الأنشودة الحادية عشرة

وصول أوديسيوس إلى أوقيانوس

نزلنا إلى البحر وامتطَينا ظهر السفينة، بعد أن سحبناها أولًا إلى البحر اللامع، وثبَّتْنا الصاري والشراع في السفينة السوداء، وحمَلْنا الخراف إلى سطح السفينة، ثم صَعِدنا نحن أنفسنا محزوني الأفئدة، نذرفُ الدموع الغِزار. وقد أُرسلَت ريحٌ معتدلة؛ لتساعدنا في أن تمخُر سفينتنا الدكناء الحيزوم عُباب اليم، فملأَت الشراع، وكانت لنا رفيقًا عظيمًا، وأرسلَتها لنا كيركي الجميلة الجدائل، تلك الربة المرهوبة الجانب، التي تتكلَّم لغة البشر. وهكذا بعد أن ثبَّتْنا سائر الحبال في مختلف أجزاء السفينة، جلسنا، وتولَّت الريح، وقائد الدفَّة، تسييرها لتشُق طريقها قُدمًا؛ فطوال اليوم كله، كان الشراع منبسطًا، وهي تجري على صفحة الماء، ثم غابت الشمس، وغدَت جميع السبل مظلمة.

figure
وأخذتُ أستعطفُ بحرارةٍ رءوسَ الموتى المجردة من القوة.
figure
وصلت السفينة إلى أوقيانوس العميق المجرى، والذي يحدُّ الأرض، حيث بلاد ومدينة الكيميريين Cimmirians،١ الملتفَّة بالضباب والغيوم، لا تُشرِق عليها الشمس بأشعَّتها، لا عندما ترتفع في كبد السماء ذات النجوم، ولا عندما تعود ثانيةً إلى الأرض من السماء، وإنما ينتشر الليل الضار، بظلامه الدامس فوق رءوس البشر التعساء، فوصلنا إلى هناك، وأرسَينا سفينتنا، وأنزلنا الخراف، وذهبنا نحن أنفسنا إلى جوارِ مجرى أوقيانوس حتى بلَغْنا المكان الذي حدَّثَتْنا عنه كيركي.

أوديسيوس ينحر الذبائح للموتى

figure
بينما سحبتُ أنا سيفي الحادَّ وحَفرتُ حُفرةً طولُها ذراع.
في ذلك المكان أمسك بيريميديس Perimedes ويورولوخوس الذبائح، بينما سحبتُ أنا سيفي من جوار فخذي، وحفرتُ حفرةً طولُها ذراعٌ من هنا وذراعٌ من هنا، وسكبتُ حولها سكيبةً لجميع الموتى، بادئًا باللبن والعسَل، ثم بالخمر اللذيذة، وفي المرة الثالثة بالماء، ثم نثرتُ فوقها مطحون الشعير الأبيض، وأخذتُ أستعطف بحرارةٍ رءوسَ الموتى المجردة من القوة، ونذَرتُ أنني عندما أبلُغ إيثاكا، أذبح في ساحاتي عِجلةً بكرًا، تكون خيرَ ما عندي من العجول، وأُكدِّس الهدايا العظيمة فوق مذبحي، وأنحر لتايريسياس وحده كبشًا، أسودَ كله، يكون أعظم كبشٍ في قطعاني. وبعد أن تضرَّعتُ إلى قبائل الموتى بالنذور والتوسُّل، وأمسكتُ الخراف، ونحرتُ حُلوقها فوق الحفرة، فتدفَّق منها الدم القاتم. بعد ذلك، احتشَدَت هناك، من داخل إيريبوس Erebus٢ أرواحُ مَن ماتوا، من عرسانٍ وشبابٍ أعزب، وشيوخٍ أنهكَتهم المتاعب، وعذارى رقيقاتٍ ذوات قلوبٍ حديثة العهد بالأحزان، وكذلك أرواحُ كثيرين ممن أصابتهم الرماح البرونزية الأطراف بالجراح، أولئك الرجال الذي خرُّوا صرعى في القتال، وهم مُرتَدُون عُدَدهم الحربية الملطَّخة بالدماء. أسرع هؤلاء يتهافتون في جموعٍ غفيرة حول الحفرة من كل صوب، يصيحون صيحاتٍ عجيبة، فتملَّكَني الرعب المُسبِّب شُحوبَ اللون. بعدئذٍ ناديتُ زملائي وأمرتُهم بأن يسلَخوا أو يُحرقوا الخراف الملقاة هناكَ بعد أن ذُبحَتْ بالبرونز القاسي، وبأن يقوموا بالصلاة إلى الآلهة، إلى هاديس العتيد، وإلى بيرسيفوني المرهوبة. أما أنا نفسي، فقد سلَلتُ حسامي البتَّار من جوار فخذي، وجلستُ هناك، ولم أسمح لرءوس الموتى المجرَّدة من القوة بأن تقترب من الدم إلا بعد أن استجوبتُ تايريسياس.

أوديسيوس يلتقي بروح إلبينور

كان رُوحُ رفيقي إلبينور هو أوَّل من جاء؛ فلم يكن قد دُفن بعدُ تحت الأرض الفسيحة الطرقات؛ لأننا كنا قد تركنا جثَّته وراءنا في ساحة كيركي، دون أن يَبكيَها أحد، ودون أن تُدفَن؛ حيث قد شُغلنا في ذلك الوقت بمهمةٍ أخرى كانت تدفعُنا إلى الإسراع في طريقنا،٣ فما إن أبصرتُه حتى بكَيتُ، وتحرَّكَ قلبي بالعطف عليه، فتحدَّثتُ إليه وخاطبتُه بكلماتٍ مجنحة،٤ قائلًا:

«كيف جئتَ تحت جنحِ الظلام الدامس، يا إلبينور؟ إن مجيئك على القدمَين، قد سبقَني وأنا قادم في سفينتي السوداء.»

هكذا قلتُ له، فأجابني بقوله: «يا ابن لايرتيس، أيها المنحدر من زوس، أي أوديسيوس الكثير الحيل، إن مصيرًا شريرًا، من أحد الآلهة، كان فيه هلاكي، إنها الخمر الغزيرة؛ فعندما استلقيتُ لأنام في بيت كيركي لم أُفكِّر في اتخاذ السلم الطويل لكي أهبط من جديد، ولكني قفزتُ من السطح، فدُقَّت رقبتي وانفصلَت عن سلسلة ظهري، فهبطَت روحي إلى بيت هاديس. والآن أتوسَّل إليك بحق أولئك الذين خلَّفناهم وراءنا، الذين ليسوا معنا هنا، وبزوجتك وبأبيك الذي ربَّاك منذ عهد الطفولة، وبابنك تيليماخوس الذي تَركْتَه صبيًّا وحيدًا في ساحاتك؛ لأنني أعلم أنكَ عندما تنصرف من هنا، من بيت هاديس، ستمُر بسفينتك المتينة البناء، على الجزيرة الإيايية، أطلُب منك، أيها الأمير، أن تتذكَّرني هناك. لا تتركني وراءك دون أن تَبكيني، ودون أن تَدفِنني، وأنت راحلٌ من هناك، ولا تُولِّني ظهرك، خائفًا أن أجلب عليك غضب الآلهة، بل أَحرِقني في حُلَّتي الحربية وهي كل ما أملك، وكَوِّم لي رابية فوق ساحل البحر السنجابي، تخليدًا لذكرى رجلٍ شقي، كي يعلم من سوف يُولَدون بعدُ، شيئًا عني. حقِّق لي هذا الرجاء، وأقِم فوق الرابية، مجذافي الذي كنتُ أُجذِّف به في حياتي، عندما كنتُ بين زملائي.»

قال هذا، فردَدتُ عليه بقولي: «سوف أفعل لك كل هذا، أيها الرجل البائس.»

هكذا جلسنا، كلانا، وتحدَّث كلٌّ منا إلى الآخر أحاديث الحزن، أنا على جانب، وسيفي قائمٌ بيدي فوق الدم، بينما هو على الجانب الآخر، وكان طيفُ رفيقي هذا يتكلم بإسهاب.

