الفصل الثامن عشر

فراري

بعد ثلاث ساعات من غروب الشمس، أدينا فريضة صلاة العشاء مع الخليفة في المسجد الكبير، وبعد ذلك عاد (عبد الله) إلى مخدعه في بيته الخاص، ثم مرت ساعة لم يحدث فيها أي تدخل من أي جانب في سير الأمور سيرها العادي. وفي نهاية تلك الساعة ذهب سيدي ومولاي الخليفة عبد الله إلى فراشه. ولم أكد أثق من ابتعاد الخليفة عن حركاتي، حتى حملت الفروة النظيفة التي تعودت استعمالها في الصلوات الخمس يوميًّا، ثم ارتديت معطفًا صوفيًّا لوقايتي من البرد، ثم سرت في طريق المسجد إلى الناحية الشمالية من أم درمان، ولكني سمعت صوتًا خفيفًا، فخشيت وقوف من يعوق فراري، إلا أني تبينت الصوت بعد ذلك فعرفت أنه صادر من محمد الذي عينته الظروف الحسنة واسطة لفراري.

عند ذلك الصوت وقفت فوجدت إلى جانب محمد الهادئ الصامت حمارًا معدًّا لركوبي، فامتطيت الدابة وأسرعت في مسيري الخطير في ذلك الليل البهيم. ومن أحسن ما أذكره من دلائل توفيقي في هروبي الأخير، أن الريح الباردة الشمالية اشتدت إلى حد اضطر معه كل الآدميين إلى الانزواء في بيوتهم الصغيرة اتقاء خطر البرودة القارصة.

سرنا في طريقنا (أنا ومحمد) فلم نصادف من الناس أحدًا حتى وصلنا إلى الطرف الأخير من أم درمان، وفي قسم من ذلك الطرف وجدنا بيتًا صغيرًا مخربًا قائمًا على زاوية من الطريق الشمالية، ومن تلك الدار الصغيرة خرج رجلٌ عربيٌّ ومن ورائه جمل معدٌّ للسفر، لم تكد تقع عينا الرجل عليَّ حتى بادرني بقوله: «سيعينك ذلك الجمل في رحلتك وسأرشدك في الطريق إلى مصر.»

قال لي محمد بعد ذلك: «اسم هذا الدليل زكي بلال، وسيسير معك أولًا إلى الجمال المعدة لاجتياز الصحراء بالراكبين في بقعة خاصة، فأسرعْ تلقَ النجاة، وإني شخصيًّا أتمنى لك سفرًا سعيدًا، وأسأل لك من الله الوقاية والأمن.» ذكر زكي بضع كلمات للجمل دعته (الجمل) إلى البروك على الأرض، فامتطى «زكي» صهوته ودعاني إلى الجلوس على جزء من السرج وراءه مباشرة لعدم وجود جملين في تلك اللحظة. وبعد ساعة من رحلتنا وصلنا إلى بقعة اختبأ فيها بعض الجمال تحت الأشجار الصغيرة، وعلى أية حال كان كل شيء على استعداد تامٍّ، وكنت أنا شخصيًّا خاضعًا لأي أمر يصدر لي من زكي؛ مرشدي في تلك السبيل الخطيرة، وإذن سمعت كلامه عندما أشار عليَّ بركوب جمل خاصٍّ.

قلت لزكي قبل متابعة رحلتنا: «هل أعطاك محمد الدواء؟» فأجابني «زكي»: «لم أستلم شيئًا، وأي دواء تعني؟» فأجبته بأن الدواء الذي أعنيه هو ما يسمونه أقراص الأثير، التي تمكن المسافر من مطاردة النوم وتمنحه قوة على مواصلة السفر الطويل الشاق.

ضحك زكي بعد ذلك وقال لي: «النوم! النوم! لا تفكر في هذا الموضوع؛ فإن النوم لا يجد إلى عيني سبيلًا، وإن الله من فوقنا رحيم قدير يمكننا من مطاردة النوم دون الاستعانة بدواء إنسانيٍّ.»

لم أجد جوابًا على ذلك سوى قولي: «لقد أصبت أيها الصديق كبد الصواب، وإني مشترك معك في الدعاء إلى الله بمد العون الأعلى.»

واصلنا السير في طريق شمالية، وقد كان من الممكن أن تسرع بنا الجمال في طريقنا، إلا أن أمرين حالا دون ذلك؛ هما: شدة ما في الليل من حلوكة وبرودة من ناحية، وانتشار أعشاب الحلفا وشجر الميموسا في طريقنا من الناحية الأخرى. وعلى أية حال لم يقف بنا جملانا طول الليل، وظللنا ندعو الله أن يمن علينا بالسلامة حتى أشرق نور الصباح البهيج، فوجدنا أننا (أنا وزكي) عند أول وادي بشرة؛ حيث يجد المسافر واديًا ممتدًا إلى ما لا يقل عرضه عن ثلاثة أميال، وتلك الناحية مزروعة ببذور الدخنة من فصل الشتاء؛ حيث يجد أفراد قبيلة الجعليين الساكنون على شاطئ النيل ريًّا كافيًا من مطر السماء.

انضم إلينا بعد أن غادرنا طرف أم درمان الشرقي قائدٌ آخر صغير السن اسمه حامد بن حسين. وإذن وصلت إلى وادي بشرة، فتمكنت من ضوء الصباح من مشاهدة زكي بلال؛ فإذا به شابٌّ صغير السن مسترسل اللحية، وإلى جواره حامد بن حسين وهو شابٌّ في مقتبل العمر. عندما وقفت الجمال الثلاثة صباحًا سألت الرجلين قائلًا: «من أية قبيلة أنتما؟»

فأجابا متضامنين: «نحن من جبال جيليف أيها السيد، ولتكن واثقًا أن إرادة الله وحدها هي التي تساعدنا على ارتياحك إلينا.»

طال الحديث بيننا نحن الثلاثة بعد أن اطمأننت إلى ذينك الرفيقين، وانتهز أكبر المرشدَين سنًّا ما لقيه فيَّ من صراحة وبساطة، فقال لي: «إلى أي مدى بعدنا عن أعدائنا؟ وبَعْد كم من الزمن نصل إلى الجهة التي يضل فيها أعداؤنا عن الوصول إلينا؟»

أجبته على الفور: «سيبحث عني رجال الخليفة بعد الانتهاء من صلاة الفجر، ولكن ثق أنهم سيبدءون أولًا بالشك في فراري، ثم يعقب ذلك البحث عن الجمال التي يركبها الجنود للبحث عني، وكل ذلك يستلزم وقتًا، فثق أن لدينا ما لا يقل عن أربع عشرة ساعة.»

فرد عليَّ حامد قائلًا: «ليس هذا بالشيء الكثير جدًّا، ولكن إذا ساعدنا الله وقوى جمالنا في مسيرها، فإن لدينا إذ ذاك أملًا قويًّا في قطع شوط بعيد أمين.»

اضطررت عندئذ إلى إلقاء السؤال الآتي على حامد: «هل تعرف قوة جمالنا على السير؟ وهل لم تختبرها قبلًا؟» فوجلت عندما أجابني قائلًا: «إني في الحق لا أعرف عن تلك الجمال الثلاثة شيئًا؛ لأنا اشتريناها على عجل في الوقت الذي سمعنا فيه خبر رغبتك في الفرار، ولكن الذي نثق منه هو أن الذي اشترينا منهم الجمال قوم مشهورون بأمانتهم من ناحية، وبمتانة جمالهم من الناحية الأخرى.»

ومهما يكن من شيء، فقد تابعنا فرارنا بأسرع ما نستطيع، وقد عدونا بالجمال عدوًا لا نتصور في الأرض سرعة لحيوان كتلك التي قام بها جمالنا الأمناء. على أنا في الحق أشفقنا على تلك المخلوقات غير الناطقة لما انتابها من شدة وتعب، ومما خفف الأمر انبساط الأرض وسهولة تربتها، رغم ما تخللها من أكوام وحفر وبعض التلال الحجرية الصغيرة. ويمكنني التصريح دون مبالغة أنَّا والينا العدْو دون وقوف إلى ظهر يومنا ذاك، حيث ناداني مرشدي فجأة قائلًا: «قف حالًا! ولنبرك جمالنا في تلك اللحظة، ولنكن سريعين في عملنا هذا.»

خضعت للأمر فوقفنا وبركت الجمال، إلا أني دهشت جدًّا وتولاني الفزع لوقوف الجمال، في حين أني أشاهد الجمال وجوادين في مسافة بعيدة، ولم أكن أشك في أن الأعداء قادمون للانقضاض عليَّ وعلى المرشدين اللذين معي، فأعددت مسدسي (من طراز رمنجتون) للدفاع عن نفسي وعمن معي وقت الهجوم، وعند ذلك قلت لمن معي: «إذا كنا الآن مكشوفين أمام عيون أعدائنا فلنسر في متابعة الهروب بهدوء ونظام؛ لأن بروك جمالنا ووقوفنا متجاورين مما يبعث الشكوك والريب إلى أولئك الجنود الذين يتعقبوننا؛ وإذن ففي أية طريق هم سائرون؟»

أجابني حامد بن حسين: «إنك على حق في كل ما تقول، أما الطريق التي يسيرون فيها فهي الشمالية الغربية.»

تيقظنا بعد ذلك من غفلتنا وغيرنا طريق سيرنا فجعلناها الشمالية الشرقية، وكنا مطمئنين كثيرًا وواثقين بأنا سرنا غير منظورين من أولئك المراقبين، ولكنا فزعنا جدًّا عندما شاهدنا على بعد ألفي متر تقريبًا أحد الجنود التابعين للخليفة مسرعًا امتطاء جواده ومتجهًا إلى ناحيتنا.

قلت لحامد بعد ذلك: «أخبرك يا حامد بأني سأسير جنبًا مع زكي، فهل تستطيع إيقاف ذلك الرجل القادم إلينا وإجابته عما يلقيه من أسئلة؟ وعلى أية حال فأطلب منك أن تمنعه.»

لم يكد يصل حامد إلينا حتى قال بصوت مرتفع: «أشكر الله فضله شكرًا جزيلًا على نجاتك؛ فإن الرجل الذي كان يتعقبنا صديق خاصٌّ لي اسمه الشيخ موضال، وقد كان سائرًا في طريقه إلى دنقلة ليحضر كميات من البلح إلى أم درمان، وقد استفسر مني الرجل عن سبب مرافقتي للرجل المصري الأبيض صاحب العينين الشبيهتين بعيني الصقر.»

عندما انتهى حامد من كلامه أجبته (المؤلف) على الفور: «ماذا كان جوابك على سؤال ذلك الشيخ؟»

فقال حامد بأنه طلب من ذلك الشيخ بصفته صديقًا مخلصًا له أن يحتفظ بالسر، وأعطاه في سبيل ذلك عشرين ريالًا من عملة ماريه تريزة، ثم أردف ذلك بقوله لي: «نحن العرب ميالون كثيرًا إلى اقتناء المال، فلم يكد يحصل مني صديقي على ذلك المبلغ حتى أقسم لي قسمًا غليظًا بأنه لن يفشي سرنا بحال من الأحوال، وأنه سيمسك لسانه عن الكلام في حالة التقاء متعقبينا به.» أما فيما يختص برفاق صاحبي الشيخ، فمن الغباوة بدرجة لا يميزون معها بين الأبيض والأسود ولا يعرفون الفرق بين العربي السوداني والأوروبي الأبيض، ما دام المطلوب تمييزهم مقنعي الوجوه. هذا إلى أن الوقوف مع أولئك مكن زكي ومكنني (المؤلف) من قطع مسافة بعيدة عن الأنظار.

عندما غربت الشمس تجاوزنا تلال هوبيجي، ثم نزلنا عن جمالنا للاستراحة في الخلاء وبقينا هناك نحوًا من ساعة، وتلك الناحية التي عسكرنا فيها تبعد مسير يوم غربي شاطئ النيل. ولم نكن في راحتنا الصغيرة نرمي إلى إراحة أجسامنا، بل كنا أولًا وأخيرًا نقصد استراحة جمالنا صاحبة الفضل في حملنا إلى حيث نتمتع بالحرية، وأظن أنه لم يكن ميسورًا لنا الاستمرار في العدو بعد أن واليناه إحدى وعشرين ساعة دون انقطاع منذ غادرنا طرف أم درمان الشمالي، ولم نأكل طول يومنا، وكل ما تمكنا من تغذية أجسامنا به هو القليل من الماء لكل من الثلاثة العاديين.

