الفصل السادس عشر

ملاحظات متنوعة

أشرت في الفصل السابق إشارة عامة إلى موقف الخليفة عبد الله من القضاء والقضاة، والآن أفصِّل قليلًا ما أجملته؛ فأقول إن القضاة هناك آلات صماء في يدي سيدهم الماكر النبيه، فلم يكن الخليفة يسمح لهم بالفصل في القضايا الكبرى، وكل ما يمكنهم من بحثه هو ما يختص بالمنازعات العائلية وقضايا الإرث وتوزيع الأملاك وما شابه ذلك. وعلى أية حال فهم في جميع أحكامهم الكبرى في القضايا الهامة كانوا ملزمين بالرجوع إلى الخليفة قبل إصدار الحكم النهائي، ولا حاجة بنا إلى القول بأن الخليفة كان في كل ما يدلي به من آراء إلى أولئك القضاة لا ينظر إلى شيء خلاف مصالحه الشخصية وأهوائه وأغراضه، ولكنه في الوقت نفسه كان يجتهد — بما أوتيَه من حذق ودهاء — من الظهور أمام الشعب بمظهر المدافع عن الحق والراغب في اتباع نصوص القانون، وإذن فالقضاة أمام مهمة شاقة جدًّا؛ فهم من ناحية مضطرون إلى إرضاء أهواء الخليفة وتنفيذ أوامره التي لا تتفق — في غالب الأحيان — مع العدالة في شيء، ومن الناحية الأخرى مضطرون إلى صوغ أحكامهم في قوالب قانونية تبعث الشعب على الاعتقاد في تمسك الخليفة بالحق. ومهما يكن الأمر، فإن تسعين في المائة من أحكام أولئك القضاة لم تنطبق حتى على أبسط مبادئ العدالة.

أما الدين في السودان حسبما أرشدني الاختبار إلى استنتاجه — فيتمشى مع المبدأ القائل «الغاية تبرر الواسطة». ومما أذكره في مدة إقامتي أن الدوائر الدينية كانت بين آن وآخر تصدر إعلانات ورسائل صغيرة تحض فيها المسلمين على التقيد بأوامر الدين، وتأدية الواجبات الدينية — وفي مقدمتها الصلاة — على الوجه الأتم، ثم الابتعاد عن جميع الملذات العالمية والتوجه إلى عالم الخير الأعلى، ولم تكن الأوامر الدينية المذكورة قاصرة على السودان، بل تعدته إلى جميع نواحي أفريقيا وبلاد العرب وبورنو ودار فلاتة ومكة والمدينة.

اعتبر الخليفة شخصه قدوة للمسلمين عمومًا في السودان، فكان — ما دام في صحته الكاملة — يشهد الصوات الخمس يوميًّا؛ ليظهر أمام الناس متمسكًا بأهداب الدين، مع أنه في الواقع كان أبعد المسلمين عن التمسك بأوامر الدين؛ ففي جميع السنوات التي كنت فيها على اتصال وثيق جدًّا بالخليفة لم أشاهده على الإطلاق يصلي إلى ربه في داره الخاصة، ولم أسمعه يكرر — ولو بصوت خافت — بعض التعاليم الدينية التي يعرفها المسلمون جميعًا، سواء أكانوا ممن يقرءون ويكتبون أم من الجاهلين.

لم يكن ادعاء عبد الله التقوى من الإحكام بحيث يصدقه البعيدون عنه؛ لأنه رغم ظهوره بالتقى كان لا يتردد في إصدار أمره بإلغاء حفلة دينية وعدم تأدية فرض مذكور، إذا كان في تأدية الفرض ما يحول دون تحقيق غرض أو طمع من أطماعه الشخصية. وهنا نعود فنقول إن الخليفة كان يتذرع في مثل هذه التعديات بالقضاة حتى يجيء الإلغاء من الجانب القانوني، وفي ذلك الموقف الحرج لا يتردد القضاة في إعلان أن ذلك الإلغاء لازم في سبيل الاحتفاظ بالدين في حالة خاصة، فإذا ما صدرت تلك الفتوى ارتاح الخليفة واطمأن، إلا أن القضاة في بعض الأحايين يقفون من أطماع الخليفة أمام حالات لا يستطيعون معها بحال من الأحوال أن يصدروا أمر الإلغاء؛ وإذن يضطرون إلى التمويه فيدعون بأن الإلهام الديني أمرهم بالقيام بهذا العمل الشاذ لحكمة قد تغيب عن أذهان البشر.

اعتاد الخليفة عبد الله مخاطبة أتباعه من منصة المنبر في المسجد الكبير، ولكن بما أن عبد الله يجهل الفقه الديني الإسلامي ويعرف الشيء القليل من قواعد الدين وأصوله، فإن مدى خطبه الدينية محدودة، وبمعنى آخر لا يتعدى تلاوة جمل كتبها له أحد سكرتيريه.

ألغى عبد الله عادة الحج إلى مكة واستعوض عنها بدعوة المسلمين إلى الحج لقبر المهدي ممثل النبي الكبير. وأنا على الرغم من مشاهدة كراهية السودانيين لهذه البدعة الجديدة نراهم مضطرين إلى الرضوخ لأمر عبد الله. وما زال أولئك السودانيون على نظامهم الجديد حتى أصبحوا الآن (عام ١٨٩٧) ساعين من غير قصد إلى تحقيق رغبة عبد الله، راغبين في الحج دائمًا إلى قبر المهدي. وقد ذهب بهم حبهم في التقليد الجديد إلى حد أنهم يسخرون ممن لا يوافقهم في طريقة الحج هذه. وإنه لمن النزاهة والعدل أن تقول بأن السودانيين في تشبثهم هذا لا يعبرون عن عقيدة ثابتة، بل يرمون إلى تحقيق رغبة مولاهم عبد الله.

أما فيما يختص بالتعليم والأوامر الدينية، فمن الحق أن نقول إنهما في حيز العدم من الوجهة العملية الواقعية، وكل ما في الأمر أن بعض الأولاد والبنات يتلقون معًا آيات قرآنية وبعض جمل من الحديث المقدس لدى المسلمين، ويكون ذلك الإلقاء بواسطة شيوخ دينيين في معاهد صغيرة مجاورة للمسجد. ولئن قلنا إن الشيوخ يلقون الآيات على أولئك الصغار، فإنا لا ننسى بأن نذكر إلى جانب ذلك أن الذي يُحفظ من الآيات قسم صغير، والمتبَّع في زمن الخليفة عبد الله أن يرسل عدد قليل من أولئك الأولاد إلى بيت المال بعد إتمام دراستهم الأولية في المساجد، فإذا ما ساروا إلى ذلك البيت أصبحوا تلاميذ تحت التمرين لموظفي الحكومة الأقدمين، وهناك يتعلمون مقدارًا محدودًا من المراسلات الكتابية العامة.

نتدرج الآن إلى التجارة في السودان، فنقول بأن ذلك العهد الذي كان زاهرًا، والذي امتدت فيه الطرق التجارية في السودان، قد اضمحل فأصبحت الطرق — التي كانت تجتازها القوافل الكثيرة العدد — شبيهة بالصحراء المقفرة؛ حيث محت الرمال المكومة معالمها أو حلت بقايا جذور النبات في بعض نواحيها. وفي صدد ما نذكره يحسن بنا أن نضع بيانًا للطرق التجارية الرئيسية الأربع:
  • أولًا: الطريق الأربعينية من دارفور إلى أسيوط أو من كردوفان عن طريق بيوضة الصحراوية إلى دنقلة ووادي حلفا.
  • ثانيًا: الطريق من الخرطوم إلى أسوان من ناحية بربر إلى كروسكو عن طريق أبي حمد.
  • ثالثًا: الطريق من الخرطوم إلى سواكن من ناحية بربر أو كسلا.
  • رابعًا: الطريق من القلابات للقضارف فكسلا فمصوع. أما الطريق الحالية (عام ١٨٩٧) التي تجتازها جمال القوافل، فمن بربر إلى أسوان وسواكن.

بعد أن تم الاستيلاء على الخرطوم، جلب التجار السودانيون إلى أسوان مقادير كبرى من الحلي الذهبية والفضية، وما زال التجار في عملية النهب والتصدير إلى جهات خارجة من السودان، حتى اضطر الخليفة إلى إصدار أوامره المشددة للتجار بعدم حمل ذهب أو فضة معهم إلى مصر مهما كان يعوزهم الإنفاق، وكل ما سمح به الخليفة لأولئك التجار الخارجين عن السودان هو مقدار من المال يعينه بيت المال؛ حتى لا تضيع حلي الشعب السوداني وكنوزه في سبيل إنفاق غير مشروع في نظر الخليفة. ولم يكتف عبد الله بتحديد مقدار ما يأخذه التجار معهم بأمر بيت المال، بل جعل العملة التي يحملونها من الطراز القديم على أن تحدد قيمتها في جواز سفر التاجر.

أدت القيود والتشديدات التي أجراها الخليفة عبد الله مع التجار إلى تضاؤل شأن التجارة بين السودانيين، ولكن ذلك لم يستمر طويلًا، فانتعشت التجارة ونهضت بعد كسادها، فعادت إلى السودان حياته بتبادل أصناف تجارته الرئيسية كالصمغ وريش النعام والتمر الهندي وأوراق نبات السنامكي وما شاكل ذلك. وقد كانت العادة المتبعة في هذا التبادل التجاري جمع هذه الأصناف في بيت المال إلى جانب ما فيه من العاج المخزون، على أن تقدم جميعها للبيع في سوق المزاد العلني تبعًا للسعر المحلي. ولكن بما أن الأصناف المذكورة تستورد من جهات السودان الغربية التي أصابت أهلها الحروب الداخلية والفاقة والأمراض، فمن المعقول فهمه أن مقدار المستورد يقل بقلة عدد السكان المنتجين.

لا شك في أن الصمغ السوداني احتكار لسكانه، وهذا الصنف يختلف في أثمانه باختلاف أنواعه المتعددة، وإنما نذكر ذلك لندل به على فائدته في المبادلة، علمًا بأن التبادل التجاري بين مصر والسودان لا يتم بالمال، بل بالبضائع. والذي نعرفه عن المصريين أنهم يقدمون بدل ما يأخذونه من السودان بضائع جاهزة من مانشستر؛ لأن الحاجة إليها في السودان كبيرة جدًّا.

في حالة التعامل بالنقد في السودان يشتري بيت المال أي صنف تجاريٍّ بعشرين ريالًا من العملة الجديدة مثلًا، فيبيعه للشاري السوداني بثلاثين ريالًا؛ حتى يبقى المكسب في بيت المال. وعندما تتم المبايعة بين الطرفين الرسمي والشعبي في السودان، يسمح رجال الخليفة لأولئك التجار السودانيين بالسفر إلى مصر لبيع تجارتهم، وقبل سفرهم توضع بضائعهم في موازين الشحن لتقدير ثقلها بالضبط وفرض ضريبة خاصة عليها بعد ذلك، هي في الغالب ريال على ما زنته قنطار، فإذا رغب التاجر شحْن تجارته إلى سواكن أو أسوان، اضطر إلى دفع ريال آخر على كل مائة رطل، ولكن الريال في هذه الدفعة يكون من العملة الجديدة؛ وإذن قد أصبحت الضريبة الإضافية سدس الثمن الأصلي.