أوديسيوس يبكي على روح أمه

بعد ذلك أقبلَت روح أمي الميتة، أنتيكليا Anticleia، ابنة أوتولوكوس Autolycus المقدام، الذي خلَّفتُه ورائي حيًّا عندما رحلتُ إلى إليوس المقدَّسة، فعندما رأيتُها بكَيتُ، وأحَسَّ قلبي بالشفَقة نحوها، ولكني رغم ذلك لم أدَعْها تقترب من الدم، مع كل ما في قلبي من حزنٍ بالغ، إلا بعد أن استجوبتُ تايريسياس.

أوديسيوس يلتقي بروح العرَّاف

بعدئذٍ جاءت روح تايريسياس٥ الطيبي، وهو يحمل صولجانه الذهبي في يدَيه، فعرفَني وخاطَبني بقوله: «يا ابن لايرتيس، أيها المنحدر من زوس، أي أوديسيوس الكثير الحيل، ما خطبُك الآن، أيها الرجل التعيس؟ لماذا تركتَ ضوء الشمس وقدِمتَ إلى هنا، لترى الموتى، ومنطقة لا مرح فيها؟ لا تقف هكذا، ابتعد عن الدم، وأَدِرْ سيفَكَ الحادَّ إلى الوراء، حتى أشرب من الدمِ وأُخبرك بالحقيقة.»

هكذا تكلَّم، فابتعدتُ وأغمدتُ سيفي المرصَّع بالفضة في غمده، وبعد أن عَبَّ من الدم القاني، تكلَّم العرَّاف العديم اللوم، وخاطَبني بقوله:

تايريسياس يُدْلي بعرافته لأوديسيوس

إنك تَستفهِم عن عودتك الحلوة كالعسل، يا أوديسيوس الرائع، ولكنَّ أحد الآلهة سيجعل هذا الأمر شيئًا ثقيلًا على نَفسِك، فإنني أعتقِد أنك ستُفلِت من حبائل مزلزل الأرض، الذي يَزخَر بالغضب منك؛ إذ يَتقِد غضبًا من أنكَ أعميتَ ابنه العزيز، ولكن بالرغم من كل هذا، قد تصل إلى وطنك، ولو كان وصولك في محنةٍ شريرة، إذا ما كبحتَ جماحَ نفسك، وجماحَ رفقائك، بمجرد أن تصل بسفينتك المكينة البناء إلى جزيرة ثريناكيا Thrinacia، هاربًا من البحر البنفسجي، فتجد هناك أبقار وقطعان هيليوس العظيمة، ترعى الكلأ، هيليوس الذي يرى ويسمع كل شيء، فلو تركتَ هذه القطعان دون أن تمسَّها بأذى، واهتمَمتَ برحلتك إلى وطنك، فلا شك في أنك بالغ إيثاكا، ولو في محنةٍ شريرة. أما إذا تعرَّضتَ لها بالأذى، فإني أتنبَّأ بالخراب لسفينتك ولرفقائك، وحتى إذا نجوتَ أنتَ نفسك، فإنكَ سوف تصل متأخرًا إلى وطنك، وفي حالةٍ مزرية، بعد أن تفقدَ سائر زملائك، وتبلُغه في سفينة لرجلٍ آخر، وسوف تُقابل محناتٍ في بيتك؛ فإن في بيتك رجالًا متغطرسين، يلتهمون زادك، ويغازلون زوجتك شبيهة الآلهة، ويُقدِّمون هدايا المغازلة، ولكنك مع ذلك، ستنتقم حقًّا، من أعمالهم التعسُّفية عند وصولك، وبعد أن تقتُل المغازلين في ساحاتك، سواء بالحيلة، أو علانيةً بالسيف البتار، ستنطلق بمجذافٍ جميل، حتى تصل إلى قوم لا يعرفون شيئًا عن البحر، ولا يأكلون أي طعامٍ به ملح،٦ إنهم لا يعرفون شيئًا عن السفن القرمزية الوجنات، ولا عن المجاذيف المصقولة، التي هي بمثابة الأجنحة للسفن، وسأُخبرك بعلامةٍ واضحة كل الوضوح، لن يفوتك إدراكها، فإذا التقى بك عابرُ سبيلٍ آخر وسألَك عما إذا كان لديكَ مِذراةٌ فوق كتفك القوية، فاغرس في الأرض مجذافك الجميل، وقدِّم الذبائح العظيمة للسيد بوسايدون — كبشًا، وثورًا وخنزيرًا بريًّا يكون قد لقَّح إناث الخنازير — وارحل إلى وطنك حيث تقوم بتقديم الذبائح المئوية المقدسة للآلهة الخالدين الذين يحتلُّون السماء الفسيحة، لكل واحدٍ بدوره ما يليق به. أما الموت فلن يأتيكَ أنتَ نفسك، إلا بعيدًا عن البحر؛ إذ تلقى ميتةً في غاية الرقة، تتغلَّب عليكَ إذ تقهرك الشيخوخة الناعمة،٧ وسوف يعيش قومُكَ حولكَ في بحبوحةٍ من العز، بهذا أخبرتْكَ العرافة.

هكذا قال العرَّاف، فأجَبْته قائلًا: «أي تايريسياس، أعتقد أن الآلهة أنفسها قد نَسجَت خيط مصيري من كل هذا، ولكن خبِّرني بهذا الذي سأطلُبه منك، وأَعلن الحقيقة لي. إنني أرى هنا روح أمي الميتة، إنها تجلس في صمتٍ بالقرب من الدم، ولا تتناول بالنظر إلى وجه ابنها أو التحدُّث إليه. خبِّرني، أيها الأمير، كيف يمكنها أن تُلاحِظ أنني ابنها.

ما إن قلتُ له هذا، حتى أجاب في الحال، بقوله: «ما أَيسَر الكلامَ الذي سأُفضي إليكِ به، ولتضَعه نُصب عينَيك. أي فَردٍ من أولئك الذين ماتوا ورحَلوا، سمحتُ له بالاقتراب من الدم، أَخبرك بنبوءةٍ وكل من منعتُه عاد من غير شك.»

أوديسيوس يتكلم مع روح أمه

ما إن أفضى الأمير تايريسياس، إليَّ بذلك الحديث، حتى عادت روحه إلى بيت هاديس، بعد أن أخبرني بتنبُّؤاته، بيد أنني بقيتُ هناك، ثابتًا في مكاني، حتى أقبلَت أمي، وشَرِبَت من الدم القاني، وفي الحال عرفَتْني، وبالنحيب كلَّمتْني بعباراتٍ حماسية، قائلة:

«أي بني، كيف جئتَ إلى هناك تحت جنح الظلام الدامس، وأنت ما زلت حيًّا؟ إذ من الصعب على الأحياء أن يَروْا هذه الممالك، فبينهم وبينها أنهارٌ عظيمة ومجاري مياهٍ مفزعة، فهناك أولًا أوقيانوس، الذي لا يستطيع أي فَردٍ أن يعبُره على قدمَيه بأية حالٍ من الأحوال، بلْ إذا كان يملك سفينةً مكينة البناء، أجئتَ الآن فقط إلى هنا من طروادة بعد تجوالاتٍ طويلة بسفينتك ورفقائك؟ أولَم تصل إلى إيثاكا، ولم تَرَ زوجتك في ساحاتك؟»