في تلك الساعة التي ارتحنا فيها وأرحنا جمالنا كنا شديدي التعب، ولكنا على الرغم من ذلك أكلنا بلذة وشهية مفتوحة مقدارًا من العيش القفار وكمية من البلح.

بعد أن أكلنا قال لي مرشدي حامد: «لنقدم الأكل لجمالنا وبعد ذلك نوالي السير السريع، أما أنت فأظنك في أشد حالات التعب.»

أجبته بسرعة: «لست أشعر بشيء من ذلك التعب الذي تعبته؛ لأنا في أوروبا نعد الوقت من ذهب، فإذا كنت في صغري تعلمت ذلك، فإني أزيد عليه في حالتي هذه بأن الوقت حياة كاملة، فلنسرع جدًّا في عملنا.»

تولانا الجزع عندما رفض كلٌّ من الجمال الثلاثة تناول شيء من الأكل، لأنا قدرنا في الحال أن الجمال لن تستطيع السير، وأن المانع لها من الأكل هو شدة ما انتابها من تعب الإجهاد في العدو. وعلى أية حال، عمدنا في تلك اللحظة بعد أخذ مشورة حامد إلى إيقاد نار قليلة الكمية فوق مقدار كبير من الخشب المحروق، وصببنا على الخشب والنار جزءًا من الراتينج.

بعد الانتهاء من تلك العملية وضع حامد الخشب والنار فوق قطعة خشبية مستطيلة، ومر بها حول الجمال ذاكرًا بعض كلمات لم أفهم منها شيئًا.

تساءلت عندئذ بشيء من الدهشة: «ماذا تصنع يا حامد؟» فأجابني: «إني أخشى جدًّا أن يكون فقهاء وقضاة الخليفة عبد الله قد رقوا جمالنا بما يعرقل سيرنا وينجح مقاصد الخليفة، وهذا الخوف يدفعني إلى استعمال الترياق العربي الذي يفسد سم الحاسدين.»

أما ذلك القول فلم يجد مكانًا في خاطري بالطبع، وكل ما أجبت به عليه هو: «إني أخشى أن تكون الجمال من الفئة الثانية في السوق، وأخشى إلى جانب ذلك أن تكون قد تعبتْ وينبغي أن يترك قسط آخر من الراحة لها؛ عسى أن تتقوى وتنهض بعد ذلك.»

انتظرنا نصف ساعة في مكاننا ظنًّا بأن الجمال ستأكل بعد ذلك، ولكنها امتنعت عن تناول أي طعام، فخشينا ضياع الوقت وتمكُّن أعدائنا من الوصول إلينا، فاضطررنا إلى إعداد جمالنا للركوب، وبالفعل قمنا على ظهور جمالنا لمواصلة العدو. أما الجمال فامتنعت عن الجري وكل ما سمحت لنا به هو سير عاديٌّ جدًّا، فالتزمنا مطاوعة الجمال في رغبتها، وبقينا في سيرنا البطيء هذا حتى وجدنا أنفسنا وقت شروق الشمس عند الأرض المرتفعة شمال غربي متمة.

شعرنا عندئذ بضعف الجمال وتضاؤل قوتها، فولد ذلك في نفوسنا جزعًا مستمرًّا، وأصبح من المؤكد لدينا أن الجمال لن تستطيع الوصول إلى المكان الذي نريد الانتهاء إليه — وهذا المكان هو الواقع على مسير يوم شمالي بربر في طرف الصحراء — حيث اقتضى الاتفاق السابق تغيير الجمال.

عندما أقبل الظهر أرحنا جمالنا في ظل شجرة باسقة واتفقنا على السير إلى ناحية جيليف — الواقعة على مسير ما يقرب من يوم في الطريق الشمالية الغربية — حيث أظل مختبئًا في التلال غير المسكونة وغير المطروقة، حتى يتمكن مرشداي زكي وحامد من إحضار جمال صالحة لإتمام الرحلة.

عند غروب الشمس كانت الجمال صالحة للسير السريع بعد أن ارتاحت قسطًا وافرًا من الزمن، فركبنا الجمال ذاتها ووصلنا في فجر اليوم التالي إلى سفح جبل جيليف، حيث لا ساكن من بني آدم على الإطلاق.

شكرنا لله فضله عندما بلغنا تلك البقعة، ثم نزلنا عن جمالنا وسقناها أمامنا في رحلة شاقة، سرنا فيها على الأقدام ما يقرب من ثلاث ساعات في وادٍ لا تتخلله غير الصخور المرعبة المنظر.

ينتسب مرشداي زكي بن بلال وحامد بن حسين إلى قبيلة كبابيش، فجبل جيليف معروف لديهما؛ حيث ولدا إلى جواره، فهما إذن على معرفة تامة بكل ممرٍّ في ذلك الجبل، فاستحسن رفيقاي في تلك البقعة خلع السروج عن الجمال ووضعها على صخرة بجانبنا.

قال لي حامد بن حسين عندما بلغ ثلاثتنا هذه الصخرة: «لقد وصلنا إلى وطننا، ولا ريب في أن الوطن يحمي ابنه الذي يلوذ به، فاطمئن أيها الضيف، وكن واثقًا أنه لن يصيبك أي أذى ما دمت في أرضنا، فاسترح هادئًا، ولازم تلك البقعة حيث لا يشاهدك متعقب أو مراقب خارجيٌّ. وها هي على بُعد أقل من مائة متر عين الماء الشهيرة المتفجرة بين الصخور، فسأذهب إليها بالجمال لأسقيها منها، وسيحضر لك زكي قربة صغيرة مملوءة من ماء تلك العين، وفوق ذلك سأخفي الجمال في مكان أمين بحيث لن يستطيع الجن ذاته الوصول إلينا وإلى جمالنا، وإذن فلننتظر هنا حتى أنتهي من التفكير فيما سنتبعه بعد ذلك.»

بقيت وحدي ولا أكتم القارئ حقيقة اضطرابي ووجلي في ذلك القفر الموحش. وعلى أية حال استسلمت إلى المقادير، ودعوت الله أن ينقذني، ففكرت في السير السريع إلى الحدود المصرية، وأخذت أفكر وتتساورني الهواجس من كل ناحية، وبقيت على تلك الحال ساعتين كاملتين، جاء بعد انتهائهما صديقي زكي بن بلال حاملًا قربة الماء على كتفه، ولم يكد يصل إليَّ في وحشتي حتى ناداني قائلًا: «ذق طعم ماء وطني العزيز تلقَه نقيًّا خالصًا هنيئًا للشاربين، ولتثق أيها الضيف العزيز أن وطني الذي حملك سالمًا سيودعك سالمًا حتى تصل إلى الأرض الأمينة حرًّا، وتأكد أن كل شيء سيجري في أحسن صورة بعون الله ولطفه، وأن النهاية ستبدد جميع ما حاق بك من آلام ومصائب، لا في تلك الرحلة فحسب بل في السنوات الماضية الطوال التي قضيتها أسيرًا في أم درمان.»

شربت مقدارًا قليلًا من الماء فوجدته شهيًّا جدًّا مصداقًا لقول زكي، الذي أعجبني منه حبه الشديد لوطنه، رغم ما هو (الوطن) فيه من فقر ووحشة على النازحين إليه.

قلت لزكي: «إني على ثقة من الفوز، ولكنني أخشى التأخير.» فأجابني على الفور: ««معلهشي»، كل شيء بإرادة الله، وعسى أن يبعث الله لنا الخير في هذا التأخير، وإذن فلننتظر حامد بن حسين صابرين واثقين في لطف الله.»

وصل إلينا حامد بعد مرور بضع دقائق على ظهر اليوم المذكور، وبعد مجيئه تناولنا نحن الثلاثة (حامد وزكي وأنا) طعامنا البسيط العادي المكون من الخبز والتمر، وبينما نتناول طعامنا استصوب زكي ركوب جمله والوصول إلى الأصدقاء الواقفين على سر نجاتي، على أن تستغرق تلك الرحلة يومين متواليين يتمكن زكي بواسطتها من الحصول على جمال جدد.

قال لي زكي قبل رحيله: «سأركب الجمل بشارن؛ لأنه أقوى الجمال الثلاثة ولم يصب بعد بالكلال الذي يحول دون مواصلة الرحلة الجديدة، وها نحن في مساء السبت، فسأواصل رحلتي طول الليل وسحابة يوم الأحد، حتى إذا أحياني الله إلى صباح يوم الإثنين وصلت إلى البقعة التي اتفقت مع أصدقائي على الالتقاء فيها. وقد أضطر إلى البقاء هناك يومًا أو يومين في حالة عدم وجود جمال مستعدة لمواصلة الفرار. وعلى أية حال — ما لم يعقني مانع قهريٌّ جدًّا — سأرجع إلى مكاني هذا — الذي أنا فيه الآن — يوم الخميس أو يوم الجمعة على أكثر تقدير.»

أجبت صاحبي زكي بن بلال قائلًا: «أرى الخير في تأجيل المواعيد المذكورة، وتأكد أنَّا في انتظارك هنا لغاية يوم السبت، أما إذا وصلت إلينا قبل ذلك فلا مانع، وعلينا أن نضاعف الشكر لله في تلك الحال. ولكن الشيء الوحيد الذي نرغب دائمًا في أن تذكره هو أن مصيرنا بين يديك بعد إذن الله، فلا تمهل في شيء على الإطلاق، وأطلب إليك إلى جانب ذلك أن تكون حذرًا أشد الحذر في إحضار الجمال؛ بحيث تنتقي أجودها وأقدرها على مواصلة السير؛ حتى لا يصيبنا في المرة الجديدة ما أصابنا في سابقتها.»

وضع زكي يده في يدي بعد سماع أقوالي وودعني قائلًا: «ثق في حظنا الحسن، ثم اعتمد على نيتي الحسنة وإخلاصي الشديد.»

فأجبته شاكرًا وقلت له: «الله وحده قادر على أن يحميك ويرجعك إلينا عاجلًا في سلم وعافية.» وضع زكي بعدئذ قليلًا من التمر في قطعة من القماش ليأكل وقت جوعه أثناء رحلته القصيرة، ثم حمل سرج الجمل على ظهره، ثم وصف له حامد المكان الذي اختبأ فيه الجمل بشارن الذي استعان به صاحبنا زكي في سيره، وقبل عدوه شدد علينا في أن نضلل أفكار الناس — إذا وُجد أناس في ذلك القفر — عنه. وما هي إلا دقائق حتى اختفى زكي عن أنظارنا، ثم عمدنا بعد ذلك إلى إبعاد الأحجار الصغيرة عن الأرض التي قررنا قضاء ليلتنا نائمين عليها حامد وأنا، وقد وفقنا في عملنا هذا توفيقًا عظيمًا.

بقينا حامد وأنا صامتين فترة طويلة، شُغل فيها كلٌّ منا بالنظر إلى الطبيعة والتفكير فيما راق له أن يفكر فيه. وبينما أجول ببصري في ذلك القفر الواسع قال لي حامد: «عندي اقتراح أود عرضه عليك، ويتلخص ذلك الاقتراح في أن لي قريبًا اسمه إبراهيم باشا له النفوذ الكلي على منطقتنا الجبلية هذه بصفته شيخها، ولهذا الشيخ منزل في سفح التل على مسافة أربع ساعات من مكاننا الذي نحن فيه الآن. ولئن كنا إلى الآن محجوبين عن أنظار الآدميين، فمن الخير أن نعلم شيخنا إبراهيم بوجودنا حتى يكون على بينة ويدلي إلينا بما يراه ملائمًا لنا في عزلتنا هذه. وسأذكر له موقفنا بالضبط بدون ذكر اسمك، وهو مضطرٌّ أدبيًّا على الأقل — بما لي عليه من حق النسب — أن يؤويني ويجد لي ولك مكانًا أمينًا، وينصح لنا بالمغادرة في الوقت المناسب، وذلك في حالة تمكن دارس الأثر ومتعقبه من اقتفاء خطواتنا عند سفح التل، وهذا بعيد جدًّا. فإذا وافقت على رأيي، فإني أسير إليه في جنح الليل حتى أراه وأنا في أمْن من عيون المراقبين، وبعد مقابلته أرجع إليك قبل صباح اليوم التالي.» لا أكتم القارئ حقيقة ما جال في خاطري من سرور يداخله شيء من الخوف. وعلى أية حال أجبته بالموافقة قائلًا له: «إن المشروع حسن ويحسن بك أن تحمل معك عشرين ريالًا تقدمها هدية لصاحب المنزل، ولا أزيدك توصية في الامتناع عن ذكر ذلك لأحد كائنًا من كان.»

