الفصل الأول

(١) عاشِقِ الذَّهَبِ

كانَ — في قَدِيمِ الزَّمانِ — مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الرُّومِ، اسْمُهُ: الْمَلِكُ «مَيْداسُ» وكانَ لِهذا الْمَلِكِ بِنْتٌ صَغِيرَةٌ، جَميلةُ الْوَجْهِ، عَظِيمَةُ الْخُلُقِ، أَسْماها: «مَرْيمَ الذَّهَبِيَّةَ».

ولعَلَّكَ تَعْرِفُ مِنْ هذهِ التَّسْمِيَةِ حُبَّ أَبيها وشَغَفَهُ بِالذَّهَبِ إِلى حَدِّ أَنْ أطْلَقَ اسْمَهُ عَلَى بِنْتِهِ.

وَلَقَدْ كانَ الْمَلِكُ «مَيْداسُ» يُحِبُّ بِنْتَهُ «مَرْيمَ» حُبًّا شَدِيدًا. ولكنَّ ذلكَ الْحُبَّ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، إذا قِيسَ إِلى شَغَفِهِ بِالذَّهَبِ، وَوُلُوعِهِ بِالثَّراءِ.

كانَ ذلكَ الرَّجُلُ مَفْتُونًا بِحُبِّ الذَّهَبِ، وكانَ يُنْفِقُ أَيَّامَهُ في جَمْعِه، ويُؤْثِرُهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ في الدُّنْيا، ولا يُفَكِّرُ في شَيْءٍ سِواهُ، حَتَّى أَطْلَقَ عَلَيْهِ النَّاسُ لَقَبَ: «عاشِقُ الذَّهَبِ».

(٢) كَنْزُ «مَيْداسَ»

وقَدْ أحْرَزَ الْمَلِكُ «مَيْداسُ» تَلًّا كبِيرًا مِنَ الذَّهَبِ، وجَمَعَ في قَصْرِه كَنْزًا، لَمْ يَجْمَعْ مِثْلَهُ أحَدٌ مِنْ قَبْلِهِ. وأذْهَلَهُ حُبُّ الذَّهَبِ عَنْ كلِّ ما في الدُّنْيا مِنْ مَباهِجَ ومَشاغِلَ، وأَصْبَحَ لا يُطِيقُ أنْ يَرَى شَيْئًا أمامَ عَيْنَيْهِ إِلَّا أنْ يَكُونَ عَسْجَدًا حُرًّا (ذَهَبًا خالِصًا)!

وقَدْ تَعَوَّدَ أنْ يَقْضِيَ شَطْرًا كَبِيرًا مِنْ يَوْمِهِ في سِرْدابٍ مُظْلِمٍ في قَصْرِهِ، لِيُمْتِعَ نَظرَهُ بِرُؤْيَةِ ما في كَنْزِهِ مِنَ الذَّهَبِ. وكانَ قَدْ شَيَّدَ ذلكَ السِّرْدابَ الْمُظْلِمَ، وَخَبَأ فِيهِ كَنْزَهُ الْمَمْلُوءَ بِالنَّفائِسِ الذَّهَبِيَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ أحَدٌ لِيُطِيقَ أنْ يَبْقَى في هذا السِّرْدابِ الْمُوحِشِ إِلَّا الْمَلِكُ «مَيْداسُ» وحْدَهُ.

(٣) أحْلامُ «مَيْداسَ»