هكذا قالت، فأجبتُها بقولي: «أماه، إنها الضرورة التي أنزلَتْني إلى بيت هاديس، بحثًا عن تنبؤاتٍ روح تايريسياس الطيبي؛ لأنني لم أصِل بعدُ إلى ساحل آخايا Achaea، ولم تطأ قدمي أرض وطني، بل بقيتُ هائمًا على وجهي، أُكابد المحن، منذ أول يومٍ رحلتُ فيه مع أجاممنون العظيم إلى إليوس الشهيرة بجيادها، لأُقاتل الطرواديين، هيا خبِّريني، واصدُقيني القول، فيما سأسألكِ عنه. أي قَدرٍ من الموت المؤسف قد تغلَّب عليك؟ أكان مرضًا طويل الأمد، أم هي القوَّاسة أرتيميس،٨ قد أصابتكَ بسهامها الرقيقة، فقتلَتك؟ كذلك أعلميني عن أبي، وعن ابني، اللذَين خلَّفتُهما ورائي. أما زالا في الشرف الذي كان لي، أم يحظى به الآن رجلٌ آخر، وهل يعتقدون أنني لن أعود إليهم ثانية؟ كما أرجو أن تُخبريني عن زوجتي التي اقترنتُ بها، عن هدفها وعن تفكيرها. ألا تزال باقيةً مع ابنها، وتحافظ على سلامة كل شيء؟ أم هل تزوَّجَها رجلٌ ما، يكون أفضل الآخيين؟»

قلتُ هذا، فأجابَتْني والدتي الموقرة، في الحال بقولها: «الحقيقة، إنها تمكث في ساحاتك بإيمانٍ ثابت، وتقضي الليالي والأيام في حزنٍ دائم، لا تنقطع عن البكاء. أما الشرف السامي الذي كان لك فلم يستحوذ عليه أحدٌ بعدُ، بل يحتل تيليماخوس أراضيكَ دون منازع، ويُولِم على موائدَ مناسبة، كما يليق بالرجل الذي يتوخَّى العدالة، وكل الناس يدعونه إلى الموائد. أما أبوك فإنه يعيش في الأرض المفلوحة، لا يذهب إلى المدينة، وليس عنده للنوم، فِراشٌ ولا عباءاتٌ أو أغطيةٌ لامعة، بل يقضي الشتاء ينام في المنزل، حيث ينام العبيد، في الرماد بجانب النار، ويلبَس على جسمه ثوبًا حقيرًا. حتى إذا ما أقبل الصيف والخريف الغَني، امتدَّت أسِرته المنخفضة، حول منحدَر مزرعة كرومه، وقد تكوَّنَت من أوراق الشجر المتساقطة. هناك يرقُد كئيبًا، منطويًا على أحزان قلبه البالغة، وهو يتلهَّف شوقًا إلى عودتك، وقد حطَّت عليه الشيخوخة الثقيلة. هكذا هلكتُ أنا أيضًا، ولقيتُ حتفي. ولم تُهاجمني الربة القوَّاسة الثاقبة النظر، ولم يُصبني أي مرض، كما يحدُث عادةً، أن يسلبَ التعبُ الشديد الروحَ من الأطراف؛ كلا، لم يصبني شيء من ذاك، بل هو الشوق إليك، وإلى مشوراتك، يا أوديسيوس العظيم، والحنين إلى رقة قلبك، هو الذي سلَبني حياتي الحلوة كالشَّهد.»

أوديسيوس يفشل في احتضان أمه

هكذا قالت، فتحيَّرتُ في قلبي، وتاقت نفسي إلى أن تُمسِك بروح أمي الميتة، فوثَبتُ نحوها ثلاث مرات، وأَمرني قلبي بأن أُمسِكَها، وثلاث مراتٍ أفلتَت من ذراعي أشبه بالشبح أو الحُلم، فزاد الألم حدةً في قلبي، وتحدَّثتُ إليها، مخاطبًا إياها في عباراتٍ حماسية، قائلًا:

«أماه، لِمَ لا تمكُثين من أجلي، أنا الذي أتلهَّف إلى الإمساك بك كي نستطيع، حتى في بيت هاديس، أن يلُقي كلٌّ منا ذراعه حول الآخر، ونستسلم إلى البكاء العنيف. أهذا الذي أَرسلتِه إلى بيرسيفوني الجليلة، محضُ طيف، كي تزيد في بكائي وأنيني؟»

ما إن قلتُ هذا، حتى أسرعَت أمي المبجَّلة، تُجيبني بقولها: «ويل لي، يا بني، يا أكثر البشر تعاسةً وسوءَ حظ! إن بيرسيفوني٩ ابنة زوس، لا تخدعكَ بحالٍ ما، ولكن هذه هي الطريقة المتبعة مع البشر عندما يموتون؛ فما عادت الأعصاب تربط اللحم بالعظام، ولكن قوة النار المتأججة القوية، تُحطِّم هذه، بمجرد أن تترك الحياةُ العظامَ البيضاء، وتنطلق الروح، أشبه بحلم، فتحوم هنا وهناك، ولكن أسرع الآن إلى النور بكلِّ ما أُوتيتَ من سرعة، واحفظ كل هذا في عقلك، كي تستطيع فيما بعدُ، أن تُخبر به زوجتك.»

أوديسيوس يلتقي بأرواحٍ أخرى

هكذا تحدَّث كلٌّ منا إلى الآخر، وجاءت النسوة؛ إذ أرسلَتْهن بيرسيفوني المهوبة، جميع من كن زوجاتٍ وبناتٍ للرؤساء. احتشَد هؤلاء جميعًا، زُرافاتٍ حول الدم القاني، وأخذتُ أفكر كيف يمكنني أن أسأل كل واحدةٍ منهن، فوُفِّقتُ إلى ما بدا لي خير طريقة، سلَلتُ سيفي الطويل من جوار فخذي القوي، ولم أسمح لهن بأن يشربن كلهن، من الدم القاني مرةً واحدة، بل اقتربن منه، واحدةً بعد أخرى، وكل واحدةٍ منهن أخبرَتْني بنسَبها، وهكذا أمكنَني أن أستجوبهن جميعًا.

روح تورو تتحدث إلى أوديسيوس

كانت تورو Tyro، النبيلة المَحتِد، هي أول من رأيتُ منهن، فقالت إنها كانت ابنة سالمونيوس Salmoneus الشريف، وإنها كانت زوجة كريثيوس Cretheus، ابن أيولوس. وقد هام بها النهر، إنيبيوس Enipeus المقدس، الذي هو أجمل الأنهار طرًّا، التي تنساب مجاريها فوق الأرض، وكانت تتردَّد على مياه إنيبيوس الجميلة. غير أن مُطوِّق الأرض ومُزلزِها، اتخذ شكله واضطجع معها عند مصبَّات النهر ذي الدوَّامات، وانتصبَت اللجة الدكناء حولهما كالطود الشامخ، وانحنَت فوقهما، تستُر الرب والمرأة البشرية، فحل زِنَّارها العذري وسكَب النوم فوق جفنَيها. وبعد أن أنجز ذلك الرب مهمة الحب، أمسكَ بيدها، وتحدَّث إليها، مخاطبًا إياها بقوله:

«فلتسعدي، أيتها المرأة، بحُبنا هذا، وبمرور السنة في دورانها، ستُنجبين أطفالًا أمجادًا؛ فما أحضان الرب بضعيفة ولا واهنة، وقومي برعاية هؤلاء وتربيتهم. أما الآن فانطلقي إلى منزلكِ، وحافظي على سلامكِ، وحذارِ أن تُخبري أحدًا بما حدث واعلمي أنني أنا بوسايدون، مزلزل الأرض.»

ما إن أتمَّت حديثها ذاك، حتى قفَزت تحت البحر الصاخب. أما هي فقد حبلَت وأنجبَت بيلياس Pelias، ونيليوس Neleus، اللذَين صارا، كلاهما، خادمَين عتيدَين لزوس العظيم، وعاش بيلياس في إيولكوس Iolcus الفسيحة، وكان غنيًّا بقطعانه، أما الآخر فعاش في بولوس Pylos الرملية. وأما أطفالها الآخرون، فقد ولدَتْهم تلك الملكة بين النساء، لكريثيوس، وهم أيسون Aason، وفيريس Pheres، وأموثاون Amythaon، الذي كان شغوفًا بالقتال من العربات.١٠

لقاء أوديسيوس بأنتيوبي

بعد ذلك رأيتُ أنتيوبي Antiope، ابنة أسوبوس Asopus، التي كانت تزهو بنومها في أحضان١١ زوس، فأنجبَت ولدَين؛ هما أمفيون Amphion، وزيثوس Zethus، الذي كان أول من شيد مقعد طيبة، ذات الأبواب السبعة، وأقام حولها سورًا؛ إذ لم يستطيعوا أن يعيشوا في طيبة الفسيحة بدون سور، مهما كانوا أقوياء.

