سيكي الكلب البوليصي

منذ سبعين ثمانين سنة سمع أو شهد أديب بك إسحق سباق كلاب في باريس، فكتب مقالًا رصعه ببيتين قالهما في ذلك المشهد أذكر منها هذا الشطر: حتى الكلاب لها هناك جوائز.

ترى ماذا كان يقول اليوم لو كان له عين ترى؟! ماذا تراه كان يقول، لو سمع، مثلما سمعت، بأخبار هذا الكلب العجيب سالكي أو سيكي، كما قرأت اسمه في الصحب اليومية والأسبوعية التي صورته؟ إذا كانت جوائز سباق كلابي قولت أديب زمانه وصحافي عصره شعرًا، فماذا كان يقول لو رأى هذا الكلب البوليصي، وقرأ وصف العناية التي يقتضيها أسلوب حياته حتى يفلح ويقوم بمهمته على أتم وجه. فلا بد له — كما طالعت — من تدليك وتمسيد وتمشيط يوميًّا إلى آخر ما هنالك عدا السهو والغلط لأنهم لم يذكروا إذا كان لا بد من التعطير أيضًا. وقالوا: إنه لا بد من تأمين الوقاية والأسباب الصحية للأماكن والأوعية التي يتناول فيها غذاءه، وقالوا: إن وجبة طعامه تتألف من اللحم والخضار المسلوقة، ونوع من الخبز خاص.

ألا ترى أنها نوع من الرجيم؟ تمامًا كأسلوب الأكل في المستشفيات، فإذا كنت لم تزرها بعد، فلسوف تذكرني إذا دخلتها بعد حين، لا سمح الله.

وأي مقال كان يكتب أديب إسحق لو درى أن هذا الكلب يتعلم كالطلاب الآدميين، وله سجل مدرسي فينتقل بناء عليه، من صف إلى صف حسب نبوغه الذي يدل عليه هذا الدفتر الخاص المبينة فيه أخلاقه، وعاداته، وعلاماته، ودرجاته. حتى إذا ما بلغ الشوط الأخير من السباقات المدرسية يحوز الشهادة. لا أدري إذا كانت هناك أيضًا شهادات ثانوية وجامعية، وألقاب علمية لهؤلاء الكلاب.

وعلى كل حال قد فسح وجودهم عندنا مجالًا لوظائف جديدة. فلا بد لكل كلب من ماشطات، وطابخات، وغاسلات تسهر على تسريح شعره وتنظيفه، ولا بد من ممرضات تكون أعينهن عشرة عشرة لتأمين وجبات أكله، ولا بد من ساهرات على نظافة المنزل وتمهيد الفراش والحيلولة دون زعيق الراديوات وتزمير السيارات، كما لا بد من مرافقين له في أوقات فراغه. إذن فليستعد الجنسان لتقديم الامتحان. والشرط الأول في من يتقدمن ويتقدمون إلى هذه الوظائف أن يكونوا يحسنون اللغة الإنكليزية ويخرجون الحروف إخراجًا على حقه، لا بلديًّا كما نتكلم نحن، فأصحابنا هؤلاء لا يفهمون إلا لغة وطنهم. وسيكي ورفاقه السبعة ينبشون المجرمين ولو كانوا في قاع الأرض بشرط أن تحسن رعايتهم وسياستهم.

وقد قرأت أن الطالب النجيب من هؤلاء الكلاب تراعى في تعليمه قاعدة جدودنا القدماء: العلم في الصغر كالنقش على الحجر. فلا يقبل أحدهم في المدرسة إذا تجاوز عمره السنة مهما كان لديه من الوسائط. فهو ليس مثلنا، نحن البشر، يقبل في المدارس ولو كان طول عمود خلده.

إن هذا التعريف بضيوفنا الأعزاء — عفوًا، بل بالذين صاروا، بعد اليوم، منَّا وفينا — واجب جدًّا ليعرف القارئ مع من نتكلم اليوم. والآن ننتقل إلى الكتاب المفتوح الموجَّه إلى زعيم هؤلاء الكلاب.

عزيزي سيكي

عم صباحًا يا أخا الكلاب. لا تغضب إذا حييتك بتحية الجاهلية، فأنت وإن تفوقت على الكثيرين منا بالغريزة، فما زلت تعد غير عاقل ولا يحل عليك سلامنا. لقد شرفت جنسك أيها الكلب الذكي، وانتزعت الاحترام انتزاعًا حين اهتديت إلى المجرمين من البشر، إني لأرجو أن يخجل الإنسان المجرم حين يدل عليه كلب، ويقوده صاغرًا حين يطبق فكيه على ساعده.

