الفصل الثاني

إقامتي في دارفور وتاريخها السابق

غادرنا الأبيض أنا والدكتور زربوخين المفتش الصحي الذي كنت قد قابلته في القاهرة، وكانت مغادرتنا للأبيض في يوليو سنة ١٨٧٩، فأخذنا طريقنا إلى الفوجة آخر محطة تلغرافية، وهنا تسلمت رسالة تلغرافية من غوردون يقول لي فيها إنه مسافر إلى الحبشة في مهمة مع الملك يوحنا.

ولما بلغنا أم شنجة وجدناها مزدحمة بالجلابة الذين طُردوا من الجنوب، وكانت حالتهم تبعث على الشفقة، ومن الغريب أنه شاعت عني إشاعة مقتضاها أن غوردون خالي؛ ولعل سبب ذلك زرقة عيني وأني كنت حليقًا، وكان الجلابة ينظرون إليَّ بعين الخوف لهذا السبب، وكانوا يعدون غوردون أصل بلائهم الحاضر، وأخذوا يغمرونني بالعرائض لمعاونتهم، فأخبرتهم بأن أم شنجة ليست داخلة ضمن نطاق أعمالي؛ ولذلك لا يمكنني مساعدتهم، وقلت أيضًا إنه لو كان في مقدوري مساعدتهم من مالي الخاص لما فعلت.

وقد خالفت هذه القاعدة في حالة واحدة، ولكن قبل أن أقص هذه الحادثة يجب أن أقول إنه لا ينبغي الحكم على عملي من وجهة الآداب المسيحية فقط، بل أنا أقرُّ بأني خرجت عن حدود الشريعة الإسلامية، ولكن عندما يقرأ القارئ القصة بأجمعها سيوافقني على جميع ما عملته، ويشترك معي في العواطف التي بعثتني على هذا العمل.

فقد زارني في أحد الأيام طائفة من التجار، وطلبوا مني أن أتوسط في مسألة شاب عمره ١٩ سنة وأصله من الخرطوم، وقصوا عليَّ أن هذا الشاب قبل مغادرته الخرطوم كان قد خطب ابنة عمٍّ له جميلة ولكنها فقيرة، وتواعدا على الزواج بعد أن يسافر الشاب في تجارة ويجمع بعض المال، فلما وصل إلى أم شنجة عرف عجوزًا غنية افتتنت به أشد الافتتان، ولم يخبرني هؤلاء التجار عن الشاب هل هو طمع في أموالها أو لا، ولكن المسألة انتهت بأن تزوجته هذه العجوز، ووجد هو نفسه أنه أصبح ثريًّا فلم يكن له رغبة في الرجوع إلى الخرطوم وتطليق امرأته، وبلغت أخباره ابنة عمه في الخرطوم فاستولى عليها ذهول، وطلب إليَّ أن أحلَّ هذه المسألة، فماذا أفعل؟

فاستدعيت الشاب وكان جميلًا وجماله فوق المألوف، فتنحيت به في ناحية وأخذت أكلمه بكل جدٍّ ووقار، وأظهرت له سوء عمله في التزوج بعجوز أجنبية عنه، وكيف أن خطيبته تبكي حتى كاد يذهب بصرها، وهي وإن كانت فقيرة ولكنه يجب شرفًا أن يرعى مودتها ووعده لها، فتردد مدة طويلة ولكنه أخيرًا رضي بأن يذهب إلى القاضي ويطلق هذه العجوز، وكنت قد استدعيت القاضي وأخبرته أنه إذا طلق الشاب زوجته يجب عليه أن يخبر المرأة بهذا الطلاق بكل رفقٍ ولطفٍ؛ لأني لا أرغب في ضوضاء، واستوثقت من أقارب الشاب بأنه بعد طلاقه يجب أن يسافر إلى الخرطوم، ثم أوصيت موظف الحكومة في أم شنجة بأن ينفي هذا الشاب بعد يومين من طلاقه ويأمر بعدم بقائه في البلدة بعد هذين اليومين، وأوعزت له بأن يقول ما شاء أمام العجوز ويلقي عليَّ تبعة الخلاف، بشرط أن يجتهد في أن تعطي الشاب مبلغًا من المال يقوم بحاجته مدة سفره إلى الخرطوم، ولم أكن أتصور وأنا أعمل هذا العمل الزوبعةَ الهائلة التي أثرتها على رأسي؛ ففي الساعة الرابعة بعد الظهر وأنا منسطح على العنجريب في عشتي، سمعت صوت امرأة غاضبة ترغب في أن تراني، فحدست من تكون هذه المرأة واستعددت للقائها وأمرت بدخولها، وما هو أن صارت في العشة حتى رأت الدكتور زربوخين الذي كان معي وقتئذ، فصاحت فيه وهي هائجة مجنونة: «لن أقبل الطلاق، هو زوجي وأنا زوجته، تَزوجني على أصول الشريعة وأنا أرفض الطلاق.»

فدهش الدكتور زربوخين وتمتم كلمات مكسورة باللغة العربية وأخبرها بأنه لا يعرف شيئًا عن هذه المسألة، وأن التبعة تقع عليَّ أنا وحدي، ولم أتمالك من النظر والتأمل في هذه المرأة الغريبة؛ فقد كانت ضخمة قوية عنيدة، وكانت من الغضب بحيث لم تراعِ أدب اللياقة الذي تراعيه الشرقيات في مخاطبة الرجال؛ فقد انفتل برقعها لشدة هياجها، وبدا رأسها مغطى بمنديل حريريٍّ عديد الألوان وقع بعضه على كتفيها، وكان وجهها يضرب إلى الصفرة وقد كسته الأسارير، وفي كلٍّ من خديها ثلاثة خطوط من الوشم، بين الواحد والآخر نحو نصف بوصة، وكان معلقًا بأنفها قطعة من المرجان الأحمر، ويتدلى من أذنيها قرطان كبيران من الذهب، أما شعرها فكان حلقات صغيرة عديدة قد شمطت لتقدمها في السن، وظننت وأنا أنظر إليها أني لم أرَ قط امرأة أكثر دمامة منها، وأنا في هذه التأملات وإذا بنعيبها الذي تحول إليَّ تسألني السؤال نفسه الذي سألته للدكتور المرعوب، فتركتها حتى هدأت قليلًا ثم قلت: «إني أدرك تمامًا ما تقولين، ولكن لا بد من الخضوع لما لا مفر منه؛ فإن زوجك سيتركك وأنت لا يمكنك أن تتركي البلدة معه، وتقولين إنك لا ترغبين في الطلاق، ولكن تذكري أن الشريعة تحل للرجل الطلاق.»