تركني حامد عند غروب الشمس فبقيت وحدى هدفًا للأفكار المتضاربة والهواجس المخلتفة، فتذكرت أفراد أسرتي وأصدقائي العديدين «في أوروبا ومصر»، وذكرت بصفة خاصة أصدقائي العرب والسودانيين الذين لم يحل اختلافهم في الجنسية والدين دون اعترافي لهم بالشكر الخاص وتقديري ما قاموا به في سبيل راحتي ونجاتي. وإني لن أنسى جهاد أولئك الأصدقاء الذين لم يرهبهم رجوعهم بعد نجاتي إلى حيث يقاضيهم أعدائي ويحاسبونهم حسابًا عسيرًا. تذكرت في عزلتي القصيرة هذه أعز من لي في الدنيا، وأقصد بهن وبهم شقيقاتي وأصدقائي المقربين، وكنت أسأل الله في كل لحظة أن يمنَّ عليَّ بنعمة العودة إلى وطني العزيز. وما زلت على حالتي هذه حتى غلب عليَّ النوم، فألقيت بجسمي الضعيف على الأرض المتربة، ولم أستيقظ من نومي اللذيذ — رغم خشونة الأرض التي نمت عليها — إلا قبل الفجر. وبعد قليل من صحوي سمعت صوت قدمين، فتأكدت أن مرشدي حامدًا هو القادم، وبالفعل وصل حامد وقال لي: «تسير الأمور في أحسن أحوالها؛ فإن نسيبي الشيخ إبراهيم يرحب بضيفه الذي لا يعرفه ويسأل له الوقاية وعون الله، فلتتدرع أيها الصديق بالصبر؛ لأن هذا كل ما تملكه الآن، ولعله خير ما يملك الإنسان في محنته.»

جلس حامد بعد عودته من منزل الشيخ إبراهيم على حجرين كبيرين قاتمي اللون؛ بحيث أصبح من العسير إيجاد فارق في اللون بين بشرته والصخر الذي يحمله؛ أما غرض حامد الأساسي من جلسته هذه فهو مراقبة الناس بطريقة تبعد أنظارهم عنه.

بقى حامد في مكانه هذا، وأما أنا فجلست على الأرض إلى جواره مستظلًّا بشجرة ممتدة الفروع تصادف وجودها بين الصخور السوداء. ولم يكن لنا حديث في تلك الفترة سوى ماضي وحاضر البلاد الصحراوية التي ظللتنا، وقد سعى حامد جهده في شرح حالة وطنه الذي كان يذكره بالإعجاب ويعطف عليه عطف المخلص للأرض التي وُلد فيها.

بعد أن مر وقت الظهر بساعات قلائل، سمعت من الخلف وقع أقدام، فأدرت وجهي إلى ناحية الصوت فرأيت على بعد مائة وخمسين ياردة رجلًا يتسلق المنحدر المقابل لمكان جلوسنا، عاملًا على وضع فروة مستطيلة في يده على جزء من ذلك المنحدر، وفي الوقت نفسه شاهدته وهو يضع عمامته على رأسه، وقد أدركت في الحال — بعد التيقن من الجهة التي كان قادمًا منها — أنه يقصد الوصول إلينا من ناحية، وأنه رآنا من الناحية الأخرى.

كنت في حالة اضطراب، فبادرني حامد بقوله: «مهما يكن الأمر فإن القادم أحد أبناء وطني، فقد سمعت صوته ووقع نظري على سحنته. وعلى أية حال، فإني أفضل التقدم إليه والتكلم معه، فهل توافق على رأيي هذا؟» فأجبته: «لا ريب في أني معضدك في كل ما تراه ملائمًا لنا في تلك الحال، فأسرع لمقابلته، وإذا اقتضى الحال تقديم شيء من المال لا تتأخر عن ذلك.»

ترك رفيقي حامد مقعده الصخري وسار إلى الرجل بخطى سريعة متلاحقة، ثم وصل إلى قمة التل واختفى عن بصري، ولم تمر بعد ذلك بضع دقائق حتى شاهدتهما كليهما (حامد والرجل الآخر) قادمين إلى مكاني بثغرين باسمين. وقبل أن يصل حامد إليَّ قال بأعلى صوته وهو في حالة بشر واغتباط: «إنَّا موفَّقان سعيدا الحظ؛ فالرجل واحد من أنسبائي الأقربين؛ لأن والدته ابنة خالة والدتي.»

أقبل الرجل نحوي وقدم يده للسلام عليَّ فصافحته مغتبطًا، ثم قال لي عندما جلس على الحجر المجاور لمكاني: «السلام عليكم أيها الصديق، ولتكن واثقًا أنك لن تصاب بأذى من ناحيتي.»

أعطيت هذا الصديق السوداني الجديد كمية من البلح، وطلبت منه في رفق وأدب أن يذوق هذا الطعام البسيط الذي أعاننا على الجوع في رحلتنا الشاقة، ثم سألته بعد ذلك عن اسمه فأجابني قائلًا: «يدعوني الناس علي واد فيض، وأظن أنه من الوفاء لك أن أخبرك الحق.»

أسرعت بعد ذلك في استيضاح الحقيقة، فأجابني بمنتهى الصراحة: «لم أكن متجهًا إلى الخير في تصرفي معك، ولولا الالتقاء بقريبي لكان الشر لاحقًا بك لا محالة؛ وتفصيل ذلك أني غيرت الأرض التي كانت ترعى فيها ماشيتي، فوصلت منذ أيام قلائل إلى سفح التلال التي تراها الآن منحدرة إلى الجنوب، وبعد ذلك اتجهت إلى الشقوق القائمة بين الصخور عساني أجد ماء وفيرًا نقيًّا أشرب منه كما ترتوي منه جمالي وبقية ماشيتي؛ لأن الماء الذي كان لدينا قبل ذلك غير كافٍ لمن يعيش الأسابيع والشهور مع عدد غير قليل من الماشية، ولم أكد أصل إلى تلك الشقوق حتى شاهدت آثار خطوات جمل، فتعقبت الأثر، وبعد مسافة مئات من الياردات وجدت آثار قدمَي رجل أبيض مبتدئة من مكان بعيد عن الأنظار، فتحققت أن رجلًا غريبًا دخل تلك الأرض واختبأ بين صخورها رغبة في الفرار دون شعور المراقبين بمروره، فعدت أدراجي مصممًا على العودة ليلًا ومعي بعض رفاقي لنسهل عليك رحلتك الباقية بالانقضاض عليك وإراحتك من الدنيا وما فيها من تعب ومشقة، فالحمد لله الذي حال دون إتمام عملي الإجرامي؛ حيث أرسل إليَّ ابن خالتي، حامد الذي أفهمني الأمر كله في وضح النهار، وأكرر الشكر لله لأني لقيته في الصباح، فلو أن ذلك كان ليلًا لما عرفت حامدًا ولانتهى الأمر شر انتهاء.»

أنصت حامد لكل ما قاله ابن خالته باهتمام وسكون، وبعد الانتهاء قال حامد: «سأخبرك يا علي واد فيض قصة قصيرة فأنصت! كان والدي منذ سنوات طويلة وقت أن كنت شابًّا صغير السن وأيام حكم الأتراك لهذه الجبال؛ شيخَ المنطقة التي نحن فيها، وكان المحتكمون إليه من الرعايا كثيري العدد. وفي ليلة من ليالي ذلك العهد وصل إلى بيت أبي رجل هارب طلب منه الأمان، وقد كان هذا الرجل مطاردًا من جنود الحكومة لأنه اتهم باللصوصية والاعتداء على حياة بعض التجار، فتمكنت الحكومة من أسر زوجاته، أما هو فوجد عضدًا قويًّا ونصيرًا أمينًا؛ حيث أظله أبي واحتفظ بالسر.

مرت بعد ذلك الحادث سنوات انتقل في خلالها والدي إلى منطقة بربر، فتمكن بعد دفع المال وتقديم ضمانات متنوعة من إصدار العفو عن هذا الرجل المطارد، الذي لم يستطع متَّهِموه إيجاد جريمة معينة يحاكم بمقتضى ارتكابها. ولم يكتف والدي بذلك، بل ذهب إلى الجهات المختصة وقدم نفسه كفالة عن زوجات ذلك الرجل، وبذلك حصل على أمر ثانٍ بإطلاق سراح زوجاته، بعد أن قاسين في السجن الكثير من الآلام والأتعاب. وبعد كل ذلك يسرني أن أخبرك بأن الرجل المذكور اسمه فيض.»

بينما يتابع حامد أقواله قاطعه علي واد فيض قائلًا: «وأضيف إلى أقوالك بأن الرجل المذكور هو أبي الذي ولدني ورباني.» ثم تغيرت ملامح وجهه واستمر في قوله: «ولدت في زمن متأخر وسمعت هذه القصة يا حامد من والدتي العزيزة قبل موتها، وإزاء ذكر تلك الوالدة الطيبة أطلب من الله الرحمة لها. وبعد وفاة والدتي قال لي شقيقي الأكبر إن خير ما أعمله في الحياة هو القيام بالجميل نحو ابن الرجل الذي أدى جميلًا لوالدي؛ وإذن فأنا مدين لك بالشكر يا حامد حتى أوفي ما على أبي نحو أبيك، فثق أني حاميك وحامي من معك بغض النظر عما تقومان به من خير أو شرٍّ؛ لأني أذكر شيئًا واحدًا هو أني مدين لك بالجميل، فاتبعني حتى أرشدك إلى أحسن مكان أمين تختبئ فيه مع صديقك الأبيض.»

رجعنا بعد ذلك جنوبًا إلى ناحية التلول مسافة لا تقل عن ألفي ياردة، ثم انتهينا إلى بقعة شبيهة بالكهف تتخللها ألواح صخرية تحجب مَن وراءها عن الأنظار، ولا ريب أن البقعة المذكورة كافية لاختفاء اثنين بالغين من ضخامة الجسم ما بلغا.

أخذ علي واد فيض يسدي إلينا نصائحه وتعليماته بعد ذلك فقال: «عندما يحين المساء أحضرا أمتعتكما إلى هذا المكان. بالرغم من عدم وجود ما يدعو إلى الخوف في أية ناحية مجاورة؛ لأن التلول التي أمامنا بعيدة عن أقدام الآدميين، إلا أن الحذر الشديد يدعوكما عندما يجن الليل أن تختارا بقعة آمنة هادئة ملساء، لتقضيا ليلتكما عليها بعيدين حتى عن رقابة الجن. قد تدعوني أمانتي الشديدة لكما إلى القول بأن من المستحيل أن تكونا واثقين الثقة كلها في أن بعض الأنظار لم تقع عليكما، وأن بعض الناس ما اعتزموا ما كنت معتزمًا تنفيذه قبل ملاقاة حامد؛ وأعني بذلك انتهاز فرصة ظلام الليل للانقضاض عليكما.»

بعد أن انتهى عليٌّ من قوله الصادر عن إخلاص شديد قال: «لقد أطلت في حديثي وقضيت وقتًا طويلًا بعيدًا عن مكاني، فسأضطر إلى العودة لتسقُّط الأخبار واستماع ما قد يدور حولكما من نبأ، على أن أعود إليكما غدًا في ساعة من ساعات الليل المظلمة، وستعرفانني بصوت خفيف يشبه الصفير، فإلى الوداع حتى ألقاكما في خير غدًا.»

أصغينا إلى نصيحة علي واد فيض، فاخترنا مكانًا للنوم. وفي فجر اليوم التالي قبل شروق الشمس عدنا إلى كهفنا، ثم صعد حامد بن حسين قبل الظهر إلى قمة أحد التلول لمراقبة الناس، وكان عمله هذا شبيهًا بالضابط الذي يقف في أعلى القلعة لمشاهدة طلائع العدو. ظل حامد ساعات في مكانه هذا ولم يأت إلى المغارة إلا عندما أحس بالجوع الشديد، وقد قدر لنا أن ينتهي ما معنا من خبز في ذلك اليوم فلم يبق في جرابنا سوى مقدار من البلح.