ثم بألكميني وميجارا وأخريات

وبعدها رأيتُ ألكميني Alcmene، زوجة أمفيتروون Amphitryon، التي رقدَت بين ساعدَي زوس العظيم، وأنجبَت هرقل Heracles، العتيد في القتال، قلب الأسد. وميجارا Megara، شاهدتها أيضًا، وهي ابنة كريون Creon، السامي النفس، التي اتخذها زوجة له، ابن أمفيتروون، الدائم العناد في العنف.
وأبصرت أم أوديبوديس Oedipodes، إبيكاستي Epicaste الفاتنة، التي قامت بعملٍ وحشي في جهالة من التفكير؛ إذ قد تزوَّجَت ابنها، بعد أن قتل أباه، فتزوَّجَها، ولكن الآلهة كشفَت هذه الأمور للبشر في الحال، ولكنه مع ذلك ظل سيدًا على الكادميين Cadmeans في طيبة الجميلة، يعاني المحن بسبب خطَط الآلهة الضارة. أما هي، فقد هبطَت إلى بيت هاديس، الحارس القوى. لقد علَّقَت أنشوطةً في قضيبٍ عالٍ، وقد استبد بها الحزن، وشنقَت نفسها، وخلَّفَت وراءها محنًا لا حصر لها. كل ذلك تقوم به ربَّات الانتقام Erinues من أجل أم.
كذلك رأيتُ خلوريس Chloris الحسناء، التي تزوجها نيليوس من أجل جمالها، بعد أن قدَّم لها هدايا عرسٍ لا عداد لها. وكانت صُغرى بنات أمفيون Amphion، وابن إياسوس Iasus، الذي قبض على زمام الحكم في أورخومينوس بمينواي Orchomenus of Minyae، بيدٍ من حديد. وكانت هي ملكةً على يوبوس، وأنجبت لزوجها من الأطفال الأمجاد، نسطور Nestor وخروميوس Chromius، وبيريكلومينوس Periclymenus المجيد، كما أنجبت زيادة على هؤلاء، النبيل بيرو Pero، الذي كان أعجوبةً للناس. وكان جميع الساكنين حولها يَسعَون إلى الزواج منها، بيد أن نيليوس لم يكن ليُزوِّجها لأي رجل، إلا إذا استطاع أن يسوق من فولاكي Phylace أبقار إفيكليس Iphicles العتيد الملساء، ذات الجباه العريضة، وكان من العسير أن تُساق. هذه الأبقار، تعهَّد العرَّاف، دون سواء بأن يسوقها، بيد أن قضاءً محزنًا من لدُن الآلهة، أوقَعَه في الشَّرَك، في قيودٍ مكينة، مع رعاة الحقول. ومع ذلك فلمَّا توالت الأيام، وتعاقبَت الشهور بمرور العام، وجاءت الفصول، أطلَق سراحه إفيكليس العتيد، بعد أن تنبَّأ له بكل شيء، وبذلك تحقَّقَت إرادة زوس.
ورأيتُ ليدي Lede زوجة تونداريوس Tyndareus، التي أنجبت له ولدَين، جريئَي القلب، هما كاستور Castor مُروِّض الجياد، وبولوديوكيس Polydeuces الملاكم. وإن الأرض مانحة الحياة، لتُغطِّي هذَين كلَيهما، بالرغم من كونهما على قيد الحياة، وحتى في العالم السفلي؛ فإنهما يحظيان بتبجيل زوس؛ ففي يومٍ يعيشان بالتناوب، وفي يومٍ آخر ماتا، فنالا مجدًا أشبه بمجد الآلهة.
وبعدها شاهدتُ إفيميديا Iphimedeia، زوجة ألويوس Aloeus، التي اعترفَت باضطجاعها مع بوسايدون، فأنجبَت ولدَين، ولكنهما كانا قَصيرَي الأجل، هما أوتوس Otus، الشبيه بالإله، وإفيالتيس Epbiates الذائع الصيت، وهما الرجلان اللذان قامت الأرض بتربيتهما، هذه التي تمنح الغلال، فجعلَتهما يفوقان الجميع طولًا، وجمالًا، بعد أوريون Orion الشهير؛ لأنهما، وهما في التاسعة من عمرهما، قد بلغا تسع أذرعٍ عرضًا وتسع قاماتٍ ارتفاعًا، وهدَّدا بإشعال نار الحرب الطاحنة ضد الخالدين في أوليمبوس. وقد كانا متلهِّفَين إلى تكويم أوسا Ossa فوق أوليمبوس، وكذلك بيليون Pelion، بغاباتها المائجة، فوق أوسا، حتى يستطيعا أن يرقيا أسباب السماء، وكانا سيفعلان هذا، لو أنهما بلغا مبالغ الرجال، ولكن ابن زوس، الذي أنجبته ليتو Leto الجميلة الشعور، قتلَتهما، قبل أن ينبُتَ الزغب تحت جبهتَيهما ويُغطي ذَقنَيهما بلحيةٍ كاملة النمو.
ورأيتُ فايدرا Phaedra وبروكرس Procris١٢ وأريادني Ariadne الفاتنة، ابنة مينوس Minos، ذي العقل الشرير، تلك التي تَحرَّق ثيسيوس Theseus، شوقًا إلى أن يأخذها ذات مرة من كريت إلى تل أثينا المقدس، بيد أنه لم يتمتَّع بها؛ إذ قبل أن يتم ذلك قتلَتْها أرتيميس في ديا Dia المحاطة بالبحر، بسبب شهادة ديونيسيوس.١٣
وشاهدتُ مايرا Maera وكلوميني Clymene،١٤ وإريفولي Eriphyle الممقوتة، التي قَبِلَت الذهب النفيس ثمنًا لحياة زوجها. وإنه ليتعذَّر عليَّ أن أسرد أو أسمِّي جميع زوجات وبنات الأبطال اللواتي رأيتُهن؛ فقبل أن أنتهي من ذلك سيُدركنا الليل الخالد. لقد حان الآن موعد النوم، سواء ذهبتُ إلى السفينة السريعة والبحارة، أو بقيتُ هنا. إن أمر إرسالي سيبقَى مع الآلهة، ومعكم.»

أريتي تتمشدق بأوديسيوس

هذا ما قاله، فلزموا الصمت جميعًا، وانعقدَت ألسنتهم في الساحات الظليلة، ولكن أريتي Arete، البيضاء الساعدَين، تحدَّثَت أولًا في وسطهم، فقالت:

«أيها الفياكيون، كيف يبدو هذا الرجلُ أمامكم من حيث الجمال والقوام، ومن حيث روحه الداخلية المتزنة؟ وزيادةً على ذلك، فهو ضيفي، رغم أن كل واحدٍ منكم له نصيب في هذا الشرف؛ ومِن ثَمَّ لا تتعجَّلوا بإرساله في طريقه، ولا تجعلوا هداياكم لرجلٍ في مثل هذه الحاجة؛ إذ كثيرةٌ هي الكنوز المخزونة في ساحاتكم بفضل الآلهة.»

بعد ذلك قام وسطهم السيد العجوز إخينيوس Echeneus، أكبر الفياكيين سنًّا، وتحدَّث وسطهم بقوله: «أيها الأصدقاء، حقيقةً إن كلمات مَلكتِنا الحكيمة لجديرة بالاهتمام والتفكير، فهل لكم أن تُولُوها عنايتكم؟ ومع ذلك فإن القول والتنفيذ ليتوقَّفان هنا على ألكينوس.»

