الفصل التاسع عشر

الختام

بعد أن قضيت أكثر من ستة عشر عامًا — من بينها اثنا عشر عامًا في الأسر الشنيع — في أفريقيا منقطع الصلة عن العالم المتمدين، قدر لي حظي السعيد أن أعود إلى أوروبا، إلا أنه من الواجب عليَّ أن أقول بأن تغيرًا عظيمًا في سبيل العمران حدث في أفريقيا في هذه المدة، فكثير من المناطق التي خاطر فيها أمثال المحترمين: لفنجستون وأسيك وجرانت وبيكر وستانلي وكمرون وبراز وجنكر وشونيفورت وهولب ولينز، ومئات غيرهم بأرواحهم العزيزة في سبيل البحث عنها؛ أصبحت (المناطق) قابلة الآن للنهوض المتمشي مع المدنية. في كثير من المناطق التي قاسى فيها المكتشفون قبلًا كثيرًا من المخاطر، توجد الآن قوى ومحطات عسكرية تساعد على نشر الأمن وتسهيل التجارة التي تعد أهم عناصر التقدم في الجهات المذكورة.

لئن تطلعنا إلى الدول صواحب الشأن في تلك المناطق، فإنا نجد في الشرق إيطاليا وإنجلترا وألمانيا، وفي الغرب الكنغو (بلجيكا) وفرنسا وإنجلترا، وتسعى كلٌّ من تلك الدول سعيًا حثيثًا في زيادة النفوذ في جهات مختلفة، وترمين جميعًا إلى وضع الأيدي على أفريقيا الوسطى. وقد بدأ رجال القبائل المتوحشة — الذين يعتبرون أقرب إلى الحيوان منهم إلى الإنسان — يدركون حاجياتهم الضرورية، وأن هناك أناسًا ذوي مراتب سامية في أنفسهم، ويرجع ذلك إلى المقدار الذي حصلوا عليه من المدنية والتقدم. ولا شك عندي في أن الممالك الإسلامية الصغيرة الشمالية، كوادي بورنو وفلاتا، سيدرك زعماؤها حاجتهم للتعاون مع الدول العظمى في سبيل الاحتفاظ بحكمهم الوراثي.

ذكرت المناطق السابقة ولم أشر إلى الآن بشيء للبقعة التي قضيت فيها أكثر من عشر سنين، ورغبتي في ذلك منحصرة في تخصيص الذكر والكلام عند ورود اسم السودان بين المناطق الأفريقية.

والآن أقول بأنا نجد في الناحية المتوسطة من أفريقيا، بين الأراضي المذكورة أخيرًا وحيال القوى الأوروبية الباسطة نفوذها في الشمال والجنوب والغرب؛ نجد في تلك الناحية السودان المصري الذي يخضع اليوم لحكم الخليفة عبد الله وأشياع المهدي، وهم أشد الحكام قساوة وأكثرهم ظلمًا للرعايا.

إن الأوروبي، كائنًا من كان، لن يستطيع اجتياز ذلك السودان كزائر أو عامل، وأقصى ما يحدث لذلك الأوروبي لا يختلف عن أدنى ما يصيبه، سوى اختلاف جزئيٍّ لا يؤثر شيئًا في النفس التي اعتادت الحرية، والتي خلقها الله في جسم الإنسان لتشعر بسعادة الحياة الهادئة البعيدة عن العسف والمظالم من ناحية الحاكم صاحب الأمر. وللإنجاز أقول بأن أقصى ما يصيب الأوروبي في السودان هو الموت، وأدنى ما ينتابه هو البقاء طول حياته أو أغلبها أسيرًا مغلوبًا على أمره. قد لا يجد في الحقيقة فرقًا بين الموت وبين تلك الحالة المؤلمة، ولكني عن شخصي أجد اختلافًا ظاهرًا؛ هو تمتعي بالنجاة والحياة الحرة قبل موتي الطبيعي الهادئ.

إذن يتعرض الأوروبي السائر لتلك البلاد البعيدة عن المدنية، والممتدة جنوبًا على طول النيل إلى الرجاف، وشرقًا إلى غربي كسلا على مقربة من واداي؛ للموت السريع أو لعيش مرير تحيط به مظالم المستبدين.

لم يكن السودان تحت حكم مصر على مثل ما أصف من شدة على الأوروبيين، ولم نكن نحن الغربيين نتضجر من أمثال تلك المظالم، فما هي إلا عشر سنوات منذ وقع السودان في قبضة المهديين حتى شاهدنا المظالم تترى والعسف يتوالى. وإنه لمن الحق أن أصرح بأن السودان ظل أكثر من سبعين سنة — منذ دخله محمد علي — تحت حكم مصر والمصريين، فكان من ذلك العهد الطويل مفتوحًا للجميع ومستعدًّا لقبول كل جديد تأتي به المدنية ويدعو إليه العمران.

تحت حكم المصريين انتشر التجار المصريون والأجانب على السواء في مدن السودان الرئيسية، وفي الخرطوم ذاتها كان للدول الأوروبية العظمى ممثلون محترمون من الجميع، وقد كان الأجانب من جميع الدول الأوروبية متمتعين بحق الدخول إلى السودان والخروج منه، وهم في كل من تَيْنِكَ الحالتين على أتم ما يتمنون من أمن وهدوء وسلم. وإلى جانب ذلك سهلت المواصلات بين السودان، وأبعد الممالك الأوروبية بواسطة الرسائل التلغرافية والبريدية المنظمة.