بعد أن غربت الشمس بساعتين سمعنا صوتًا خفيفًا أشبه بالصفير، فتأكدنا أن صاحب الصوت هو علي واد فيض، وقد تحقق ظننا لحسن الحظ؛ حيث وفى صاحبنا وعده ووصل إلينا في الميعاد المضروب من قبل. لم يكن علي وفيًّا في وعده فحسب، بل كريمًا أيضًا؛ حيث أحضر لنا في عزلتنا هذه كمية كبيرة من اللبن في قربة من جلد الغزال — اعتاد العرب السودانيون دبغ جلود الغزلان الصغيرة وإعدادها أواني للَّبن — وإلى جانب ذلك مقدار من الخبز المصنوع من الذرة.

قال لنا عليٌّ عندما وصل إلينا وبعد أن سلم علينا: «قلت لزوجتي إني خارج لمقابلة ركب الحجيج السائر إلى أم درمان لزيارة قبر المهدي، ولي الرغبة في إظهار شيء من الكرم العربي لأولئك المسافرين في رحلتهم الشاقة، وفي الحق لم يمنعني عن ذكر الحقيقة لها إلا خوفي من انتشار الخبر؛ لأن امرأتي ثرثارة.»

ابتسمت في وجه عليٍّ وقلت له: «يظهر أن الأمر واحد في جميع البلاد؛ فإن الكثيرين من الرجال في بلادنا الأوروبية يشكون مر الشكوى من نقل الحديث بواسطة زوجاتهم.» فارتاح كلٌّ من حامد وعليٍّ إلى قولي هذا، وبعد الانتهاء قال علي: «جُبت الوادي الضيق وسرت إلى مجالس الكثيرين من العشائر ليلة الأمس وصباح اليوم فلم أسمع ما يخيفكم، فكلا واشربا مرتاحين مسرورين؛ لأني على ثقة تامة في حظكما الحسن.»

قبل أكل الخبز الشبيه بالكعك وشرب اللبن، قدمنا الشكر الجم لعلي إزاء هديته الثمينة، ثم طلبت منه بعد ذلك أن يرجع إلى بيته حتى لا يثير الريب والشكوك في نفوس أبناء عشيرته بعد تغيبه الطويل عنهم، ثم أسررت إلى حامد أن يمنح عليًّا خمسة ريالات قبل رجوعه إلى بيته.

عندما استأذن صاحبنا عليٌّ في الانصراف قلت له: «نود أن نراك دائمًا أيها المخلص الوفي، ولكن الخير في أن ترتاح في بيتك وأن تبتعد عما يثير أي شكٍّ؛ لأن ذهابك وإيابك يثيران الريبة بين رجال قبيلتك، وقد تترك خطواتك أثرًا بارزًا على الرمال يستطيع بواسطته متعقبونا أن يهتدوا إلى مكان اختبائنا هذا، ولا نطلب منك العودة إلا في حالة سماع أخبار غير سارة تستدعي هروبنا إلى مكان جديد، وإذن فالوداع من أخ يشكر لك جزيلًا ما قدمته له من ولاء وإخلاص.»

سار حامد بن حسين بعد ذلك مع صديقه علي واد فيض بضع دقائق، وبعد رجوعه قال لي: «رفض عليٌّ قبول الريالات الخمسة رفضًا باتًّا، ولم أستطع التغلب عليه وإقناعه بقبول الهدية البسيطة إلا بعد أن أكدت له بأن رفض المبلغ يكدر خاطرك (المؤلف).»

بعد أن سافر علي إلى بيته وعاد حامد إلى الكهف قضينا (حامد وأنا) فترة صغيرة في الكلام، ثم سرنا إلى مكان النوم الهادئ حيث قضينا ليلتنا إلى صباح اليوم التالي دون أن يعكر صفو النائم قلق أو اضطراب، وعند إشراق الشمس عدت إلى الكهف، وسار حامد إلى قمة التل لمراقبة الناس كما عمل في اليوم السالف. ومما أذكره عن ذلك اليوم أنه مر ساكنًا دون وقوع أي حادث مزعج، ولكني أذكر إلى جانب ذلك أنه كان طويلًا علينا حتى خيل لنا أن ساعاته أطول من الساعات اليومية العادية، فكانت كل ساعة من ساعاته يومًا كاملًا؛ حيث مرت الأفكار المتعاقبة وأخذت أذكر سني الأسر وحوادث العسف والاضطهاد. وفي الحق كنت صبورًا جدًّا على ذلك المضض، وسواء أصبرت أم لم أصبر فلم يكن أمامي ما يعزيني في نكبتي وما يفرج عني بليتي سوى اعتقادي الراسخ في لطف الله وفضله، وثقتي في قرب تمتعي بحرية دائمة صحيحة؛ هي تلك التي خلق الناس ليتمتعوا بها في الحياة.

قبل انتهاء كمية الماء التي في قربتنا ذهب حامد إلى الشقوق القائمة بين الصخور المجاورة ليملأ القربة، وفي الوقت نفسه فكر في إحضار الماء للجملين اللذين أنهكهما التعب من قبلُ والأكل الرديء الآن؛ لأنهما لم يجدا من الطعام سوى أوراق الأشجار والأجمات. قال لي حامد قبل ذهابة للشقوق: «سأرجع بعد أربع ساعات تقريبا، فالتزم السكون والهدوء في كنك، وإذا ظهر في مدة غيابي القصيرة أي مخلوق آدميٍّ — وأسأل الله ألا يظهر في تلك الفترة أحد — فأخبره أن حامد واد شيخ حسين قادم بعد قليل من الزمن؛ لأن الشخص الذي يظهر سيكون من أبناء وطني بلا جدال، فإن الشخص الغريب يخشى المجيء إلى ناحيتنا. ومهما يكن الأمر فلا تخض مع الشخص — الذي يظهر لك — في الحديث. وأول ما أحذرك منه هو سفك الدماء، فلا ترق دم أحد مهما ارتبت فيه، وانتظر حتى أعود إليك.»

أجبته على الفور «سأنفذ نصيحتك مهما تكن الحال. وعلى أية حال، فأنا واثق أنك ستجدني في هدوء وأمن عندما ترجع لي.»

بعد أن غاب حامد عني بضع ساعات عاد وقربته مملوءة بالماء، ثم قال لي: «لقد سرني وجود الجمال في حالة أحسن بكثير من الحالة التي كانت عليها وقت وصولنا إلى ناحيتنا، وعلى الأقل هي في راحة كافية.» وبعد ذلك أظهر لي أنه في جوع شديد، ولم يكتم حاله؛ حيث قال لي: «أعطني كمية من البلح لأني جوعان، وسأضطر إلى العودة لقمَّة التل لمراقبة الناس.»

مر ما تبقى من يومنا في هدوء وأمن، ولكنه كان بطيئًا علينا كيومنا السابق، وعندما جنَّ الليل سحب كلٌّ منا شخصه إلى مكان النوم. وبعد أن تحادثنا بصوت خافت جدًّا بعد أن دعونا الله أن يبقي لنا نعمة الصبر، نام كلٌّ منا ملء جفنيه حتى صباح اليوم التالي.

ذهب حامد صباح الخميس إلى مكان المراقبة المعروف، وقبيل الظهر شاهدته نازلًا بسرعة من قمة التل، فأسرعت إلى تجهيز بندقيتي.

قبل وصوله إليَّ سألته عن الخبر فأجابني: «إني أشاهد رجلًا متجهًا بسرعة إلى مكاننا الأول الذي كنا فيه قبل مجيء علي واد فيض، فلا بد أن يكون هناك شيء مهمٌّ، فانتظر في مكانك لأني سأذهب لملاقاة ذلك الرجل، على أن أرجع إليك بعد ذلك.»

جلست في مكاني وانتظرت مدة خيل إليَّ — رغم قصرها — أنها الأبد الطويل، ثم رفعت بصري بحذر، فإذا بي أشاهد رجلين من مسافة بعيدة قاصدين مكاني، وقد تمكنت عيناي من تقرير أن القادمين هما حامد بن حسين وزكي بن بلال، فخرجت من مغاراتي، وحينذاك أسرع زكي قائلًا بأعلى صوته: «السلام عليكم يا سيدي، فابتهج بالًا لأنك ستسمع ما يرضيك ويسرك.» وبعد أن سلم عليَّ يدًا بيد قال: «حضرت ومعي جملان جديدان كاملا القوة، وقد خبأتهما في مكان أمين مجاور لبقعتنا هذه، وسأرجع الآن لإحضارهما.»

لم تمض ساعة حتى أحضر زكي الجملين، فقلت له بسرور كليٍّ: «إنك سريع جدًّا في عملك العظيم، فأخبرني قصتك منذ غادرتنا.»

أجابني زكي: «غادرتك مساء السبت الفائت، فركبت جملي طول الليل وسحابة اليوم التالي — الأحد — وقد كان جملي بشارن موفقًا في سيره السريع رغم وعورة الأرض، وفي صباح الإثنين وصلت إلى أصدقائي، وفي الحال عُني أولئك الأصحاب بإحضار الجملين اللذين تراهما الآن، ولبعد المسافة لم نتمكن من الحصول على الجملين قبل صباح الثلاثاء، فغادرت المكان وقت الظهر وسرت سيرًا بطيئًا في عودتي حتى لا أتعب الجملين، وتأكد أنَّا نستطيع الآن مباشرة رحلتنا. وقد سهوت أن أخبرك بأن أصدقائي، بعد أن تكلموا معي، ذهبوا إلى الخيمة القائمة على رأس الصحراء لإعطاء التعليمات لرجال مخصوصين للاستعداد وقت الطلب، وقد أخبرتهم بأنا قد نصل إليهم مساء الجمعة أو بعد غروب الشمس يوم السبت على أقصى تقدير.»

سألت زكي بن بلال بعد ذلك: «هل أحضرت معك خبزًا؟ فإنَّا لا نملك من الطعام سوى كمية من البلح.» فأجابني: «إني شديد الأسف لنسيان ذلك الأمر الحيوي، وقد يرجع ذلك إلى عجلتي الشديدة.» فهونت عليه الأمر عندما شاهدته مطأطئ الرأس وقلت: «لا أهمية للخبز لأنَّا نستطيع إتمام رحلتنا القصيرة هذه حتى دون الاستعانة بشيء من البلح.»

قال حامد لزكي: «أسرج الجمل الخفيف اللون، ثم اذهب مع صديقنا وأخينا إلى الصخرة العميقة واسق الجمال ماء، ثم انتظرني هناك، وأما أنا فسأحمل السرج على ظهري وأسير وراء جملي، الذي يستطيع بعد راحته أن يقطع المسافة القصيرة الباقية لغاية تلك الصخرة. ولكن أرى من الخير ألا تذهب مباشرة إلى عين الماء، بل عليك أن تختفي في بقعة مجاورة حتى تصل إليها؛ فمن المخاطرة أن تسير مباشرة إلى مكان الماء؛ لأنا لسنا موقنين بأن المكان غير مطروق بأقدام الرعاة؛ ففي الأرض جمال كثيرة تحتاج إلى الماء.»

سرت مع زكي وفي يدي قيادة أحد الجملين قاصدًا معه (زكي) الصخرة التي تنبسق منها المياه، ثم اختبأت في مكان أرشدني إليه رفيقي.

قبل غروب الشمس بساعتين حضر حامد وزكي بثلاثة جمال ارتوت قبل حضورها، وحمل كلٌّ من الصديقين قربة مملوءة بالماء، وحال وصولهما ركب ثلاثتنا الجمال الثلاثة وسرنا في طريق شرقية شمالية معرجين إلى الناحية الشرقية، مخترقين التلال التي كانت فيما مضى وعرة جدًّا وعسيرًا تسلقها. ولم يكد يرخي الليل سدوله حتى وصلنا إلى المستوى الفسيح بعيدين عن أنظار الناس. واصلنا رحلتنا طول الليل بدون وقوف، وكان سيرنا على الجمال بطيئًا شبيهًا بالسير العادي. وعندما بدأ نور الفجر، بشرَنا حامد بأنَّا قطعنا ما يقرب من نصف المسافة في طريقنا الوعرة وفي رحلتنا الخطيرة.

أضاف حامد إلى ذلك: «إنَّا اليوم في أخطر وأدق أيام رحلتنا؛ لأنَّا أصبحنا مجاورين لشاطئ النيل، وسنضطر إلى اجتياز مراعٍ تابعة لقبائل النهر، فنسأل الله اللطيف بعباده أن يصل بنا إلى غرضنا دون وقوع عيون المراقبين علينا.»

في طول رحلتنا هذه لم يتغير منظر البلاد الخلوية الصحراوية إلا في القليل النادر، الذي نجد فيه بقاعًا من الأعشاب يتخللها بعض أكمات الميموسا، أما الأرض في غالبيتها فرملية تنتشر الأحجار في بعض نواحيها.