فصاحت بي: «لو لم تتوسط لما طلقني، لعنة الله على يوم جئتنا فيه.»

فقلت: «أرجوك أن لا تقولي ذلك، فأنت امرأة غنية وأظن أنك لن تجدي صعوبة في الحصول على زوج أكبر سنًّا من زوجك الذي طلقك.»

فصرخت: «لا أريد أحدًا غيره.»

فقلت بحدة: «اسكتي، أقارِب زوجك السابق يريدون أن يتركك ويسافر، وقالوا إنه لا يربطه بك إلا أموالك، والآن مهما قلت فإنه سيغادرك غدًا، ألست تخجلين من التزوج بشابٍّ صغير قد كان يمكن أن يكون أحد أحفادك وأنت عجوز؟!»

فجنت جنونها عندما فُهتُ بهذه العبارة ولم تستطع ضبط نفسها، فمزقت برقعها ورفعت يديها، لا أدري ماذا كانت تريد أن تفعله لو لم يدخل القواص ويجليها عن الغرفة بالقوة وهو يحذرها من الفضيحة التي تجلبها على نفسها بأعمالها هذه، وفي اليوم التالي سافر الزوج وهي في غمٍّ شديد.

وبعد سنوات لقيت هذا الزوج وكان قد تزوج ابنة عمه، فشكر لي صنيعي وتخليصي له من مخالب تلك العجوز، وكان في ذلك الوقت أبًا سعيدًا له أولاد عدة، وليس لي حاجة بأن أقول بأني نمت تلك الليلة مرتاحًا لهذا الصنيع الذي لم يكلفني شيئًا.

وبعد ذلك بيومين برحنا أم شنجة وبتنا في جبل الحلة، فاستقبلنا هناك حسن بك أم كادوك شيخ قبيلة برني، وكان على ولاء كبير للحكومة، وقد منحه غوردون رتبة بك، وكان رجلًا كهلًا سمينًا جدًّا عريض المنكبين ووجهه مستدير دائم الابتسام، وقد يمكن أن نسميه «فولسطاف السودان»؛ جريًا على شكسبير الذي سمى أكبر شخص مضحك في دراماته «فولسطاف»؛ فإننا بعد سنوات عندما انقلبت الأحوال وصار السادة عبيدًا، صرنا أنا وهو ياورين عند الخليفة، وكان مزاجه البهيج هذا كثيرًا ما يخفف عنا أعباء حياتنا التي كنا لا نتحملها أحيانًا. وكان أخوه إسماعيل، على النقيض منه، رجلًا طويلًا نحيفًا يميل إلى الجد، ولم يكن يتفق هذان الأخوان في شيء إلا في مسألة واحدة؛ هي حب المريسة — الجعة السودانية — والتهالك على شربها، وكان لكل منهما إناء يدعي أنه بلبل توضع فيه هذه المريسة فيتسابقان أيهما يفرغ إناءه قبل الآخر.

وقد دعوانا إلى العشاء معهما وشُوي لنا خروف كامل على فحم الخشب، يصحبه عدة من الدجاج المشوي، وطبق من العصيدة التي تؤكل في كل وجبة في السودان. وكان أيضًا على المائدة عدة آنية من المريسة، وقد طاب لنا الطعام فأكلنا، وتركنا المريسة لهما وشربنا نحن شيئًا مما عندنا من النبيذ الأحمر، وقد شرب حسن وإسماعيل كلاهما من النبيذ والمريسة ما شاءا، وكان أثر الخمر في الأول عندما صدمته حمياها أن جعلته يتدفق في الحديث، أما الثاني فقد انعقد لسانه وصمت! وكان حسن يروي لنا بعض ما يعرفه عن غوردون، وقد اكتأب وحزن عندما عرف بسفره للحبشة.

وقال لي بلهجة الحزن: «قد لا يرجع غوردون من الحبشة، وقد يسافر إلى بلاده فلا نراه ثانيًا.» ومن الغريب أن قولته هذه كان فيها شيء من الصحة، ثم ترك الغرفة وعاد بعد برهة ومعه سرج وسيف وهو يقول: «انظر، هذا هو آخر ما أعطانيه غوردون لمَّا رافقته إلى الفاشر، ما أكرمه وأرأفه!» وعرض علينا إسماعيل سترة مطرزة بالذهب أهداها إليه غوردون، وقال حسن: «كان غوردون لا يعرف الكبر؛ في أحد الأيام ونحن في الطريق إلى الفاشر صاد أحد الخدم طائرًا، فلما حططنا رحالنا في الظهر وضع الطباخ قليلًا من الماء على النار، حتى إذا غلى غمس فيه الطائر لكي ينزع ريشه، ورآه غوردون يفعل ذلك فذهب إليه وأخذ يساعده في نزع الريش، فاندفعت أنا إليه ورجوته أن يكف عن ذلك وأنا أقوم بدلًا منه بهذا العمل، ولكنه قال لي: «وهل تظنني أخجل من العمل؟ إني قادر على أن أخدم نفسي، ولست في حاجة لأن يقوم بخدمتي رجل حائز لرتبة بك مثلك».»