يرد العاج إلى السودان من أقاليم خط الاستواء بكميات كبرى مرة واحدة كل عام، وفي الغالب تمر تجارته بسواكن، وبما أن المناطق المذكورة خارجة أو تخرج تباعًا عن دوائر نفوذ المهدي، فقد كان من الظاهر جدًّا لدى عبد الله أن الكميات المذكورة تتناقص في السنوات التي تعقبه.

أما ناب الفيل فلم تكن الدوائر الحكومية لتظفر به كثيرًا؛ لأن الوارد منه قليل يجلبه بيت المال من مناطق دارفور الجنوبية، ومن الحق أن نقول بأن الدراويش — ما لم يعودوا إلى احتلال بحر الغزال بالقوة مرة أخرى — لا يستطيعون الاحتفاظ بتجارة العاج احتفاظًا يضمن لهم مقدارًا مذكورًا من الثراء.

لا يستطيع السودان جلب البضائع من مصر إلا عن طريقين؛ هما أسوان وسواكن. وقد كانت الحكومة السودانية فيما سبق تجلب مقدارًا من تجارتها القادمة من مصر أو ما جاورها عن طريق سواكن إلى كسلا أو من كسلا إلى مصوع، ولكنْ حالَ دون استعمال ذَيْنِك الطريقين احتلال السودان الشرقي بواسطة الإيطاليين، فليست البضائع المستوردة سوى أصناف من قيمة مالية طفيفة، وتتكون في غالبيتها من مواد خاصة بجلابيب النساء وجبب الرجال. ومهما يكن الأمر، فإن ذلك شيء غير جوهريٍّ لدى سكان السودان، الذين اعتادوا التعلق بكل ما له رونق خارجيٌّ زاهٍ وما فيه التزاويق الكثيرة، بغض النظر عن تناسب ذلك مع الذوق السليم وبدون اهتمام بالقماش المتين. وفي الحق يكاد يكون من العسير جدًّا أو من المستحيل وجود مشترين من طبقة عالية أو متوسطة في نواحي السودان.

بين الأصناف المستوردة إلى السودان، الروائح العطرية من جميع الأصناف؛ كزيت خشب الصندل، والقرنفل، والحبوب ذوات الرائحة الطيبة. والسبب في استيراد ذلك النوع التجاري بكثرة هو استحسان السودانيات إياه. ولئن كنا أشرنا أخيرًا إلى عدم رواج البضائع الغالية القيمة بين أهل السودان، فإن ذلك لا يمنعنا من القول إن السكر والأرز والأنواع العادية من الحلوى والفواكه المجففة تجد جميعها شارين بين أكثر السودانيات ثراء. وقد يجمل بنا أن نذكر في صدد التجارة أوامر الحكومة المصرية سابقًا بمنع الحديد والقصدير والنحاس بنوعيه الأصفر والأحمر من دخول السودان، حتى أصبح عسيرًا على الأوروبي في عام ١٨٩٧ أن يحصل على مقصٍّ أو موسى لحلق الذقن. وقد كان من جراء هذا المنع ارتفاع أسعار أواني الطبخ النحاسية إلى حدٍّ كبير من الغلاء؛ لأنه علاوة على منع التصدير استولت الثكنات العسكرية على النحاس القديم القابل للتصليح، فاستخدمته في صنع الخراطيش للبنادق؛ وإذن اضطر السودانيون المعوزون إلى الاستعاضة عن الأواني النحاسية بأوان خزفية في تحضير الطعام.

كان مفروضًا على صاحب كل تجارة واردة للسودان أن يدفع ضريبة عبارة عن عشر قيمة الوارد، وقد ألزمت الحكومة أصحاب التجارة المستوردة بدفع الضريبة إما نقدًا وإما بضاعة مبادلة. وقد كانت الضريبة تؤخذ أكثر من مرة على طول طريق القافلة، فإذا ما وصلت التجارة إلى أم درمان، أخذت إلى بيت المال ووضع عليها ختم الحكومة، ومن ذلك الوقت تجبي الحكومة عشرًا جديدًا؛ وإذن وقف التجار أمام ضرائب ثقيلة متعددة، كما التزموا تقديم ما يشبه الرشوة إلى رؤساء أماكن الحكومة السودانية التجارية في المحطات المختلفة؛ أي إن التاجر كان يدفع من جديد ما يقرب من نصف ثمن البضاعة الذي دفعه أولًا للبائع، وهم إزاء ذلك مجبورون على رفع قيم البضائع. وعلى الرغم من ذلك كله، تجد مكاسبهم في النهاية قليلة بالنسبة لغيرهم من التجار في مختلف الجهات المجاورة للسودان.

إن كثيرين من التجار الأغنياء في السودان نزحوا إلى مصر وغرضهم الأول ليس جلب التجارة منها أو بيع تجارة لها، ولكنهم رموا قبل كل اعتبار آخر إلى التخلص من جو السودان بضعة شهور يكونون فيها بعيدين عن سلطان الخليفة الشديد، فإن كل الذين قاسوا الأمرَّين من ظلم هذا الحاكم، لم يجدوا وسيلة للحصول على جواز يهربون به من السودان سوى التجارة؛ فلم يكن مسموحًا للحكومة السودانية أن تعترض أي راغب في بيع أو جلب تجارة للخارج أو منه.

كان الكثيرون من التجار مقيدين بأسرهم وزوجاتهم وببنيهم، ولا يخالجني أي شكٍّ أو ريبة في أنهم لو كانوا خالصين من تلك القيود لما رجعوا مطلقًا إلى السودان، ولفضَّلوا العيش في مكان هادئ كمصر — خارج وطنهم الأصلي — عن البقاء تحت نير العسف الشديد والاستبداد المطلق في السودان.

لئن أصيبت التجارة بكساد عظيم في السودان، فثم تجارة لقيت الرواج الكبير والتأييد الكلي من جانب المهدي والخليفة عبد الله؛ وأعني بذلك تجارة الرقيق. وبما أن تصدير العبيد إلى مصر لبيعهم أصبح أمرًا محظورًا ومعاقبًا عليه، فالخليفة بطبيعة الحال معنيٌّ بتوسيع تلك التجارة في جميع المديريات والنواحي الداخلية في دائرة نفوذه، ولم يغب عن خاطر الخليفة — بعد منع تصدير العبيد — أن يحول دون استئثار مشيريه بالأمر على حسابه.

كان من المستحيل بطبيعة الحال — رغم صدور الأوامر المشددة من حكومة مصر بمنع تصدير الرقيق — أن يحول الخليفة عبد الله دون تجارة الرقيق في مصر وبلاد العرب، ولكن القوافل التي كانت فيما مضى تُقلُّ المقادير الوافرة من عبيد السودان قد وقفت وقوفًا يكاد يكون كليًّا.

كان في السنوات التي بين ١٨٩٠ و١٨٩٧ يرسل العدد الكبير من عبيد الحبشة بواسطة أبي النجا، ومن فاشودة بواسطة زكي طومال، ومثل ذينك المقدارين كان يرسله عثمان واد آدم من دارفور وجبال النوبة، وكان أولئك المرسلون إلى السودان يباعون علنًا في سوق المزاد العلني، على أن تودع أثمانهم في بيت المال أو في خزانة الخليفة الخاصة. وبمثل الشدة والقسوة التي كان يعامل أولئك الرقيق أثناء شرائهم كانوا يعاملون وقت تسفيرهم إلى الجهات.

عرف الجميع عن أبي النجا أنه استولى في بلاد الحبشة على الآلاف من المسيحيين لبيعهم في سوق الرقيق في السودان، وكان أغلب أولئك من النساء والأولاد، وقد بلغت القسوة بأبي النجا ورجاله مبلغًا دعتهم لسَوق أولئك بالسياط أثناء مسيرهم على الأقدام من بلاد الحبشة إلى أم درمان. فإذا ما ذكرنا أنهم كانوا يؤخذون قهرًا من عائلاتهم، ويحرمون من الطعام الكافي لسد رمقهم في هذه المسافة الطويلة، ويسيرون على أقدامهم العارية؛ عرفنا أنهم كانوا أشبه بقطيع من الأغنام؛ فليس بدعًا أن يعرف القراء أن العدد الأكبر من أولئك العبيد كانوا يهلكون جوعًا أو مرضًا قبل الوصول إلى أم درمان، وأن الباقين منهم — أثناء وصول أبي النجا بهم إلى أم درمان — كانوا في حالة سيئة ضعيفة يتعذر معها وجود الشارين، وإزاء ذلك كان الخليفة في كثير من الأحيان يتبرع بعدد من أولئك العبيد لبعض أخصائه.

بعد أن هزمت قبيلة الشلوك، سعى زكي طومال في الاستفادة من ضعف رجالها ونسائها، فحمل العدد الكثير من صنادل كانت معدة لنقل رجاله الحربيين، ونقلهم إلى سيدي عبد الله في أم درمان. وقد سمعنا في تلك الأثناء الشيء الكثير عن اختناق المئات من جراء ازدحام الصنادل البحرية بهم، فإذا ما وفق الباقون للحياة أخذ الخليفة بعض صغار السن منهم لضمهم إلى حرسه الخاص بصفة احتياطي، أما النساء فكن يبعن مع الأولاد في سوق المزاد العلني، الذي كان يستغرق عادة بضعة أيام في أم درمان.

كان أولئك المنكودو الحظ يجلسون في غالب الأحيان عراة خاوي البطون أمام بيت المال، فإذا ما قدر لبعضهم أن يسدوا رمقهم أعطاهم عمال الخليفة أعوادًا قليلة من الذرة دون تسوية، فكان من الطبيعي أن يصاب المئات منهم بالمرض، مما يعرضهم إلى عدم عناية أسيادهم الشارين بهم وقت العرض.

في كثير من الأحيان كان يبلغ الضجر والتعب بعشرات أولئك التعساء حدًّا يفضلون معه إلقاء أجسامهم في ماء النيل؛ حتى يريحوا أجسامهم العارية وبطونهم الخاوية من عذاب لا يعرفون مداه، فكانوا يموتون هناك، وبما أنه لم يوجد من يعنى بإخراج جثتهم، فإن النتيجة المنطقية هي اكتساح الجثث بقوة التيار إلى الشاطئ، فإذا ما ظهرت جثة ألقيت خارج الشاطئ، مما يدعو إلى نشر رائحة كريهة في الجهات المجاورة.

هذا فيما يختص بالقريبين من شاطئ النيل. أما الذين كتب عليهم الشقاء الأكبر، فكانوا يدفعون في الصحراء، حيث لا ماء ولا زرع على طول الطريق بين دارفور وأم درمان. وقد كان أولئك البائسون تحت إمرة رجال غلاظ القلوب، يدفعونهم إلى أم درمان نهارًا وليلًا دون المنِّ عليهم بشيء، ولو قليل جدًّا من الراحة. وقد أكون عاجزًا الآن عن وصف ما يرتكبه أولئك الرجال المتوحشون المفترسون أثناء سيرهم بالنساء إلى سوق العبيد في أم درمان.