سرنا في رحلتنا الأخيرة دون وقوف في الطريق ولم يكن لدينا من الطعام سوى التمر الذي أكلناه على ظهور جمالنا. وعندما بلغت الشمس سمت الرأس، شاهدنا قطيعًا من الغنم يقوده بعض الرعاة، فاضطررنا إلى تحويل خط سيرنا حتى لا يرونا، وعندما شعرنا أنهم شاهدونا أسرع زكي بن بلال بجمله إليهم ليلتقط الأنباء. وبعد أن قابلهم، رجع إلينا فطمأننا بأنهم لا يعرفون شيئًا عنا وعن هروبنا من أم درمان. تابعنا السير فشاهدنا آثار خطوات جمال وماشية وحمير، فخشينا وقوعنا في قبضة المتعقبين، ولكنا حمدنا الله لأن الناس لم يظهروا في ذلك الوقت. وبعد قليل من رحلتنا وصلنا إلى جزء منبسط فسيح من الأرض مرة أخرى.

قال لي حامد: «هل تشاهد البقعة الرمادية اللون القائمة على مئات من الياردات أمام خط سيرنا؟ تلك طريق القوافل من بربر إلى وادي حمير ودار شيفية، فإذا ما اجتزنا تلك البقعة بعيدين عن الأنظار، فليس بعد ذلك ما يخيفنا؛ لأن كل ما بين تلك البقعة والنهر عبارة عن أرض حجرية لا أثر للأقدام فيها، ولا شيء من النبات أو الأعشاب بين جهاتها؛ وإذن هي بعيدة عن أقدام الآدميين. وعلى أية حال، من الواجب عليك أن تنصت لكل تعليماتي من الآن، وأولها سير الجمال ببطء، حتى إذا ما قطعت جمالنا خمسمائة خطوة أو يزيد وصلنا إلى مكان الأثر، وبعدئذ نتحول في الطريق المؤدية إلى بربر سائرين بضع دقائق، ثم نغير سيرنا مرة أخرى إلى الجهة الشرقية.»

بعد أن انتهى حامد من ذلك القول سكت سكوت الموافقة، ثم قال لي: «هل ترى تلك الرابية الصخرية الواقعة على بعد ثلاثة أميال تقريبًا؟ هناك سنجد مكانًا أمينًا هو الوحيد الذي نستطيع عنده تضليل متعقبينا، بحيث لا يقفون على أي أثر لأقدامنا.»

أصغينا إلى تعاليم وأوامر حامد، فاجتزنا طريق القوافل التي لا يجتازها الناس إلا في القليل، وأكبر امتياز لها اختفاء آثار العابرين. وعلى أية حال، تقابلنا في المكان المعين.

ابتسم حامد في النهاية وقال لي: «حث الجمال على المسير ولا تستغنِ عن أقصى مساعدة ممكنة من تلك الجمال الأمينة؛ لأنا الآن في شديد الحاجة إلى خدمتها. ومهما يكن الأمر، فقد انتهى كل شيء على خير، ووفقنا الله توفيقًا عظيمًا.»

منذ غادرنا أم درمان لم أشاهد ابتسامة واحدة في وجه حامد قبل هذه الأخيرة، فأدركت في الحال أنَّا نجونا من الخطر بمحاذاتنا شاطئ النهر.

واصلنا السير وكلٌّ منا يضرب جمله الشديدَ التعبِ بدون رحمة، حتى تركنا صفًّا من التلال إلى يميننا ووصلنا إلى قرابة.

أما قرابة هذه فعبارة عن نجدٍ رمليِّ التربة، مغطاة أرضه بحجارة سوداء تختلف في حجومها من القطعة المماثلة لقبضة الرجل إلى القطعة المماثلة لرأسه. ومما تمتاز به تلك الحجارة في الأرض المذكورة أنها قائمة في صفوف منتظمة، يخيل لمن يشاهدها أن أفرادًا عنوا برصفها على ذلك النسق البديع. وإلى جانب الحجارة توجد صخور فردية، يبتعد كلٌّ منها عن الآخر مسافة تكاد تكون واحدة في جميع الصخور، ولا شك في أن الجمال تعجز عن السير بسرعة في مثل ذلك الخط الحجري الصخري؛ وذلك مما يساعدنا في خطتنا ومما نعده توفيقًا جديدًا لنا بعثه الله لتسهيل نجاتنا.

قبل أن تغرب الشمس ظهر لنا من بعيد ذلك النيل السعيد بمياهه العذبة، فكان موقعه بين الأراضي المتجاورة شبيهًا بالخط الفضي اللامع وسط البقعة المعدنية بما فيها من ألوان قائمة وخضراء ورملية.

تدرجنا من أعلى النجد في طريق ملتوية يزيدها وعورة ظلام الليل، وما زلنا في سيرنا البطيء على الجمال حتى وصلنا إلى واد قائم بين تلال حجرية. وبعد وصولنا توقفنا لإراحة جمالنا التي أنزلنا السرج عنها، وكنا راغبين في السير على الأقدام ما يقرب من ساعتين حتى نصل إلى شاطئ النهر.

جلس حامد وزكي على الأرض بعد إنزال السروج عن الجمال الثلاثة، وأخذا في عملية أكل البلح بذمة وأمانة، وبينما هما يأكلان قالا لي معًا: «قربنا إلى الغاية التي سعينا إليها منذ فكرنا في الهروب، فانتظر هنا مع الجمال الثلاثة لأنَّا (حامد وزكي) سنذهب إلى بقعة مجاورة للنهر نعرفها جيدًا، وفي تلك البقعة ستلتقي بأصدقائك الذين سيسهلون لك بقية رحلة النجاة.» تركني الصديقان وبقيت وحدي متأملًا في المستقبل. وقد مرت أمام مخيلتي في تلك الأثناء صور أفراد أسرتي وصورة مجسمة لوطني العزيز، وبعد أن تعبت من التفكير انطرحت بجسمي المنهوك القوى على الأرض فنمت ولم أستيقظ إلا قبل نصف الليل، فلم أجد أحدًا من الصديقين (حامد وزكي)، فداخلتني الوساوس وتأكدت أن عدم حضورهما سيحول دون عبوري النهر في الفرصة الملائمة ليلًا. وعلى أي حال، صبرت حتى سمعت قبل الفجر بساعتين وقع أقدام، فتبينت القادم فعرفت أنه حامد.

سألت حامدًا عن الأخبار في حالة فزع وقلق فأجابني بما جلب لي اليأس قائلًا: «لا شيء مطلقًا، فإنَّا لم نتمكن من العثور على أصدقائك في المكان المعين فرجعت إليك؛ لأنك لا تستطيع البقاء هنا بمفردك بعد بزوغ الفجر؛ لأنك قريب جدًّا من مساكن الآدميين، فليس بدعًا أن تقع عليك أنظار الرقباء؛ ولذلك عدت بعد أن تركت صديقي زكي للبحث عن أصدقائك الجدد الذين سيسهلون لك مهمتك الجديدة النيلية، فاحمل القربة المائية وجراب البلح على كتفك؛ لأني من التعب بمكان لا أستطيع معه حمل شيء أكثر من جسمي الذي تحمله قدماي. واعلم أنه يتحتم علينا الرجوع إلى قرابة؛ حيث تظل هناك إلى انتصاف النهار مختفيًا بين الأحجار والصخور.»

أصغيت إلى أوامر حامد ونفذتها، فوصلت إلى النجد بعد مسير ساعة مع حامد. وبعد أن سرنا مسافة أخرى في الظلام، وقف حامد فجأة وقال لي: «قف هنا واصنع حلقة من الأحجار كتلك التي يصنعها رعاة الجمال في الشتاء لوقاية أنفسهم من البرد الشديد، وبعد الانتهاء من صنع تلك الحلقة نم في جوانبها الداخلية، وإني مسرور لأنك متين في صنعها الآن، حتى إنك تكاد تكون عربيًّا كأنك واحد منا نحن عرب السودان، وأؤكد أني سأحضر إليك في المساء لأرى الحال التي أنت عليها، وأما الآن فسأرجع إلى الجمال، فلا تخف ولا ترتب في أي شخص قد يراك؛ لأن رجال الناحية التي أنت فيها يعرفونني جيدًا، فإذا سألني أحدهم أي سؤال أجبته بأني حضرت من شيفية لمشاهدة بعض المقيمين هنا، ومن حسن حظي وجود بعض أقارب لي في هذه الناحية.»

رجع حامد إلى الجمال وبقيت أنا وحدي في بقعة منعزلة مخيفة المنظر.

أقمت الدائرة الحجرية، وكان ارتفاعها نصف متر، ولم أجعل في الداخل مكانًا لغير جسمي وقربتي وبندقيتي. فلم يكد يشتد وضح النهار حتى انسحبت إلى مغارتي الصغيرة، وحفرت في أرضها الرملية بقعة عميقة تمكنت فيها من إلقاء ظهري ومد جسمي بحيث لم يرني أحد، وفي ذلك الوقت تدفقت إلى رأسي ذكريات الماضي وآمال المستقبل، وفكرت بصفة خاصة في الماضي القريب؛ حيث غضب الخليفة عبد الله، ونقمته الشديدة عليَّ بعد هروبي. ولم يخفف عني الفزع في ذلك التصور سوى مرور صور أحبائي وأقربائي بمخيلتي في الوقت نفسه. وما زلت أعلل النفس بالآمال والأماني رغم اشتداد العقبات وخطورة الموقف، ولكني بعد ذلك وجمت فساءلت نفسي عن التغيير الذي حدا بي إلى مظهر الخوف الجديد، وعن الداعي إلى عدم تمسكي بمبدأ الصبر. ومهما يكن الأمر، فإني كنت في أشد أوقات الخطر بعيدًا عن الاستسلام الكلي للقنوط، كما كنت منذ غادرت أم درمان واثقًا في حظي الحسن وتوفيق الله إياي، إلا أن ذلك لم يمنع شعوري اليوم شعورًا خاصًّا بالخوف، وقد يرجع ذلك إلى الشبه القائم بين مغارتي الصغيرة هذه وبين القبر الذي قد يضمني في القريب العاجل. أعود فأقول: «إن القبر مصير كل حيٍّ، وإن الناس بالغين من أعمارهم ما بلغوا سيصلون إلى القبور التي ضمت آباءهم وأجدادهم من قبل، فسواء أطال عمر الإنسان أم قصر، فإنه لن يصل في النهاية إلى غير تلك الحفرة الضيقة؛ وإذن سأموت كما مات الناس ويموتون. ولكن الصعوبة في شيء واحد إذا مت هنا، وذلك موتي منبوذًا مهجورًا غير مودِّع أعزائي وأقربائي، فيا ساكن السماء ومسير الفلك الدوار لا تتخلَّ عني، وكن رحيمًا بعبدك في ذلك القفر الموحش، فارحم اللهم عبدك الأثيم، ولا تعاقبني على ذنوبي؛ فقد طلبت الغفران من جلالك وأنت الواسع الغفران. اللهم ارحمني، والطف بي، واسمح لي بمشاهدة أصدقائي وأعزائي والرجوع إلى وطني العزيز مرة أخرى قبل موتي!»

بعد أن ناجيت الماضي وذكرت آمال المستقبل، التزمت الصمت مرة أخرى. وفي نهاية الأمر فكرت في الأمر — على الرغم من تأخير صاحبي — فانتهيت إلى أن الذي أنقذني في بداية رحلة النجاة قادر على إنقاذي في الختام.

مرت بمخيلتي الآمال، فذكرت أني سأعبر النهر هذه الليلة، ثم أجتاز الطريق وأصل إلى الصحراء غدًا، وفي مدى يومين أو ثلاثة سأجتاز كل خطر، وأصبح في أمن كليٍّ بحيث أستطيع الإسراع بملاقاة من تمنيت السنين الطوال أن أحظى بهم في خير.

بعد أن انتهيت من ذلك التفكير ابتسمت مرة أخرى ابتسامة مملوءة بالثقة والأمل من عطف الله وعونه، ثم مسكت معطفي الصغير ولففت به وجهي حتى أقي نفسي من حرارة الشمس ومن أنظار المراقبين، ثم بقيت منتظرًا ما يقدره لي ربي وأنا على ثقة تامة في الخير. بعد مرور الظهر بقليل سمعت صوتًا خفيفًا، فرفعت رأسي ونظرت من خلال الأحجار المترامية فصدق ظني؛ حيث عرفت أن القادم هو حامد الذي أقبل إليَّ بابتسامة الصديق المخلص قائلًا لي: «اسعد حالًا وأبشر؛ فقد وجدنا الأصدقاء المعنيين لمرافقتك.» فطرت فرحًا عندما سمعت هذا القول، وتيقنت أن نجم سعدي قد تجلى في الأفق مرة أخرى.