إن أعظم ما تمتع به السودان أثناء الحكم المصري الطويل هو قيام كل فرد بشعائره الدينية وبنشر العلوم حسبما يوحي إليه ضميره، فكنت ترى مساجد المسلمين وكنائس المسيحيين في أماكن قريبة يقصدها أبناؤها بمطلق الحرية وفي هدوء واطمئنان، كما كنت ترى مدارس المسيحيين الأوروبيين منتشرة لتعليم العلوم الحديثة، لا فرق في ذلك بين الفلسفية منها والدينية والعلمية المحضة، كانت المناطق السودانية مقطونة بقبائل مختلفة، وكان العداء في كثير من الأحيان شديدًا بين رجال القبائل، ولكن حزم الحكومة المصرية أدى إلى نشر السلم بين السودانيين على وجه عامٍّ، سواء أكانوا في ذلك راضين أم مرغمين.

جاء دور المهديين فانقلب الحسن إلى سيئ، وأصبحت الحال المهدية الجديدة غير الحال المصرية الأولى، فانتشر الجزع والاضطراب في البلاد السودانية. وقد أبنتُ في الفصول السابقة مقدار طمع وسوء إدارة الموظفين الجدد؛ مما وصل بالبلاد إلى حدٍّ أصبح ميسورًا معه نشوب الثورة.

سعيت جهدي في الفصول السابقة إلى شرح ما قام به محمد أحمد لاستغلال الموقف والظهور بين القبائل المتقاتلة؛ فقد أيقن ذلك الرجل أن السبيل الوحيدة التي توفق بين أولئك المتخاصمين هي سبيل الدين؛ فادعى أنه المهدي المرسل من الله تعالى لتحرير البلاد من النير الأجنبي، ولإحياء الدين، فكان ذلك العمل من جانب المهدي سببًا رئيسيًّا في إيجاد خلة التعصب الديني الذميم، الذي زاد سوء الحالة في الاثنتي عشرة سنة الأخيرة، ودعا إلى تذمرٍ لا من الأجانب فحسب، بل من السودانيين أيضًا، الذين وقعوا في حبائل الفوضى والظلم.

كان من المستحيل نجاح الثورة بدون التعصب، هذا إلى أنَّا وقفنا به (التعصب) أمام حالة حرجة؛ هي حالة الحرب والجهاد بين المختلفين في الدين. ومن الغريب في أمر ذلك السودان أنا لم نجد حالة توازن بين التعصب الممقوت والتسامح الحميد، فكنا قريبين في حالتنا من القرون الوسطى أو ما هو أبعد أمدًا.

سعيت — عندما ذكرت حياتي وأعمالي في الفصول الأولى، وعندما وقفت أمام نذير التعصب الديني — إلى السير بخطى متئدة في سبيل تعقب الأسباب الرئيسية التي دعت إلى الحالة الحاضرة. ولئن قررنا حقًّا أن الحالة تغيرت عما كانت عليه في زمن المهدي وأوائل حكم الخليفة عبد الله، فإنا نذكر إلى جانب ذلك أن الموقف لا يزال خطيرًا، وهو في حاجة إلى الأيدي العاملة بنشاط بعد معرفة الحقائق والتفصيل، حتى يتمكن أصحاب الشأن من معرفة السبل التي يتحتم عليهم عبورها للاحتفاظ بالمدنية، ونشر ألوية العدل في ذلك الفضاء الواسع من الأمة التي هوت إلى حالة مكربة مؤلمة لا نستطيع وصفها، بعد أن ضعف فيها المستويان الرئيسيان لبقاء الأمم؛ وهما الخلقي والديني. وإلى جانب ذلك نذكر ما يطمع إليه الجميع، سواء في ذلك الوطنيون والأجانب، من عدل شامل وطمأنينة محققة.

إن أول ما يتبادر إلى ذهن المفكر في شئون السودان بعد قيام حكم المهديين هو مصير المدنية الناشئة الجديدة، التي وجدت في سني حكم المصريين منذ عهد محمد علي، فليس من شكٍّ في أن تغيير الحال وحلول الفوضى محل النظام يولدان في العقل شعورًا صادقًا بانقضاء كل أثر ظهر للمدينة في السودان قبل المهديين. وهذا ما حدث بالفعل؛ فقد اندثرت معالم المدنية رغم طراوتها وحدتها؛ والسبب الرئيسي في اندثارها هو انتقال الحكم إلى أولئك المستبدين الجهلة، بل أذهب إلى أكثر من ذلك فأقول إن سبب ضياع المدنية راجع إلى ظهور نفوذ أولئك الهمجيين، الذين أسسوا على أنقاض الحكومة السودانية المصرية السياسية نظامًا جديدًا كان إلى حدٍّ ما متتبعًا خطوات النظام الماضي في العَرَض، ولكنه خالفه في الجوهر. فبدلًا من الحق والعدالة والأخلاق في حكومة العهد المصري، نجد الظلم والباطل البربري والتجرد من نظم الأخلاق في حكومة المهديين وأتباعهم. وإنه لمن الواجب عليَّ أن أقرر للقراء — غير مدفوع في ذلك بنزعة الثأر لنفسي مما قاست من ويلات، ولكني مدفوع بوازع الضمير رغبة في تقرير الحقيقة كلها — بأني لن أستطيع ذكر أمة ظلت في حياة المدنية أكثر من نصف قرن ثم هبطت إلى الدرك الأسفل من الهمجية غير السودان.