ولم يكفَّ حسن عن مسامرتنا حتى ساعة متأخرة من الليل، وقد حكى لنا عن تجاريبه لما فتح الزبير دارفور، ثم ما تلا ذلك من الثورة إلى حالتها الحاضرة، وكان كثيرًا ما يعود إلى ذكر غوردون، ومما قاله: «كنت مرة مسافرًا مع غوردون فمرضت وجاء غوردون يعودني في خيمتي، وبينما هو يحدثني قلت له إني كنت منغمسًا في الشراب، وإن وعكتي الحاضرة لم تحدث لي إلا لانقطاعي عنه منذ أيام، وكان قولي هذا هو الصيغة الغير المباشرة التي أردت منها أن يعطيني غوردون شيئًا من الشراب، ولكن ساء فألي؛ فإن غوردون وبخني وعنفني وقال لي: «أنت مسلم وديانتك تحرم تناول الخمر، إني في غاية الدهشة، أقلعْ عن هذه العادة فكلٌّ منا يجب أن يطيع أوامر دينه.» فقلت له: «لقد اعتدت الشرب طول حياتي، فإذا انقطعت عنه الآن فإني أمرض، ولكني سأعتدل في المستقبل.» فبانت أمارات الرضى على وجه غوردون وهزَّ يدي مسلمًا وودعني وخرج، وفي صباح اليوم التالي أرسل لي ثلاث زجاجات من الكونياك وأوصاني بالاعتدال في شربه.»

وكان أخو حسن صامتًا لا ينبس بكلمة، وكان مرتفقًا يملأ كوبًا وراء آخر من المريسة ويشربه بجدٍّ ووقار ونظام كأنه نظام بساعة، ولما انتهى من الشراب وقف في روية وتؤدة ومسح شاربيه وقال بلهجة الحزن: «نعم، نعم، الكونياك شراب طيب، وهو ليس خمرًا بل دواء، وغوردون رجل عظيم بارٌّ ولن نراه ثانيًا.»

وذهبنا إلى الفراش في ساعة متأخرة وأمرنا قبل نومنا أن تُعد الدواب للقيام في الفجر، فلم نَنَمْ إلا وقتًا قصيرًا. ولما استيقظنا وأردنا الركوب أنا والدكتور زربوخين، نظرنا حوالينا نبحث عن أهل البيت لكي نودعهم قبل سيرنا، ونحن في ذلك وإذا بإسماعيل يعدو إلينا ورأسه يميل من أثر الشراب السابق، وقال لنا: «أيها السادة إننا سمعنا على الدوام بأن في بلادكم عدلًا، وأنا واثق بأن الضيف هناك لا يسيء إلى رب البيت، وأمس عندما أمرتم الدواب التي تحمل أمتعتكم بالسفر سرق رجالكم السجادة التي وضعتها لكم لتقعدوا عليها.»

فبحثت وتأكدت بأن أحد رجالي قد سرق هذه السجادة الثمينة، وأرسلت وراء الجمال قواصًا لكي يدرك هذا اللص ويحضره، وقعدت أنتظر، وبعد مدة جاء القواص ومعه السجادة ووراءه عسكريٌّ زنجيٌّ من الحرس الثمانية الذين كانوا في صحبتا، ولما استجوبنا هذا العسكري قال إنه حملها خطأً، ولكني لتأكدي من جريمته أمرت بجلده وإرساله سجينًا إلى أم شنجة، وقد تعكر مزاجي لهذه الحادثة؛ لأني كنت أعرف أن الناس هنا يحكمون على الأسياد بما يرون من الخدم، وكنت واثقًا بأني إذا لم أعاقب هذا الخائن، فإن مثل هذه السرقات ستكرر في المستقبل.

واعتذرنا إلى حسن وأخيه، ثم شرعنا في السفر إلى الفاشر التي بلغناها بعد خمسة أيام، ومررنا في طريقنا على بروش وأرجود.

وقد كانت الفاشر طول مدة القرن الماضي عاصمة دارفور، وهي مبنية على قارتين أو رابيتين واحدة في الشمال وأخرى في الجنوب، يفصلهما وادٍ عرضه نحو ٤٠٠ ياردة يُدعى وادي تندلتي، وفي الغرب قلعة على تل حولها حائط من الطوب النيِّئ عرضه ثلاثة أقدام، وحول الحائط خندق عمقه ١٥ قدمًا، وكان في الأركان أربعة أبراج وبها مدافع تطلق قنابلها من فتحات صغيرة.

وكان هذا الحائط يحتوي على مباني الحكومة ومساكن الضباط وثكنة الجنود، وكان الخيالة غير النظاميين يسكنون خارجًا، وكان سكان القلعة يستقون الماء من آبار في الوادي تبعد عنهم بنحو خمسين ياردة.

وكان مسدجاليه بك، وهو رجل إيطاليٌّ، حاكمًا على الفاشر، وقد تلقانا بالبِشر وخصص لنا أمكنة في مباني الحكومة، وكنا قد أُصبنا بحمى من مسيرنا في الأمطار، فقرَّ رأينا على أن نرتاح بضعة أيام.

وبعد أن استرحنا استأنفنا السفر أنا والدكتور زربوخين إلى دارة، ورافقنا على سبيل التشييع مسدجاليه بك، وأخبرنا أن زوجته ستحضر إلى الخرطوم، وأنه قد طلب إجازة لكي يسافر ويستقبلها فيها ثم يحضر وإياها إلى الفاشر، فاقترحت عليه أن ينتظر حتى تنتهي مسألة السلطان هارون ثم يحضر وزوجته بعد ذلك، ولكنه أجابني بأنه ليس هناك أقل خوفٍ، وأن في البلاد جيوشًا كافية لقمع أي حركة، ولكني كنت سمعت بأن نفوذ هارون عظيم، وأن هناك خوفًا على جنود الحكومة من ضغطه عليهم. ولما كنت حديث العهد بالمجيء إلى السودان وقليل الخبرة بأحواله، لم أقدر على أن أعطي رأيًا باتًّا في الموضوع، فودَّعته هو وسعيد بك جمعة الحكمدار وسرنا إلى دارة عن طريق كريوت ورأس الفيل وشعيرية.