يا زعيم الثمانية، حقًّا لقد ذكرتنا بمجد كلب أهل الكهف، بل تعاليت عليه علوًّا كبيرًا. قال بولس الرسول: على فم شاهدين أو ثلاثة تقوم كل كلمة، وأنت بلا كلمة ودون أن تلفظ مقطعًا من كلمة، تقوم شهادتك. فماذا ينفع الإنسان نطقه إذا كانت لا تقبل شهادته مفردًا وتقبل شهادتك أنت وحدك! لقد رفعت اسم الكلاب عاليًا يا عزيزي. وهل يحق لنا، نحن البشر، بعد هذا، أن نعير ونحقر بعضنا بكلمة يا كلب! أما صار بعضنا تحت رحمتكم! ترى هل لنا أن نطعن بشهادتكم؟ وإلا فأين ذهب اجتهاد المحامين وهل له دور في شرع الكلاب؟ أنت كلب بشهادة، فصارت شهادتك لا ترد، والمليح فيك أنت لا تحابي ولا تمالئ. تشم وتحكم حكمًا مبرمًا فلا اعتراض ولا استئناف ولا تمييز. وأحسن ما في الأحسن فيك أنك لا تراعي في المنام خليلًا. تفعل بوحي من منخريك، وأذناك لا تقبلان واسطة أحد لا من رجال دين ولا من رجال دنيا … الحاكم منخرك، والمنفذ فكك. قيل قديمًا: مقتل الرجل بين فكيه، أما اليوم فصار مقتله بين فكيك. ولكن بحياة والدك خبرني: هل أنت معصوم؟! وإذا أخطأت يا كلب، فخطيئتنا برقبة من تكون؟!

وبعد يا عزيزي سيكي، ترى أتعرف حلال العملة من حرامها؟ وهل إذا شممتها في المصارف حيث تودع أمانة في صناديق حديدية يرسم أصحابها، أتقدر أن ترشد إليها؟!

وأيضًا يا عزيزي سيكي، أصحيح أنك لا تأكل زادك ولو جائعًا إلا إذا أمرك ولي أمرك؟ فما قولتك غدًا حين ترى البعض عندنا يأكلون غير الخبز، يأكلون الصناديق الحديدية فوق الشبع.

ثم يا عزيزي، هل تظن أننا لا ننتزع المجرمين من أشداقك، ما دمنا نكذب السجلات وقيودها!!

وهل يعقل أننا لا نكذب كلبًا مثلك؟ فإذا سمعت مني يا سيكي فلا تتعب نفسك كثيرًا. فأنت تمسكهم والوسائط تفلتهم. أظنك تشم ولا تسمع، وإلا لكان بلغك ما يقال تحت قبة البرلمان. فحديث (الواسطة) وغيره ليس من عندي، بل من عند نواب الأمة، وصاحب البيت أدرى بالذي فيه.

إن بوليصنا وشرطتنا وأمننا العام قلَّما أفلت منهم جانٍ، ولكن المهم أن نقبض على من يفلتونهم، أن نمسك بالذين يتداخلون لمصلحتهم، فلو وفرنا للمسؤولين عن الأمن عندنا ما سيوفر لك من الوسائل الصحية، واعتني بهم، كما سيعتنى بك، لعملوا العجائب. فإذا كانوا — وهم على ما هم — لا يخفى عليهم شيء. إذا كانوا هم يعدون كل شيء بأنفسهم ويفعلون ما يفعلون، فكيف يكونون لو تهيأ لهم ما سيهيأ لك أنت. أما قلنا أن سيكون لك نظام أكل صحي دائم، تمامًا كالذي روعي لي في المستشفى غصبًا عني، أما الآن فصرت لا أقدر على ذلك لأن نفسي رخوة أولًا، وثانيًا لأني لا أستطيع.

كُنَّا فيما مضى نفتخر بالحمام الزاجل الذي كان ينقل رسائلنا بأمانة في المُلِمَّات وساعة الضيق، أما الآن فأنت موضوع إعجابنا يا سيكي.

وبعد، فأهلًا وسهلًا يا سيكي، أرأيت كيف احتفينا بك وكيف خففنا إلى استقبالك؟ فقد احتللت الصفحة الأولى من صحفنا كأنك ضيف كبير أو عبقري عظيم. لا يدهشك هذا الاستقبال الرائع، فتلك عادتنا ولو مع الكلب إذا كان يستحق الإكرام. وعندنا مثل يقول: من وقَّر الكلب وقر صاحبه، وكلب المير مير. إذن كان للكلب عندنا وقار قبل تشريفك. وإذا كنت كلبًا ذئبيًّا فقبلك دعا الفرزدق المرحوم جدك بقوله:

وأطلس عسال وما كان صاحبًا
دعوت بناري موهنًا فأتاني
فلما دنا قلت: ادنُ دونك، إنني
وإياك في زادي لمشتركان
فبتُّ أسوي الزاد بيني وبينه
على ضوء نار مرة ودخان
فقلت له، لما تكشر ضاحكًا
وقائم سيفي من يدي بكمان
تعشَّ، فإن واثقتني لا تخونني
نكن مثل من، يا ذئب، يصطحبان

ذكرني هذا وصفهم لك بأنك أطلس عسال، ولا عجب في هذا فنحن نقول: إن الأصول عليها تنبت الشجر. والابن سر أبيه، فبورك فيك من ابن أصل.