كان من عادة أولئك المتوحشين الهمج أن يقطعوا آذان من يعجز من الأولاد أو الرجال أو النساء عن السير إلى أم درمان بمناسبة ما نزل بهم من الكلال، ليقدموا الآذان المقطوعة للخليفة علامة على مقدار من ماتوا من سباياهم وسط الطريق. وقد أخبرني أحد أصدقائي أنه شاهد في مرة من المرار إحدى النساء مقطوعة الأذنين ولكنها لم تكن قد فارقت الحياة بعد، فدب دبيب الشفقة في قلبه فأحضرها إلى الفاشر، وبعد أيام منَّ الله عليها بالشفاء، في حين أن أذنيها قدمتا إلى الخليفة دليلًا على موتها.

وقف تيار القوافل المملوءة بالعبيد إلى أم درمان؛ لأن القسم الأكبر من الأجزاء الموردة للعبيد، كدارفور، قد هجرها ساكنوها. وفي أحيان أخرى كان يقدم رجال القبائل، كقبيلتَي تاما ومسالت، فروض الخضوع إلى الخليفة ليعفيهم من خطر الأسر. ومع ذلك استمر لغاية عام ١٨٩٥ ورود الكثيرين من الرقيق الأسود من الرجاف، إلا أن بُعد المسافة بينهما وبين أم درمان كان يحول دون وصول الكثيرين أحياء إلى بيت المال.

اضطر الخليفة عام ١٨٩٦ — حيال نقص أو انعدام المأسورين من الرقيق الأسود في القلابات وكردوفان ودارفور — إلى إصدار أوامره للأمراء التابعين له ببيع ما يصل إلى أيديهم من العبيد لزعماء القبائل المتجولين؛ بحيث يضطر كل من أولئك الزعماء إلى كتابة ورقة يذكر فيها اسم العبد ومقدار ما دفعه للأمير ثمنًا له. وقد كان يسمح لهم الخليفة بإعادة بيع من اشتروهم من العبيد بالطريقة ذاتها.

لا ريب في أن بيع الرقيق في أم درمان ذاتها يجري يوميًّا، ولكن من المحرم رسميًّا الآن (١٨٩٧) بيع رقيق الجهات والقوافل؛ والسبب في السماح ببيع النوع الأول هو اعتبارهم ملك الخليفة وحكرًا له، على أن جميعهم أو أغلبهم كانوا يعتبرون ضمن الجنود. وإذا سلمنا بأن شخصًا خارج أم درمان جلب معه سرًّا أحد العبيد السذج، فقد كان من الميسور أن يبيعه بيعًا اسميًّا لبيت المال على أن يورده إلى صفوف الجند مقابل قيمة مالية لمن جلب العبيد، وذلك في حالة تمتع الرقيق بالصحة، أما إذا كان الأخير غير لائق للخدمة فيبقى في دائرة نفوذ سيده على أن يعمل في أراضيه الخاصة.

أما فيما يختص ببيع النساء والأولاد، فأمر مسموح به في أيه ناحية من نواحي السودان، بشرط أن يمضي على ورقة البيع اثنان من الشهود، ويحسن أن يكون أحد الاثنين قاضيًا، وفي تلك الورقة يقر الاثنان بأن المرأة التي بيعت حقٌّ مكتسب للسيد السوداني الذي اشترى. والسبب في تنفيذ ذلك العمل والسماح به هو أن كثيرًا من العبيد كانوا يهربون من بيوت ساداتهم، فيمسكهم آخرون ويبيعونهم لغير ساداتهم الأولين؛ مما أدى إلى انتشار فكرة سرقة العبيد في أم درمان. وكان أولئك العبيد في كثير من الأحيان يؤخذون بواسطة أشخاص ظاهرين لضمهم إلى منازلهم، أو كان يغريهم أولئك بترك الحقول والأراضي التي يعملون فيها، وبعد ذلك كانوا يقيدون بالسلاسل لترحيلهم إلى جهات نائية؛ حيث يتم بيعهم بأثمان بخسة جدًّا.

تنص الشريعة الإسلامية على عدم الاعتراف بشهادة العبيد الذين تتم المساومة على بيعهم في سوق الرقيق، فكان أولئك البائسون واقفين على حقيقة حالتهم المزرية، فإذا علمنا بأن بعضهم عوملوا من أسيادهم معاملة حسنة، فإن ذلك لم يكن ليرضي الرقيق على وجه عام.

أنشأ الخليفة في أم درمان ذاتها في ساحة فسيحة على مسافة قريبة من الجنوب الشرقي لبيت المال بيتًا عاديًّا مبنيًّا بالطوب، وتعرف الساحة المحيطة بهذا البيت بسوق الرقيق. وقد كنت في كثير من الأحيان أدعي بأني أرغب في شراء أو استبدال بعض الرقيق، وبهذه الحجة وحدها كان يسمح لي الخليفة بالتوجه إلى سوق الرقيق، فسنحت لي بذلك فرص متعددة للوقوف بنفسي على كيفية إجراء عملية المساومة.

في تلك السوق كان يقف الاختصاصيون بتلك التجارة لبيع ما لديهم من سلع بشرية؛ بحيث يقف حول سور البيت الطيني عدد كبير من النساء والأولاد ويجلس البعض الآخر، فهناك ترى العاجز والعارية والمزخرفة والمسرورة. وبطبيعة الحال أسعد المذكورات حظًّا هن المحظيات اللاتي يبعن بثمن طيب. وبما أن تجارة الرقيق أمر جائز ومشروع جدًّا في السودان، فمن حق الباعة والشارين أن يفحصوا رقيقهم فحصًا دقيقًا من هامة الرأس إلى باطن القدم بدون أقل تقيد، كما لو كان هذا الرقيق من طبقة الحيوانات الدنيئة.

فكان الشاري يفتح فم المرأة ليرى حال أسنانها وأضراسها، ثم يأمر البائع برفع ما عليها من غطاء في النصف الأعلى من جسمها ليفحصها الفحص الدقيق، ويعنى في ذلك عناية خاصة بتفحص ذراعيها، وبعد ذلك يطلب الشاري من المبيعة أن تمشي إلى الأمام أو الخلف بضع خطوات ليتعرف كيفية مشيها، ثم تلقى بعض أسئلة من الشارين على النساء والأولاد للوقوف على مقدار ما يعلمونه ويعلمنه من اللغة العربية، وفي الحق يظل كلٌّ من أفراد الرقيق خاضعًا لرحمة الشاري في كل ما يلقيه عليه من أسئلته.

ذكرنا قبلًا أن بين الرقيق نسوة يسمَّيْن بالمحظيات، فنعود إلى القول بأن أثمانهن تختلف اختلافًا كبيرًا، وهذا لا يمنع دخولهن في دائرة الأسئلة العامة الموجهة للرقيق، فإن ذلك أمر عاديٌّ جدًّا، ولم يكن يخطر في بال واحدة منهن أن تعترض على طريقة البيع المذكور، رغم ما فيها من شدة في كثير من الأحيان، وكل ما في الأمر أن بعض النساء أو البنات يشعرن بأنهن لدى أسعارهن في كثير من الأحيان أفضل مركزًا من الرقيق؛ وبعبارة أخرى، يجدن أنفسهن خادمات. وقد يذهب بالواحدة حظها السعيد إلى درجة تشعر معها أن مركزها لدى سيدها كمركز أفراد الأسرة التي تخدمها، بعد أن كانت في حالة سيئة عند سيدها الأول الذي كان يعاملها معاملة وحشية قاسية. وبعد أن ينتهي الشاري من استقصاءاته يتساوم مع البائع فيسأله عن ثمنها، ثم يردف هذا السؤال بالاستفسار عن امرأة أحسن من التي أمامه ليبيعها له. وقد كان الشاري في كثير من الأحايين يشكو للبائع عدم تمتع المبيعة له بجمال كافٍ وعدم ظهور مخايل الحسن على جسدها بوجه عامٍّ، كما كان يشكو أحيانًا من جهلها اللغة العربية جهلًا تامًّا، إلى غير ذلك من الشكاوى التي لم يكن يقصد منها سوى تخفيض ثمن السعة الآدمية التي تباع له. بينما نرى البائع من الناحية الأخرى باذلًا أقصى ما في وسعه لإظهار محاسن تلك المرأة المنكودة الحظ، والإطناب في جمال أخلاقها مما لا داعي إلى تفصيله في هذا المقام.

هناك نقائص في المرأة أو البنت أو الولد تضطر البائع إلى تخفيض الثمن، وفي مقدمة النقائص المذكورة الغطيط والسرقة والكذب. ومهما يكن أمر البيع فالذي نعرفه أنه عند الانتهاء من المساومة والوصول إلى اتفاق، يخرج البائع ورقة يوقع عليها هو والشاري الذي يدفع الثمن في الساعة التي أصبح فيها سيدًا للسلعة البشرية التي اشتراها، وكان الدفع دائمًا بالعملة المحلية السودانية — عملة الريالات الجديدة — ويمكن على وجه الإجمال تقدير الثمن بما يأتي:

كان ثمن العبد العامل الكبير السن يترواح بين خمسين وثمانين ريالًا، وثمن المرأة المتوسطة العمر بين ثمانين ومائة وعشرين ريالًا، أما البنت ما بين الثامنة والحادية عشرة من عمرها فكان يقدر ثمنها تبعًا لمنظرها، وهو على وجه عامٍّ بين مائة وعشرة ريالات ومائة وستين ريالًا. ويجدر بنا أن نشير إلى أن الأثمان الأخيرة ذاتها تختلف باختلاف سعر السوق أو باختلاف الطلب لفئة خاصة من الرقيق.

لا توجد من الوجهة العملية صناعات خاصة في السودان، ومع استثناء المواد التي ذكرتها في الصحائف السابقة، لا تجد بضائع مصدرة من السودان.

كان فيما مضى (قبل عام ١٨١٧) يرسل العمل المزركش بالذهب أو الفضة إلى مصر، ولكن بعد أن قل ورود ذينك المعدنين النفيسين — بتضاؤل الأيدي العاملة من الرقيق — وبعد أن أصدر المهدي أوامره المشددة ضد لبس الجواهر والحلي؛ نقص أو وقف التصدير للنواحي المجاورة عامة، ولمصر خاصة. ومع ذلك لدى السودانيين تجارة رابحة في الحراب الطويلة والقصيرة والحدايد المستعملة لسروج الخيول والحمير والمُدى القصيرة التي توضع على الأذرع، هذا إلى ما اكتسبه السودانيون من بيع الآلات الزراعية. ولم يكتف السودانيون بذلك، بل اشتركوا في عمل السروج الخشبية للخيول والجمال والبغال، وصنْع «العنجريب» والصناديق الخشبية لشحن الملابس، ثم إعداد الأبواب والشبابيك والغرف البسيطة.

كان السودانيون في السنين السابقة لانقضاء القرن التاسع عشر يعملون عملًا جديًّا في بناء المراكب، ولكن حال دون الاستمرار في ذلك العمل المنتج تدخل الخليفة ومصادرته جميع المراكب الموجودة في النيل، ومع ذلك نهضت هذه الصناعة قليلًا عام ١٨٩٦ بعد أن أذن الخليفة بتسيير المراكب. ومهما يكن الأمر، فإن الرغبة في بناء السفن قد ضعفت ضعفًا كبيرًا بعد أن فرض بيت المال الضرائب الثقيلة على كل مركب جديد.

