الفصل السادس عشر

السلام في زمننا

نحن نمُرُّ بوقت عصيب، من حيث الطقس والمشاكل التي ما تفتأ تظهر؛ فكشمير تحديدًا تتسبب لنا في صداع رهيب.

فالابهاي باتيل لجي دي بيرلا، مايو ١٩٤٩

١

إلى جانب سقوط عدة آلاف من الجنود الهنود ما بين قتيل وجريح، تضمَّنت خسائر الحرب مع الصين رئيس أركان الجيش الجنرال بي إن تابار (الذي قدَّم استقالته، متعلِّلًا بسوء حالته الصحية)، والمفكر الاستراتيجي الفاشل الفريق بي إم كاول (الذي أُحيل إلى التقاعد المبكِّر)، ووزير الدفاع في كيه كريشنا مينون (الذي أُقيل من منصبه). وتمثَّلت إحدى الخسائر الأخرى في سُمعة جواهر لال نهرو؛ فقد كانت الحرب الحدودية الفشل الأقوى أثرًا لنهرو، طوال الأعوام الخمسة عشر التي قضاها رئيسًا للوزراء. صحيح أن العجز عن تحقيق إصلاحات زراعية جذرية أثَّر على فقراء الريف، كما أن استبعاد الشيوعيين في كيرالا أغضب أُناسًا كثيرين في تلك الولاية، وكذلك كان لقطاعات أخرى من الشعب مظالم ضد الحكومة، إلا أن الفشل في حماية أراضي الدولة كان شأنًا آخر كُلِّيًّا؛ فالإذلال الناجم عنه استشعرته الأمة بأكملها، كما هو الحال دائمًا في الهزائم العسكرية.

لقد تم التضحية بكريشنا مينون وقادة الجيش، ولكن رئيس الوزراء كان يعي في قرارة نفسه أنَّه في النهاية هو المسئول عن تلك الكارثة؛ بصفة عامة لكونه رئيس الحكومة، وبصفة خاصة جدًّا لكونه الشخص الذي وجَّه وحدَّد مواقف الهند وسياساتها إزاء الصين.

وصار يجب إعادة النظر في تلك المواقف والسياسات؛ فقد أصبح بإمكان نهرو أن يرى أخيرًا ما استشعره فالابهاي باتيل منذ زمن، وهو: أنَّ الشيوعية في الصين ليست أكثر من إحدى صور القومية الأكثر ولعًا بالقتال. وأحدثت الحرب الحدودية لدى نهرو ميلًا متردِّدًا تجاه الولايات المتحدة، التي أمَدَّته بالسلاح بينما ظلَّ الاتحاد السوفييتي واقفًا على الحياد. وكان السفير الأمريكي في نيودلهي — جون كينيث جالبريث — طَرَفًا رئيسيًّا في ذلك التحوُّل؛ فنظرًا لكون جالبريث أستاذ اقتصاد في جامعة هارفرد متشكِّكًا إزاء فكرة السوق الحرة، وباحثًا في تاريخ الفن، ومعروفًا بحسن ذوقه وخفة ظله، فقد كان أمريكيًّا غير تقليدي بالمرة من وجهة نظر الهنود. (كان كنديَّ المولد في الواقع.) كانت الأوضاع تتغير في واشنطن، حيث سعى رئيسٌ شاب جديد — هو جون إف كينيدي — إلى تبديل الصورة اللصيقة بالحكومة الأمريكية بصفتها غير مبالية في الداخل ومتغطرسة في الخارج. وقد كانت رياح الليبرالية تلك هي التي حملت جالبريث إلى الهند.

فمنذ وقت تولِّيه المسئولية في السفارة في أبريل ١٩٦١، كان على علاقة جيدة جدًّا برئيس الوزراء؛ فكانا يتناقشان في أمور الفن والموسيقى والأدب، وهو ما مثَّل لنهرو تسلية مرحَّبًا بها عن المتاعب اليومية، ولكنه مثَّل من جانب جالبريث استمالة حصيفة لعقلية كثيرًا ما اتسمت بالتحامل على بلده. وفي مارس ١٩٦٢، جاءت السيدة الأولى — جاكلين كينيدي — في رحلة عبر الهند، زارت فيها تاج محل وحصون الراجبوت، وأَجْرَتْ محادثات مطوَّلة مع رئيس الوزراء.