المصيبة يا سيكي، إني وإياك لمختلفان. أنت تفهم الإنكليزية وأنا أفهم الفرنسية، ومع ذلك ألخص لك ما أريد أن أقول في هذا المقام الكلي الجد …

أظن أن قصيدة ذئب دافيني الشاعر الفرنسي مترجمة إلى اللغة التي تفهمها أنت، فإذا قابلت بين وصف شاعرنا وشاعركم لاستقبال الذئب عرفت أننا نكرم الضيوف ولو كانوا ذئابًا … ولسنا مثل غيرنا، وفي هذا يقول الفرزدق أيضًا:

ولو غيرنا نبهت تلتمس القرى
أتاك بسهم أو شباة سنان

وإذا كان ذلك كذلك، فكم ترانا نكرمك أنت الآتي لتعاوننا على المجرمين منَّا وتدلُّنا عليهم.

اعذرني إذا خاطبتك برفع الكلفة، فما لقبتك لأنني لا أعرف لقبك، وما كنيتك لأني لا أعرف الكبير من أنجالك المحروسين، حفظهم الله. الألقاب عندنا محفوظة للغرباء وأنت، كما قلنا، صرت منَّا وفينا، ومع ذلك فنحن نقدر الناس، فعلى قدر موهبتك سوف يكون تعظيمنا لك. أما أسلوب معيشتك أو الراجيم المحدد فسيكون كاملًا غير منقوص. فالميزانية عندنا مرحرحة، ونحن كرماء وأنت تستاهل.

يقولون: إن الكلب ينبح على الفقراء فعسى أن لا تكون منهم، أي من الكلاب غير المثقفين، فتنبح على أكثرنا وخصوصًا أبناء القرى مثلي لأننا جميعًا فقراء مساكين، مربى الجبال لا مربى سكوتلاند. كان ينقصنا الخوف والآن قد وجدناه بتشريفك يا عزيزي. أما إذا تعودت أن تقيسنا بغير اللباس فيزول فزعنا، وإلا قاطعنا العاصمة وما أشبهها، وتركناك غارقًا بين زبونات الماتينه والسواره وحفلات الكوكتيل.

إن الخطر الكبير هو عليَّ يا عزيزي سيكي، ولكن سوف أتنكر فلا تهاجمني بريئًا إذا رأيتني في الشارع. سوف آخذ ما يلزم من هذا الرفرف القائم فوق عيني، فأتقي شرك. الآن أظن أن القارئ قد أدرك سبب توجيه هذا الكتاب المفتوح إليك وأنت كلب ابن كلب.

وجهت إليك هذا المكتوب الناعم لأتقي شرك، وإني لواثق أن الثناء يغرك كما يغرني فتكف عني شرك. نحن يا أخا الكلاب بشر، والناس تؤثر بهم الكلمة أكثر من العضة، فبحياتك لا تكشر كثيرًا عن أنيابك إلا حيث يلزم.

حاشية — بيني وبينك — يا سيكي، أنا لا أؤمن كثيرًا بما يقال. لا أصدق حتى أجرب، فمن يكفل لي أنك لا تشهد بالزور ولو خطأ. وتأخذ أحيانًا البريء بجريرة المجرم، ولكن لا خوف من ذلك، فالجنابة قد تصير جنحة، والجنحة قد تطمر ولا يستطيع نبشها أحد، لا أنت ولا جد جدك.

وعلى كل حال أرنا بتعك، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان. ولا تؤاخذني إذا ذكرت على مسامعك الامتحان وأنت صاحب شهادة، كما يقول مدربوك، فعندنا يمتحنون أصحاب الألقاب العلمية الكبرى. وختامًا تفضل بقبول فائق احترامي وتقديري، ولو على غير معرفة، فشاعرنا يقول: والأذن تعشق قبل العين أحيانًا.

وإلى اللقاء القريب عن غير طريق الجريمة، إن شاء الله وإذا شئت أن تتفضل بالجواب، وأظنك ستفعل، فهذا عنواني: عاليه مارون عبود، مع حفظ الألقاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