وكانَ إِذا دَخَلَ سِرْدابَهُ أَغْلَقَ بابَهُ عَلَيْهِ، وأحْكَمَ رِتاجَهْ (قُفْلَهْ)، ثُمَّ أجالَ بَصَرَهُ في كَنْزِهِ، وظَلَّ يَعُدُّ دَنانيرَهُ وسَبائِكَهُ الْعَسْجَدِيَّةَ (الذَّهَبِيَّةَ) ويَحْمِلُها إلى طاقَةٍ صَغِيرَةٍ يَنْفُذُ مِنْها شُعاعٌ ضَئِيلٌ مِنْ أشِعَّةِ الشَّمْسِ، لِيُمْتِعَ نَظَرَهُ برُؤْيةِ بَرِيقِها ولَمَعانِها، ولَمْ يَكُنْ يَرَى لِلشَّمْسِ فائِدَةً أكْبَرَ مِنْ أَنَّها تَعْكِسُ أضْواءَها عَلَى ذَلكَ الْمَعْدِنِ النَّفيسِ الَّذِي لا يَعْدِلُهُ شَيْءٌ — في الدُّنْيا كلِّها — نَفاسَةً وَخَطرًا.

وَيَظَلُّ — طُولَ وَقْتِهِ — مَشْغُولًا بِتَعْدادِ ما في كَنْزِهِ مِنَ الذَّهَبِ، وَوَضْعِ الدِّينارِ فَوْقَ الدِّينارِ، وَالسَّبِيكَةِ فَوْقَ السَّبِيكَةِ.

وَكانَ يُقَلِّبُ القِطَعَ الذَّهَبِيَّةَ، وَيَفْرُكُها بَيْنَ أَصابِعِهِ، مُغْتَبِطًا مَسْرُورًا، وَيُناجِي نَفْسَهُ قائِلًا: «ما أَسْعَدَ حَظَّكَ يا «مَيْداسُ»! وَمَا أَوْفَرَ ثَراءَكَ!»

•••

وَلَقدْ أَخْطَأَ في الأُولى، وَصَدَقَ في الثَّانِيَةِ، فَقَدْ كانَ حَقًّا أَغْنى النَّاسِ في عَصْرِهِ. ولكِنَّهُ — عَلَى وَفْرَةِ ذَهَبِهِ — لَمْ يَكُنْ سَعِيدًا؛ لِأنَّ نَفْسَهُ الشَّقِيَّةَ قَدْ حُرِمَتْ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ سَعاداتِ الْعالَمِ وَمَباهِجِهِ. وَكان «مَيْداسُ» يَشْعُرُ — في نَفْسِهِ — أَنَّهُ لا يَزالُ فَقِيرًا إِلَى الْمالِ، وَيَوَدُّ لَوْ أَصْبَحَ الْعالَمُ كُلُّه كَنْزًا مَمْلُوءًا بِالذَّهَبِ، وَلا يَرْتاحُ لَهُ بالٌ إِلَّا إذا تَحَقَّقَتْ لَهُ هذِهِ الْأُمْنِيَّةُ.

(٤) الزَّائِرُ الْغَريِبُ

وَكانَتْ تَحْدُثُ — في تِلْكَ الْعُصُورِ الْقَدِيمةِ — حَوادِثُ: نَراها عَجِيبَةً خارِقَةً لِلْعادَةِ في هذا الْعَصْرِ الذي نَعِيشُ فِيهِ، كما أَنَّ في عَصْرِنا — مِنَ الْعَجائِبِ التي أَلِفْناها، وَتَعَوَّدْنا رُؤْيَتَها — ما لَوْ رَأَى أَهْلُ تِلْكَ الْعُصُورِ الْقَدِيمةِ بَعْضَهُ، لَتَمَلَّكهُمُ الْعَجَبُ وَكَذَّبُوا أَعْيُنَهُمْ، وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُصَدِّقُوا بِوُقُوعِهِ.

وَإليْكَ شَيْئًا مِمَّا كانَ يَحْدُثُ لِلنَّاسِ مِنَ الْعَجائِبِ في تِلْكَ الْعُصُورِ الْغابِرَةِ:

جَلَسَ «مَيْداسُ» في كَنْزِهِ، بَعْدَ أَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بابَهُ. وإِنَّهُ لغَارِقٌ في إِعْجابِهِ بِرُؤْيَةِ أَكْوامِهِ الْمُكَدَّسَةِ مِنَ الذَّهَبِ الْوَهَّاجِ، إِذْ رَأَى طَيْفًا يُدانِيهِ.