أُخِذَ نهرو بجمال السيدة كينيدي، مثلِما أُخِذ بذكاء سفيرها. إلا أنَّ لين موقفه تجاه الولايات المتحدة لم يكن ليتحول إلى ميل لولا الحرب مع الصين؛ ففي يوم ٩ نوفمبر، بعد النوبة الأولى من الهجمات، طلب من جالبريث مقابلة رئيس الوزراء. وقال إنَّ نهرو كان «منهكًا وتلوح عليه أمارات الانهزام إلى حد ما». (في وقت سابق من ذلك اليوم، كان نهرو قد ألقى خطابًا في البرلمان «غير حماسي بالمرة».) وفي المقابلة، طلب السلاح من الولايات المتحدة، وهو ما جاء بتكلفة لا يمكن أبدًا قياسها بالنقود وحدها، لأنَّ نهرو — مثلما كتب جالبريث للرئيس كينيدي — طوال حياته:
سعى إلى تجنُّب الاعتماد على الولايات المتحدة والمملكة المتحدة؛ فمعظم تحرُّجه الشخصي من طلب المعونة (أو شكر مانحها) كان نابعًا من كبريائه … والآن لا شيء أهم لديه — على الصعيد الشخصي أكثر من الصعيد السياسي — من الحفاظ على مظاهر ذلك الاعتماد؛ فعمره لم يعد يسمح بإعادة التكيف. وأشعر أننا يمكن أنْ نكون كُرَماء في هذا الصدد إلى حد ما.1
بحلول نهاية شهر نوفمبر بدأت الأسلحة في الوصول، على متن طائرات محمَّلة بجنود في زيهم العسكري. ومثلما كتب أحد الصحفيين الأمريكيين، فقد كان ذلك يعني «انهيار سياسة عدم الانحياز التي انتهجها نهرو». وبالنسبة إلى كثيرين، حمل ذلك الزي العسكري ذو اللون الأزرق الداكن «دلالةً خاصة»، تعبِّر عنها كلمة واحدة: «الفشل».2 إلا أنَّه بالنسبة إلى السفير الأمريكي، فقد كان يدل على كلمة «الفرصة»؛ فقد كان من الممكن أن يمثل ذلك بداية وِفاق لاحتواء قوة شيوعية يُحْتَمَل أن تُشَكِّل تهديدًا أكبر من الاتحاد السوفييتي ذاته؛ فمثلما كتب جالبريث للرئيس كينيدي:
إنَّ الصينيين لا يتجادلون مع السوفييت بشأن بعض النقاط الأكاديمية في عقيدتهم؛ فعلينا أن نفترض جِدِّيتهم بخصوص ثورتهم؛ فمنطقة التوسع الطبيعية تقع ناحيتهم. والبلد الآسيوي الوحيد الذي يقف في طريقهم فعلًا هو الهند، وبالمِثل، فالبلد الغربي الوحيد الذي سيتحمَّل المسئولية هو الولايات المتحدة؛ فيبدو جليًّا لي أنه ينبغي أنْ يكون ثمة شيء من التفاهم بين البلدين؛ فينبغي أن نتوقع الاستفادة من وضع الهند السياسي أو موقعها الجغرافي أو قوتها السياسية أو قوتها البشرية أو غير ذلك.3