لنفكر لحظة واحدة في تلك القوة الجديدة التي برزت بروز الشر، ودعت إلى الفوضى في ربوع السودان، مما اعتبرها الأوروبيون بحقٍّ عقبة كأْداءَ في سبيل المدنية الناهضة، ونذيرًا بفشل المساعي الكبرى التي بذلوها في السنوات الأخيرة في الكثير من جهات تلك القارة الأفريقية الفسيحة.

سعيت في الفصول الأولى إلى تبيان أثر المهدي عندما صاح في الناس أول صيحة، وعندما ظهر نفوذه الواسع في السودان؛ فقد كان هذا الرجل سيد السودان الحقيقي، فلم يكن يصدر أمرًا حتى يسرع الأتباع لتلبيته وهم على استعداد لتفديته بالقلوب والأرواح. كما أني ذكرت التعصب الذميم اللعين الذي أوجده المهدي في حياته، ثم أردفت ذلك بشرح تضاؤل ذلك التعصب بعد موته (المهدي)؛ حيث حل محل القوة الدينية نفوذ جديد للخليفة عبد الله، كان يتذرع فيه بالدين تذرعًا اسميًّا، ولكنه في الحقيقة كان مدفوعًا بنزعة الظلم التي وُجدت بين جنبيه منذ عرف الفارق بين الخير والشر. ولم تكن القسوة قاصرة على الخليفة عبد الله، ولكنها تعدته إلى عرب القبائل الغربية؛ فقد حل أولئك محل الجنود المصريين؛ فأهلكوا الزرع والنسل، وحكموا السكان المنكودي الحظ بقضيب من حديد، فذاق أولئك السودانيون كل مرارة، وابتلاهم الله بشر أولئك الجدد المستبدين؛ مما جعلهم يذكرون ليل نهار فضائل الحكم المصري. ثم دفعهم أكثر من ذلك إلى التذمر المنذر بالثورة، والتطلع إلى حكومة تمنحهم الهدوء والسلم.

إنه لمن التطويل غير المحمود، بل من التكرار الممل الموجع للنفس، أن أعود لذكر الفظائع التي ارتكبها الخليفة عبد الله وأتباعه في سبيل احتفاظهم بمراكزهم الدينية والحكومية، ولكن من واجبي هنا أن أذكر لقرائي أن خمسة وسبعين في المائة — على أقل تقدير — من مجموع السكان في السودان ماتوا؛ إما بالحرب وإما بالجوع وإما بالأمراض الوبائية الفتاكة، فيبقى لنا بعد ذلك أقل من خمسة وعشرين في المائة ليسوا في حقيقتهم أحسن حالًا وأفضل عيشًا من الرقيق.

تذكرني كلمة الرقيق الأخيرة بذلك الطغيان البادي في تجارته في السودان. ولئن كان الرقيق في بادئ أمره مقصورًا على العبيد، فإنه — بعد امتداد نفوذ عبد الله — يضم إلى دائرته العدد الكبير من مسيحيي الأحباش والسوريين والأقباط والمصريين المسلمين.

إن القسم الواسع من السودان الذي يحكمه الخليفة عبد الله اليوم قد تغير في نظامه عن الحكم المصري، ولكنه تغير لا يشرف صاحبه؛ فقد أصبحت المناطق الخصبة المثرية الآهلة بالسكان صحراء مقفرة يخاف الناس ولوجها، فإنك اليوم تجد السهول الكبرى التي وطئتها أقدام قبائل العرب الغربية شبيهة بالصحاري، لا يظهر فيها من المخلوقات غير الوحوش الضارية. أما مواطن الآدميين على شاطئ النيل، فأصبحت مقطونة ببدو القبائل المرتحلة، بعد أن طرد أولئك أصحاب البلاد الأولين أو استبقَوهم لا لشيء سوى تفليح الأرض واستثمارها لخير الأسياد الجدد.

حُرم السكان الأصليون من جميع وسائل الدفاع عن النفس، وأصبحوا — بعد ما نزل بهم من جور وعسف — في حالة فقدوا معها كل أمل في الحصول على العطف من ناحية أولئك الأسياد الجدد، فضعفت أو تلاشت فيهم قوة المقاومة؛ وإذن فالباقون من السكان الحاصلين على المساحات الضيقة المشرفة على النهر ليسوا أفضل من العبيد في غير حالة واحدة؛ هي حين تعريضهم للبيع في سوق الرقيق.

ما الذي يستطيع أولئك البائسون المنكوبون عمله لمهاجمة أسيادهم الجدد الأقوياء؟ إنهم أمام أحد أمرين؛ فإما التسليم والبقاء في عيش الذل، وإما الاعتراض؛ وفي تلك الحالة يلاقون آجالهم بحد السيف.

إنه لمن المغالاة والجنون المطبق أن يفكر أحد في أن المغلوبين على أمرهم في عهد الخليفة عبد الله يستطيعون إنهاء حالتهم المزرية بثورة داخلية؛ لأنهم لا يملكون شيئًا من معدات الدفاع أمام قوة الحكومة الظالمة؛ وإذن لا بد من وصول العون والمدد من الخارج إلى أولئك المنكودين. وعلى السكان المحليين أن يتحققوا أن الخير في الثبات وعدم التقهقر بعد ظهور حكومة عادلة جديدة؛ لأن ظهور أي دليل من دلائل الضعف والمقاومة لروح المدنية الجديدة سيضر التقدم المقصود ضررًا بليغًا.