من الصناعات التي عُني بها السودانيون؛ عملُ الأحذية الصفراء والحمراء، والسروج المختلفة الأنواع، والأحجبة الجلدية لصغار الأولاد والبنات، وأعمال السيوف وقرابات المدى. أما الكرابيج فتصنع بمقادير وافرة جدًّا من جلد فرس البحر.

علينا ألا ننسى زراعة القطن وتجارته في السنين الأخيرة في القرن التاسع عشر في السودان، فقد كان مصرحًا لكل امرأة أو بنت أن تغزل لحسابها الخاص، وإلى جانب هذا العمل الخاص وجدت في كل قرية أماكن صغيرة للغازلات اللاتي يقمن بمختلف أنواع النسيج. أما أرض الجزيرة ففيها ناسجات وناسجون لأنواع مختلفة من الملابس القطنية كالأثواب والدمور والجنجس، التي يبلغ طول كل قطعة جزئية منها عشر ياردات، فإذا ما تم نسج الأقمشة المذكورة، جلبها أصحاب المحال الصغيرة إلى الأسواق بكميات كبيرة على أن يشتريها أفراد الطبقة العامية من رجال ونساء. ولا شك في أن أعلى نوع من الغزل ينسج في مديرية بربر، ففي تلك الناحية تنسج النساء أغطية وجلاليب من الحرير الملون، ويغزلن قطعًا حريرية تستعمل كعمائم للأغنياء، وبعضَ الأحزمة التي يلفها لابسو العمائم الأغنياء فوق كساواتهم الحريرية القطنية. وفي هذا الصدد نذكر الشيلان الحريرية التي تروج في مختلف الأنحاء رواجًا عظيمًا.

تقوم مديرية دنقلة بمقدار كبير من نسيج القطن، ولكن هذه الدائرة مشهورة شهرة خاصة بصنع أغطية قلوع المراكب. وإنه لواجب علينا في صدد تقرير الحق أن نشهد لرجال كردوفان بمتانة نسيجهم، بغض النظر عن بُعد ما يصنعونه عن الجمال في المنظر.

إلى جانب غزل القطن، تجد النساء والبنات عملًا آخر رابحًا؛ هو ضفر الحصر من جميع الأشكال والحجوم من أوراق شجر الدوم، التي تباع بكثرة في جميع نواحي السودان. ولا مشاحة في أن أمتن نوع من هذه الحصر هو الذي يضفر من الخيوط الضيقة من الأوراق المذكورة ومن قش الشعير والقطع الجلدية الرفيعة. ولا تستعمل الحصر المذكورة في فرش الغرف فحسب، بل تحت أطباق الأكل أيضًا؛ بحيث تكون الحصيرة في السودان غطاء للمائدة بدلًا من أغطية القماش المستعملة في الغرب.

وقد تبلغ جودة عمل الحصر حدًّا ترسل معه مقادير كبيرة إلى مصر كتحف وطرائف للأوروبيين الذين يقصدون القطر المصري في شهور الشتاء.

إن نساء دارفور على مهارة خاصة في صنع الحصر المذكورة، التي توضع بين ثناياها بعض الخرزات الزجاجية؛ مما يؤدي إلى اكتسابها رونقًا جميلًا جدًّا.

•••

اجتهدت في الصحائف السابقة أن أصور للقارئ حياة الخليفة العامة وشئون السودان في عهده، ولكن ذلك التصوير لا يأخذ شكله الدقيق بدون الإشارة إلى حالة السودانيين الخلقية، فأقول إن المهدي سعى جهده في ترك التعاليم والعوائد الدينية الرئيسية، وإنشاء نظم دينية جديدة؛ فبث أوامره في صنوف الشعب، ودعا ذلك بطبيعة الحال إلى إفساد الأخلاق؛ لأن الناس اضطروا في الظاهر إلى مجاراة المهدي، بينا هم في الواقع متمسكون بتعاليم الدين الأصلية. وفي هذا الاختلاف بين ما يعتقده المرء وما يدعي أمام الخليفة لاحترامه إغراءٌ على الكذب، وهذا الإغراء الجزئي ينتهي إلى شرٍّ خلقي مستطير. وعلينا أن نذكر بأن الناس خافوا بطش الخليفة من ناحية، وتمسكوا بمصالحم وشهواتهم من الناحية الأخرى؛ فدعا ذلك إلى فساد خلقي عظيم لا أستطيع وصفه للقراء. ومهما يكن الأمر، فقد كان أغلب سكان السودان غير مرتاحين إلى الحالة العامة في السودان عامة وفي أم درمان — حيث يقيم عبد الله — خاصة؛ لأنهم أشفقوا على حرياتهم الشخصية من تعسف رجال الخليفة عبد الله، ففضلوا حينذاك الانصراف إلى أهوائهم وملذاتهم والإسراف فيها بقدر ما تسمح لهم أجسامهم.

نستطرد الآن إلى نقطة حيوية هامة؛ وهي عدم وجود حياة اجتماعية أو تبادل بين النفوس، فكان الحل الوحيد الذي أجمع عليه السودانيون أمرهم هو الإغراق في بحار الشهوات، والميل إلى حب النساء حبًّا بهيميًّا لا ينتهي عند حدٍّ، ففكر حينئذ كل سودانيٍّ في الحصول على أقصى عدد من النساء كزوجات له إلى جانب محظياته وسراريه، فكان الخليفة — من هذه الناحية — مشجعًا لرعاياه على السير في طريق اللذة المفسدة. ومن دلائل ذلك التشجيع أنه أمر بتخفيض مصاريف الزواج الرسمية تخفيضًا ظاهرًا؛ فبعد أن كان صداق البنت عشرة ريالات أصبح خمسة، وصار صداق الأرملة أقل من ذلك، ومعه لباس عاديٌّ وحذاءان وبعض روائح عطرية.

إذا رغب سودانيٌّ في الاقتران ببنت وجب على والدها أو ولي أمرها أن يعلن مصادقته، وفي العادة لا يحول دون هذا القبول سوى مانع قويٍّ جدًّا. وعلى أية حال فالآباء وأولياء الأمور مسئولون دائمًا عن زواج بناتهم أو من يتولون رعايتهن؛ بحيث يصبحن زوجات متى بلغن عمرًا مناسبًا.

ذكرنا قبلًا إغراق السوداني في لذته؛ وإذن لا عجب أن نرى بأن حصول السوداني على أربع زوجات — وهو أقصى ما صرح به القرآن من عدد للزوج — أمر عاديٌّ جدًّا، حتى إن السوداني في ذلك الحين عد الحصول على الزوجة حصولًا على متاع بسيط. هذا إلى أن السودانيات كن يرغبن رغبة شديدة في هذا الزواج؛ إما للحصول على بعض ملابس وكمية صغيرة من المال، وإما للرغبة في نظام جديد من الحياة لم يكنَّ يعرفنه في منازل آبائهن وأولياء أمورهن. وفي الوقت ذاته كنَّ على علم بأنهن — تبعًا لنصوص الشريعة — يستطعن الانفصال عن أزواجهن بدون عناء كبير.

في حالة الطلاق تستبقي السودانية صداقها إلا في حالة واحدة؛ هي كراهيتها لزوجها، فيتحتم إذ ذاك رد الصداق إلى الزوج، وقد عرفت في بعض الأحيان أن الزوج كان يترك المهر لزوجته المطلقة بمحض اختياره. وإني أقرر عن ثقة واطلاع أن من السودانيين من يتزوج في بحر عشر سنوات بأربعين أو خمسين سودانية — مع مراعاة أن هناك طلاقًا مستمرًّا في حياة مثل ذلك السوداني — كما أن من النساء من تزوجت في هذه الفترة الخمسة عشر أو العشرين زوجًا، على أن قانون الزواج الإسلامي ينص على انقضاء فترة بين الطلاق والزواج الجديد لا تقل عن ثلاثة شهور. أما فيما يختص بالمحظيات فيبيح القانون السوداني الديني تمتع السوداني بأي عدد يزيد منهن، ولا ريب في أن إباحة التمتع بالمحظيات أدت إلى انتشار الفساد الخلقي مع انتشار الأمراض السرية الخطرة.

قلنا إن المحظيات السودانيات خطر على الأخلاق وجالبات للأمراض الخبيثة، ولنفصل ذلك نقول إنهن لا يعشن جميعًا في المنزل الذي يعيش فيه سيدهن، ما لم يكن لذلك السيد أولاد من إحداهن، فإنها (المحظية) تضطر للبقاء في منزل قانيها ولا يجوز مطلقًا بيعها لآخر، ولكنهن في أغلب الأحيان يبعن لأسيادهن على أن يبقين في حوزاتهم فترات قصيرة جدًّا، على أن يبعن بعد ذلك لغيرهم بأرباح جديدة. ولا ريب في أن هذا الانتقال المستمر من بيت إلى آخر يعرض الأخلاق والصحة لخطر جسيم، وإلى جانب ذلك تذبل زهرة شباب المحظية وتضيع معالم جمالها. فإذا أضفنا إلى ذلك أن المحظية تباع لسيدها في أول مرة وهي في سن صغيرة، عرفنا ما تقاسيه من الآلام الحقيقية التي لا تخفف منها لذة بهيمية غير منتجة.

من المعروف عن تجار الرقيق في السودان أنهم في سبيل الحصول على مكسب نقديٍّ لا يبالون بما يصيب النساء والبنات من ضعف في القوة وفساد في الخلق وتعرض لأخبث الأمراض؛ فكانوا يشترون البنات الصغيرات ويسمحون لهن بالحرية المطلقة في اختيار المنزل الذي تعيش فيه البنت والحياة التي تحياها. ولم يقف الفساد عند حد أولئك التجار، بل تعداه إلى الشارين أنفسهم؛ ففي كثير من الأحيان كانوا يسمحون للتجار ببيع محظياتهن لغيرهم على أن يتعاطى أولئك الأسياد مقدارًا معينًا من الربح الجديد.

لا ريب في أن شر ما ينتج من فساد خلقي تجده في دوائر الضباط السودانيين وجنودهم؛ حيث يغري أولئك الحربيون الكثيرات من النساء والبنات للعيش معهم في ثكناتهم بصفتهن زوجات لهم، فإذا ما دخلن الثكنات أصبحن كالسلع يتبادلهن جميع الضباط بلا استثناء وبحرية مطلقة. ولم يكن الخليفة عبد الله ضد هذه الفكرة الأخيرة، بل على النقيض من ذلك كان يشجعها؛ اعتقادًا منه أن انهماك الضباط في اللذة وتماديهم في إرضاء شهواتهم يجعل مكانًا للخليفة في نفوس ضباطه فوق كل مكانة، وبذلك يضمن ولاء رجال الحرب له ورغبتهم في عدم ترك سيادته عليهم.

لا حاجة بنا إلى القول بأن السماح بتلك الإباحة المنكرة قد أدى إلى انتشار أخبث الأمراض بين جميع طبقات الأمة، سواء في ذلك الأحرار والرقيق الرجال والنساء. فإذا ذكرنا حرارة السودان وأثرها السيئ في أي مرض سريٍّ خبيث، استطعنا إدراك الانحطاط الخلقي الذي هوى إليه السودان في ذلك العهد. وعلينا ألا ننسى أن السودان كان محرومًا من جميع الأدوية التي تعالج تلك الأمراض؛ مما أدى إلى تعريض الصحة على وجه عامٍّ لخطر عظيم.