وكان لزربوخين هيئة تدل على أنه أكبر مني سنًّا، وكانت له لحية طويلة سوداء، وكان يضع على عينيه نظارة سوداء. أما أنا فكانت هيئتي تدل على أني أقل عمرًا من الحقيقة؛ فلم يكن شاربي قد نبت إلا قليلًا، وكانت لي سحنة الصبيان، فكنا لا نسير في أي مكان حتى يظنه الناس أنه هو الحاكم والطبيب أو الصيدلي، ولما قاربنا غاية سفرنا كان الدكتور زربوخين مريضًا بالحمى؛ ولذلك تأخر بدابته عني ومشى وئيدًا حتى وصلت إلى شعيرية قبله، وشعيرية هذه على سفر يوم من دارة، وكان أهل القرية يستعدون لاستقبالنا، فكنسوا المنازل ووضعوا الحصير، ووضع القاضي والشيخ سجادًا لكي يستريح الحاكم القادم، وبرك جملي ونزلت عنه، ولما سألوني عن شخصي قلت إنني أحد حرس الحاكم، وأخبرت من معي من الحرس بألا يقولوا شيئًا، وأخذ القرويون يسألونني عن الحاكم الجديد، فقلت لهم: «أظنه سيجتهد بأن يعمل ما في جهده وأنه يميل للعدل والتسامح.»

فقال واحد منهم: «ولكن هل هو شجاع طيب القلب؟» وكان هذا السؤال تصعب الإجابة عليه، فقلت: «يبدو عليه كأنه لا يخاف، ولكني لم أسمع شيئًا عن شجاعته، وله هيئة الرجال، وأظن أنه طيب القلب، ولكنه بطبيعة الحال لا يمكنه أن يرضي كل أحد.»

فقال آخر: «لو كان لنا حاكم مثل غوردون باشا لرضي كل واحد، وأمنت البلاد بأنه لم يتوقف قط عن الإنعام على الناس وإلطافهم، وما جاءه فقير قط وعاد خائبًا، ولم أسمعه يتكلم بقسوة إلا مرة واحدة؛ وذلك حين كان سليمان زبير في دارة؛ فإنه التفت إلى القاضي وقال إن بين السودانيين من لا يستحق أن يعامل بالرأفة به، فقال القاضي: «أجل سمعته يقول ذلك، ولكنه كان يشير بقوله هذا إلى الجلابة وتجار النيل، الذين كانوا يشتركون مع الزبير وابنه في جميع التجارات غير الشرعية التي كانوا يتكسبون منها».»

وقال شيخ القرية واسمه مسلم ولد كباشي: «غوردون بطل؛ فقد كنت أنا أشتغل معه في القتال مع عرب ميمة والخوابير في سهل فافة في يوم شديد الحر، وتقدم العدو وأجلانا عن الخط الأول، وكانت الحراب تقع علينا كثيفة من كل جانب، ورأيت حربة تقع على قيد شعرة من غوردون فما بالى، ولم ننل النصر إلا لثباته هو واحتياطيه المؤلف من مائة رجل، ولما كانت المعمعة على أشدها أخرج سجارة وأشعلها، إني مارأيت شيئًا قط في حياتي مثل هذا. وفي اليوم التالي عندما شرع في توزيع الغنائم لم يغب عن ذهنه أحد، ولم يحفظ لنفسه شيئًا، وكان رفيقًا بالنساء والأطفال، ولم يأذن بسبيهم كما هي عادتنا في الحرب، بل كان يطعمهم ويكسوهم على نفقته، أو كان يردهم إلى منازلهم عند انتهاء الحرب. وفي أحد الأيام سبينا عدة نساء بدون علمه وحجزناهن، ولو علم بفعلتنا لرأينا منه الويل.»

وبعد سكوت سألت عن الأحوال في دارة وصفات الموظفين؛ لأني كنت سمعت أنهم لا يوثق بهم، وأنهم لا ينظرون بعين الرضا إلى مجيئي.

وهنا وصل الدكتور زربوخين وسائر القافلة، فوقف الشيخ والقاضي وأعيان القرية في نصف دائرة لاستقباله، أما أنا فقد تنحيت جانبًا واختفيت، وأخذت أنصت لما يقول مسلم ولد كباشي الذي بدأ يحيي الوالي الجديد ويصف له فرحه بقدومه، وكان زربوخين لا يعرف من العربية إلا القليل، فارتبك أشد الارتباك لهذه التحية وقال لهم: «الحقيقة إنني لست الحاكم، أنا مفتش الصحة، ولا بد أن الحاكم قد وصل قبلي، ولكن بالنسبة لأن الرجال الذين معه قليلون ربما لم يحسبه أحد لذلك أنه هو الحاكم.» فتقدمت أنا عندئذ وشكرت للقرويين، وأنا أضحك، لطفَهم وحسن استقبالهم، وأكدت لهم بأني سأعمل جهدي لكي أرضيهم، وأني منتظر منهم أن يعاونوني على إنفاذ الأوامر، وأخذوا بالطبع يعتذرون إليَّ عن خطئهم، ولكني وضحت لهم أنه ليس هناك ما يدعو إلى هذا الاعتذار، وقلت لهم إني أرغب في أن تكون علاقتي بهم متينة حميمة، وإني أرجو أن تكون هذه رغبتهم أيضًا، ومن هذا الوقت صار مسلم ولد كباشي من أعز أصدقائي، وبقي كذلك في أوقات الفرح والحزن على السواء حتى برحت البلاد.