ألكينوس وأوديسيوس يتطارحان أحاديث الود

فأجاب ألكينوس١٥ قائلًا: «حقًّا، إن كلمتها هذه، ستُنفَّذ، طالما أنا حي وسيد على الفياكيين، محبي المجاذيف، ولكن دعوا ضيفنا، رغم عظيم تلهُّفه إلى العودة، يتحمل البقاء معنا إلى غدٍ، حتى أتحقَّق من أن جميع هدايانا كاملة. إن أمر إرساله إلى وطنه سيتولاه سائر الرجال، ولا سيما أنا نفسي، أكثر من الجميع؛ إذ لي السيادة في البلاد.»

عندئذٍ أجابه أوديسيوس الكثير الحيل، بقوله: «سيدي ألكينوس، يا من يعلو صِيتك فوق سائر البشر، إنني طوع أمرك، حتى ولو أمرتَني بالبقاء هنا لمدة عام وأجَّلتَ إرسالي إلى بلدي، وأعطيتَني هدايا مجيدة، وأكون راضيًا به، وأعتَبر وصولي إلى وطني العزيز بيدٍ أكثر امتلاءً، أفضلَ بكثير، لكي أحظى باحترامٍ أكثر، وحُبٍّ بالغ من جميع الذين يَرونَني عندما أعود إلى إيثاكا.»

فعاد ألكينوس يُجيب بقوله: «أي أوديسيوس، إننا ونحن ننظر إليك، لا نُقدِّر، بأية حال، أنك غشاش أو مخادع، كالكثيرين الذين ترعاهم الأرض المظلمة، وينتشرون هنا وهناك، أولئك الذين يختلقون الأكاذيب، مما لا يمكن لأحدٍ أن يراه؛ فإن لك عذب الألفاظ، وبداخلك قلبٌ حكيم، وقد رَوَيتَ قصتك بمهارة، كما يُنشِد المغني أناشيده، حتى المحن المؤلمة التي أصابت الأرجوسيين، وأصابتكَ أنتَ نفسك. والآن هيا أخبرني بالحقيقة، هل رأيتَ أيًّا من رفاقك أشباه الآلهة، الذين رحلوا معك إلى إليوس، ولقُوا حتفهم هناك؟ ما زال الليل أمامنا طويلًا، وطويلًا جدًّا، ولم يَحِن موعد النوم في الساحة بعدُ. استمر، بربك، في سرد قصة تلك الأعمال العجيبة. الحق أن في استطاعتي أن أبقى حتى يلوح الفجر المتألق، فعسى أن تقُصَّ علينا في الساحة، ما لاقيتَه من المحن.»

فأجاب أوديسيوس الكثير الحيل، قائلًا: «سيدي ألكينوس، يا من طار صيتك أكثر من سائر البشر، هناك وقتٌ للكلام الكثير، كما أن هناك وقتًا للنوم كذلك. أما إذا كنتَ لا تزال تواقًا لسماع قصتي، فلن أحرمكَ من أن أَرويَ لك أشياءَ أخرى، أشد إيلامًا للنفس من تلك، محن زملائي، الذين ماتوا فيما بعدُ، والذين نَجَوا من صَيْحة الطرواديين في الحرب المفزعة، وإنما هلكوا عند عودتهم بإرادة امرأةٍ شريرة.

أوديسيوس يلتقي بروح أجاممنون

عندما نثَرتْ بيرسيفوني المقدَّسة، أرواح النساء، هنا وهناك، أقبلَت روح أجاممنون بن أتريوس، كئيبة، ومِن حوله احتشدَت أرواح الذين قُتلوا معه في بيت أيجيسثوس Aegisthus،١٦ ولقُوا حتفَهم. لقد عَرفَني لِتوِّه، بعد أن شرب الدم القاني، وبكى بصوتٍ مرتفع، ساكبًا الدموع الغِزار فمدَّ يده نحوي يريد الوصول إليَّ، بيد أنه لم تكن لديه القوة أو الشدة التي كانت قديمًا بأطرافه الرخْصَة.
ما إن رأيتُه حتى غلبَتْني العَبرات، وتَحرَّك قلبي بالشفَقة عليه، فخاطبتُه بكلماتٍ مجنحة،١٧ وقلتُ: «هيا ابن أتريوس المجيد، أي ملك البشر، يا أجاممنون، أي مصيرٍ للموت المحزن حاق بك؟ أضربَكَ بوسايدون فوق ظهر سُفنِك، بعد أن أثار حولك عاصفةً هوجاء من الرياح العاتية؟ أم هل آذاك الأعداء فوق الأرض، بينما كنتَ تذبحُ ماشيتهم وقطعان أغنامهم الرائعة، أم كنتَ تقاتل طمعًا في الفوز بمدينتهم وبنسائهم؟»
قُلتُ هذا، فأجابني في الحال بقوله: «يا ابن لايرتيس، أيها المنحدر من زوس، يا أوديسيوس الكثير الحيل، إن بوسايدون لم يضربني فوق ظهر سفينتي، بعد أن أثار زوبعةً عنيفة من الرياح الصرصر، كما أن يد أعدائي لم تَمتدَّ نحوي بالأذى فوق اليابسة، ولكن أيجيسثوس هو الذي دبَّر لي الموتَ والقدَر، وقتَلَني بمساعدة زوجتي اللعينة، وبعد أن دعاني إلى الحضور في بيته، وأقام لي وليمةً أشبه بمن يَقتُل ثورًا في الحظيرة، هكذا كانت ميتتي في غاية الفظاعة، ومن حَوْلي قُتل بقية زملائي، بغير انقطاع، كما تُقتل الخنازير البيض الأنياب، التي تُذبح في بيت رجلٍ ثري عظيم القوة، في حَفْل زواج، أو في وليمةٍ عامة، أو حفل سُكرٍ فخم. لقد حَضَرتُ قبل ذلك مقتل رجالٍ عديدين، في معاركَ فردية، أو في صخب الحرب، ولكنكَ لو رأيتَ ذلك المنظر، لشعرتَ بمنتهى الحزن في قلبك، كيف كنا نرقُد في الساحة بين طاسات مَزْج الخمر والموائد الحافلة بالأطعمة، حتى سَبحَت الأرض كلها في الدماء. وكانت أكثر الصيحات إيلامًا للنفس، هي صيحة كاساندرا Cassandra ابنة بريام Priam، التي قتلَتها كلوتمنيسترا Clytemnestra الغادرة، إلى جواري،١٨ وحاولتُ أن أرفع يدي وأضربَ القاتلة رغم أنني كنتُ في عِداد الأموات، مطعونًا بالسيف، ولكن عديمة الحياء تلك أشاحت بظهرها نحوي، وبالرغم من أنني كنتُ في طريقي إلى بيت هاديس، فإنها لم تُبدِ أي عطفٍ نحوي بأن تُسبل جفنَي بأناملها، أو بأن تُغلق فمي. لا شك إطلاقًا في أنه ما من شيءٍ أكثر فظاعة، وأشد تجرُّدًا من الحياء، من تلك المرأة التي تُفكِّر في قلبها بمثل هاته الأعمال، هذا إذا كانت هي أيضًا قد حاكت أمرًا مفزعًا، بأن دبَّرت الموت لبَعْلها الذي تزوَّجَته. كنتُ أحسب حقًّا، أنني سأعود إلى بيتي فيُرحِّب بي أولادي وعبيدي، ولكنها، تلك التي طُبع قلبها على النذالة التامة، قد لطَّخَت نفسها بالعار، كما وصمَت بالعار سيدات المستقبل، ومن تُقيم العدالة.»

هكذا تحدَّث إليَّ فأجبتُه بقولي: «تبًّا لها! إن زوس الذي يحمل صوته بعيدًا، قد حاك كراهيةً عجيبة ضد شعب أتريوس، منذ البدء، بسبب خطَط النساء؛ فقد هلَك الكثيرون من أجل هيلينا، ودبَّرت كلوتايمنيسترا مكيدةً ضدك وأنت بعيدٌ عنها.»