وجد في السودان في أوائل حكم الخليفة عبد الله قوم أمعنوا في ضروب الفساد وأطلقوا العنان لشهواتهم، فعاقبهم الخليفة في مبدأ الأمر بنفيهم وتشريدهم إلى الرجاف، ولكنه عدل عن ذلك بعد قليل من الزمن، وانتهى إلى حلٍّ حاسم في نظره؛ وهو ظهور سهولة كبرى — في معاملة شعب بعيد عن الأخلاق القويمة — في استعمال التعسف والشدة، وصعوبة الجور مع شعب متمسك بأهداب الأخلاق القويمة؛ وتبعًا لذلك كان الخليفة عبد الله في آن واحد يكره ويخشى الجعليين الذين سكنوا على شاطئ النيل بين حجر العسل وبربر؛ لأن أولئك كانوا العرب الوحيدين في السودان الذين مقتوا الفساد والرذائل الخبيثة، واحتفظوا بالأسر الفاضلة البعيدة عن الشهوات الشائنة، كما اعتاد أولئك الجعليون النظر إلى الأخلاق بصفتها حجر الزواية في بناء الحياة القويمة والركن الأساسي في تأسيس صحة قوية.

كان تشديد المهدي على نسائه (زوجاته) بالغًا أقصى حدٍّ، ولم يقف أمر صيانتهن عند حد الخوف من المهدي في حياته، بل تعداه إلى الاحتفاظ بالشرف بعد مماته؛ فكان محرمًا عليهن وهن أرامله (بعد وفاته) أن يسرن سيرة المحظيات، وأن يعشن عيشة الفجور. وقد ساعد عبد الله على ذلك، فبلغ احترامه لذكرى المهدي حدًّا دفعه إلى إنشاء بيوت خاصة للأرامل المذكورات؛ حيث تحيط بالمنازل أسوار مرتفعة على مقربة من ضريح المهدي، وقد عين عبد الله على ذلك عددًا من الخصيان لمراقبة الأرامل المذكورات آنفًا.

شدد الخليفة على زوجات ومحظيات سلفه المهدي بعدم الزواج، وسن قانونًا حرم به عليهن أي زواج جديد، فكان ذلك ضد رغبتهن. ولم يكتف بذلك، بل حرم البنات — وأغلبن من بنات موظفي حكومته السابقين — من طلب الزواج بعد أن بقين في منزله إعدادًا لاقترانه بهن في المستقبل. ومما يذكر عن عسف الخليفة عبد الله في معاملتهن أنه لم يكن يسمح بمقابلة رجل إياهن، حتى ولو كان من ذوي قرباهن، وكل ما منَّ به عليهن هو السماح لقريباتهن من النسوة بزيارتهن مرة واحدة في السنة. ومع كل ذلك التقييد لم يكن يفسح عليهن في العيش، فكان يقدم لهن ما يكفيهن بالجهد من القوت واللباس، فلا عجب إذا عرفنا أنهن كن يتطلعن دائمًا إلى التحرير من ربق عبودية الخليفة.

أدرك عبد الله أن عسفه وجوره يؤديان بلا نزاع إلى زيادة الحاقدين عليه والساعين إلى الفتك به، فكان تبعًا لذلك كثير الخوف على حياته، فطرد بعنف وقساوة جميع السكان النازلين في منازل صغيرة مجاورة لبيته، وأحل محلهم حرسه الخاص الذي استمر في تنميته يومًا بعد يوم، وبعد ذلك بنى سورًا ضخمًا حول مسكنه والمساكن الصغيرة المجاورة وجمع إليها كل أقربائه. على أنه عاد بعد ذلك فأظهر ريبة وخالجه الشك في بعض أقربائه، فآثر إبقاءهم خارج مسكنه المسور. ولعدم الظهور دفعة واحدة بهذا الشك، جعلهم إلى جانب منازل الحرس الخاص. ورغم ذلك كله لم يكن الساكنون في دائرة الخليفة على وفاق وفي ارتياح تامٍّ؛ لأن أوامر عبد الله كانت شديدة على حرسه الخاص؛ مما أدى إلى تبرمهم واستيائهم الشديد، كما أنهم تذمروا من مرتباتهم الضئيلة وشكوا لرؤسائهم مرارًا من تضييق الخليفة على حريتهم الشخصية. وكان عدد المحيطين بالخليفة بضعة آلاف، ينتمي أغلبهم إلى العرب الخلص، ولم يكن مسموحًا لهم على الإطلاق الاقتراب من ذويهم، كما أن الخليفة حرمهم من ترك مساكنهم، ولم يكن يصفح عن هفواتهم الصغيرة، فكان ينزل بهم العقاب الصارم.

عُني عبد الله عناية خاصة بحياته، وكان شديد الرغبة في الاحتفاظ بها من عبث الحاقدين عليه؛ فكان لا يخرج في النهار أو الليل إلا وفي معيته أفراد معينون من حرسه الخاص، واثنان أو ثلاثة من خدمه الأمناء له، وفيما عدا ذلك لم يكن يرافقه أي شخص آخر — حتى أقرب أقربائه — ولم يكن يسمح الخليفة لأحد — خلاف الحرس والخدم — بمرافقته.

كان من المقرر أن كل من يسمح الخليفة بمقابلته إياه يتجرد من سلاحه — الذي كان يحمله السوداني دائمًا — ثم يفتشه أحد رجال الحرس قبل دخوله إلى غرف الاستقبال الرسمية، فكان ذلك العمل من جانب الخليفة دليلًا على سوء ظنه في رعيته، فإذا أضفنا إلى ذلك كراهية الشعب له، استطعنا بسهولةٍ إدراك ما كان يتحدث به الناس عن ظلم الخليفة وتعسفه وعن مخاوفه الشديدة.

على الرغم من هذه الشدة النادرة وتلك القسوة المؤلمة لم يوفق الخليفة في اكتساب جانب أية قبيلة، حتى إن أفراد قبيلته الخاصة فروا منه، وهذه بطبيعة الحال نتيجة منطقية معقولة.

عندما وصل أفراد قبيلة عبد الله إلى أم درمان بعد إلقاء مقاليد الخلافة إليه، مضوا في الاعتداء على أصحاب الأرض؛ فأخذوا غلالهم واغتصبوا نساءهم ونكلوا بأولادهم، فاشتد الكرب اشتدادًا اضطر الخليفة لإصدار أوامره بعدم خروج تعايشيٍّ من أم درمان إلا بإذن خاصٍّ. ولكن أوامره تجوهلت، ثم دب دبيب العصيان في قلوب السكان حتى انتشرت فكرة التمرد انتشارًا لم يكن معروفًا من قبل.

أما فيما يختص بأخلاق أولئك العرب فحميدة في ذاتها، ولكنهم في الوقت نفسه ميالون إلى الكبرياء والإعجاب بأنفسهم فحسب، وذلك راجع إلى صلتهم وقرابتهم بالخليفة، فكانوا يدعون دائمًا أنهم أسياد البلاد وأصحاب الشأن الأعلى فيها لا لشيء سوى صلتهم بالخليفة.

وقد انتهى بهم ذلك التعسف إلى وضع أياديهم على خيرات الأرض وغلالها وماشيتها وخيولها، فكان هذا الاستئثار مدعاة الحسد في القبائل الغربية السودانية؛ حيث الأفراد الذين لم ينظروا إلى التعايشي ورجاله نظرة ودية.

كل ذلك الاضطراب سبب من أهم الأسباب في حذر الخليفة وخوفه مما يجري حوله، ولكني لا أعتقد أنه على علم دقيق بمقدار كراهة الشعب إياه وحقده عليه. وعلى أية حال، فقد كان همُّ الخليفة متجهًا إلى إرضاء أمراء القبائل بإرسال الهدايا المالية والعبيد سرًّا إليهم في أوقات الليل من الأيام المختلفة، أما الأمراء فلم يكونوا يترددون في قبول الهدايا المذكورة، وهم على ثقة من أنها جمعت ظلمًا وعدوانًا. وقد يكون من دواعي الإشفاق على الخليفة أنه لم يكن متمتعًا بولاء الأمراء الحقيقي، رغم ما يبعثه إليهم من الهدايا.

من أعجب ما يروى عن الخليفة عبد الله أنه لم يفارق أم درمان إلى الضواحي مرة واحدة في أكثر من عشر سنين؛ لأنه كان يخشى ترك تلك العاصمة التي استجمع فيها كل ما لديه من قوة وذخيرة، ووضع تحت رقابته فيها جميع الذين خاف شرهم، بعد أن اضطرهم إلى القيام بالصلوات الخمس يوميًّا في حضوره وسماع خطبه الدينية.

صرح الخليفة بأن أم درمان هي مدينة المهدي المقدسة. وقد يكون غريبًا على القراء أن يسمعوا عن أم درمان قبل عام ١٨٩٠ بأنها كانت مدينة صغيرة ضئيلة الشأن، يسكنها بعض قطاع الطرق، وكل ما لها من شأن أنها واقعة تجاه الخرطوم؛ غريب عليهم أن يسمعوا ذلك في الوقت الذي علت فيه كلمة هذه الجهة وأصبحت أضخم وأعظم شأنًا من الخرطوم، وقد سبقه إليها المهدي، فبعد أن كانت الأرض حقيرة غير منتظمة مدت إليها الأشجار الوارفة الظلال، وأسس الجامع الكبير وبيوت الخليفة عبد الله والخليفتين محمد شريف وعلي واد هلو. أما عبد الله فقد وضع يده على جميع الأراضي الواقعة جنوبي المسجد. وأما القسم الشمالي فاقتسمه الخليفتان محمد شريف وعلي واد هلو.

مما يذكر عن المهدي في حياته أنه صرح علنًا في المسجد الكبير بأن أم درمان محلة وقتية؛ لأن رؤيا النبي التي ظهرت له في إحدى الليالي أمرته بنقل الخلافة إلى الشام بعد التغلب على مصر وبلاد العرب، ولكن موته المبكر قد شتت جميع مشاريعه وقضى على آماله وآمال أتباعه.

بعد أن نقلت العاصمة إلى أم درمان تم تنظيمها وتخطيطها، وقد بلغ طولها السطحي من الشمال إلى الجنوب ما يقرب من ستة أميال إنجليزية، وقد أصبحت نهاية الحد الجنوبي مقابل الطرف الغربي للخرطوم.

اتجهت الرغبة من بادئ الأمر إلى السكنى على مقربة من شاطئ النيل؛ أملًا في تسهيل الحصول على الماء الكافي، فنجم عن تلك الرغبة ازدياد في ناحية وقلة الناحية الأخرى؛ فلم يبقَ مكان خال واحد في مسافة ثلاثة أميال عرضًا مع خلو أميال ممتدة طولًا.