إنه لمن الواجب على السودانيين — في سبيل الاحتفاظ بتقدمهم المنشود والابتعاد عن مصائب العسف والمظالم — أن يعتقدوا أن قوة الخليفة في ضعف مستمرٍّ؛ لأن ذلك الضعف أعظم مساعد لارتفاع كلمة الحق ورجوع عصر المدنية.

عندئذ يستطيع السودانيون الوثوق في القوى الجديدة الخارجية التي ستساعدهم في تحطيم قيود العسف والتطويح بالإمبراطورية المهدية الجائرة.

إني أطلب من القارئ أن يتمهل في الحكم على ضياع نفوذ المهدي وعبد الله ومن والاهما؛ فقد يتصور البعض مما سبق أن ذلك النفوذ الشديد سيزول، ولكني أعود فأؤكد أنه غير قابل للاندراس في حد ذاته، ولكنه عرضة لذلك التدهور بمؤثر خارجيٍّ فحسب، على أن ذلك يستغرق زمنًا غير قليل.

أحيل قراء الكتاب إلى الفصول الأخيرة السالفة ليعرفوا مقدار ما اتخذه عبد الله في سبيل الاحتفاظ بقوته الداخلية طول حياته حيال أعدائه الداخليين. فليس غريبًا أن يظل ذلك الاعتقاد راسخًا في فكر الخليفة وقابلًا للتصديق عند الجميع ما دام عبد الله في أمن من أي اعتداء خارجيٍّ وتدخل أجنبيٍّ؛ وإذن من المؤكد أن هذا الرجل سيظل صاحب السلطان طول حياته. أما بعد موته فمن المحتمل، بل من المؤكد أيضًا، أن انقلابًا عظيمًا سيحدث في ربوع السودان، وأن انفجارًا هائلًا سيتولد بعد الضغط الطويل.

وأقرب ما يتبادر إلى الذهن هو أن ذلك الانقلاب ينتهي إلى خلع الأسرة التي عُني عبد الله منذ تولى خلافة المهديين بتأسيس حكمها الثابت. ولكني لا أستطيع التأكيد بأن ذلك التغيير سيقرب السودان إلى مصادر المدنية أكثر مما هي الآن.

إذا عرفنا ذلك، وجب علينا أن نقرر أن الخير لا يتم للسودان إلا بواسطة مساعدة خارجية. ومهما يكن من شيء، فإن الغرض السابق قد لا يتفق اتفاقًا رقيقًا مع مقتضيات الحال في السودان اليوم.

إن الذين يرغبون في دراسة حالة السودان الحاضرة ملزمون قبل أي اعتبار آخر أن يدركوا بأن السودان اليوم ليس هو ذلك السودان في أيام إسماعيل باشا، عندما تجلت المدنية بواسطة نفوذ الحكومة المصرية، في الوقت الذي كانت فيه البقاع والأمم المختلفة المجاورة للنفوذ المصري؛ إما في درك الهمجية وإما عابدة للأوثان؛ حيث لم يستطع الأوروبي ضمان النجاة لنفسه إذا اجتاز إحداها، علاوة على أن جميع الأوروبيين لم يكونوا معروفين، ولم تكن حتى دولة واحدة من القارة الأوروبية معروفة لدى الأمم المذكورة، كما أن العرب لم يظهروا في غير القليل النادر.

كان السودان إذن زهرة تلك البقاع، والمتميز عن جميع ما جاوره بما له من مدنية ونهوض، وكان ذلك كله في العهد المصري، ولكني أقول — كما قلت قبلًا — إن الهمجية تطرقت إلى جوانبه عندما جاء عهد المهديين.

كان السودان على مقدار مذكور من المدنية والنهوض، فأصبح منكودًا متخبطًا في طرقات الجهالة والظلم، بعد أن ألقيت مقاليد الحكم فيه إلى قوة همجية وحشية تكره النفوذين الأوروبي والعثماني على حدٍّ سواء.

تلك هي الأمة التي تعترض الطريق من النشوز المركزية القائمة على وادي النيل إلى البحر الأبيض المتوسط، كما أنها الأمة التي تضع طابعها على المناطق التي كانت في وقت من الأوقات متمتعة بالهدوء والسلم وقابلة لكل مصدر من مصادر التجارة والمدنية والنهوض. وإنه لمن المحزن أن نذكر تدهور السودان وظهور ذلك الاضمحلال جليًّا؛ لأن المناطق التي كانت منحطة قبلًا أخذت تنهض وتقوى، في حين نرى السودان متدهورًا.

أصبح من السهل وجود التبادل بين المناطق السالفة الذكر وبين العالم الخارجي وتدفق سبل التجارة بحيت لا يعترضه معترض كما كانت الحال قبلًا، فأصبح كل أجنبيٍّ آمنًا على حياته من الخطر في حالة اجتياز أية منطقة؛ وذلك بفضل حماية الحكومة الأوروبية. ويكاد يكون أحسن ما أذكره عن تلك المناطق، أن العناصر الهمجية القائمة فيها أصبح أفرادها يدركون أن الخطأ والجهل كل الجهل في مقاومة تيار المدنية، وأن الخير كله في التمتع بظل النهوض الحديث.

لننتقل فترة من التعميم إلى التخصيص، ونتساءل عن حقيقة الموقف الحالي في السودان، فنقول إن النفوذ المصري في الشرق السوداني يسير سيرًا بطيئًا جدًّا لاسترداد ما كان له من أراض في الجهات المجاورة لسواكن وطوكر. أما في الجنوب الشرقي فقد استولى الإيطاليون على كسلا، وأجبروا المهديين على إقامة خط دفاع قويٍّ في الشاطئ الغربي من نهر عطبرة.