وقد هاجت هذه الحادثة الصغيرة شهوتنا للطعام، وقعدنا وتناولنا طعامًا فاخرًا من الضأن المشوي، ولما انتهينا امتطينا الدواب واسترحنا في الليل تحت شجرة على مسير ساعتين من دارة، وعند شروق الشمس أرسلت رسولًا لكي يخبر بقدومنا، ولما صرنا في أرباض المدينة خرجت الحامية واصطفت واستقبلتنا استقبالًا عسكريًّا وأطلقت سبع قنابل إكرامًا لنا، وكان معها حسن حلمي الحكمدار وزوجال بك نائب الحاكم والقاضي وبعض أعيان التجار، وذهبنا جميعًا إلى القلعة حيث دار الحكومة، وقضينا نصف ساعة في التفتيش، ثم ذهبت إلى مسكني وأمرت بتهيئة بعض الغرف للدكتور زربوخين في مسكني؛ لأني أردت أن ينزل عندي ضيفًا بضعة أيام.

وما كدنا ننتهي من العشاء حتى سمعت ضوضاء بين الخدم الذين كانوا يدافعون رجلين من الدخول إلينا، وكان هذان الرجلان رسولين يحملان خطابًا من أحمد قاطنج وجبر الله؛ وهما الرئيسان للحامية غير النظامية في بير جوى، وهي على مسيرة ثلاثة أيام في الجنوب الغربي من دارة، وقد قالا في الخطاب إنهما علما أن السلطان هارون سيغير عليهما، وأنهما بالنسبة لقلة عدد الحامية قد قررا إخلاء مكانهما ما لم تأتهم أمداد من الحكومة، وقالا أيضًا إنهما إذا تركا مركزهما فإن جميع القرى ستُنهب.

ولم يكن ثم متسع من الوقت لتأجيل، فأمرت حسن أفندي رفقي بأن يعد مائتي جنديٍّ نظاميٍّ وعشرين فارسًا للقيام في الحال معي إلى جوى.

وما انتصف الليل حتى كان قد أعد كل شيء، وودعت الدكتور زربوخين وقلت له إني أؤمل أن أراه بعد أربعة أيام أو خمسة، وخرجت متوجهًا نحو الجنوب الغربي، وكنت شابًّا قويًّا في اشتياق إلى الحرب، وإني أذكر الآن مقدار فرحي الشديد للقاء السلطان هارون ومناجزته، ولم يخطر ببالي شيء عن المشاق، وإنما كل ما كنت مشتاقًا إليه أني كنت أرغب في أن أبين لجنودي أني قادر على قيادتهم، وفي الصباح حططنا رحالنا، وكان جميع الجنود زنوجًا حتى ضباطهم، أما الجنود الراكبة فكانوا من الأتراك والمصريين، وخطبتهم جميعًا وقلت لهم إني الآن غريب عنهم، ولكن عليهم أن يعرفوا أني مستعدٌّ لأن أشاركهم مشاقهم في كل وقت، وإني أرجو أن يكونوا ممتلئين حماسة وأن نسرع للقاء العدو، وكانت خطبتي بسيطة ولكن كان لها وقع في نفوس الجند، وعندما انتهيت منها رفعوا أسلحتهم في الهواء فوق رءوسهم على الطريقة السودانية، وصاحوا بأنهم لن ينثنوا عن الظفر أو الموت.

وفي الظهر حططنا قرب قرية فأخذت أراقب رجالي وأفحصهم، وكانوا كلهم على أهبة ومعهم ذخيرة كافية، وكان مع كل جنديٍّ زمزمية من جلد المعز أو الغزال، واسمها سن — وجمعها سنين — ولكن لم يكن معهم طعام، ولما سألت عن سبب ذلك قيل لي: «أينما ذهبت في دارفور تجد الطعام.» فذهبت إلى شيخ القرية وطلبت منه تقديم كمية من الدخن، وكانوا ينقعون الدخن في الماء ثم يعصرونه ويمزجونه بالتمر الهندي ثم يأكلونه، أما العصارة فكانوا يشربونها وكانت لمزازتها تطفئ الظمأ، والغالب أن الأوروبيين لا يستطيعون هضم هذا الطعام ولكنه مغذٍّ جدًّا، والجنود السودانيون لا يأكلون تقريبًا شيئًا غيره وهم سائرون إلى القتال، وقد اعتدت تناوله بالتدريج، ولكني وجدت أنه إذا لم يكن الإنسان في صحة تامة فإنه يعقبه سوء هضم شديد، وأحضر لنا شيخ القرية الدخن ومعه عصيدة وزِّعت على الرجال، وبينما هم يأكلون دعوت الضباط لأن يأخذوا شطرًا من اللحم المحفوظ بالعلب الذي كان معي، فأخذوه واستطابوه قائلين إنه أفضل من الدخن والعصيدة. وبعد ذلك طلبت من الكاتب أن يكتب لشيخ القرية صكًّا بمقدار ما تسلمناه منه من الدخن لكي يحط ثمنه من مقدار ما يدفعه لجابي الضرائب، ولكن هذا الرجل رفض قائلًا إن إطعام الجنود ليس فقط من واجباته بل إن أصول الضيافة والكرم تقتضيه، فقلت له إني أعرف أن أهالي دارفور أسخياء ولكني أجد أن طعام ٢٠٠ نفس يعدو حدود السخاء، وإنه لذلك يجب عليه أن يتسلم ثمن طعامه، فرضي أخيرًا واطمأن إلى حديثي، وقال إنه لو سار الجنود على هذا المبدأ لسُرَّ السكان، ولكن لسوء الحظ قد اعتاد الجنود اقتحام المنازل وأخْذ ما فيها؛ حتى إن الأهالي صاروا يخشونهم، وعندما ينزلون قراهم يجتهدون في إخفاء ما عندهم، فشكرت للشيخ قوله هذا ووعدته بأني سأصلح هذه الحالة.