أنشئت في بادئ الأمر في تلك الناحية آلاف من الأكواخ المصنوعة من القش، فلم يكن ظاهرًا منها سوى المسجد الكبير الذي أحاط به حائط من الطين، طوله أربعمائة وستون ياردة وعرضه ثلاثمائة وخمسون ياردة، ولكن ذلك لم يرق في عيني الخليفة، فاستعاض عنه ببناء من الطوب المحروق الذي تم تبييضه بعد ذلك بمعرفة بنائين من العرب، وبعد ذلك أقام الخليفة لنفسه ولأخيه وأقربائه بيوتًا من الطين، ثم حذا الأمراء حذوهم وتبعهم في ذلك أغنياء أم درمان.

ذكرت في فصل سابق وصفًا لضريح المهدي، ولكني لم أذكر أني شاهدت — قبل مغادرتي الأخيرة لأم درمان — ضياع لون القشرة البيضاء التي على الضريح، ولا بأس من العودة إلى التفصيل، فأقول بأن فوق قبة الضريح ثلاث كرات نحاسية فارغة، الواحدة فوق الأخرى، ويربط هذه الثلاثة رمح مقوس في آخره حلية رئيسية تزين الضريح. ومن أغرب ما سمعته من السودانيين أن الخليفة وضع هذا الرمح حول الكرات الثلاث، ليعلن استعداده لمحاربة الطبيعة إذا حدث ما يحول دون تحقيق رغباته.

كان عبد الله في كثير من الأحيان يقضي ساعات من النهار منفردًا داخل ذلك الضريح (مزار المهدي)، والمعروف أن غرضه الأساسي من ذلك هو تلقي الوحي الخاص منه، ولكن قلَّت عنايته بهذه الزيارات الدينية بعد أن قتل الكثيرين من أقرباء المهدي وزعماء أتباعه. وبطبيعة الحال كان من العسير بل من المريب أن ينقطع عبد الله هذا الانقطاع الفجائي، فاضطر إلى انتحال المعاذير، وتبعًا لذلك أوعز إلى رجال حرسه الخاص أن يذيعوا بين الناس أن السبب الحقيقي لانقطاع عبد الله عن زيارة سيده المهدي هو خوفه من البقاء بمفرده داخل الضريح. وقد كان منتظرًا أن يرد بعضهم على ذلك بأن يستصحب الخليفة معه من يُذهب عنه الفزع. ولكن عبد الله لم يعجز عن الرد، فكان يقول إنه من غير المرغوب فيه، أو من الأمور غير المسموح بها، بقاء أي شخص خلاف الخليفة داخل ضريح المهدي.

هذا ما كان يعتذر به عبد الله إلى الشعب السوداني، في حين أنه (عبد الله) خالف وصايا سيده المهدي، لا بالقول فحسب، بل بالفعل أيضًا.

كان من المتبع فتح جميع الأبواب المؤدية إلى الضريح يوم الجمعة للسماح للشعب بالحج إلى ضريح المهدي. وبما أن القانون الديني كان يحتم على كل رجل من أتباع المهدي أن يردد صلوات الترحم على جثمان المهدي وروحه، فقد كان من الميسور على المشاهد أن يرى الآلاف من الناس متفقين في الغرض ومختلفين في طريقة تلاوة الصلوات والأدعية. ولم يكن قصدهم محصورًا في الصلاة للمهدي، ولكنه تعداه إلى طلب الحماية والرحمة من الله الرحمن بشفاء الشهيد (؟) الذي قد رقد في قبره الأخير. ولكني في الحقيقة كثير الريبة في أن الصلوات المذكورة خارجة للترحم؛ فإني أقرر — وفي قولي على ما أعتقد كثير من الحق إن لم يكن الصدق كله — أن أغلب الصلوات الصادرة من قلوب أولئك المتحمسين إلى مقام العرش الإلهي تتطلب من الله إنقاذ الشعب السوداني من ظلم وعسف عبد الله المستبد، الذي خلف ساكن الضريح الطيب، في نظر السودانيين.

يقع بيت الخليفة الرئيسي في الناحية الجنوبية من الضريح وعلى اتصال بالمسجد الكبير، ويحيط بهذا البناء الرئيسي حائط ضخم مبنيٌّ بالطوب الأحمر، ومقسمة نواحيه إلى مبان صغيرة متلاصقة، وبطبيعة الحال أقرب المباني إلى المسجد هي التي يسكنها هو وأفراد بيته المقربون، وفي الناحية الشرقية من مسكنه بيوت زوجاته وأماكن الخصيان ومخازنه الخاصة. ومما يسترعي الأنظار في الجهة الشرقية من مسكنه المركزية للمسجد الكبير قيام باب خشبيٍّ ضخم — لا توجد أبواب في داخل المسجد من النواحي الثلاث الأخرى — يجتازه المسموح لهم بالوصول إلى غرف الخليفة الخاصة ومكان الاستقبال الرسمي.

إذا ما رغب إنسان في اجتياز الممر الرئيسي، كان عليه أن يمر بما يشبه الدهليز، ومن ثم يسير إلى ردهة صغيرة فيها غرفتان، لا يوجد على جانب أيتهما ما يمنع من ظهور الناس للخليفة الذي يستقبل الناس في هذه البقعة. يوجد في الجهة الجنوبية من غرفة الاستقبال باب خاصٌّ يقفل بين تلك الغرفة وبين غرفة المخدع، ولا يسمح لأحد باجتيازها سوى الشبان من حرس الخليفة.

أما المساكن التي سبقت الإشارة إليها فمكونة على شكل قاعات متصلة، بين كل قاعة والأخرى رواق صغير، وقد تمكن الخليفة من إنشاء دور ثان على سقف مجموعة من تلك المساكن، ووضع في ذلك الدور المبني على الطراز الجديد (عام ١٨٩٥) منافذ يتمكن الناظر من إحداها من مشاهدة منظر عامٍّ واضح لأم درمان.

امتازت غرف استقبال الخليفة بالبساطة الكلية والبعد عن الزخرفة، وكل ما في الغرف من زينة هو أعمدة العنجريب الممتدة في كل غرفة، وعلى الواحد منها حصيرة من أوراق النخيل. أما غرف الخليفة فمزخرفة بكل ما يستطيع الحصول عليه من زينة وتزويق في السودان؛ ففي كل الغرف الداخلية أسرَّة نحاسية وحديدية تعلوها ناموسيات — للوقاية من الناموس الذي يعد نكبة السودان وبلاءه — كما أن أراضي الغرف مفروشة بالسجاجيد، وفوق المراتب النظيفة أغطية حريرية ووسائد موشاة أطرافها بالحرير الخالص، وفوق الأبواب والنوافذ ستائر من الألوان والأنسجة. ولا ريب في أن ذلك أقصى ما يطمع إليه الخليفة من زخرف وأبهة في السودان. أما الأروقة فممتلئة بالحصر المصنوعة من أوراق شجر الدوم، ثم بمقاعد العنجريب. فإذا قارنا ذلك بما كان عليه الخليفة عبد الله في أول سني حياته الرسمية، وجدنا أنه شديد الميل إلى الزخرفة ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.

تكلمنا كثيرًا عن بيت الخليفة ومساكن رجاله والمقربين إليه، والآن نذكر شيئًا موجزًا عن بيت ابنه عثمان، فنقول إنه يقع في الناحية الشرقية من تلك المساكن، ويكاد يكون هذا البيت مفروشًا بالفراش والأثاث الموجودة في منزل أبيه، ولا نغالي إذا قلنا إنه أفخم وأكثر نزوعًا إلى الثروة من مسكن أبيه؛ فقد يمتاز هذا البيت عن بيت الخليفة بالنجفات النحاسية المدلاة من سقوف الغرف، والتي أحضرها عثمان خصوصًا من الخرطوم، هذا إلى أن بيت عثمان واقع وسط حديقة كبيرة يمتد إليها طمي النيل ويشتغل فيها يوميًّا مئات من الرقيق الأسود، وقد عني أولئك عناية فائقة بعرض الحديقة في أحسن وأجمل منظر لسيدهم عثمان، الذي كان طول حياته مولعًا بكل ما هو جميل. ومن الغريب في أمر أولئك العبيد أنهم كدوا واجتهدوا في ذلك راضين مختارين، رغم التعب الذي لاقوه، ورغم القوت الذي لم يكن يكفيهم في عملهم الشاق.

صرف الخليفة عبد الله وابنه عثمان أغلب أوقاتهما في البناء وتجديد نظم ما أقاماه قبلًا، وقد بذلا أقصى ما يستطيعان من جهد في سبيل البقاء في حياتهما على الأرض، متمتعين بأقصى ما تنزع إليه نفساهما من بهجة وسرور.

وقد حذا يعقوب أخو الخليفة حذوهما فلم يكن غريبًا، والحالة هذه أن يتدفق يوميًّا مئات من العمال — وأغلبهم من الرقيق — إلى بيتَي الخليفة وابنه، حاملين الحجارة والطوب وكل ما يتعلق بالبناء. أما بيت الخليفة علي واد هلو، فصغير من ناحية وبعيد عن معالم الزينة والزخرف من ناحية أخرى.

كان لعبد الله — إلى جانب بيت الخلافة الرئيسي — بعض منازل في الناحيتين الشمالية والجنوبية من أم درمان، ولكن المنازل الأخيرة مبنية بناء بسيطًا عاديًّا، لا شيء من الزخرفة فيه، والغرض من بنائها هو استعمالها كأماكن استراحة له وللمقربين إليه عندما يرسل بعثات من جنوده إلى الجهات المجاورة لأم درمان، أو عندما يخرج لاستعراض الجنود القادمين حديثًا إلى أم درمان، ولم يكن يستطيع (عبد الله) البقاء في منزل من المنازل المذكورة أكثر من يوم أو يومين في المرة التي يخرج فيها.

بنى عبد الله، خلاف المنازل المذكورة، منزلًا على مقربة من نهر النيل مجاورًا لحصن الحكومة القديم، بعد أن ردم الخنادق التي كانت متاخمة للحصن المذكور. وقد كان يذهب إلى هذا المنزل عندما تشرع السفن البخارية في مغادرة أم درمان إلى الرجاف. وغرضه الرئيسي من ذلك، الوقوفُ بنفسه على كيفية سير السفينة ومقدار سرعتها.

إلى جوار بيت الأمانات (الترسانة) المكون من بناء ضخم حجريٍّ، جمعت فيه المدافع والبنادق والذخيرة وكل ما يختص بالحرب، وإلى جوارها (في البناء نفسه) خمس عربات كانت ملك الحكام السابقين والبعثة الكاثوليكية، وقد عُني عبد الله عناية فائقة بحراسة ذلك البيت، فوزع على مسافات قصيرة حراسًا خصوصيين (ديدبانات)، وأعد لكل واحد كشكًا صغيرًا، ومهمة أولئك هي منع جميع الخارجين عن هيئة الجيش من الدنو إلى الترسانة.

وُجد في الناحية الشمالية للترسانة مباشرة بناء لحفظ رايات الأمراء المقيمين في أم درمان، وإلى جانب ذلك البناء محلٌّ نصف دائريٍّ — يبلغ ارتفاعه نحو عشرين قدمًا ويصعد إليه الصاعدون بسلالم مدرجة — لحفظ أبواق وطبول الخليفة الحربية، فإذا ما سرنا إلى الناحية الشرقية قليلًا، وجدنا مخزن الخراطيش والأسلحة الصغيرة.