عندما أقبل حامد جلس خارج الكومة الحجرية، ثم قال: «تستطيع أن تفرج عن نفسك الآن وتخرج من مغارتك الضيقة هذه؛ لأني عينت لك مراقبين في الجهات المجاورة ينقلون إلينا كل ما يحدث حولنا، فلا تخش شيئًا لأن صاحبنا زكي وجد الرفاق الجدد الثلاثة، وقد حضر الآن واحد منهم إلينا ليعرف مكان إقامتنا، وهم جميعًا على استعداد وسيحضرون إلينا ماء، ولكني أحذرك أشد الحذر وأنصح لك بالابتعاد عن كل ما يريب؛ لأن هروبك من أم درمان أصبح معروفًا في المنطقة التي نحن فيها، فتعال معي الآن أو انتظر حتى يحين الليل. وعلى أي حال فأنا ذاهب الآن، فهل تستطيع معرفة الطريق بمفردك؟ وهل ترغب في عودتي إليك لآخذك معي؟»

فأجبته: «لا داعي إلى عودتك مرة أخرى لأني أعرف الطريق، وسألتقي بك في المساء.»

عندما غربت الشمس حملت بندقيتي وقربة الماء على ظهري، وتركت البقعة التي مرت بمخيلتي فيها تذكارات مؤلمة وآمال كبار. وعندما وصلت إلى الرفاق الجدد وجدت اثنين منهم فرأيتهما غريبين عني رغم بقائي السنين الطوال في السودان بين أبنائها.

حياني ذانك الرجلان وقالا لي: «قد أرسلنا إليك صديقك أحمد واد عبد الله، ونحن من قبيلة جهيماب، وسنسير إلى النهر حيث يصل إلينا أحمد واد عبد الله نفسه لمساعدتك في اجتياز النهر، وستكون الجمال على انتظارنا في الشاطئ الثاني من النهر لتعبر بنا النهر، والآن فلتودع صديقيك القديمين لأن مهمتهما قد انتهت.» سلمت بعد ذلك على صديقيَّ المخلصين الحميمين حامد وزكي، وشكرت لهما إخلاصهما بكلمات خارجة من أعماق القلب، ثم قلت لهما: «أودعكما وكلي ثقة في الالتقاء بكما في وقت سعيد؛ هو وقت السلم والأمن.»

أخذنا (أنا والرفيقان الجديدان) جملين وتركنا الثالث للصديقين القديمين، فارتقيت إلى ظهر الجمل وركب خلفي أحد الصديقين الجديدين.

سألت هذا الجديد: «ما اسمك؟» فأجابني قائلًا: «يدعوني الناس باسم محمد، وأما اسم صديقي فإسحاق.» سألته بعدئذ: «هل تجتاز معي الصحراء يا محمد؟» فأجابني بقوله: «لا يا سيدي؛ فهناك من كلفوا بتلك المهمة. وعلى أية حال، فالخير في أن يسير الجمل سيرًا بطيئًا، ويحسن بك أن تغطي وجهك على الرغم من الظلام الشديد؛ فقد وردت أوامر من بربر من ثلاثة أيام بمراقبة الطرق مراقبة دقيقة، ووضعت الطرقات المائية تحت مراقبة شديدة أخرى. ومهما يكن الأمر، فلا خوف عليك من بلدنا.»

بعد أن سرنا بجملينا ما يقرب من ساعتين في طريق شرقية شمالية بانحدار شرقيٍّ، وصلنا إلى النهر، وتمكنا قبل نزول النهر من سماع أصوات الآلات المائية وكلام وضحك العبيد وزوجاتهم.

عندما وصلنا إلى كومة صغيرة من أوراق الأشجار همس محمد في أذني: «ادعُ الجمل للبروك ببطء ورفق حتى لا يصدر منه صوت يلفت الأنظار.»

برك الجملان على الأرض ولم يصدر منهما صوت على الإطلاق، وقد تركني الاثنان على أن يعودا مع أحمد، فبقيت منفردًا في الظلام الحالك واستمررت على ذلك نحوًا من ساعة، وأخيرًا رأيت أربعة رجال قادمين، فأسرع أطولهم نحوي وضمني إلى صدره وعانقني طويلًا قائلًا لي في صوت خافت: «أنا أخوك أحمد عبد الله من قبيلة جهيماب، وأول ما أطلبه منك هو أن تصدق قولي، وهو أنك بحمد الله ناجٍ من كل خطر، وأما أنتما يا محمد ويا إسحاق فأخليا السرجين عن ظهري الجملين في رفق وتؤدة، ولا تُسمعا أحدًا من الناس صوتًا، ثم انفخا القربتين الفارغتين واربطاهما حول رقبتَي الجملين، ثم اعبرا النهر من شاطئه في نقط ومواضع مختلفة، ثم انتظرا أوامري غدًا على مقربة من دار «مقاتلة الثيران».»

التفت إليَّ أحمد واد عبد الله بعد ذلك قائلًا: «اتبعني». وحمل أحمد سرجًا وحمل الرجل الرابع سرجًا آخر، ثم سارا فتبعتهما، وبعد بضع دقائق وصلنا إلى شاطئ نهر النيل المقدس، حيث وجدنا في ركن صغير قاربًا صغيرًا يكفي بالجهد لحملنا، وقد صنع أصدقائي الجدد هذا القارب بأيديهم.

نزلنا إلى حافة النهر وركبنا القارب الصغير الذي أقلع بنا إلى حيث يريد بنا الله، وقد استغرقت عملية عبور المجرى أكثر من ساعة، وعندما وصل إلى الشاطئ الثاني صعدنا إلى الأرض، ورجع أحد الرفاق بالقارب الصغير، ثم صنع في قاع «القارب» ثقبًا واسعًا فغرق «القارب»؛ والغرض من ذلك هو إخفاء كل أثر لعبورنا النهر.

أما نحن فسرنا على الناحية البرية ما يقرب من نصف ساعة، وعندما وصلنا إلى بقعة خاصة طلب مني أحمد عبد الله انتظاره؛ لأنه ذهب لإحضار طبق مملوء باللبن ومقدار من الخبز.

قال لي أحمد بعد عودته بالطعام: «كل واشرب ولا تفكر في شيء؛ فقد اجتزنا الخطر. وأقسم لك بالله وبنبينا أنك ناجٍ، وأن الله سيمتعك بملاقاة أحبائك جميعًا. كنت عازمًا ومفكرًا أن تتم رحلتك الليلة، ولكن أرى الوقت متأخرًا جدًّا، فالخير في بقائك هنا إلى مساء الغد، وعلاوة على ذلك فإنا مضطرون إلى أن نسقي الجمال غدًا. وبما أنا قريبان هنا من مساكن الناس، فسيسير بك ابن أختي «إبراهيم علي» إلى مكان بعيد نوعًا لا تصل إليك فيه عيون الرقباء، فانتظرني هناك وسأحضر لك دابة تركبها. أما إذا كنت شاعرًا بالقوة على قطع المسافة على قدميك، فإني أستغني عن إحضار الدابة.» فأجبته على الفور: «إني قويٌّ ولا ريب في أني قادر على المشي فأين إبراهيم علي؟»

أجابني أحمد: «هو إلى جوارنا، وسيكون مرشدك في الصحراء المقفرة.»

كنا حقًّا في ليلة مظلمة يزيدها ظلامًا ما في مخيلتي من وساوس أصرح بأنها ليست مرعبة كما كانت الحال قبل اجتياز النهر، والآن فلنترك الوساوس لنرجع إلى ما حدث في الرحلة، فأقول إن إبراهيم ذهب أولًا بقربة فارغة في يده سائرًا في طريق القوافل الموازية للنهر إلى أبي حمد، وقد تبعت صاحبي الجديد هذا. وبعد أن سرنا ما يقرب من ثلاثة أميال إنجليزية، نزل إبراهيم إلى النهر وملأ القربة، ثم غير خط السير بعد ذلك متجهًا إلى الطريق البرية، أما السير فكان شاقًّا جدًّا؛ لأن الحجارة الضخمة التي غطت التلال وقامت حواليها عاقت سيرنا السريع. أما عن شخصي، فكنت كاليائس في سيره أتخبط مرة نحو اليمين في ذلك الحجر وأتسكع أخرى نحو اليسار في ذلك التل، كأنما أنا في أقبح حالات السكر، وما زلنا في حالنا هذه حتى وصلنا إلى حفرة في الأرض، فأمرني إبراهيم بالوقوف عندها؛ حيث قال لي بعد صمته الطويل: «هذه هي البقعة التي عينها لي خالي، فانتظر هنا هادئًا، وفي مساء الغد سأحضر الجملين لمواصلة الرحلة، وسأترك لك الخبز والماء، فأودعك الآن؛ لأني مضطرٌّ إلى القيام بجميع معداتنا، وأرجو أن ألقاك في خير غدًا.» إذن بقيت وحدي مرة أخرى لا يرافقني سوى ضوء الشمس واختلاف الأفكار، ولكني على أية حال كنت محتملًا ولم يكن الليل بساعاته القليلة الباقية وصباح اليوم التالي بالشيء الكثير غير المحتمل؛ لأني نجوت من الخطر بعد عبور النهر، واقتربت من الوصول إلى أحبائي ووطني. غربت شمس يومنا الجديد، وبعد غروبها بساعة سمعت صوت سير حيوانات مسرعة نحوي فنظرت بدقة، وإذا بي أجد أحمد عبد الله وفي صحبته رجلان على حمارين. أقبل أحمد مسرعًا نحوي وضمني إلى صدره مبتسمًا، ثم قال: «الشكر لله الذي نجاك وينجيك، وأما الرجلان اللذان معي فهما شقيقاي، وقد حضرا معي ليسألا لك السلامة.»

حييت الرجلين الجديدين تحية إخلاص، ثم أدرت وجهي إلى أحمد وقلت له: «ولكني لا أفهم حقيقة ما جرى، وأدرك من شكركم المتكرر لله أني نجوت من خطر عظيم.» فأجابني أحمد: «بالطبع لم تعرف ما تم، ولم تسمع عن الخطر العظيم الذي نجوت منه بأعجوبة، فأصغِ إليَّ أحدثك مليًّا! منذ ثلاثة أيام علم زكي عثمان أمير بربر — ولا نعرف المصدر الذي علم منه — أن الحامية المصرية في مورات حصلت على إمدادات جديدة كبيرة الأهمية وعظيمة الأثر رغبة في مهاجمة القوة المهدية في أبي حمد، فاضطر زكي عثمان إلى إرسال مدد يدفع غارات المصريين. وبالفعل قام اليوم من بربر ستون فارسًا وثلاثمائة بيادة ومروا بمساكننا، ولا شك أنك تعرف المحاربين، إنهم يسموْن الأنصار، وهم في مجموعهم ضخام الأجسام، مفترسون، أقرب إلى الوحوش — في الفتك بالناس — منهم إلى الآدميين.

أثناء مرور أولئك كنا نجهز لك قسمًا من خروف ذبحناه ليكون زادًا لك في الطريق، فدهش الجنود عندما رأوا ما نقوم بتجهيزه، وبعد أن ارتابوا في عملنا تفرقوا ونهبوا ما نهبوا، وقد كنت حقًّا شديد الحذر من ناحيتهم وشديد الخوف على ما قد ينتابك من عسفهم إذا صادفوك في طريقهم، ولكني أحمد الله الآن؛ لأنهم اجتازوا الطريق إلى أبي حمد، ولتصحبهم لعنة الله وليصحبنا نصره وعونه، فلجلاله الشكر الدائم إزاء حمايته لنا.»

صحت بعد ذلك فترة هي فترة الذهول بعد نجاتي من ذلك الهول المروع، ثم سجدت في خشوع كامل للخالق الصمد الذي نجاني من ذلك الخطر العظيم بعد إذ لم نكن نتوقعه.

علمت بعد ذلك أن الجنرال كتشنر باشا رئيس أركان حرب الجيش المصري وصل إلى وادي حلفا للقيام بالمناورات المعتادة، وأن الضابط ماتشل بك قاد الأورطة السودانية الثانية عشرة ومائتين من الهجانة إلى حلفا من كورسكو عن طريق مورات، وهذا سبب الإشاعة عن تقوية حامية مورات وعن الهجوم المزعوم على أبي حمد.