وعند غروب الشمس وصلنا إلى بير جوى وكان بها حامية غير نظامية عددها ١٢٠ رجلًا يقودهم أحمد قاطنج وجبر الله، وقد أخبراني بأنهما بعثا جواسيسهما لكي يعرفوا حركات السلطان هرون، وأنهما لا يظنان أنه قد نزل بعد من جبل مرة إلى الوادي، وكنت في غاية الإعياء وقد تملكني النعاس فذهبت إلى فراشي لأنام، ولكن اطراد قرع الطبول إكرامًا لي وضربان رأسي منعاني من النوم، وفي الصباح شعرت أني مريض، ولما جاءني أحمد ورأى ما أنا فيه قال لي: «يمكننا معالجة هذا بأيسر سبيل، عندي رجل يقف ضربان الرأس في الحال، وهو أفضل من الدكتور الذي في دارة والحقيقة أنه ليس في دارة دكتور وإنما هو صيدليٌّ يقال له دكتور على سبيل التأدب والتجمل.»

فقلت: «ولكن كيف يمكنه أن يعالجني؟»

فقال: «هذا شيء بسيط، يضع يديه على رأسك ثم يقول شيئًا فتبرأ، بل تعود أحسن مما كنت قبل أن تمرض!»

فقلت: «إذن ادعُه الآن.»

وكنت شابًّا وجاهلًا في تلك الأيام، وخطر ببالي أن أحد هؤلاء العرب ربما قد زار أوروبا وعرف شيئًا عن العلاج المغنطيسي، وأنه قد أرصد حياته لفائدة الناس وشفائهم، وإني أعترف بأني شعرت بشيء من القلق لما قاله أحمد لي، وبعد دقائق قليلة أدخل أحمد إلى غرفتي رجلًا طويلًا أسود له لحية بيضاء، يظهر عليه أنه من سكان بورنو، وقال لي: «هذا هو الطبيب الذي سيشفيك من ضربات الرأس.»

ولم يتردد الطبيب لحظة بل وضع يده على رأسي وضغط صدغي بإبهامه وسبابته، ثم تمتم جملة كلمات لم أفهمها وبصق في وجهي! فهببت واقفًا لهذه الفظاعة وضربته ضربة ألقته على الأرض، وكان أحمد واقفًا بجانبي متكئًا على عكازته، فرجاني ألا أنظر للمسألة هذه النظرة، وقال لي: «ليس بصقه قلة أدب، بل هو جزء من العلاج وستستفيد منه.» ولكن الطبيب المسكين الذي زايلته ثقته بنفسه وقف بعيدًا عني وقال: «وجع الرأس من الشيطان ويلزمني أن أطرده، وفي القرآن آيات تدل على إمكان طرده بالنفث، وبذلك يقف عمله السيئ في رأسك.»

ولم أتمالك من الضحك على الرغم من مضايقتي وقلت: «وأنا إذن عليَّ عفريت! وعلى كل حال أرجو أن يكون عفريتًا صغيرًا، وأن تكون قد نجحت في طرده.» ولم أسمح له بإعادة الرقية وأعطيته ريالًا وأمرته بالخروج، فخرج وهو يدعو لرأسي بالشفاء، ولكن بقي — على الرغم من هذا الدعاء — يؤلمني.

ولم تأتني إلى هذا الوقت أخبار عن هرون، فبقيت طول اليوم في فراشي، وزارني صديقاي قاطنج وجبر الله عدة مرات، وقد عرض عليَّ أولهما جواده فرفضت قبوله، أما الثاني فقد عرض عليَّ إحدى خدمه وقال لي: «إنها صغيرة جميلة وقد تربت تربية حسنة في منزلي، وهي تعرف الطبخ وأعمال البيت وتفهم في الأمراض.» فرفضت أيضًا قبولها، وتركني جبر الله وهو مكسور الخاطر لأني لم أقبل هديته، ولكني كنت مضطرًا إلى هذا الرفض؛ لأني بعد أن جربت رقية الطبيب لم أكن شديد الرغبة في أن أسلم نفسي لمراحم آنسة سودانية، مهما كانت براعتها!

وفي صباح اليوم التالي استيقظت وقد عادت إليَّ عافيتي، ولما لقيني أحمد وأخبرته بأني تعافيت قال لي فورًا: «أنا كنت متحققًا من أنك ستُشفى؛ لأن عيسى — الطبيب — لم يضع يده على أحد إلا شفاه.»

ومضى يوم آخر بدون أن يأتينا خبر عن هارون. وفي اليوم التالي رجع إلينا حوالي الظهر أحد رسل جبر الله، وقال لنا إن هارون قد جمع رجاله ولكنه لم ينزل بعد من التلال التي اتخذها مقرًّا له وقت الصيف، وفي اليوم الرابع — من وصولنا لبير جوى — جاءنا رسول آخر وقال إن هارون لما بلغه أني تركت دارة وجئت إلى بيرجوى لمقاتلته، سرح رجاله الذين ذهبوا إلى جبل مرة.

فلما سقط في يدي وذهب أملي في القتال عدت إلى دارة، وكان الدكتور زربوخين قد برحها وترك لي خطابًا يقول لي فيه إنه يرجو لي النجاح، ووجدت أيضًا الكاتب الذي صحبني منذ أن كنت مفتشًا ماليًّا وجاء معي إلى دارة؛ قد جنَّ مدة غيابه ووضعوه في منزل بجوار منزلي، فلما ذهبت إليه لكي أراه وقف وعانقني وهو يصيح: «الحمد لله، لم يفعل السلطان هارون شيئًا لك، زوجال بك رجل خائن احترس منه، لقد أمرت بإيقاد النار في القاطرة لكي يحملك القطار إلى أوروبا؛ حيث تتمكن من رؤية أهلك، وسأذهب معك، ولكن يجب الحذر من زوجال بك؛ فإنه وغد سافل.»