ذكرنا في الفصول السابقة شيئًا عن بيت المال، فنقول الآن إنه يقع في شمال أم درمان على مقربة من نهر النيل، ويمتاز هذا البناء بضخامته وانقسامه إلى أجزاء بارزة تكاد تكون أروقة متساوية الحجوم، وفي تلك الأروقة تجمع البضائع الواردة لأم درمان من جميع نواحي السودان ومن مصر، كما أن فيه (بيتِ المال) مكانًا لخزن الحبوب وآخر لجمع الرقيق. ويقع على مسافة قريبة جنوبي بيت المال بناءٌ واسع لبيع الرقيق يسمى (سوق النبيذ)، وقد أنشأ عبد الله جوار البناء الأخير بيتًا سماه «بيت المال الحربي»، بعد أن استقرت خلافة عبد الله وسلفه المهدي في أم درمان ثم تنظيم المدينة، وهي على العموم قائمة فوق أرض مستوية، ولكنا نجد في بعض النواحي هنا وهناك تلولًا صغيرة تعترض ذلك المستوى. أما تربة أم درمان فمجموعة طبقات صلبة حمراء تكاد تكون حجرية في مجموعها، وتتخللها في أجزاء متفرقة أراض رملية. ومما يذكر عن تعسف عبد الله أنه — في سبيل راحته والتمتع بما يرضي شخصه — أنشأ الطرق والشوارع الجديدة، وهذا العمل حميد في حد ذاته، إلا أن الخليفة في سبيل هذا البناء قد هدم بيوتًا كثيرة ولم يدفع لأصحابها المنكودي الحظ قرشًا واحدًا، فدل بذلك على أنه يرمي من وراء تنظيمه الحميد في ذاته إلى منفعة خاصة؛ هي لذة النظر إلى شوارع نظيفة بغض النظر عما يصيب الناس من هدم منازلهم دون تعويض.

علا شأن أم درمان ونقص قدر الخرطوم في زمن خلافة عبد الله، فأصبحت الخرطوم عبارة عن أنقاض وخرائب، ولم يبق فيها من المباني الظاهرة سوى المرفأ، وقد ظلت المواصلات بين أم درمان والخرطوم بواسطة الرسائل التلغرافية، التي أحسن استعمالها موظفو إدارة التلغراف في الحكومة السابقة.

أبقى عبد الله قسمًا كبيرًا من السور المحيط ببيت المال والمؤدي إليه — لم يكمل هذا البناء في زمن عبد الله — وعلى طول هذا البناء امتدت حوانيت لبيع المواد التجارية المختلفة، وإلى جوارهما حوانيت منفصلة وأماكن صغيرة مستقلة للحلاقين والنجارين والقصابين والخياطين ومن شابههم. هذا إلى أن عبد الله عُني بنظام المحتسبين الذين كانوا مسئولين عن حفظ النظام في المدينة. وإنه لمما يفزعني أن أذكر المشانق وآلات الإعدام التي كانت موزعة في جميع نواحي أم درمان؛ فقد كانت أكبر دليل على حالة المدينة وموقف السودانيين من حكومتهم.

كان سكان أم درمان موزعين في مساكنهم تبعًا لقبائلهم؛ فكان العرب التابعون للقبائل الغربية يسكنون غالبًا في المحلات الجنوبية. أما القسم الشمالي فكان مخصصًا لسكان وادي النيل، ورغم وجود المحتسبين والمحافظين الرسميين على نظام المدينة، كان مفروضًا على كل قبيلة أن تعين من بين رجالها من يقومون بحفظ الأمن والسلام في القبيلة ذاتها، على أن يُبلغ أولئك عن أي اضطراب أو خلل في القبيلة إلى رجال الحفظ المعينين من قبل الحكومة.

إذا استثنيا الشوارع المنتظمة التي أنشأها وخططها الخليفة عبد الله إرضاء لراحته ومزاجه فحسب، وجدنا المدينة عبارة عن منحدرات وعطفات مملوءة بقاذورات. وبطبيعة الحال أجد شخصي عاجزًا عن وصف الأضرار الصحية المنبعثة من تلك القاذورات الكريهة الرائحة في الأماكن الوبائية التي تجمعت فيها كل أوساخ أم درمان. ويكفيني القول بأن جثث الخيول الميتة تُرمى في تلك النواحي، وأن الجمال والحمير والماعز تزحم الطرق الضيقة وتملأها بأوساخها وقاذوراتها، وكل ما يعمله الخليفة هو أن يصدر أوامره قبل أيام أعياد مخصوصة في كل سنة باكتساح هذه الأوساخ وتنظيف الطرق الضيقة، فلا يتعدى التنظيف حد إلقاء الجيف المنتنة في زوايا الحارات، فإذا ما جاء فصل الشتاء الممطر حمل الهواء — المشبع بالروائح الكريهة المنبعثة من تلك الأوساخ والجيف — بعض أمراض وبائية تعمل على قتل المئات من السكان المساكين.

كانت المدافن قبل عهد الخليفة عبد الله قائمة وسط المدينة، ولكن تبرم الأحياء وتذمرهم من الروائح التي أصيب بها السكان من ذلك النظام، اضطَّر عبدَ الله إلى إنشاء مكان فسيح خاصٍّ وإعداده لدفن الموتى، وقد وقع اختياره على الصحراء الواقعة شمال مكان استعراض الجنود.

سهل على القارئ أن يتصور انتشار الأمراض في السودان، بعد أن عرف الشيء غير القليل عن الروائح الكريهة وأوساخ البهائم في جميع نواحي أم درمان تقريبًا، إلا أن ذلك الانتشار لا يمنعنا من تخصيص الأمراض الخطيرة السائدة هناك، فنقول إن الحمى والدوسنطاريا هما شر ما يبلى به ساكنو أم درمان، ولا تكاد تنقطع حمى التيفوس الوبائية بين نوفمبر ومارس من كل عام.

نتكلم الآن قليلًا عن مياه أم درمان، فنقول إن الآبار المفيدة والينابيع المعدة لجلب المياه الصحية أنشئت قبيل عام ١٨٩٥، وتلك العيون الصحية أقيمت في الناحية الشمالية من المسجد الكبير. أما الآبار المحفورة في نواحي أم درمان الجنوبية، فماؤها أجاج في غالب الأوقات، وهي في مجموعها تختلف في العمق بين ثلاثين وتسعين قدمًا، وقد تم حفرها بواسطة المسجونين تحت رقابة الحراس الغليظي القلوب. ومما يذكر في صدد السجن والحراس، أن المرء في أم درمان يسمع كثيرًا من المارة قولهم «لقد أخذوا صاحبنا إلى السعير»، ومعنى السعير عندهم هو السجن الذي يلاقي فيه المغضوب عليه عذابًا شديدًا، إن مجرد لفظ هذه الكلمة (السعير) يولد الاضطراب والفزع في نفوس جميع سامعيها. أما السجن فقائم في الناحية الجنوبية الشرقية من أم درمان على مقربة من نهر النيل، وهو مسيَّج بحائط ضخم، وللسير إلى السجن يمر الإنسان بردهة خارجية فسيحة، يحرسها نهارًا وليلًا جنود من السودانيين المخيفين، فإذا ما عبر المرء تلك الردهة وصل إلى ساحة داخلية مكونة من غرف طينية لإقامة المسجونين المنكودي الحظ، الذين اعتادوا — وهم في السلاسل والأصفاد الثقيلة — قضاء سحابة اليوم في ظل ذلك البناء وهم في سكون وجمود كاملين، لا يتخللهما من الأصوات سوى رنين السلاسل والأوامر القاسية الصادرة من الحراس الغلاظ القلوب، وصراخ وتأوهات بعض المسجونين المضطهدين من جراء ما ينزل على أجسامهم من سياط الجلد والتأديب، والويل كل الويل لمن تعرض لسخط الخليفة ومخالفة أمره، فأمثال أولئك يرسفون في أثقل الأغلال، بعد أن يحتم عليهم مراقب السجن البقاء في أصغر الغرف والامتناع عن الاختلاط بباقي المسجونين.

وفي الغالب كانوا يأخذون من الطعام ما يكفي لبقائهم أحياء؛ أي إن أمر مراقب السجن كان صادرًا ببقائهم دائمًا في حالة الجوع الشديد التي لا تعرضهم للموت مقابل الكمية القليلة التي يتناولونها للغذاء. أما المسجونون العاديون فلا يتناولون مقدارًا منظمًا من الطعام، ومن المسموح لهم جلب الطعام من منازلهم. وقد حدث في كثير من الأحيان أن الحراس السلابين النهمين التهموا الجزء الأكبر من الطعام الوارد من منزل أحد المسجونين قبل إيصاله إلى غرفة المسجون. وفي أحيان أخرى كان أولئك المسجونون التعساء يحرمون من كل ما يرد إليهم من بيوتهم الخاصة عند حلول الليل.

كان السجانون يقودون المسجونين كقطيع من الغنم إلى غرفهم الحجرية التي كانت خالية من النوافذ خلوًّا كليًّا، وبالتالي كانت محرومة من الشمس والهواء النقي، ولم يكن أولئك السجانون القساة يسمعون تضرعات أو توسلات من المسجونين، فكانوا يسوقونهم ليلًا إلى الغرف الحجرية شذر مذر، وفي الحقيقة كان أولئك المنكوبون يساقون إلى قبور لا فرق بينها وبين قبور الموتي سوى أن النازلين فيها أحياء أشقياء، يجور قويهم على ضعيفهم رغم كونهم في المصاب سواء. وقد كان الحراس في كثير من الأحيان يذهبون في الصباح المبكر إلى تلك الغرف السوداء المظلمة فيجدون بعض المسجونين التعساء قد ماتوا مختنقين؛ لعدم وجود ذرة من الهواء في غرفهم المغلقة من جميع نواحيها ولعدم تمتعهم بالغذاء الكافي من الناحية الأخرى.

وإنه لمن المفزع حقًّا أن يشاهد المرء عشرات من أولئك «الموتى في أجسام الأحياء» خارجين من كهوفهم إلى فضاء السجن كل صباح، بعد أن قضوا ليلتهم منهوكي القوى غير قادرين على النوم في ذلك الوسط المخيف المضر بالصحة.

إذا ما بزغ نور الصباح خرجوا من غرفهم الصغيرة وهم أقرب إلى الموت منهم إلى الحياة، واستظلوا بظل حيطان السجن، وقضوا بقية النهار في السعي إلى راحة أجسامهم من ألم الليلة السابقة، وعمدوا إلى اكتساب قوة جديدة يستطيع بها كل مسجون مواجهة ما ينتظره في يومه من أتعاب وآلام.

من المعقول جدًّا أن كلًّا من أولئك الأحياء التعساء كان يفضل الموت على تلك الحياة الشاقة المؤلمة، ولكن الواقع خلاف ذلك؛ فقد سعى كلٌّ إلى البقاء في الحياة مهما قاسى من ألم وضنك، وقد كانت دعواتهم إلى الله محصورة في إنقاذهم من الشدة التي انتابتهم. ومع أن السجن كان مزدحمًا ومعرضًا المسجونين للاختناق، ومع أن المسجونين كانوا يلاقون من العسف أهوالًا ومصائب وآلامًا مبرحة؛ مع ذلك لم أسمع مدة إقامتي في السودان أن واحدًا من المسجونين سعى إلى الانتحار.