ما إن قلتُ هذا، حتى أجابني في الحال قائلًا: «وعلى ذلك فإني أنصحُك بألا تكون رقيقًا مع زوجتك، لا تبُحْ لها بكلِّ ما يجولُ بخاطرك، بل قل لها شيئًا ما، واكتم عنها شيئًا آخر. ومع كلٍّ فلن يأتيك الموت يا أوديسيوس من فعل زوجتك؛ لأنها بالغة الحكمة، ذات قلبٍ مدرك، بينيلوبي العاقلة، ابنة إيكاريوس Icarius. لقد تركناها بحقٍّ عروسًا حديثة الزواج، عندما ذهبنا إلى الحرب، وكان على صدرها صبي، طفل، أعتقد أنه الآن قد بلغ مبالغ الرجال، وسعيد بأنه سيرى أباه عندما يجيء، وعندئذٍ يقوم بالتحية اللائقة بأبيه. أما زوجتي أنا فقد حَرمَت عيوني رؤية ابني، وقبل ذلك قتلَتْني أنا، زوجها. كذلك سأُخبركَ بأمرٍ آخر، عسى أن تحفظَه في قلبك. عليك أن تذهب بسفينتك سرًّا إلى ساحل وطنك العزيز، وليس علنًا؛ لأنه لم تعُد هناك ثقةٌ بعد الآن في النساء، ولكن خبِّرني عن هذا بالحقيقة واصدُقني القول، ألم تسمع مصادفةً عن ابني الذي ربما يكون لا يزال على قيد الحياة في أورخومينوس، أو في بولوس الرملية، أو حتى مع مينيلاوس في إسبرطة الفسيحة؟ لأن أوريستيس Orsetes العظيم لم يَهلِك بعدُ فوق الأرض.»

هكذا تكلَّم، فأجبتُه بقولي: «يا ابن أتريوس، لِمَ تسألني عن هذا؟ لستُ أعرف، إطلاقًا، ما إذا كان حيًّا أو ميتًا. وإنه لقبيحٌ بي أن أتحدَّث إليكَ بعباراتٍ لا فائدة منها؛ إذ تكون باطلة كالريح.»

أخيل يتحدث إلى أوديسيوس

هكذا وقفنا كلانا، وتبادلنا الأحاديث المحزنة، مكتئبَين نذرف الدموع السواجم، وعندئذٍ أقبلَت روح أخيل Achilles ابن بيليوس، وأرواح باتروكلوس Patroclus، وأنتيلوخوس Antilochus المنقطع النظير، وأياس Aias، الذي كان يفوق سائر الدانيين جمالًا وشكلًا، بعد ابن بيليوس، الذي لا يدانيه أحد. كذلك تعرَّفتُ على روح أياكوس Aeacus السريع القدمَين، وتحدَّث إليَّ، باكيًا، بعباراتٍ مُجنحة، فقال:
«يا ابن لايرتيس، أيها المنحدر من زوس، أيا أوديسيوس، الكثير الحيل، أيها المتهور، أي عملٍ أعظمُ من هذا سوف تُدبِّره في قلبك؟ كيف بلغَتْ بك الجُرأة أن تهبط إلى هاديس حيث يسكن الموتى، غير عابئ بأشباح الناس الرثَّة؟»١٩

هكذا تكلَّم فأجبتُ قائلًا: «أي أخيل، ابن بيليوس، يا من تفوق في عُتوِّك سائر الآخيين، لقد جئتُ بسبب الحاجة إلى تايريسياس، عسى أن يُخبرني عن خطَّةٍ ما أستطيع بها الوصول إلى إيثاكا الوَعْرة؛ لأنني لم أقترب بعدُ من أرض أخايا، ولم تطأ قدمي، حتى الآن، أرضَ وطني، بل ما أزال أُقاسي الأهوال على الدوام، وإنه لم يكن هناك في سابق الأيام من هو أكثرُ بركةً منك، يا أخيل، ولن يأتي فيما بعدُ أبدًا؛ فعندما كنتَ حيًّا فيما مضى، بجَّلناك، نحن معشر الأرجوسيين، كالآلهة تمامًا، والآن وأنتَ هنا، تحكُم بشدة بين الموتى؛ وعلى ذلك لا تحزن بحالٍ ما، على موتك، يا أخيل.»

قلتُ هذا، فأجابني في الحال بقوله: «كلا، يا أوديسيوس المجيد، لا تُحاول أن تُحبِّذ لي الموت، كنتُ أُفضِّل أن أعيش فوق الأرض، وأن أشتغل أجيرًا في خدمة رجلٍ آخر، مهما كان حقيرًا، ضئيلَ الرزق، على أن أكون الآن سيدًا على جميع الموتى الذين هلَكُوا، ولكن خبِّرني عن ابني ذلك الشاب المجيد، هل سار إلى الحرب ليكون قائدًا، أم لم ينخرط في الجيش؟ كذلك خبِّرني عن بيليوس النبيل، إذا كنتَ قد سمعتَ شيئًا، أما زال ذا مجدٍ وسط قوم المورميدون Myrmidons، أم انقطع تبجيل الناس له في سائر أنحاء هيلاس Hellas وفثيا Phthia، بسبب الشيخوخة التي شلَّت يدَيه وقدمَيه؟ لأنني لستُ هناك لأُقدِّم له المعونة، تحت أشعَّة الشمس، بمثل القوة التي كانت لي ذات يومٍ في طروادة الفسيحة، عندما قتلتُ خير ما في الجيش دفاعًا عن الأرجوسيين؛ فلو كان بإمكاني، أن أذهب فقط إلى بيت أبي ولو لمدة ساعة، وأنا بمثل تلك القوة، لأعطيتُ الكثيرين، ممن يؤذونه ويُبعِدونه عن مجده درسًا يجعلُهم يَرهَبون قُوَّتي، ويدَيَّ اللتَين لا تُقهران.»
هكذا قال، فأجبتُه بقولي: «الحقيقة، أنني لم أسمع شيئًا عن بيليوس النبيل، أما فيما يتعلق بابنكَ العزيز، نيوبتوليموس Neoptolemus فسأُخبركَ عنه بكل صدقٍ كما طلبتَ مني. إنني أنا نفسي الذي أحضرتُه من سكورس Scyros، في سفينتي الجميلة الواسعة، لِيلحَق بجيش الآخيين المدرَّعين جيدًا. والحقيقة، أنه كلما طاب لنا أن نتشاور في أمر مدينة طروادة، كان هو دائمًا أول من يُبدي برأيه، ولم يخطئ في الرأي أو الحديث. إنه نسطور الشبيه بالإله، ولم يكن هناك من يبُذُّه غيري أنا وحدي. وعندما كنا نتقاتل بالبرونز الحادِّ فوق السهل الطروادي، لم يتخلف هو قط عن حشود أو ضغط الرجال، بل كان يُسرع دائمًا إلى المقدمة، وفي قوته لم يكن ليستسلم لأحد، وقد جندل كثيرًا من الرجال في قتالٍ مرير، ولستُ بحالٍ ما قادرًا على ذكر أو تسمية جميع أولئك الذين صَرعَهم في دفاعه عن الأرجوسيين، وكم كان شجاعًا ذلك المحارب، الأمير يوروبولوس Eurypylus بن تيليفوس Telephus، الذي قتله بسيفه! نعم كما جندل كثيرًا من رفاقه الكريتيين، من حوله بسبب هدايا اشتهَتها٢٠ امرأة. لقد كان بحقٍّ أجملَ رجلٍ وقعَت عليه عيناي، بعد ميمنون Memnon٢١ العظيم. وفي مرةٍ أخرى عندما كنا نحن، خيرة الأرجوسيين، على وشَك الدخول في الحصان الذي صنعه إيبيوس Epeus، وعهدوا إليَّ برئاسة كل شيء، أن أفتح وأغلق بابَ مكمننا المتين الصنع، وكان القادة والمستشارون الآخرون، يمسحون الدموع وقتئذٍ من عيونهم، وكان كل رجل يرتجف فرائصَ وأعضاء، ولكن لم تُبصِر عيناي وجهه يُمتقَع إطلاقًا، ولا أن رأته يمسح دمعةً من فوق خدَّيه، بل كان متلهفًا في حماس، وتوسَّل إليَّ أن أسمح له بالذهاب مع الحصان، وظل ممسكًا بقائم سيفه ورمحه المثقل بالبرونز؛ إذ كان تواقًا إلى إنزال الضر بالطرواديين. وبعد أن اقتحمنا مدينة بريام الشامخة، ركب ظهر سفينته ومعه نصيبه من الغنائم وجائزته العظيمة، سالمًا تمامًا، لم يُصِبه رمحٌ حاد، ولم يُجرح في قتالٍ متشابك، كما يحدث كثيرًا في الحرب؛ لأن أريس يثور محدثًا فوضى.»
ما إن قلتُ هذا، حتى رحلَت روحُ ابن أياكوس عَبْر حقل البروق Asphodel، مغتبطًا بأن سمع مني أن ابنه كان مُبرزًا.