فَنَظَرَ إِلَيْهِ «مَيْداسُ» مَدْهُوشًا. وَلَمْ يَعْلَمْ: كَيْفَ دَخَلَ هذا الزَّائِرُ الْغَرِيبُ كَنْزَهُ، بَعْدَ أَنْ أَحْكَمَ رِتاجَ الْبابِ عَلَيْهِ.

فَأَدْرَكَ «مَيْداسُ» أَنَّ ذلِكَ الزَّائِرَ لَيْسَ مِنَ الإِنْسِ، وأَيْقَنَ أنَّ ضَيْفَهُ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ تابِعًا (جِنِّيًّا).

(٥) حِوارُ التَّابِعِ

وَأجالَ «مَيْداسُ» لِحاظَهُ في ذلِكَ التَّابِعِ، فرَآهُ فَتًى في مُقْتَبَلِ شَبابهِ، وَرَأَى وَجْهَهُ في مِثْلِ بَياضِ الْفِضَّةِ، وَشَعْرَهُ في مِثْلِ صُفْرَةِ الذَّهَب. وَقَدْ وَقَفَ ذلِكَ الشَّابُّ في شُعاعِ الشَّمْسِ الْبَرَّاقِ، فابْتَهَجَ «مَيْداسُ» حِينَ رَآهُ، وَخُيِّلَ إِلَيْهِ أَنهُ يَرَى أَمامَهُ سَبِيكةً مِنْ سَبَائِكِ الذَّهَبِ الْوَهَّاجِ الْحَبِيبِ إِلى نَفْسِه.

وأَجالَ الزَّائِرُ بَصَرَهُ في أرْجاءِ الغُرْفَةِ، وأطالَ تَأَمُّلَهُ فيما يحْوِيهِ كَنْزُ «مَيْداسَ» مِنْ سبائِكَ ذَهَبِيَّةٍ ونَفائِسَ، ثُمَّ الْتفَت إِلَيْهِ سائِلًا: «ما أَوْفَرَ ثَراءَكَ يا صدِيقِي «مَيْداسُ»، فَما أظُن أنَّ في الدُّنْيا كُلِّها أحدًا قَدْ حوَى مِثْلَ هذا الْكَنْزِ نَفاسَةً، وما أَعْلَمُ أَنَّ رجُلًا قَدِ اسْتَطاعَ أن يجْمعَ مِثْلَ هذا الْقَدْرِ منَ الْمالِ!»

فَقالَ لهُ «مَيْداسُ»: «صَدقْتَ يا عَزِيزِي، وما أَرانِي جدِيرًا بِالتَّهْنِئَةِ، فَلَيْسَ كثيرًا عَلَيَّ أَنْ أظْفَرَ بِهذا الْكَنْزِ، وقَدْ أنْفَقْتُ حياتِي كُلَّها في جَمْعِ الْمالِ!»

فَقالَ لهُ الزَّائِرُ الْغَرِيبُ: «مِمَّ تَشْكُو أَيُّها الصَّديقُ؟ ألَسْتَ مُبْتَهِجًا بِما ظَفِرْتَ بِهِ منَ الْمالِ؟ أتطلُب الْمَزِيدَ يا عَزِيزِي؟»

فَسَكَت «مَيْداسُ»، وأوْمَأَ بِرَأْسِهِ إِيماءَةً خَفِيفَةً، تدل عَلَى سُخْطِهِ، وتُعَبِّرُ عَنْ تَبَرُّمِهِ وَضِيقِهِ وضَجَرِهِ بِحَظِّهِ التَّاعِسِ. ثُمَّ تَنَهَّدَ مُتَلَهِّفًا عَلَى تَحْقِيقِ أُمْنِيتِهِ.

فَقالَ لهُ التَّابِعُ (الْجِنِّيُّ): «خَبِّرْنِي ماذا تُرِيدُ؟ وأيُّ شَيْءٍ يُرْضِيكَ؟ تَمَنَّ عَلَيَّ الْأَمانِيَّ، فإِنِّي مُحَقِّقٌ لَكَ ما تَتَمَنَّاهُ.»