نسير مسافة إلى الجنوب فلا نجد في الوقت الحالي رغبة بين الأحباش في تغيير ما بينهم وبين الدراويش من علاقات قديمة. أما في المناطق الجبلية التابعة لفازغلو والنيل الأزرق، فقد جاهر السكان بعدائهم للخليفة ورغبتهم في الابتعاد عن طاعته.

نتجه جنوبًا مسافة طويلة أخرى إلى منابع النيل، فنجد حركة جديدة للنفوذ الإنجليزي، وليس ذلك غريبًا؛ ففي تلك الجهات استطاع أستيك وجرنت وبيكي تخليد أسمائهم واسم أمتهم الإنجليزية بما قاموا به من اكتشافات مجيدة، كما أنهم اكتسبوا حب الأهالي بما بذلوه من مجهود ضد الرقيق وتجارته. ولا شك أن هذه الجهات ستتصل قبل مرور وقت طويل بشاطئ النيل بواسطة سكة حديدية لا تساعد على فتح الجهات التي تجتازها فحسب، بل ستساعد على إيجاد مخرج لتجارة الخط الاستوائي الجنوبي وما جاوره من الجهات؛ وإذن للنفوذ الإنجليزي أثر ظاهر هنا. بعد ذلك نذكر ولاية الكنغو الحرة التي تمكنت في السنوات القلائل الأخيرة — بفضل ما بذلته من مجهود عظيم — من ضم مقدار كبير من الأراضي إلى نفوذها.

كان النفوذ الجديد لولاية الكنغو الحرة عظيمًا، فلم يقتصر على مسيو مواوبانجي، بل تعداه إلى مناطق كثيرة من مديرية بحر الغزال وفي خط الاستواء، حتى إن تلك الولاية تمكنت من التقدم إلى المكان المجاور لنفوذ الدراويش في الرجاف الكائنة على وادي النيل.

فيما وراء ذلك النفوذ نجد على مقربة من أوبانجي العليا مساعي الفرنسيين وأحلامهم؛ حيث يسعون السعي المتواصل في سبيل تحقيق آمالهم في تلك الناحية كما حققوها في جهات مختلفة من القارة الأفريقية. إذا ذهبنا بعيدًا إلى الشمال الغربي، وجدنا نفوذ الخليفة في المناظر القائمة هناك معددًا بعدد القبائل المختلفة التي سيصبح أفرادها، قريبًا أو بعد زمن طويل، خاضعين بمحض إرادتهم للنفوذ الأوروبي الممتد إلى داخل أفريقيا من الناحيتين الغربية والشمالية.

أما في النهاية الشمالية، فستقيم القوة المصرية التي بدأ الخليفة عبد الله يدرك خطرها ويثق أنها، القوة المصرية، ستكون أول من يتقدم للتدخل في شئون إمبراطوريته المضطربة المزعزعة الأركان.

من ذلك البيان الموجز نطلع على الموقف الحالي — من الناحية الدفاعية الهجومية — للمهدي في السودان؛ فإنه كامل العدة ومتين الشهرة في داخل أملاكه ومناطق نفوذه، ولكنه مهدد من جميع الجوانب الخارجية، وهو إزاء ذلك التهديد لا يملك ما يدفع به غارة المحتاجين؛ لأن الشعب الذي يحكمه لا يخلص له بطبيعة الحال وقت الخطر، والسبب في ذلك معروف لدى القارئ؛ وهو الرغبة في التخلص من جور عبد الله بأية وسيلة، وعندي قليل من الشك في أن إمبراطورية الخليفة ستحطم ويتقلص ظلها قبل هجوم قوى أية دولة متمدينة. إذن ما الذي يجب عمله؟

هل تصبح مصر مرة أخرى الحاكمة الفعلية الحقيقية للبلاد التي كانت مصر سيدتها الشرعية ومالكتها قبل حكم المهديين؟

هل تدرك وتفهم جيدًا كل مملكة من الممالك المتمدينة — السائرة مجردة عن الهوى إلى شواطئ النيل الصالحة للملاحة — أن الواجب يقضي عليها بعدم محاولة قطع أو مقاومة مصدر حياة مصر النائية بتحويل منافع الماء الراوية إلى الأراضي التي تحصل عليها كل منهن؟

هل تسعى الممالك المتمدينة سعيًا شريفًا في كل ما يعملنه، وتفكر كلٌّ على حدة في أن الفضيلة تقتضي التجرد عن الهوى وعدم تعريض مصالح مصر للخطر؟ هل ترضى كل مملكة رضاء المخلص الشريف بعدم التقدم لسفك الدماء، وإنفاق الأموال في سبيل غير مشروعة كل ما فيها مكسب لا يجيء إلا من اعتداء غير مشروع؟

هل تدرك كل دولة أنه من غير اللائق أن تتدخل في شئون مصر وحقوقها المشروعة؟

تلك أسئلة تدخل في دائرة السياستين العملية والتدريبية، وقد لا يكون من عملي البحث فيها ومناقشتها والإفصاح عن غوامضها.

إن كل ما أرمي إليه هو الإفصاح بآرائي المجردة عن الهوى، والتي يدفعني إلى تقريرها وازع من ضميري يذكرني دائمًا بأهمية وفائدة وقيمة السودان لمصر. وإني أصرح بمناصرتي لذلك الرأي ودفاعي عنه بكل ما لي من قوة.