وكان ظاهرًا أنه قد فقد عقله، ولكن المجانين أحيانًا يقولون الحق، فأخذت في تهدئته حتى رقد وسمع صفير القاطرة، وأوهمته أني معه في القطار، ثم تركته لعناية الخدم وخرجت، وبعد خمسة أيام مات هذا المسكين، وأظن أن سبب موته انفجار عرق في دماغه.

وشرعت أنا في تدبير أمور مديرية دارة، وبعد شهر تسلمت خطابًا من مسدجاليه بك، يقول لي فيه — وكان مكتوبًا بالفرنسية — إنه قد عزم على أن ينتهي من هرون؛ ولذلك هو يأمرني بأن أخرج سرًّا عن طريق منواشي وقبة بقسم من الجنود النظامية، وأتجه نحو جبل مرة وأغِير على نيورنه، حيث مقام السلطان هرون، وقال لي إنه قد أرسل قوة من الفاشر عن طريق طرة، وقوة أخرى من قلقل عن طريق أبي حرز، وسيلتقي الجميع في مكان واحد ويعملون معًا في مقاتلة هارون.

فأذعنت للأمر وغادرت دارة ومعي ٢٢٠ جنديًّا نظاميًّا و٦٠ من البازنجر، وسرنا حتى بلغنا نيورنه، حيث السلطان هارون في جبل مرة، فوجدناه قد جلا عنها، وفي صباح اليوم التالي خرجت بفصيلة من الجنود أبحث عن هرون، ولكننا لم نذهب بعيدًا حتى سمعنا عيارات نارية تطلق بسرعة من ناحية نيورنه، فركضت جوادي راجعًا فوجدت الجنود الذين تركتهم قد اشتبكوا في قتال مع قوة أخرى معادية، فأدركت حالًا أنها إحدى القوات التي أُرسلت لمساعدتي من الفاشر، ولكنها لم تصل في الوقت المعين لها. فلما وصلت إلى نيورنه ووجدت قوة مرابطة تحتلها، أطلقت عليها النار وهي تحسبها أنها تابعة لجيش السلطان هرون، وقد تكلفت مشقة كبيرة في وقت إطلاق النيران التي قتل بسببها سبعة وجرح أحد عشر، ومرَّ عيار في ملابسي وأصيب جوادي بعيارين.

وبقينا في نيورنه عشرة أيام، ولما لم يكن في مقدورنا أن نحصل على أخبار صحيحة عن هارون قررت العودة، وكنا نحن في عودتنا نمر على عدة قرى فنفاجئها؛ لأن أهلها لم يكونوا ينتظرون مجيئنا من الغرب، وكان السلطان هارون قد جند معظم الرجال، أما الباقون فقد فروا إلى التلال، ولكن رجالي تمكنوا من القبض على نحو ثلاثين امرأة سرن معنا مدة قصيرة، وقد فوجئ أهالي إحدى القرى بنا فلم يتمكنوا من الهرب، ولما رأيت أن جميعهم من النساء أمرت الجنود بالوقوف حتى أتيح لهن الفرصة للفرار، ثم أمرت الجنود أيضًا بأن يسيروا صفًّا واحدًا حتى لا يتفرقوا في القرى ويعيثوا فيها.

ومما حدث أن أمًّا مسكينة كانت تحاول الهرب، فباغتناها ففرت تاركة وراءها طفلين على صخرة، وأخذت هي تعدو كالغزال على سند الجبل، فذهبت إلى حيث الطفلين فوجدتهما عاريين ليس عليهما شيء سوى عقد من المرجان حول عنقيهما وحزام من المرجان أيضًا حول وسطيهما، وكان كلاهما أسود كالغراب، والأرجح أنهما كانا توأمين يبلغ عمر كلٍّ منهما ١٨ شهرًا، فنزلت عن الجواد وذهبت إليهما، فأخذا في الصراخ وكلٌّ منهما يمسك بالآخر، فحملتُهما وأمرت خادمي بأن يحضر قليلًا من السكر، فسكتا في الحال وصارا يبتسمان خلال الدموع ويقرضان السكر، الذي كان في الأرجح أحلى ما ذاقاه مدة حياتهما الصغيرة الماضية، وكان عندي مناديل حمر أحملها على الدوام معي لكي أقدمها هدايا، فلففت كلًّا منها في منديل ووضعتهما على الصخرة كما كانا وسرت بعيدًا عنهما، ونظرت إليهما بعد مدة فرأيت إنسانًا — هو أمهما — يزحف على الصخر إليهما، فلما بلغتهما عانقتهما ودهدهتهما بعد أن كانت قد يئست من حياتهما، وأخذت هذين الولدين في لباسهما الجديد وعلى شفتيهما أثر السكر الحلو.

وبعد أيام ونحن لم نبلغ بعد دارة، جاءتني الأخبار بأنه في مدة غيابي عن هذه البلدة أغار عليها هارون وانتهبها وفرَّ ثانيًا إلى التلال ومعه الغنائم والسبايا العديدة، فأخذت أدلَّاء من القرى المجاورة وخرجت أتعقبه، ولما أن صرنا على مسافة سفر يومين في الجنوب الشرقي من الفاشر لقيت جنوده الذين لم يتوقعوا مجيئنا.

وقد وفقت للاقتراب منهم بدون أن يروني، ثم حملنا عليهم حتى مزقناهم شر ممزق، واستولينا على مقادير كبيرة من الأسلحة وأفرجنا عن السبايا اللواتي كن في حوزتهم، وقتل جواد هارون ولكن هارون نفسه مع بضعة من أتباعه تمكنوا من الهرب، وبعد أيام قليلة انهزموا أمام جيوش قلقل التي كان يقودها نور أنجرة، وقتل هرون، وبقتله عاد السلام إلى البلاد وانتهت الثورة.