وأذكر الآن تشارلس نيوفلد، الذي قضى بضع سنوات في ذلك السعير السوداني معرضًا للمرض والعسف والاضطهاد؛ فقد كان من المتوقع موت هذا الرجل بين آن وآخر، ولكنه بقي على قيد الحياة بواسطة المساعدات التي وصلت إليه بواسطة خادمه الأسود الأمين الذي أحضره معه من مصر، وإلى جانب تلك المساعدة كان الأوروبيون المقيمون في أم درمان يقدمون ما يستطيعون من عون إلى هذا المسجون الأوروبي البائس.

فضل تشارلس البقاء على قيد الحياة رغم كونه كان راسفًا تحت سلاسل ثقيلة حول رقبته وقدميه. ومما نذكره عنه أنه رفض في ليلة من الليالي البقاء في غرفة حجرية، وصفها بأنها «آخر مرحلة مؤدية إلى نار الجحيم»، فجُوزِيَ على تعنته هذا بالجلد بسياط السودان الموجعة، ومع ذلك تحمل آلام الجلد بصبر مدهش، فلم يشكُ لحظة واحدة حتى اضطر الجلادان إلى سؤاله في دهشة وذهول: «ما الذي يدعوك إلى عدم التذمر؟ وما الذي يمنعك عن طلب العفو؟» فأجابهما نيوفلد بجرأة غريبة «وقلب حديد» نالت احترام وإعجاب السجانين: «هذا التذمر وذلك الطلب الذي يذل يصدران من الآخرين، أما أنا فلن أذل نفسي بشيء من ذلك.»

بعد أن قضى هذا البائس ثلاث سنوات في السجن، خُففت السلاسل التي كان يرسف فيها، ثم نقل إلى الخرطوم ولم يبق من الأغلال إلا ما كان حول الساقين، وعندما وصل إلى سجن الخرطوم أمر بتكرير وتنقية ملح البارود المعد لعمل البارود، وكان ذلك التكرير تحت مراقبة واد حامدين الله. وفي ذلك الحين تحسنت حالته كثيرًا، وقد كان يمنح مكافأة شهرية ضئيلة مقابل هذا العمل، فكانت تلك المكافأة مساعدة له في الحصول على حاجاته الضرورية للحياة.

كان معمل تكرير ملح البارود مجاورًا لبناء الكنيسة التابعة للإرسالية الدينية في الخرطوم، فساعد ذلك التوفيق زميلنا تشارلس على النجاة من مخالب الضنك والتعب؛ حيث كان مسموحًا له (نيوفلد) بعد الانتهاء من عمل النهار الشاق المؤلم أن يقضي ليلة في حدائق كنيسة الإرسالية، وليس من شكٍّ في أن أفكاره حينئذ كانت متجهة إلى أسرته في إنجلترا، ولا ريب في أنه كان فيما بينه وبين نفسه يلعن ذلك اليوم الأسود الذي أغراه هواه فيه بترك مصر إلى السودان؛ حيث وقع في قبضة الخليفة عبد الله.

كان من العسير جدًّا على هذا الرجل أن يذوق الموت ويلقى حتفه دون إثم ارتكبه، وقد يكون من توفيق هذا الرجل في وقت قريب أن يجتمع بأصدقائه وأقربائه الذين تاقوا إلى رؤيته حرًّا طليقًا من الأسر المفزع، ولئن كان من اليسير وجود العدد الكبير من الأصدقاء — الذين يريدون مساعدة تشارلس — في أوروبا، فإن الحقيقة هي أن تخلص هذا الأسير البائس من يد الخليفة العاتي لا يتم إلا بعون الله وحده.

إن قلبي ليتوجع وليكاد يتمزق حزنًا وألمًا كلما شرعت في كتابة شيء عما يقاسيه المسجونون في سجن (سيد) أم درمان، ورغم ذلك سأذكر شيئًا عن الرجل البائس الشيخ خليل، الذي أرسل من مصر ومعه رسائل خاصة إلى الخليفة عبد الله فيها بيان عن عدد أسماء الأسرى الذين سلموا في واقعة توشكى، والذين عوملوا معاملة حسنة. لم يكن الخليفة يجهلها كما أنه لم يجهل قرب الإفراج عنهم، وقد ورد في إحدى الرسائل المذكورة طلب من أولي الأمر الحربيين في مصر تسليم سيف ومداليات الجنرال غوردون للشيخ خليل؛ لأن أصحاب الشأن في مصر لم يشكوا في أن الأشياء المذكورة موجودة عند عبد الله.

كان يرافق خليلًا هذا شخص مصريٌّ اسمه بشارة، فبعد أن أطْلع سكرتير الخليفة الخاص على الرسائل وقرأها لعبد الله، أمر الأخير بعودة بشارة لمصر دون إجابة على الرسائل. أما خليل البائس — وهو مصري المولد — فقد قيدت يداه ورجلاه بالسلاسل الثقيلة بعد أن اتهمه الخليفة بتهمة الجاسوسية.

أسيئت معاملة خليل إلى أقصى حدود الإساءة، وحرم من الغذاء الكافي، فأصبح هزيل الجسم إلى حدٍّ لم يستطع معه القيام من الأرض. وقد بالغ معذبوه في إهانته حتى إنهم لم يسمحوا له بماء للشرب. وأخيرًا نفذ قضاء الله وحكم الموت الهادئ في خليل، فتلقاه بسرور وهو على ثقة من أن موته أعظم منقذ له من آلامه المبرحة.

نتكلم الآن عن بائس آخر اسمه صالح، وهو تاجر يهوديٌّ من تونس، فقد جاء هذا البائس إلى كسلا بإذن من أبي حرجة، فلم يكد يصل إليها (كسلا) حتى صدر أمر الخليفة باعتقاله وترحيله إلى أم درمان؛ حيث ظل معذبًا في السعير (السجن) لغاية كتابة هذه السطور (عام ١٨٩٧)، وهو عبارة عن هيكل عظميٍّ لا أمل له في الحياة إلا بمساعدة زملائه ورجال فرقته، الذين اضطروا إلى اعتناق الدين الإسلامي للتمكن من إيصال كميات قليلة من الطعام إلى صالح هذا.

بين المسجونين اثنان من العرب العبابدة اتُّهما بحمل رسائل إلى الأوروبيين في أم درمان، فاعتقلا وماتا في السجن بعد أن هلكا جوعًا، فليس بدعًا أن يضطرب الأوروبيون المقيمون في أم درمان إزاء سوء معاملة الخليفة معهم من ناحية غير مباشرة، ولكن من حسن الحظ اتضح أن الرسائل واردة إلى رجل قبطيٍّ من أقربائه في مصر.

كان عبد الله كثير الميل إلى الوشايات وتصديقها، ومما نرويه في هذا الصدد أن عسكر أبا كلام شيخ قبيلة جمعة الكبيرة كان مشهورًا بصداقته للخليفة عبد الله ولأبيه من قبل، ولكن تلك الصداقة لم تجدِهِ شيئًا عندما وصل إلى أذني الخليفة أن عسكرًا هذا تكلم بشدة ضد الحالة في السودان، ففي ذلك الحين أمر عبد الله بإلقاء عسكر في السجن راسفًا في الأغلال الثقيلة تأديبًا له وزجرًا لغيره. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل نفي إلى الرجاف وحملت زوجته «التي كانت مشهورة بجمالها الرائع» من بين ذراعي زوجها «أثناء توديعه قبل نفيه» إلى دار عبد الله لتكون واحدة من حريمه.

سبق في الفصول السابقة ذكر الشيء الكثير عن الأمير السوداني الشهير زكي طومال، وهنا نقول إنه عندما صدرت أوامر الخليفة باعتقال هذا الأمير، عومل معاملة سيئة جدًّا تدل على الغلظة القاسية والانتقام الشنيع؛ فقد بنيت له غرفة من الطين شبيهة بالقبر، وأغلق بابها على من فيها ولم يسمح له بشيء من الطعام على الإطلاق، وكل ما منَّ به الخليفة هو مقدار صغير من الماء سلِّمَ له من كوة صغيرة في الغرفة الحجرية، وقد تمكن زكي طومال الشجاع من البقاء ثلاثة وعشرين يومًا حيًّا بواسطة الماء، إلا أن الجوع أنهكه لدرجة الموت، ومع ذلك لم يشكُ طومال لحظة واحدة ولم يطلب عفوًا من عبد الله رغم بقائه في ذلك القبر الشنيع؛ فقد كان زكي طومال من ناحيته شديد الإباء بعيدًا عن التذلل، ومن الناحية الأخرى كان واثقًا من عبث السعي إلى هذا العفو من رجل اشتهر بانتقامه المريع وقساوة قلبه. وقد ظل على تلك الحال إلى اليوم الرابع والعشرين من سجنه حتى حمله الموت إلى مقره الأخير، ليرتاح من قساوة معذبيه في السجن وانتقام عبد الله في الخارج.

في فجر اليوم الرابع والعشرين سمع بعض الحراس الغلاظ القلوب زفرات الموت من غرفة زكي طومال، وعندما سكن الصوت وتحقق أولئك الطغاة من موت الأمير، أسرعوا لزف البشرى إلى سيدهم عبد الله، فأمر الأخير بحمل جثة الأمير «زكي طومال» إلى الناحية القريبة من أم درمان، وهناك دفن على كومة من الخرق البالية وظهره مقابل مكة — دفْن زكي على هذه الصورة يرمي إلى تحقيره بإبعاد وجهه عن القبلة — فإن الخليفة عبد الله لم يكتف بتعذيب غريمه طومال في الحياة، بل أراد مواصلة التعذيب والانتقام منه في موته بإبعاده عن مكة؛ ليحرمه من السلم والراحة في العالم الثاني.

كان عبد الله شديد الخطر على الجميع، حتى إنه لم يتأخر عن الشك في القاضي أحمد الذي يعد أقرب الملتصقين؛ به فقد اتهمه بخيانته، فأمر الحراس بإلقائه في الغرفة التي ألقوا فيها زكي طومال من قبل، وبعد يومين من سجن أحمد هذا دخل إليه في غرفته قاضيان بأمر من الخليفة، وهناك سألا زميلهما البائس أحمد عن المكان الذي خبأ فيه أمواله، فأجابهما أحمد بجرأة: «أخبرا سيدكما عبد الله الخليفة أني زهدت الدنيا، ولا أعرف مكانًا أجد فيه الذهب أو الفضة.»

تحايل القاضيان كثيرًا على زميلهما السابق وسعيا جهدهما في الوصول إلى معرفة المكان الذي يوجد فيه ماله، وعندما فشلا عادا أدراجهما مطأطأَيِ الرأسين إلى الخليفة، وقد كان ذلك الأمر كله قبل مغادرتي أم درمان ببضعة أيام. وقد تأكدت عقب رجوعي إلى مصر أن القاضي أحمد توفي بعد أيام في سجنه على الصورة التي توفي بها زكي طومال.

إن المرء يستطيع ملء مجلد كامل بفظائع وقسوة الخليفة ضد المسجونين في السعير (السجن)، ولكن من العبث إتعاب القارئ بذكر فظائع وحشية ارتكبت بأمر هذا الظالم المستبد الغليظ القلب عبد الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