قال أحمد بعد ذلك: «ستتأخر الجمال قليلًا؛ لأني أمرت بإسراجها في داخل الجدود أثناء مجيء الدراويش؛ خوفًا من أن يستعملها الآخرون — إذا رأوها — في نقل الذخيرة وبعض الحقائب العسكرية. فإذا كنت شاعرًا بالرغبة في البقاء هنا إلى صباح الغد، فإني موافقك على عملك؛ لأنا نستطيع بذلك الحصول على جمال مملوءة بالقوة.»

فأجبته على الفور: «إني لا أرغب في أي تأخير، وأفضل في جميع الأحوال القيام بالرحلة حالًا؛ فإن تأخير المدد والحاجة إلى جمال كاملة القوة لا يحولان دون الإسراع في الرحيل. وعلى أية حال، فإني مملوء ثقة بأن الجمال ستصل إلينا سريعًا.»

قبل منتصف الليل وصلت إلينا ثلاثة جمال صحبة اثنين قدمهما لي أحمد عبد الله قائلًا لي: «هذان مرشداك الجديدان إبراهيم علي، ابن أخي، ويعقوب حسن أحد أقربائي الأخصاء، وسيسير بك هذان إلى الشيخ حامد فضاي زعيم عرب الأعراب الخاضعين للحكومة المصرية، وهذا الأخير سيعينك في الوصول إلى أسوان.»

بعد ذلك ملأنا قرب الماء وواصلنا رحلتنا، وعند البدء في الرحيل قال لي أحمد بن عبد الله: «أرجوك أن تتجاوز عن التقصير في إتمام معدات الرحلة؛ فإن الخطأ ليس من ناحيتي. ولئن حرمت من الأكل الطيب، فلديك من البلح والخبز ما يكفي لمقاومة غائلة الجوع.»

ركبنا الجمال ثلاث ساعات ونصف ساعة في طريق شرقية شمالية نحو الجانب الشرقي، وكان ذلك قبل إشراق الشمس، وعندما بزغ نور الفجر وجدنا أنفسنا في الجهة الشرقية من وادي الحمير. سمي باسم الحمير البرية التي تسكنه، ويكاد هذا الوادي يخلو من النبات.

تقدمنا في سيرنا، فدلت الطلائع على أنا في صحراء؛ حيث شاهدنا الرمال الممتدة في كل ناحية وبقايا التلال في بعض الجوانب، ولم نجد على الإطلاق شجرة أو شيئًا من الزرع الأخضر. وبعد أن سرنا على تلك الحال يومين كاملين — دون استراحة على وجه عامٍّ — وصلنا إلى تلال نورابي التي كانت محتلة فيما مضى بقبائل عرب بشارن، يمتد هذا الوادي في اتجاه شماليٍّ شرقيٍّ في معظم جهاته، وتتخلله منحدرات وعرة تقوم على جوانبها أشجار الميموسا، وفي تل جانبيٍّ من تلك التلال توجد أشجار مسماة باسم التل العام «نورانية».

حدق إبراهيم على ناظريه من أعلى الجمل، فتفقد الوادي فرآه خلوًا من الناس، فنصح لنا بدخوله فدخلناه، ثم أسرعنا في إرواء جمالنا بالماء العذب وملء قربنا الثلاث. أما البئر فنازلة في قاع الوادي ما يقرب من عشرين قدمًا، ومتجهة إلى ناحية مركزية على بعد خمس وعشرين ياردة، والنزول إلى عمق البئر بواسطة مدرجات حجرية صلبة. وبما أن الآبار في السودان أماكن اجتماع الناس، فضلنا ترك البئر والذهاب إلى مكان في داخل الوادي، فتركناها (البئر) وواصلنا سيرنا إلى الداخل مدة لا تقل عن ثلاث ساعات مجتازين تلال نوراني.

كان الفرق عظيمًا بين المرشدين القدماء والجدد؛ فالسابقون كانوا ممتلئين شجاعة وإخلاصًا، وعلى استعداد لتضحية حياتهم في سبيل إنقاذ حياتي، أما اللاحقون فعلى النقيض من ذلك؛ لأنهم كانوا دائمًا يتذمرون من عملهم الذي يخيل لي أن أحمد عبد الله أجبرهم عليه إجبارًا، ولم يتأخروا عن إظهار غضبهم؛ لأنهم لا ينامون النوم الكافي ولا يأكلون الأكل الجيد. وإني أذكر جيدًا أن إهمال إبراهيم علي ويعقوب حسن أدى إلى إضاعة حذائي وصندوق خاصٍّ لي في الطريق، وقد سبب لي ضياع حذائي تعبًا كثيرًا في المستقبل.

وصلنا في الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم التالي — الخميس — إلى أحراش أبي حمد، وقد فضلت البقاء مختبئًا عن الأنظار هناك على الرغم من عداء سكانه عداءً شديدًا لأتباع المهدي.

ذكرت قبلًا أن أحمد عبد الله أمر إبراهيم علي ويعقوب حسن بالوصول بي إلى الشيخ حامد فضاي، ولكني أضيف إلى ذلك أن هذا الرأي لم يرُق في أعينهما.

جاء لي هذان الرجلان عصرًا وذكرا لي المخاطر التي تتهددهما بغيابهما أيامًا كثيرة عن قبيلتهما. وبما أنه أصبح من المؤكد جدًّا وقوف الخليفة على خبر فراري وعلى قسم من الطريق التي اجتزتها، لم يكن لديَّ شكٌّ في أنه سيستجوب الكثيرين ممن يرتاب في مساعدتهم لي في الفرار، خصوصًا من قبيلة أولئك الجدد؛ لانتمائها في الصداقة إلى الحكومة المصرية؛ وإذن ليس الخطر واقعًا على هذين الرجلين فحسب، بل على صديقي المخلص أحمد عبد الله أيضًا. وأخيرًا اتفق رأيهما على الذهاب إلى شخص يعرفه كلاهما، وبواسطة هذا الشخص أتابع رحلتي بأمان.

تأكدت بعد ذلك أن الخير في رجوع هذين الرجلين؛ لأن بقاءهما معي مضطرين خائفين — فضلًا عن عدم إخلاصهما الشديد في مهمتهما — قد يعرضني لخطر جسيم؛ وإذن قبلت بسرور طلب الرجلين. وإني لا أخفي عن القراء حقيقة كراهتي الشديدة لهما؛ لأنهما كانا مجردين عن الإخلاص غير مباليين بما قد يصيبني من شرٍّ ما داما واثقين من نجاتهما وحدهما؛ إزاء ذلك طلبت منهما الإسراع في الذهاب إلى المكان الجديد حتى يرجعا إلى قبيلتهما. ولا غرابة بعد ذلك أن يكون ابتعادهما عني فوزًا جديدًا لي ومصدر راحة تامة وهدوء فكري.

عند غروب الشمس حضر الرجل الجديد، وهو من قبيلة عرب أمرات، واسمه حامد جرهوش البالغ من العمر حوالي خمسين عامًا. وعندما حياني حامد هذا قال لي: «يسعى كل رجل إلى مصلحته الخاصة، فمرشداك — إبراهيم ويعقوب اللذان أعرفهما معرفة تامة — يرغبان في أن أدلك على الطريق من مكاننا هذا إلى أسوان. وتأكد أني مستعدٌّ للقيام بذلك، ولكني أريد الوقوف على ما سأحصل عليه إزاء هذا العمل الشاق.» فأجبته على الفور: «سأعطيك يوم وصولنا إلى أسوان مائة وعشرين ريالًا من عملة مارية تريزة، علاوة على هدية خاصة أقدمها تبعًا لما تقوم لي به في هذه الرحلة الجديدة.»

قدم لي حامد بعد ذلك يده وقال لي: «إني مرتاح إلى ذلك وأتقبل المهمة؛ فإن الله ونبينا شاهدان على صدق ما أقول. وأما عن وعدك، فإني أعرف عنصرك وأثق أن الرجل الأبيض لا يكذب، وإذن سأسير بك إلى عشيرتك في طرق جبلية غير مطروقة بأقدام الآدميين، ولا يعرفها من مخلوقات الله سوى الطير الذي يحلق في المعمور دون أن ينقل أسرار الناس إلى الناس، فاستعد للرحيل لأنَّا سنواصل عملنا بإذن الله بعد غروب الشمس.»

اخترت أقوى الجمال الثلاثة لمواصلة الرحلة، وأخذت قربتين مملوءتين بالماء والقسم الأكبر من البلح وكمية من الذرة، وعندما خيم الليل وصل حامد إلى المكان المعد لابتداء السفر، أما ابن حامد فسار راكبًا الجمل الوحيد الذي يملكه للبحث عن غلال في روباطاب القريبة من النهر. وتبعًا لذلك اضطر حامد لمرافقة ابنه سائرًا على قدميه، ولم يساعده على عمله الشاق هذا سوى إرادته الصادقة وقدميه القويتين. أما إبراهيم ويعقوب فعادا إلى قبيلتهما، وبطبيعة الحال لم أودعهما وداع الحزن، ولم أذكر لهما في معرض الشكر سوى كلمات قلائل؛ لأني أكرر ما قلته قبلًا عن سروري العظيم لابتعادهما عني.

بعد أن واصلنا سيرنا يومين اجتزنا في أثنائهما تلالًا صخرية، وصلنا في صباح الأحد إلى بئر صغيرة تكاد تكون خالية من الماء، واسمها «شوف العين». وعلى الرغم من ظهور ابتعاد القادمين إليها، بقيت تبعًا لرغبة مرشدي في مكان يبعد ساعة عن هذه النقطة.

كان طعامنا عبارة عن التمر وكمية من الخبز صنعناها بأيدينا، وأقصد بذلك أن هذا الخبز كان لوقايتنا من الهلاك جوعًا؛ فإن أي مخبز أوروبيٍّ يُعرض للخطر العام إذا وجد بين جدرانه رغيف من الأرغفة التي نعملها؛ لأنها في مجموعها كريهة في منظرها وطعمها؛ فطريقة صنع الخبز التي قام بها مرشدي هي جمع كمية من الحجارة حجم كل واحدة منها لا يزيد عن حجم بيضة الفرخة، وبعد تكوينها يضع عليها أفرادًا صغيرة من الخشب، ثم يعجن الذرة في الماء ويضع في آنية خشبة، ثم يشعل النار في الحطب والحجارة الصغيرة بواسطة حك الصوفان على حجر الصوان.

بعد اشتعال النار في الحطب ينزع حامد الجمر من الحجارة الملتهبة ليضع عليه العجين، وبعد ذلك يرد الجمر إلى الحجارة، وبعد أن ينتهي من ذلك التقليب الناري يضرب العجين بالعصا الصغيرة حتى يزيل ما فيه من الرماد وآثار الحجارة الصغيرة.

هذا هو الخبز الذي نأكله، فإن لم نكن مدفوعين إلى أكله بلذة النظر إليه، فليس أقل من أن يدفعنا إلى تناوله جوعنا الشديد.

بعد أن ارتحنا قليلًا على مقربة من البئر، واصلنا السير بضع ساعات، حتى انتهينا إلى المنحدرات الأولى لجبال عتابي الممتدة بين البحر الأحمر ونهر النيل، والتي يسكنها في ناحيتها الجنوبية عرب بشارن وأمران، وفي ناحيتها الشمالية قبيلة العبابدة.

تتفرع من بعض تلك النواحي الخالية من النبات أودية مملوءة بالغابات، يسكنها رعاة الجمال التابعون للقبائل السالفة الذكر.

اجتزنا بعد ذلك واديًا قريبًا غير مطروق وواصلنا رحلتنا دون راحة؛ لأني كنت شديد الرغبة في مشاهدة أعزائي في أقرب وقت ممكن أضمن في نهايته السلامة من أخطار رحلتنا المتعبة المفزعة. ورغم كوننا ناجين من كل خطر، لأنا تركنا الحدود المهدية وصرنا على الأراضي المصرية، رغم ذلك أصر مرشدي على البقاء بعيدين عن عيون الرقباء والناظرين كائنين من كانوا؛ لأنه خاف من أن تقع علينا عيون بعض التجار الذين يتعاملون مع السودان.

وبما أن منزله قائم على الحدود، وأنه كان مضطرًّا — لأسباب مختلفة — إلى الذهاب لبربر؛ فمن الواجب عليَّ أن أقدر خدمته لي — في موقفه الخطير هذا — حق قدرها.