الأرواح تسأل أوديسيوس عن أحبائها

وأرواحٌ كثيرة أخرى، لمن ماتوا ومضَوا، وقفَت مكتئبة، تسألني كلٌّ منها عن أعزَّائها، ومن بينهم جميعًا، وقفَت روح أياس بن تيلامون Telamon،٢٢ بعيدًا، وهي لا تزال حانقة بسبب النصر الذي أحرزتُه عندما تفوقتُ عليه في المسابقة بالسفن على أسلحة أخيل، التي قدَّمَتها أمه المبجَّلة، كجائزة للفائز، وكان الحكام في ذلك أبناء الطرواديين، وبالاس أثينا، ليتني لم أنزل في المباراة بمثل تلك الجائزة؛ فقد أطبقَت الأرضُ على مثل ذلك الرأس النبيل، بسبب تلك الأسلحة، أطبقَت على رأس أياس، الذي بذَّ سائر غيره من الدانيين في الجمال وفي ضروب القتال، بعد ابن بيليوس المنقطع النظير، فتحدَّثتُ إليه بعباراتٍ ملطفة، قائلًا:

«أي أياس بن تيلامون، المنقطع النظير. أما حان لك أن تنسى غضبكَ مني بسبب تلك الأسلحة اللعينة، حتى بعد وفاتك؟ الحقيقة، إن الآلهة قدَّمَتها لنجلب الأذى على الأرجوسيين. لقد فقدوا بفقدك، مثل هذا الحصن من القوة، وإنا نحن الآخيين، لا نكُف قط عن الحزن من أجلك، بعد موتك، كما كنا نحزن تمامًا على حياة أخيل بن بيليوس. ومع ذلك فليس الملوم في ذلك غير زوس، الذي حمَل الكراهية الفظيعة ضد جيش الرمَّاحين الدانيين، وعاجلك بمصيرك. وهلُم إليَّ هنا أيها الأمير، حتى تستطيع الإصغاء إلى حديثي، وتُخضع غَضبَك وروحك الشامخة.»

هكذا قلتُ، بيد أنه لم يُجبني ببِنتِ شفَة، بل انصرف في طريقه إلى إيريبوس لينضم إلى بقية الأرواح الأخرى، أرواح مَن ماتوا ومضَوا. ويا ليته، رغم ذلك، قد تحدَّث إليَّ، مع كل غضبه، أو تحدَّثتُ أنا إليه! وكان قلبي الكائن في صدري تواقًا لرؤية أرواح أولئك الآخرين الذين ماتوا.

أوديسيوس يرى أرواحًا تتعذب

ورأيتُ هناك مينوس Minos المجيد، ابن زوس، ممسكًا بالصولجان الذهبي في يده، يحكُم بين الموتى وهو جالس في مقعده، بينما هم قيامٌ حول الملك وقعود، في بيت هاديس المتسع الباب يطلبون منه الحُكم.

ومن بعده شاهدتُ أوريون الهائل، يسوق الوحوش الكاسرة، عَبْر حقل البروق، تلك الوحوش التي قتلها، هو نفسه، فوق التلال الموحشة، وهو يمسك في يديه هراوةً كلها من البرونز، غير قابلة للكسر.

كذلك أبصرتُ تيتيوس Tityos٢٣ ابن جيا Gaea، المجيد، مستلقيًا على الأرض، ممددًا فوق تسع نتوءاتٍ صخرية، بينما يقبع نسران؛ واحد عن كل جانب، ينهشان كبده ويمُدَّان منقارَيْهما في أحشائه، وهو لا يملك من نفسه دفعًا لهما بيدَيه، وذلك بسبب استخدامه العنف مع ليتو، زوجة زوس المجيدة، بينما كانت ذاهبة صوب بوثو Pytho خلال بانوبيوس Panopeus، ذات المروج الخلابة.
كما رأيتُ تانتالوس Tantalus،٢٤ يعاني أمَرَّ العذاب وأمَضَّه، واقفًا في مستنقع والمياه تبلُغ الزُّبى. وكان بالرغم من ذلك يشكو، ولا يستطيع أن يتناول من الماء القريب من فمه ويشرب؛ فكلما انحنَى ذلك الرجل العجوز، متلهفًا إلى إطفاء ظمئته، انحسر الماء واختفى، وظهرت الأرض السوداء عند قدمَيه؛ إذ كان أحدُ الآلهة يجعل كل شيءٍ جافًّا، كما كانت الأشجار الباسقة المونقة دانية القطوف فوق رأسه، أشجار الكمَّثرى والرمان والتفاح، بثمارها اليانعة اللامعة، وتينها الحلو، وزيتونها الغزير، ولكن ذلك الكهل المسن، كلما هم بالوصول إليها ليُمسِكها بيدَيه، هبَّت عليها الرياح ودفعَتْها إلى السحب الظليلة.
ورأيتُ سيسوفوس Sisyphus،٢٥ في عذابٍ مرير، يُحاول أن يرفع صخرةً مائلة بكلتا يدَيه، ملقيًا بها فوق قمَّة تل، بيد أنه كلما أوشك أن يقذف بها فوق القمة، ردَّها الثقل إلى الوراء، ثم إلى أسفل من جديد، فتسقُط تلك الصخرة العاتية متدحرجة فوق السهل، فيُعاود المحاولة من جديد، ويقذف بها ثانية، والعرق يتصبَّب من أطرافه، والغبار يتصاعد من رأسه.

أوديسيوس يرى هرقل ويُحادثه

ومن بعده أبصرتُ هرقل العتيد — شبحه — إذ كان هو نفسه وسط الآلهة الخالدين يحظى بالتمتُّع بالوليمة، وكانت زوجته هيبي Hebe٢٦ الفاتنة العقبَين، ابنة زوس العظيم وهيرى Here٢٧ ذات النعال الذهبية. وكان يتصاعد من حوله ضجيج الموتى، أشبه بصخب الطيور التي تُحلِّق مذعورة في كل مكان، وهو أشبه بالليل الداجي، مثبتًا سهمه العاري فوق الوتر، وأخذ يتطلَّع حوالَيه بفظاعة، كما لو كان مُزمِعًا التسديد. وما كان أعظَم الحزام الذي تمنطَق به حول وسطه، دَرقَة من العسجد، نُقشَت عليها تصاويرُ عجيبة، دببة وخنازيرُ برية ضارية، وأسودٌ بَرَّاقة العيون، ومشاجرات ومعارك، وقتلٌ ونحرٌ للرجال! ليت الذي جادت قريحتُه بتصميم رسوم ذلك الحزام، لم يُصمِّمه قط، كما نرجو ألا يُصمِّم غيره مثله. أما هو فقد عَرفَني بدوره بمجرد أن أبصَرتْني عيناه، فتكلَّم إليَّ بعبارات حماسية٢٨ وهو يبكي فقال:

«يا ابن لايرتيس، يا سليل زوس، أي أوديسيوس الكثير الحيل، آه لك! أيها الرجل الشقي، أكذلك أنت منحوس الطالع سيئ الحظ، تعاني آلامًا كالتي كابدتُها أنا تحت أشعة الشمس؟ إنني ابن زوس بن كرونوس، وقاسيتُ محنًا يُخطئها الحصر؛ إذ كنتُ عبدًا لرجلٍ يفوقني سوءًا فرض عليَّ أعمالًا شاقة؛ فذات مرة أرسلَني من هنا لأُحضِر كلب هاديس؛ لأنه لم يستطع أن يُدبِّر لي عمرًا آخر أشد وعُورة من ذاك، فحمَلتُ الكلب، وقُدتُه بعيدًا عن بيت هاديس، وكان هيرميس هو قائدي وكذلك أثينا ذات العينَين النجلاوَين.»

