب» قد علم بنية الرأس عدل على الهجوم، فجمع جيشًا يبلغ ستة آلاف ووقف ينتظره خارج المدينة، ولكن هجوم الأحباش الذي كان يزيد عددهم على عدد السودانيين بعشرة أضعاف كان عنيفًا، فأحدقوا بالدراويش وذبحوهم وقتل وذبحوهم وقتل «أرباب» ولم ينج إلا عدد قليل جدًّا، وقطع الأحباش أجسام القتلى ومثلوا بهم، ما عدا جسم «أرباب» فإنهم استثنوه احترامًا لصالح شنجة.

وكان الدراويش قد خزنوا بارودهم في منزل ووكلوا حراسته لمصريٍّ، فلما طالب الأحباش هذا المصري بتسليم البارود أبى وأشعل البارود فانفجر وقتله هو ومن حوله من الأحباش. أما القلابات نفسها فقد أحرقها الأحباش وسووها بالأرض بحيث صارت خرابًا لا يعيش فيها سوى الضباع.

ولما بلغ الخليفة خبر اصطلام جيش واد أرباب، أرسل خطابًا إلى الملك يوحنا يعرض عليه افتداء الأسرى بمبلغ يعينه هو بنفسه، ولكنه في الوقت نفسه أمر يونس بأن يقوم بجيشه إلى القلابات وينتظر أوامره هناك.

وعندما غادر يونس الخرطوم بجيشه عبر الخليفة النهر إلى الخرطوم وشيعه ثم عاد إلى أم درمان.

وحدث أن «كلوتز» اختفى فجأة من أم درمان، وكان هذا على أثر فشله في الحصول على ما يعيش به، وظننت أنه قد فر ونجا، ولكني علمت من بعض التجار الواردين من غضارف أنه وصل إلى هذه البلدة، وقد بلغ به الإعياء حتى مات قبل هجوم الأحباش.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