(٦) أُمْنِيَّةُ «مَيْداسَ»

فَأَطْرَقَ «مَيْداسُ» بِرَأْسِهِ لَحْظَةً قَصِيرَةً، ثُمَّ الْتَفَت إِلى مُحَدِّثِهِ، وقَدِ اهْتَدَى إِلى فِكْرَةٍ بَدِيعَةٍ، مَلَكَتْ عَلَيْهِ قَلْبَهُ، وسَحَرَتْ مِنْهُ لُبَّهُ (فَتَنَتْ عَقْلَهُ)، فَقالَ: «إِنَّ أَشَدَّ ما يَحْزُنُنِي: أَنَّنِي أَنْفَقْتُ حَياتِي، وأَضَعْتُ أَيَّامِي كُلَّها في جَمْعِ الْمالِ. وما أَرانِي قَدْ ظَفِرْتُ إِلَّا بِالْقَليل، بَعْدَ هذا الْعَناءِ والْكَدِّ. فَهَلْ مِنْ سَبيلٍ إِلى تَحْقيقِ أُمْنِيَّتِي العَزِيزَةِ؟»

فَأَجابَهُ التَّابِعُ: «قُلْتُ لَكَ: تَمَنَّ عَلَيَّ ما شِئْتَ مِنَ الأَمانِيِّ، فَإِنِّي مُجِيبُكَ إِلى ما تُرِيدُ.»

فابْتَهَجَ «مَيْداسُ»، وتَهَلَّلَ وَجْهُهُ بِشْرًا (فَرَحًا)، والْتَمَعَتْ عَيْناهُ سُرُورًا.

ثُمَّ قالَ لِلتَّابِعِ: «لَقَدْ عَشِقْتُ الذَّهَبَ، فَما أَعْدِلُ بهِ بَديلًا. ولَيْسَ لِي في الْحَيَاةِ إِلَّا أُمْنِيَّةٌ واحِدَةٌ، وهِي أَنْ يَتَحَوَّلَ كلُّ شَيْءٍ ألْمِسُهُ، فَيُصْبِحَ ذَهَبًا خَالِصًا وَهَّاجًا!»

فَقالَ لهُ التَّابِعُ: «هذِهِ أُمْنِيَّةٌ عَزِيزَةُ الْمَنَالِ، وما أَظُنُّ أَنَّ إِدْراكَها يُرْضِيكَ! والرَّأْيُ عِنْدِي أنْ تُطِيلَ تَأَمُّلَكَ، قَبْلَ أنْ أُجِيبَكَ إِلى ما تَطْلُبُهُ.»

فَقالَ لهُ «مَيْداسُ»: «ماذا تَقُولُ يَا صَاحِبِي؟ أَفِي الدُّنيا كُلِّها أُمْنِيَّةٌ أَعْذَبُ مِنْ هذِهِ الْأُمْنِيَّةِ؟»

فَقالَ لهُ التَّابِعُ: «أَخْشَى أنْ تَنْدَمَ إِذا أَجَبْتُكَ إِلى رَغْبَتِكَ!»

فَقالَ لهُ «مَيْداسُ»: «كُنْ عَلَى ثِقَةٍ أَنَّنِي لا أَرْضَى بِهذِهِ الأُمْنِيَّةِ بَدِيلًا.»

فَقالَ لهُ التَّابِعُ، وهُوَ يُوَدِّعُهُ، مُبْتَعِدًا عَنْهُ: «لَقَدْ أَجَبْتُكَ إِلى طِلْبَتِكَ، وسَأُنْفِذُ لَكَ أُمْنِيَّتَكَ في فَجْرِ الْيَوْمِ التَّالِي، فَلَنْ تَلْمِسَ شَيْئًا — بَعْدَ ذلكَ الْوَقْتِ — إِلَّا تَحَوَّلَ نُضارًا (ذَهَبًا) خَالِصًا وَهَّاجًا!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