ما إن قال هذا، حتى انبرى عائدًا في طريقه إلى بيت هاديس. أما أنا فبقيتُ هناك ثابتًا في مكاني، أملًا في أن تجيء قوةٌ أخرى من الأبطال المحاربين الذين ماتوا في غابر الأزمنة. كما أنني استطعتُ أن أرى آخرين من رجالات الأزمان الماضية، الذين كنتُ أتوق إلى مشاهدتهم، ثيسيوس Theseus وبايريثوس Peirithous، وهما ابنا الآلهة المجيدين، وقبل ذلك كانت ملايينُ من قبائل الموتى قد أقبلَت متدفِّقة في صُراخٍ عجيب، فألمَّ بي الخوف الشاحب، خشية أن تُرسل إليَّ بيرسيفوني الجليلة، من داخل بيت هاديس، رأسَ الجورجون Gorgon،٢٩ ذلك الوحش المرهوب.

أوديسيوس يبارح العالم السفلي

بعد ذلك انطلقتُ في الحال إلى السفينة، وأمرتُ رجالي بأن يعتلوا ظهرها، هم أنفسُهم، ويُسرعوا بحل الحبال المتينة؛ ومِن ثَمَّ صَعِدوا إلى ظهر السفينة في سرعة، واستَوَوْا فوق المقاعد، فحمل الفيضان الضخم السفينة إلى مجرى أوقيانوس، أوَّل الأمر بواسطة تجذيفنا، ثم فيما بعدُ بواسطة ريحٍ معتدلة.

١  شعبٌ خرافي يقيم في أقصى الغرب إلى جوار أوقيانوس، في بلاد كلها ضباب وسحاب، لا تبصر الشمس في شروقها أو غروبها.
٢  يُمثِّل الظلمة وعلى الأخص ظُلمة باطن الأرض التي لا يمكن اختراقها؛ ولذلك يُستخدَم اسمه عادةً إشارةً إلى العالم السفلي نفسه.
٣  هذه العبارة الأخيرة لا وجود لها في النص اليوناني، أوردناها زيادةً في الإيضاح.
٤  أي: «حارة».
٥  هو ابن الحورية خاريكلو ووالد ابنةٍ واحدة تُدعى مانتو. كان تايريسياس طيبيًّا، ومن أشهر المنجِّمين والعرَّافين الذائعي الصيت. اكتسب قدرته على التنجيم بطريقةٍ غريبة، بينما كان يسير فوق جبل كيثايرون ضرب بعصاه ثعبانَين رآهما يختفيان، فتحوَّل هو في الحال إلى امرأة. وبعد مُضي سبعِ سنين قابَل هذه الحالة مرةً أخرى فتحوَّل إلى رجل. ويقول البعض إن هذه الأمور تمَّت بمساعدة أبولو. سأله زوس أن يفُضَّ نزاعًا نشأ بينه وبين هيرا عن أيهما أكثر تمتعًا بالحب الرجل أم المرأة، فقال تايريسياس إنها المرأة، فأيَّد بذلك رأي زوس، فاعتَبرتْ هيرا ذلك إهانةً لها وعاقَبتْه بأن سلبَتْه بصره، فسَرَّى عنه زوس بأن أعطاه موهبة التنجيم والحياة سبعةَ أجيال، كما وعده بأن يحتفظ في هاديس حتى بعد الموت بملَكَاته دونًا عن غيره.
٦  الترجمة الحرفية: ممزوج بملح.
٧  أي وسط الثراء والراحة.
٨  هي ديانا عند الرومان. كانت ابنة زوس وليتو وشقيقة توءم لأبولُّو، إله الشمس، كما كانت تحظى بمرتبةٍ رفيعة بين آلهة أوليمبوس، وتُعتبر عادةً ربة الصيد، وعذراء الصيادين المُتردِّدة على الغابات والتلال والسهول.
٩  زوجة بلوتو، رب الجحيم.
١٠  يترجمها البعض: «الذي كانت مَسَرَّته في العربات».
١١  الترجمة الحرفية: بين ساعدَي زوس.
١٢  ابنة الملك مينوس ملك كريت. أحبَّت ثيسيوس عندما حضر إلى كريت ومعه الفتيات والعذارى اللواتي أرسلَتْهن أثينا كضريبةٍ لمينوس.
١٣  إله الخمر أو بالأحرى إخصاب الطبيعة، كما هو ممثَّل في الكَرمة.
١٤  ابنة أوقيانوس وتيثوس، ووالدة أطلس.
١٥  الترجمة الحرفية: فعاد ألكينوس يجيب بقوله.
١٦  قد تخلَّصَت الأم منه غير أن بعض الرعاة عثر عليه، فلما عاد بعدئذٍ نشأ على أنه ابن أتريوس الذي تزوَّجَته أمه، حدث في أثناء غياب أجاممنون في طروادة أن عَشِق أيجيسثوس زوجته كلوتايمنيسترا، فلما رجع أجاممنون قتَلاه أثناء عودته؛ ومِن ثَمَّ حكم أيجيسثوس في موكيناي سبع سنين حتى قتلَه ابن أجاممنون.
١٧  أي سريعة.
١٨  أو: «وهي متشبثة بي».
١٩  أو ربما: «الذين فَرغوا من مشاقِّ الحياة».
٢٠  يشير هنا إلى الكَرمة الذهبية التي قدَّمها بريام الأستيوخي Astyoche، لزوجة تيليفوس، تلك الهدية التي جعلَتها تُرسل ابنها يوريبيلوس لمساعدة الطرواديين.
٢١  ملك إيثيوبيا. وقد اغتصب العرش منه أخوه، ولكن هرقل أعاده إليه. وقد ذهب بعد موت هكتور لمساعدة بريام.
٢٢  ملك جزيرة سلاميس.
٢٣  ابن جيا (الأرض). كان يُعتبر أحيانًا ابن زوس وإيلارا Elara. تقول الرواية إن زوس خشي حقد هيرا، فخبَّأ إيلارا تحت الأرض فماتت قبل أن تلد تيتيوس، ولكن جيا ولدَته بعد ذلك. كان تيتيوس عملاقًا ضخمًا لاقى حتفه؛ إما عند محاولته سلبَ عِرض ليتو بالقوة مدفوعًا من هيرا؛ لأن ليتو كانت إحدى عشيقات زوس. وإما بسبب محاولته هذا الأمر مع أرتيميس. قتله زوس أو ربما أبولُّو. وصار يُضربُ به المثل في الأدب لكل من يستحق العقاب اللائق.
٢٤  كان تانتالوس ملكًا في ليديا ذا قوةٍ عظيمة وثروةٍ هائلة وصاحب حظٍّ كبير؛ لأنه كان يُدعى إلى مآدب ومجالس الآلهة. أثبتَت الأيام أن نعمه كانت أكثر من اللازم وأنها أدَّت إلى سقوطه.
٢٥  يُرمز إليه في بعض القَصص على أنه الوالد الشرعي لأوديسيوس، وكان ملك كورنثة وابنه أمكر البشر.
٢٦  هي ربة الشباب وابنة زوس وهيرا. كانت تعمل خادمة عند آلهة أوليمبوس، تُعِد عربة هيرا، وتُضمِّد جراح أريس، وتملأ أكواب الآلهة بالنكتار قبل أن يصبح جاتوميديس حامل الأكواب.
٢٧  هي هيرا، زوجة زوس، كبير الآلهة.
٢٨  النص اليوناني يقول: «مجنحة».
٢٩  هي ميدوسا أبشع الجورجونات الثلاثة منظرًا، مَن ينظر إليها يتحوَّل في الحال إلى حجر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