وفي الحق لم أجد بين من شاهدت في السودان رجلًا أقوى عزيمة وأسمى روحًا من صديقي الأخير هذا، على الرغم من ضعف جسمه. ولا ريب في أن الطعام غير النظامي والسير المتواصل في كثير من الأحايين أثَّر أثرًا سيئًا في صحة هذا المتقدم في السن. وعلاوة على ذلك شعر صاحبي حامد بالبرد الشديد الذي أوقعه أخيرًا في حبائل المرض، فاضطررت إشفاقًا عليه أن أعطيه عباءتي لتدفئته، وأبقيت لنفسي المعطف الصغير والحزام الصوفي الكبير. وقد وصلت بي الرغبة في سرعة الوصول إلى أسوان حدًّا دفعني إلى أن أعطيه جملي وأسير على قدمي العارية فوق الأحجار أربعة أيام — سببُ سيري عاري القدم هو إضاعة حذائي كما قلت قبلًا بواسطة إبراهيم ويعقوب — ولا ريب أن هذه الفترة أشق مراحلي من الوجهة الصحية.

خيل إلينا قبل الوصول إلى أسوان بأيام قلائل أن الجمل يتأمر علينا في اللحظة الأخيرة، وليس ذلك غريبًا؛ فقد أتعبه المسير المتواصل دون راحة إلا في النادر، وعلاوة على ذلك أصيب في مقدم القدم بجرح زاد واتسع عندما اصطدم بحجر مدبب، فاضطررت إلى أن أقطع جزءًا من حزامي لألف به بطن القدم والجزء المجروح من الجمل، على أن أغير هذه اللفافة كل أربع وعشرين ساعة. وقد تعلمت ذلك من رعاة الجمال من دارفور، وكل ما بيني وبينهم من خلاف أنهم يستعملون الجلد بدل الصوف.

آخر الأمر قدر الله اللطيف بعباده أن ننزل في صباح السبت ١٦ مارس من أعلى منحدرات طريقنا، فنشاهد نهر النيل السعيد ومدينة أسوان الممتدة على شاطئه. وبطبيعة الحال أُقر بالعجز الكلي عن وصف السرور الذي ملأ قلبي بعد الشكر لله إزاء النجاة والشعور بتحريري من العبودية؛ فقد انتهت آلامي، وقضى الله على مصائبي، ونجوت حقًّا من أيدي البرابرة الشديدي التعصب، ووقعت عيناي أول مرة على مساكن شعب متمدين يخضع للقانون والنظام، ويأتمر حكامه بأوامر العدالة فحسب.

واتجه — ساعة وصولي إلى أسوان — قلبي الطروب إلى عرش الله الأسمى شاكرًا لجلاله حمايته ويمينه المرشدة. قوبلت بأعظم مظاهر الترحيب من معسكرات الضباط الإنجليز الخاضعين لصاحب السمو الخديو، وفي مساكن الضباط المصريين الذين لم يعلموا — إلا عندما التقوا بي — أنباءَ رحلتي المدهشة. وقد تسابق كلٌّ من أولئك الضباط المصريين الكرام في التفريج عن كربي القديم، وفي جلب السرور الذي ينسيني آلامي ونكباتي السابقة. كان المحافظ العسكري في ذلك الحين في أسوان الكولونل هنتر باشا، وكبار ضباطه الذين أذكرهم في هذه اللحظة هم البكباشيون جاكسون وسدني وماتشل بك ووطسون. وقد قدم كلٌّ منهم أقصى ما يستطيع من مجاملة صادقة، فشكرت لكلٍّ من أعماق قلبي ودعوت لهم بالخير. وقبل تغيير ملابسي بملابس جديدة من التي قدمها لي أولئك الضباط، طلب مني صديقي البكباشي وطسون السماح له بأخذ صورتي — وطسون هذا من أدق الرسامين — فقبلت طلبه مع الشكر.

أما عن صديقي حامد جرهوش فقد دفعت له — بواسطة بطرس بك سركيس صديقي القديم ووكيل قنصلية إنجلترا في أسوان — مائة وعشرين ريالًا من عملة مارية تريزة، وقدمت لحامد علاوة على ذلك هدية مالية وبعض الملابس والأسلحة، وفوق هذا وذاك قدم له هنتر باشا عشرة جنيهات إنجليزية تذكارًا لوصولي سالمًا إلى أسوان. وبعد ذلك ودعني وداع الإخلاص وعاد إلى قبيلته مسرورًا مبتهجًا.

بعد قليل من وصولي إلى أسوان وردت لي تلغرافات التهاني؛ أولها من الماجور لويس بك بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن معسكر وادي حلفا؛ وثانيها من رئيس الوكالة السياسية النمساوية في مصر، وهو البارون هولرفون أجيرج، الذي تعب كثيرًا في سبيل إنقاذي؛ ثم من صديقي المخلص الماجور ونجت بك.

أول من حياني من أبناء وطني تحية شخصية هو البارون فكتور هيرنج، ثم أولاده، وقد كانوا جميعًا في ذهبيتهم في النيل.

صادف وصولي يوم قيام إحدى بواخر البريد، فاغتنمت الفرصة وتمكنت بمساعدة ذي الشأن في أسوان من مواصلة رحلتي بعد ظهر اليوم المذكور (١٦ مارس).

رافقني جميع الضباط الإنجليز والمصريين إلى الباخرة، ووقعت الفرقة العسكرية السودانية النشيد النمساوي الوطني على موسيقاها، فذرفت عيناي الدموع حنينًا إلى الوطن العزيز، ثم دخلت السفينة فارتفع الهتاف من جميع الركاب على اختلاف جنسياتهم، فشكرت لهم جزيلًا، ثم شكرت للضباط المقيمين في أسوان عنايتهم بي وإخلاصهم لي. وفي الحق لم أكن مستحقًّا كل ذلك التكريم وهذه الحفاوة، ولم أجد — مع شعوري بالخجل الشديد — سوى تقديم الشكر والدعاء للجميع بالخير.

كان معي في سفري ماتشل بك قائد الفرقة السودانية الثانية عشرة، والذي كانت مناوراته من وادي حلفا إلى كورسكو عن طريق مورات سببًا في أكل الطعام المعد لي عندما وقع عليه الجنود السودانيون، وسببًا في تغيير خط سيري.

عندما وصلت مساء الأحد إلى الأقصر تجلى عطف الأوروبيين المسافرين معي مرة أخرى، وهنا تلقيت عن طريق البارون هولر تلغرافًا من شقيقاتي العزيزات صادرًا من عاصمة وطني العزيز (فينا)، فما أبهج تلك الساعة التي قرأت فيها تلغرافًا عليه إمضاء بأسماء شقيقاتي العزيزات وعنوان فينا العزيزة!

في الساعة الخامسة من مساء الإثنين وصلنا إلى جرجا أقصى محطة جنوبية للسكك الحديدية المصرية، ومنها ركبت القطار إلى مصر، حيث وصلت الساعة السادسة من صباح الثلاثاء ١٩ مارس.

على الرغم من تلك الساعة المبكرة جدًّا في الصباح، وجدت على المحطة البارون هولرفون إيجرج وجميع موظفي السفارة النمساوية والقنصل النمساوي الدكتور كارل وترفون جورا كوشي، وهناك أيضًا صديقي العزيز ونجت بك الذي لا أستطيع في كلماتي القليلة هذه أن أعبر عن شكري له، وإلى جانب أولئك شاهدت مراسل «التيمس» والأب روزينولي وآخرين غيره، ومع أولئك فوتوغرافي يأخذ الصور المختلفة.

بعد أن صرفنا بضع دقائق في تبادل التحيات، سرنا إلى السفارة النمساوية، حيث بقيتُ مدة طويلة ضيفًا عند الرجل الطيب الشديد الإخلاص البارون هولر، الذي قام بمجهود عظيم في سبيل حريتي، والذي لم يكن عمله ناجمًا عن واجبه بصفته ممثل النمسا في الحكومة المصرية، ولكن كان صادرًا عن عاطفة حية مشفقة على شخص أصيب بالأسر المفزع.

عندما وصلت إلى السفارة وجدت الغرفة الخاصة مزينة بأعلام وطني العزيز، ومملوءة بالأزهار والورد، وقد كتب على باب السفارة «تحية صادقة للضيف الكريم».

في ذات اليوم الذي وصلت فيه إلى مصر، تسلمت تلغرافات التهنئة — بنجاتي — من أفراد أسرتي وأصدقائي ورفقائي في المدرسة قديمًا، ومن صحف عديدة في أوروبا بصفة عامة والنمسا بصفة خاصة. وإني لا أنسى العطف العظيم الذي تفضل به عليَّ صاحب السمو الملكي الدوق ولهلم أف ورتمبرج، وصاحب السمو البرنس لويس إستر هازي، وقد كان كلاهما في حملة بوسنة عندما كنت أحارب مع فرقتي العسكرية، ولا ريب في أني سأذكر دائمًا كلمات التشجيع التي نادى بها ذانك الرجلان العظيمان إزاء مصائبي الأولى، وكلمات التهنئة بعد الفرار من مقر الخليفة عبد الله المشهور بطغيانه.

بعد عودتي إلى مصر بقليل تشرفت بمقابلة صاحب السمو خديو مصر، الذي أنعم عليَّ برتبة الباشوية. دخلت السودان منذ ستة عشر عامًا كملازم أول في الجيش النمساوي، وعندما عينت حاكمًا لدارفور منحت من الحربية المصرية لقب أميرال، أما الآن فرقيت إلى درجة اللواء حسب نظام الجيش المصري.

بعد أيام قلائل من تلك المقابلة السامية كنت واقفًا في شرفة السفارة متطلعًا إلى جمال حديقتها في فصل الربيع، فشاهدت طيرًا مائيًّا أليفًا إلى جانب الأعشاب، فتذكرت في الحال طير فالزرفين التابع لاسكانيانوفا توريدا الكائنة في روسيا الجنوبية، ففي الحال دخلت غرفتي وكتبت له بيانًا كاملًا عن طير الكركي الذي أطلقه في عام ١٨٩٢ والذي قتل في دار شيفية، وفي الحق كنت مسرورًا جدًّا بكتابة خطاب تفصيليٍّ إلى الصاحب الأصلي لذلك الطير، وما هي إلا فترة صغيرة حتى ورد لي من فالزرفين ردٌّ على خطابي يشكرني فيه جزيلًا ما ذكرته عنه ويدعوني لزيارته، ولكني لسوء الحظ لم أتمكن من القيام بتلك الزيارة النفيسة؛ لأني ارتبطت بمواعيد كثيرة جدًّا حالت دون قبول الدعوة الجديدة.

كثرت الدعوات الرسمية والخصوصية، وتعددت الزيارات بحيث لم أستطع القيام بعمل رسميٍّ جديٍّ قبل مرور بضعة أسابيع.

كان أول عمل لي بطبيعة الحال كتابة تقرير رسميٍّ مفصل أرفعه لرؤسائي الحربيين، وبعد ذلك بفترة بدأت في كتابة قصة حياتي في الأعوام الستة العشرة الأخيرة.

أما صديقي القديم وزميلي في الأسر الأب أوهروالدر الخطيب الديني في سواكن، فقد انتهز أول فرصة وحضر خصوصًا إلى مصر لتحيتي، وفي الحق كان اجتماعنا سبب سرور جديد لا أستطيع وصفه، وقد شعرت براحة كلية لأني تمكنت شخصيًّا من تقديم شكري الجزيل لهذا الصديق المخلص إزاء ما أبداه نحوي من مساعدة وتأييد. إني أشعر بثقل في رأسي ودوران قد يعقبه الإغماء كلما أتذكر الحالة الماضية وأقارنها بالحالية، وكلما أسرد حوادث مدة اثنتي عشرة سنة قضيتها أسيرًا في أقصى حالات الأسر، وإزاء ذلك كله لم أستجمع قوى تفكيري قبل مرور فترة غير قصيرة.

الآن أشعر بأني رجل من شعب متمدن ورجال مسالمين، فترجع أفكاري إلى البرابرة المتعصبين الذين عشت معهم زمنًا طويلًا، قاسيت فيه الآلام وواجهت المخاطر، ثم أعود فأذكر رفاقي الذين لا يزالون تحت الأسر الممض، وألقي نظرة أسًى على الأمم الواقعة في حبائل الأسر، فلله أجزل الشكر على فضله العظيم؛ حيث نجاني من الخطر الفادح وأوصلني بالسلامة إلى شعب هادئ أمين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