إن الأسباب التي دفعت محمد علي إلى امتلاك السودان منذ ثلاثة أرباع قرن (نذكر القارئ المصري بأن سلاطين باشا كتب مؤلفه الذي نترجمه في عام ١٨٩٥) كانت ولا تزال وستبقى وجيهة جدًّا، ويكفي تلخيص ذلك في أن النيل حياة مصر.

فالواجب إذن قائم في حفظ وادي النيل من أي اعتداء؛ وإذن يجب على المسئولين أن ينظروا بعين اليقظة والحذر إلى أي تقدم من جانب دولة أو دول أجنبية إلى طريق النيل العظيم؛ لأن الأمر الذي لا ريبة فيه ولا جدال هو أن إنشاء مستعمرات على شواطئ النيل أمر عظيم الخطورة؛ لأن الدولة المستعمرة في تلك الناحية قد تغلب مصالحها الشخصية ومطامعها الجديدة على مصالح مصر وسعادة المصريين وتقدمهم ورخائهم.

أذكر من الصفحات الأخيرة من كتابي في الفصل الأخير أني أشرت في مواضع متفرقة من مؤلفي إلى الأهمية العظمى التي لبحر الغزال، وقد لا يكون من التكرار ذكر ما لذلك الإقليم السوداني العظيم من أهمية، وما له من شأن بالنسبة للسودان على وجه عام.

إن ذلك الإقليم (بحر الغزال) أخصب أقاليم السودان، ومساحته في مجموعها من أكبر المساحات المنتجة. وأعظم ما يمتاز به بحر الغزال أنه يستمد ماء ريه من مجموعة جداول ومجار مائية، على أنه في كثير من نواحيه مغطى بالجبال والغابات التي تأوي إليها الأفيال. أما الوديان الواطئة فخاضعة لحكم الفيضان.

إن خصوبة تربة بحر الغزال تعد من الخيرات النادرة في السودان، فمن السهل الحصول منها على كميات كبرى من القطن والمطاط. هذا إلى كثرة ما في البلاد من أغنام وماشية.

أما عدد السكان، فأستطيع تقديره بما يتراوح بين خمسة وستة ملايين عدًّا، والكثيرون من أولئك يصلحون لحمل السلاح، إلا أن العداوات المستمرة بين رجال القبائل المختلفة تحول دون أي اتفاق عامٍّ بين السكان، وذلك أكبر مساعد للدولة الأجنبية على التقدم للإقليم الكبير المذكور، والحصول على نفوذ ظاهر فيه، وإنشاء قوة حربية داخلية فيه منحازة إلى جانب تلك الدولة. فمن السهل بطبيعة الحال اتحاد قوة موالية في منطقة عرفت باشتداد الشحناء بين أفرادها وتنافر رجال قبائلها المختلفين.

كل ذلك مما يغري القوة الأجنبية إلى التقدم، ولكني أعود فأذكر التقدم المجرد عن الهوى، وعساني أكون مغاليًا في توقع مثل ذلك العمل من أية دولة لا ترمي لغير شيء واحد هو مد نفوذها وتوسيع سلطانها.

كانت مشراع الرق ميناء بحر الغزال منذ ظهر حكم المصريين في السودان، وقد اعتادت البواخر الصاعدة من الخرطوم اجتياز تلك الميناء في فترات دورية كل عام، ولكنها في بعض الأحيان كانت تتعطل في طريقها لما يعترضها من الأعشاب العائمة، التي كانت بين آن وآخر تسد طريق النيل الأعلى. عند الناحية الجنوبية من فاشودة مباشرة يخرج النيل من بقعة يظن أنها كانت مقر بحيرة قديمة، تعترض ذلك السير الفسيح البطيء مجارٍ مختلفة لجداول وأنهار، وفي كثير من الأحايين تقف السدود في طريق السير السريع، فكان المسافرون في كثير من الأحيان مضطرين إلى قطع هذه السدود العشبية بالسيوف والفئوس. ومما يذكر في هذا الصدد أن بعثة السر صموئيل بيكر تأخرت عامًا كاملًا عن إنهاء مهمتها بسبب اعتراض تلك السدود (البعثة المذكورة استغرقت ما يقرب من أربعة أعوام من ١٨٧٠ إلى ١٨٧٤).

بالاطلاع على ما تقدم، نجد مركز بحر الغزال من الوجهتين الجغرافية والحربية — مع مقارنته بمراكز باقي أقاليم السودان — عظيم الأهمية؛ وإذن فوجود أية قوة أجنبية في السودان لا تنظر لغير مصالحها الشخصية ونزعاتها الاستعمارية، أو بمعنى آخر لا يهمها بقاء المصالح المصرية في السودان؛ سيجعل بقاءها (القوة الأجنبية) في مركز ممتاز يعرض مصر للخطر، بل أذهب إلى أكثر من ذلك فأقول إن ذلك البقاء سيحول دون تحقيق رغبة المصريين في استرداد أقاليمهم الأولى التي فقدوها في السودان. وفي حالة رجوع مصر إلى السودان مع بقاء تلك القوة الأجنبية، سيكون نفوذ مصر في خطر دائم؛ والسبب الرئيسي في كل ذلك هو أن القوة الخارجية التي ستدخل بحر الغزال أو تسيطر عليه ستكون صاحبة النفوذ المطلق هناك، وسيظل تحت يديها كل مورد من موارد الخير في ذلك الإقليم العظيم، الذي يعد من وجهة الرجال والمواد أكبر وأعظم أقسام وادي النيل.