ولما عدت إلى دارة وافاني خطاب من جسي باشا من بحر الغزال، يقول فيه إن الدكتور فلنكن والقسيس ولسون، مبعوث الرسالة الكنسية الإنجليزية، في طريقهما من أوغندا إلى الخرطوم عن طريق دارة ومعهما وفد من الملك متيسا إلى جلالة ملك إنجلترا، ورجاني جسي أن أقدم لهما جميع المساعدات التي في مقدوري، وقال إنهما قد شرعا في السفر إلى دارة في اليوم الذي كتب فيه هذا الخطاب، وقد وصلا إلى دارة بعد ذلك بأيام قليلة وتمتعت بصحبتهما مدة وجودهما عندي.

وقد أخبراني عن أشياء مهمة، أما أنا فقد حكيت لهما عن آخر الأنباء الأوروبية، وهي وإن كانت قد مضى عليها أشهر قد كانت مع ذلك جديدة عندهما.

وفي الصباح سمعت أن رجال وفد الملك متيسا لما رأوا الجمال أول مرة خافوا منها وفروا، فقلت للدكتور فلنكن: «بما أنك ستضطر إلى إتمام سفرك على ظهر الجمال، فمن الصواب أن تعتاد ركوب الجمال أنت ومن معك، فأحضر رجال الوفد حتى ندربهم على ركوبها.»

فذهب وأرسلت أنا في إحضار جمل من أحد التجار، وكان جملًا سمينًا ضخمًا، وحضر رجال الوفد وآخرون غيرهم، فما رأوا الجمل حتى طار صوابهم وفروا هائمين، ولم يقفهم عن الاستمرار في العدو سوى ثباتنا أنا والدكتور فلنكن، وأوضح لهم الدكتور فلنكن أن الجمل حيوان وديع صبور، وأنهم سيستأنفون السفر إلى مصر عليه، وليس فيه ما يدعو إلى الخوف، ولكنهم مع ذلك لم يتقدموا إلا على حذر ووقفوا على مسافة منه لا يجسرون على لمسه، وكان تعجبهم عظيمًا عندما رأوا القواص يمتطيه ويسير به وينيخه، وأخيرًا تطوع أشجعهم لأن يركبه وساعدناه على تسنمه، وقام به الجمل وهو خائف، ولكنه أخذ ينظر إلى رفقائه من مكانه العالي ويوضح لهم سهولة ركوب الجمال وملاذه، والظاهر أنه دعاهم إلى ركوبه؛ فقد برك الجمل وتكأكَئوا عليه جملة، وأرادوا جميعًا الركوب، وحاول بعضهم أن يركب عنقه، وتعلق آخرون بذنبه، وتعلق نحو ستة برجله، ودُهش الجمل لأول وهلة لهذا الازدحام حوله، ثم تنبه وأخذ يضرب برأسه يمينًا وشمالًا حتى نفض جميع هؤلاء «الوجنديين» عنه، وهب واقفًا وهم مبعثرون حوله، وأظنني لم أضحك في حياتي قدر ما ضحكت في هذه الفرصة؛ فقد ظن رعايا الملك متيسا — الوجنديون — أن الجمل جبل يتحمل أي عبء ويقوى على النهوض به، ولبثوا مدة ذاهلين خائفين لا يقوون على الاقتراب منه ثانيًا، ولكن أخذوا بالتدريج يتعلمون ركوبه؛ فبدأ واحد ثم آخر يقترب منه ويركبه، حتى إنه عندما جاء ميعاد سفرهم كانوا جميعًا يعرفون كيفية قيادته.

وكان في منزلي عدة أولاد من الذين استخلصناهم من أيدي النخاسين، ولما لم يكن للدكتور فلنكن خادم يخدمه، فقد اقترحت عليه أن يأخذ معه أحد هؤلاء الأولاد، فقبِل ذلك مسرورًا، وأعطيته صبيًّا من الغرتيت يدعى كبسون، وكان ذكيًّا، فعزم الدكتور على أن يربيه في أوروبا، وبعد سنتين ونصف سنة وأنا بالفاشر جاءني خطاب مكتوب بالإنجليزية من كبسون هذا، يشكرني فيه لأني أذنت له بالسفر مع الدكتور فلنكن إلى «بلاد كل من فيها طيب القلب رءوف»، ويقول إنه قد تنصر وإنه أسعد الأولاد، وأرسل مع الخطاب صورته في ملابس إفرنجية.

وجاء ميعاد سفر صديقيَّ وكانا في اشتياق إليه، فركب الجميع جمالهم وقاموا إلى الخرطوم عن طريق طويشة.

وبعد مدة جاءني خطاب من مسدجاليه بك، يقول فيه إنه مسافر إلى الخرطوم لكي يحضر زوجته، ولكنه ما كاد يصل إلى الخرطوم حتى نشب خلاف بينه وبين ولاة الأمور هناك، فاستقال وعين بدلًا منه مديرًا على دارفور علي بك شريف، الذي كان قبلًا مديرًا على كردفان.

وقريبًا من ختام سنة ١٨٧٩ أو في أوائل سنة ١٨٨٠ تسلمت خطابًا مكتوبًا بالفرنسية من غوردون، كتبه منذ شهرين قبل وصوله إلى ضبرة طابور في الحبشة، وقد مزق الخطاب منذ سنين ولكني أتذكر كلماته بالحرف تقريبًا وهي:

عزيزي سلاطين

لما انتهت مهمتي مع الملك يوحنا عزمت على أن أرجع في الطريق التي جئت منها، ولكني وأنا بالجلابات أدركني رجال تابعون للرأس عدل وأجبروني على الرجوع، وسيأخذونني محروسًا إلى كسلة ومنها إلى مصوع، وقد أحرقت جميع الأوراق التي يخشى منها، وسيسقط في يد الملك يوحنا عندما يعرف أنه ليس رئيس بيته.

صديقك غوردون

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