تكلمت كثيرًا في الصفحات السابقة عن كل ما أعرفه عن حركات ومطامع الأوروبيين في هذا الصدد. وإني لا أستبعد أن أية محاولة حربية، من جانب دولة أوروبية في سبيل الوصول إلى النيل عن طريق مشراع الرق أو بحر الحمر أو بحر العرب، ستلقى اعتراضًا كبيرًا من جانب المهديين. ولكن في الوقت نفسه أقرر أنه إذا حدث مثل ذلك الاعتراض وقابله نشاط من جانب القوة الأوروبية الجديدة، فالنتيجة المحتملة جدًّا هي ضياع مناطق المهديين من أيديهم.

لو أن الخليفة عبد الله على علم بأن الأوروبيين «البيض» الموجودين في بحر الغزال أقوى كثيرًا مما يتصور، وأكثر عددًا وأعظم تدريبًا مما يعرف عنهم بواسطة التقارير غير المضبوطة التي تقدم إليه بين آن وآخر؛ لو أنه على علم بذلك لما تردد في مهاجمتهم قبل استفحال الخطر، وفي تلك الحال يكون مضطرًّا إلى إرسال مدد من جيوشه من أم درمان، وهذا العمل صعب وغير ميسور التنفيذ؛ لأن احتياطي جنوده يكاد يكون معدودًا ومنحصرًا في تقوية مواضع الخطر من عطبرة مقابل كسلا وفي مديرية دنقلة. هذا البيان الموجز يوضح لنا ضعف قوة الخليفة، ويثبت ما أشرت إليه سابقًا عن عدم تمكن عبد الله من أي وقوف في وجه اعتداء خارجيٍّ، ولا ريب أن مثل ذلك النفوذ معرض للضياع ومهدد بالتلاشي، خصوصًا إذا ذكرنا إلى جانبه العداء الشديد الموجه من سكان البلاد الداخلية لحاكمهم عبد الله.

نعود الآن عودة سطحية إلى الموقف الدرويشي في دارفور وكردوفان، فنذكر قبل كل شيء أن القوة الحالية للأمير محمود لا تتعدى بضعة آلاف من حاملي البنادق والضاربين بالرماح، وأولئك على قلتهم ليسوا في بقعة واحدة، ولكنهم موزعون في مخافر الفاشر. أما محمود نفسه فيقيم في الفاشر مع القسم الأكبر من تلك القوة، على أنه في مناوشات دائمة مع قبائل دار حجر ومسالت وتاما وبني حسين وحوتر، وقبائل أخرى في منطقتي كبكبية وكلكول.

لم يوفق الأمير محمود توفيقًا متواصلًا في عمله، وقد يرجع ذلك — إلى حدٍّ ما — لقلة عدد المقاتلين معه أمام أعدائه الكثيرين. ومهما يكن من شيء، فإني أذكر لتقرير الوقائع أن أحد كبار مساعدي محمود الحربيين، واسمه فضل الله، قد قتل أخيرًا في معركة هجومية وهزم جنوده المحاربون معه (وعددهم ستمائة) في معركة حامية مع القبائل المعادية الثائرة. وإني أذكر جيدًا أن الأوامر صدرت — في الوقت الذي غادرت فيه أم درمان — إلى الأمير محمود بإرسال قوة لتأديب الثوار من الفاشر، والظاهر أن هذه القوة نجحت نجاحًا جزئيًّا عوض شيئًا من الخسارة السالفة الذكر التي مُني بها الدراويش.

قد يحسن بي أن أذكر كلمة سطحية عن القبائل المذكورة المعادية لنفوذ المهدي، فأقول إنها من الوجهة الظاهرية الصورية مستقلة؛ أي إن استقلالها اسميٌّ، ولكنها في الواقع تدين بشيء من الطاعة إلى سلطنة واداي. وأفراد القبائل المذكورة يعدون في الوقت نفسه على شيء كثير من الولاء لأصحاب النفوذ في سلطنة واداي؛ وإذن من الخطأ الواضح أن يعتقد معتقد — كما شاع بين الكثيرين من الأوروبيين وغيرهم في السودان وخارجه — أن أولئك الثائرين كانوا عاملين تحت قيادة رابح الزبير؛ لأن هذا الزعيم السوداني (رابح) شديد العداء لواداي، ولن يسمح بأن يكون المؤتمرون بأمره على شيء — ولو قليل جدًّا — من الولاء لواداي. وعلاوة على ذلك، فإن نفوذ رابح هذا لا يمتد في مسافته إلى الناحية الشرقية، والمعروف والمحقق أنه (نفوذه) قائم في الأقسام الواقعة إلى جنوبي وغربي بحيرة تشاد.

على تلك الحال كانت الشئون جارية في تلك المناطق الجنوبية والغربية عندما غادرت السودان، ولم أكد أصل إلى البيئة المتمدينة حتى قرأت في الصحف تقارير وأنباء غريبة ومتناقضة في بعض المواضع عن الحال في الأقاليم المذكورة.

تكلمت كثيرًا عن احتمال تقلص ظل الإمبراطورية المهدية وتلاشي نفوذها، في الوقت الذي تتقدم فيه دولة متمدينة إلى قلب السودان. ولكني بخبرتي الواسعة في السنين التي قضيتها في قلب النفوذ الدرويشي، أتقدم بمحض الإخلاص بكلمة تحذير إلى الأمة التي قضيت السنين الطوال في الإشادة بذكرها وطلب التقدم المستمر لها؛ وبمعنى آخر أريد التقدم بالنصيحة إلى الأمة التي دعوت لها بحياة ناهضة سعيدة إزاء تجديد عهد السودان المصري.

إني أذكر لها في إيجاز كليٍّ أن المد والجزر لن ينتظرا إنسانًا كما أنهما في بعض الأحيان لن يتركا فرصة البقاء لإنسان.

أريد في ختام مؤلفي أن أكون أكثر صراحة، فأقول إن مصر التي تطلعت وتتطلع إلى استرداد ما فقدته في السودان من يدي الخليفة، قد تقف في سبيلها أمة أخرى لا تكتفي باستخلاص المناطق من يدي الخليفة، بل تعمد إلى عرقلة المساعي المصرية وإلى إدخال وسائل الري الهندسية في الجهات التي تستمد منها مصر حياتها المائية، وفي ذلك خطر جسيم على مصر؛ لأن الدولة الجديدة صاحبة الوسائل الهندسية ستنظر إلى خيرها أولًا فتهدد مصر تهديدًا ظاهرًا؛ وإذن — وهذا أخف الضررين وأهون الشرين — ستحرم الدولة الجديدة صاحبة الحق القديم من خيرات التجارة الواسعة التي كانت — تحت إدارة طيبة في السودان — مصدر ثراء ونهوض للقطر المصري صاحب الحق الشرعي، ولكل أقاليم النيل المنضوية تحت لواء مصر.

بهذه الكلمات القليلة الصادرة عن إخلاص شديد نحو الأمة التي عدت إليها بعد اثني عشر عامًا من سني الأسر الشديدة على النفس؛ أتقدم في ختام مؤلفي إلى مصر. ولكني قبل الختام أشير إلى حادثة واحدة قد تساعد على رد ما فقدته مصر من حيث الأمل في الاسترداد، عندما أجبرت في شهر ديسمبر عام ١٨٨٣ على الخضوع والتسليم لرجال المهدي، كنت معتزًّا بسيف نفيس من سيوف الوطن النمساوي، وقد حفرت عليه بحروف عربية اسمي كاملًا غير منقوص في تفاصيله، ولكني حرمت مع الأسف حق حمل ذلك السيف، وبالتالي وقع بين أيدي رجال المهدي، وبطبيعة الحال لم أفكر لحظة واحدة في استرداد ذلك السيف العزيز. ولكني عندما ذهبت إلى لندن في شهر أغسطس عام ١٨٩٥ لحضور المؤتمر الجغرافي، تسلمت هذا السيف بواسطة المستر جون كوك، أحد رؤساء شركة كوك، وكان ذلك في مكتبه في لدجسيت سركس. وقد ظهر لي أن المستر جون كوك اشترى ذلك السيف من وطنيٍّ في الأقصر عام ١٨٩٠، عندما كان مارًّا بباخرته في شاطئ النيل عند أسوان، فقد شغف المستر جون باقتناء السيف لوجود الاسم العربي المحفور عليه، وبعد قليل من شرائه تمكن بواسطة صديقي الماجور ونجت من الوقوف على صاحب الاسم المحفور، وهو بطبيعة الحال اسمي.

ويخيل لي أن المهدي قدم سيفي هدية لأحد أتباعه الذين اشتركوا في الغارة على مصر تحت قيادة النجومي في عام ١٨٨٩، وأنه عندما تغلب الجنرال سرفرنسيس جرنفيل على النجومي في توسكي وقع حامل سلاحي بين المقتولين أو الأسرى، وبعد ذلك أخذ أحد أفراد توسكي ذلك السلاح، ثم سار به إلى مصر ووجد بحكم الصدفة في الأقصر أثناء مرور المستر جون كوك الذي تمكن من ابتياعه كأثر عربي.

إن فقد السلاح في مجاهل دارفور ثم الحصول عليه في قلب لندن أمرٌ مدهش جدًّا، وهو فوق المصادفات العادية؛ وإذن لا قنوط ولا يأس؛ فقد ترجع الأقاليم التي فقدت إلى يدي صاحبها القديم رجوعًا لم يكن يخطر على بال.

عشت في خلال الأعوام الستة عشر الأخيرة عيشة مدهشة لا يكاد يتصورها العقل، وقد سعيت جهدي في أثنائها إلى الحصول على اختبارات واسعة من أبسط عيشة في أيامي العادية البعيدة عن مظاهر لها كلفة.

شرحت لقرائي في الفصول السابقة كل ما حدث لي على أبسط صورة، ولست أرمي من وراء ذلك إلى توليد الاهتمام والشعور بالخطر في قلوب المهتمين بالأسارى الأوروبيين في السودان فحسب، ولكني قصدت أكثر من ذلك أن تكون لتفاصيلي أهمية كبرى عندما يجدُّ وقت العمل، وعندما يبحث العاملون بحثًا جديًّا في خلاص المغلوبين على أمرهم، وعندما يسمح الله باستخدام معلوماتي ومجهوداتي في سبيل إبادة الظلم الدرويشي، وإزالة حكم سيدي الجائر وعدوي عبد الله، الذي سيظل ألد أعدائي طول الحياة التي أحياها في الدنيا.

بعد أن يزول ذلك العهد الجائر، أدعو إلى تأسيس الحكومة العادلة التي تمنيت كثيرًا ظهورها في السودان، فبذلك يزول الظلم ويحل العدل والهدوء في إقليم كبير محتاج إلى المدنية الهادئة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