٢

استجابةً لطلب الهند، سمح الرئيس كينيدي بإمدادها بمليون طلقة للمدافع الآلية، و٤٠ ألف لغم أرضي، و١٠٠ ألف قذيفة هاون.4 كانت تلك المنحة أقل بكثير من التحالف العظيم الذي كان السفير الأمريكي يوصي به، ولكنها كانت أكثر بكثير مما رأى بقية الأمريكيين أنَّ نيودلهي تستحقه. كان من المعارضين الشرِسين لمسألة إمداد الهند بالأسلحة نائب مجلس الشيوخ عن ولاية جورجيا، السناتور ريتشارد بي راسِل، الذي رأس لجنة مجلس الشيوخ للقوات المسلحة فترة طويلة. كان راسل رجلًا رجعيًّا فظًّا كبير السن — شديد المعارضة للأفكار من قبيل إلغاء التمييز العنصري — وقد وصف الهند قبلًا بأنها «صديق لا يُعتَمَد عليه» ونهرو بأنه «غوغائي ومنافق». وآنذاك أخبر وكالة أنباء أسوشيتد برس أنه «ضد إعطاء الهند أيًّا من أسلحتنا الحديثة بالأساس؛ لأنَّنا سنكون بذلك نسلِّمها للشيوعيين الصينيين». وأضاف السناتور أنَّ الهنود «قدَّموا مشهدًا مخزيًا بسماحهم لأنفسهم بأن يُطرَدوا مما كانت ينبغي أنْ تكون معاقل حصينة لهم على الجبال الحدودية؛ فهم يبدون عاجزين عن القتال، وإذا أمددناهم بالأسلحة، فسوف تقع في أيدي الشيوعيين بكل بساطة». وأردف قائلًا إنه في حين أنَّه في ذلك الوقت ضد إعطاء «نظير سنت واحد من الأسلحة للهند»، فهو ربما يعيد النظر في المسألة إذا أبدى حكام الهند القدامى — أي البريطانيون — استعدادًا «لتولِّي مسألة إعادة تنظيم قواتها المسلحة وإعادة تدريبهم».5

انتشرت تعليقات راسِل على نطاق واسع في الولايات المتحدة وكذلك الهند. وتقدِّم المراسلات العاصفة التي تولَّدت عنها عدسةً فريدة يمكن للمرء رؤية العلاقات بين الولايات المتحدة والهند من خلالها. قد يتوقع المرء أن يكون هذان البلدان حليفين، ولو لكون كلتيهما دولة ديمقراطية كبيرة ومتنوعة ثقافيًّا. إلا أنَّ فقدان الثقة عكَّر صفو علاقتهما؛ فقدان الثقة بسبب عدم انحياز الهند من ناحية، وإزاء المعونة العسكرية الأمريكية لباكستان من ناحية أخرى. ولم يُجْدِ أن البلدين كانا يقدمان أنفسهما على أنهما نموذجان للديمقراطية، حيث دائمًا ما كانت سياستهما الخارجية ودبلوماسيتهما تبالغان في ادعاء ذلك؛ ففي حين أنَّ المُثُل الديمقراطية لهذين البلدين قرَّبت بينهما، فقد باعدت بينهما الكبرياء والنزعة الوطنية.

ومن ثم ففي حين قد يكون كينيدي وجالبريث قد استنكرا موقف السناتور راسل، فقد نال دعمًا كبيرًا من معظم أنحاء أمريكا؛ فقد كتب له أحدهم من ويتشيتا بكنساس يشكره على تحذيره من أنَّه «من الخطورة بمكان أنْ تذعِن الولايات المتحدة لبلد لم يُبْدِ زعماؤه أي اهتمام بالولايات المتحدة أو أي دعم لها يُذكَر إلا لأخذ النقود والمعونة مِنَّا ثم تشويه صورتنا في كل مكان». وأقرَّت سيدة من لوميس في كاليفورنيا بأنه «لا ينبغي إرسال شيء لذلك السياسي المنافق المناصر للشيوعية نهرو ووزرائه الشيوعيين». ورأى رجل من مدينة بلانتيشن بفلوريدا أنَّ متاعب الهنود كانت «وليدة تصرُّفاتهم ومن صُنْع أيديهم»، ولا سيما نتيجة «السياسة المحايدة» التي انتهجوها بينما «راح الشيوعيون ينتهبون ملايين الناس» في العالم أجمع. وسانَد رجل من مؤيدي الحزب الديمقراطيِّ في الخامسة والثمانين من عمره من منطقة جنوبي سان جابرييل راسِل في «معارضته تحميل هذا البلد ودافعي ضرائبه عبء الإنفاق على أربعمائة مليون جاهل جائع في الهند، يتسم زعماؤهم بمن فيهم نهرو بموالاتهم الصارخة للشيوعية وعدائيتهم لشكل حكومتنا … إن حيادية نهرو المزعومة … ينبغي أن تجعلنا ندع الهند تُكوَى بنيران تخلفها وجهلها».

وتلقَّى راسِل من مواطنيه عشرات من رسائل الدعم، ورسالة معارضة واحدة. كتب تلك الرسالة باحث تابع لبرنامج فولبرايت مُقيم في مَدراس، وقال فيها إنَّه آن أوان إلغاء سياسة تسليح الولايات المتحدة لباكستان وحرمان الهند من المعونة. وقال الباحث إنَّ الهند «ديمقراطية شعبية» في حين أنَّ باكستان دكتاتورية عسكرية «يقوم كيانها السياسي على مشاعرها العدائية إزاء الهند ليس إلا». وإضافةً إلى ذلك لم يكن صحيحًا أنَّ القوات الهندية لاذت بالفرار ببساطة؛ فقد قاتلت باستماتة في بعض المناطق، ولو كانت أفضل تسليحًا لاستطاعت الصمود. وقال إنَّ الهند في الوقت الحالي «تعمل على تجنيد قوات جديدة، وأرى أنَّه من مصلحتنا أنْ تحظى تلك القوات بالتسليح المناسب».

كذلك وردت للسناتور رسائل من الهنود، الذين شعروا بالغضب والألم بطبيعة الحال؛ فقد أقرَّ أحد من راسلوه من بومباي بأنَّ نهرو «كان تفكيره ضبابيًّا فيما يتعلق بالنوايا الصينية»، ولكنه رفض تلميح راسِل إلى أنَّ «سمتَي الشجاعة والتحدي كانتا حِكرًا على ذوي البشرة البيضاء». فجنود الهند لا يقلُّون شجاعةً ولا رباطة جأش عن الجنود الأمريكيين، كما تجلَّى بوضوح في بطولة جنود الهند في المعارك الحاسمة للحربين العالميتين. ولكن في هذه المرة «كانت آلية الحرب دون المستوى (بسبب السيد مينون)؛ فقد اضْطُرَّ أبناؤنا للعمل دون رفاهية الغطاء الجوي، والبنادق الآلية، وسدَّادات الأذن، وحصص الإعاشة الميدانية، وبوب هوب ليسرِّي عنهم في الخطوط الأمامية القاسية».

رد الروائي وكاتب السيناريو كيه إيه عباس، أحد أبرز مثقفي الهند المتعاطفين مع الشيوعية، على أسلوب راسِل الناقم بالمِثل؛ قائلًا إنَّه على الرغم من التاريخ الطويل للتعليقات الغبية الواردة من أوروبيين عن الهند، فإنَّ حوار راسِل «فاز بالجائزة الأولى للافتراء غير المبرَّر والأذى الخالص». وكتب عباس: «ولكن لا شك يا سناتور راسِل أنَّك إذا كنت تبحث عن «مشاهد مخزية» للفشل العسكري الذريع، فستجد مخزونًا وفيرًا منها أقرب إليك»؛ في بيرل هاربور، وفي الانتكاسات المبكرة أثناء الحرب الكورية، وفي خليج الخنازير. ودعا راسِل إلى الرجوع إلى إشادة الجنرال أيزنهاور بالجنود الهنود، الذين ساهموا في صَدِّ روميل في العلمين، وحاربوا في مناطق أخرى من أوروبا وأفريقيا «من أجل إنقاذ السناتور راسِل و«عالمه الحر» من تهديد هتلر».

ألقت تعليقات السناتور راسِل الضوء على مواضع سوء التفاهم بين الهنود والأمريكيين كما كانت حتى عام ١٩٦٢ وما بعده. وقد كمن وراء سوء التفاهم ذاك رُؤًى متباينة للسياسة الخارجية والمصلحة الوطنية، وكذلك بعض التعارض بين ثقافة البلدين؛ فقد كان الشعبان مختلفين في طعامهما وشرابهما وغنائهما وملبسهما وفكرهما. وكما كتب أحد المعجبين من جاكسونفيل إلى السناتور، فإنَّ: «نهرو هذا، القوقازي من الناحية الفعلية، والبعيد كل البعد عن ذلك من الناحية السياسية … كيف يمكن أن ينشأ «تلاقٍ ذهنيٌّ» مع رجل يقف على رأسه؟» وكان يشير في ذلك إلى حب جواهر لال نهرو لليوجا، وهو أسلوب علاج كان غريبًا تمامًا على أسلوب الحياة الأمريكي آنذاك.6

٣

أسفرت الهزيمة التي ألحقتها الصين بالهند عن خسارة رئيس الوزراء ماء وجهه إلى حد ما على الساحة الدولية، وكذلك قوَّضت وضعه محليًّا؛ إذ تزايدت حدَّة الانتقادات الموجَّهة إلى قيادته؛ ففي صيف عام ١٩٦٣، خَسِرَ حزب المؤتمر سلسلة من الانتخابات الفرعية المهمة، مما أسفر عن دخول ثلاثة من كبار رموز المعارضة إلى البرلمان؛ هم: مينو ماساني، وجيه بي كريبالاني، ورامَّانوهار لوهيا.

في يونيو ١٩٦٣ عقد نهرو مؤتمرًا صحفيًّا، لأول مرة من أشهر عديدة. دام المؤتمر تسعين دقيقة وتميَّز بغضب رئيس الوزراء الموجَّه إلى الصينيين؛ فقد تحدَّث عن «فيض الأكاذيب الشرير الذي يصدر عن بكين» وعن «سجلهم المتميز في المهاترة». وفي شرح نهرو للحرب وهزيمة الهند، زعم أنَّ «الصين دولة ذات عقلية عسكرية، دائمًا ما تشدِّد على الطرق العسكرية والتأهُّب العسكري … فمنذ بداية حكم النظام القائم فيها الآن، ركَّز على تقوية الجهاز العسكري. إنه في الواقع استئناف للحروب الأهلية الماضية. ومن ثَمَّ فالصين قوية بطبيعة الحال».7
وقال نهرو أيضًا إنَّ الصينيين بهجومهم على شخصه «يشتركون في ذلك مع بعض زعماء المعارضة لدينا هنا». ثم أضاف دون داعٍ: «أما زعماء المعارضة لدينا، فهم معتادون على الاتِّحاد مع أيِّ جهة وكلِّ جهة بصرف النظر عن المبادئ، وقد يأتي وقت يتَّحِد فيه بعضهم مع الصينيين تحقيقًا لأغراضهم.» وسرعان ما اتَّحد زعماء المعارضة رسميًّا لطرح اقتراح «سحب الثقة» في البرلمان، وهو تصرُّف جريء ما كان يمكن تصوُّره في أي وقت خلال الفترة ما بين أغسطس ١٩٤٧ ونوفمبر ١٩٦٢. كان عدد أعضاء حزب المؤتمر يتيح لهم الغَلَبة في التصويت بِسهولة، ولكن النقاش دام أربعة أيام، عُرِضَت خلالها سلسلة من النقاط الدالَّة ضد رئيس الوزراء وحزبه وحكومته.8
أثارت الانتقادات داخل البرلمان وخارجه إعادة تفكير جادة بين قيادات حزب المؤتمر؛ فقضاء خمسة عشر عامًا في السلطة كان قد أورث الحزب حالة من التراخي، والانفصال عن الواقع إلى حد ما، كما ثبت في هزائم الانتخابات الفرعية وتنامي قوة الأحزاب الإقليمية من قبيل حزب درافيدا مونيترا كازاجام؛ فرئيس وزراء مدراس — كيه كامَراج — كان هو نفسه أكثر من تعرَّض لتهديد خطير من جانب ذلك الحزب. وبغية تحجيم هذا الحزب واجتثاث آثار التحلُّل داخل حزب المؤتمر، أوصى كامراج بترك كبار وزراء حزب المؤتمر مناصبهم للمساعدة على تجديد دماء الحزب. وسيرًا على «خطة كامَراج»، استقال ستة من رؤساء وزراء الولايات من مناصبهم بغية العمل لصالح الحزب، منهم: باكشي غلام محمد رئيس وزراء كشمير وكامَراج نفسه. وكذلك فقد استقال ستة من كبار وزراء الاتحاد، منهم: جاجيفان رام ومورارجي ديساي ولال بهادور شاستري.9
بقي رئيس الوزراء في منصبه، ولكنه أصبح واهنًا على نحو ملحوظ، جسديًّا وكذلك ذهنيًّا؛ ففي سبتمبر ١٩٦٣، شاهد النائب البرلماني الاشتراكي إتش في كامات نهرو وهو يذهب ليجلس في مقعده: «رجلًا عجوزًا، يبدو ضعيفًا متعبًا، منحنيًا بوضوح في مشيته، نازلًا الممشى المقابل بخطوات بطيئة مرتعشة، مستندًا إلى ظهور المقاعد في نزوله.» عاد كامات بمخيلته إلى مشاهده السابقة لرجل كان يُجِلُّه يومًا؛ إلى إحدى جلسات حزب المؤتمر في مدراس، حيث وقف نهرو «متدفِّق النشاط، رشيقًا، منتصب القامة»، وإلى منزله في الله أباد، حيث كان نهرو «يرتقي درجات السلم اثنين اثنين، وأنا أقلِّده، لاحقًا إياه إلى أعلى».10
في حين أنَّ الهنود ما كان يمكن أنْ يتناولوا أمر وفاة نهرو على الملأ، لم يكن لدى المشاهدين الغربيين مثل ذلك التحرُّج؛ ففي عام ١٩٦٣، نشر الصحفي الأمريكي وِلز هانجن كتابًا بعنوان «مَن بعد نهرو؟» ذكر ثمانية خلفاء محتمَلين، أفرد لكل منهم فصلًا قائمًا بذاته. خمسة منهم كانوا من أعضاء حزب المؤتمر، وهم: مورارجي ديساي، وفي كيه كريشنا مينون، وواي بي تشافان، ولال بهادور شاستري، وإس كيه باتيل. كان المرشح السادس إحدى نساء حزب المؤتمر، وهي: إنديرا غاندي. والمرشح السابع كان جايا براكاش نارايان، المصلح الاجتماعي الذي كان رجلًا ثوريًّا اشتراكيًّا لبعض الوقت. أما المرشح الأخير على القائمة فكان جنرالًا في الجيش وهو بي إم كاول.11
لم يكن السؤال المطروح آنذاك هو «مَن بعد نهرو؟» فحسب، وإنما كذلك «ماذا بعد نهرو؟» فبُعَيْد نشر كتاب هانجن، قضى مراسل للصحيفة اللندنية «صنداي تايمز» أسابيع عدة متنقِّلًا في أنحاء الهند؛ فقابل رئيس الوزراء، ووجد أنَّ «نهرو العجوز تدهورت حالته الصحية بسرعة كبيرة في الآونة الأخيرة». كان وهن الرجل انعكاسًا لوهن بلده؛ فعلى النقيض من «طموح الصين الشابة الجامحة القوي والعَصِيِّ على الإدراك»، كانت الهند أرض «فقر لا يوصَف» و«حكومة معدومة الإرادة». فما الذي يمكن أن يحدث بعد وفاة نهرو؟ فكَّر المراسل أنَّ المعركة «ستكون بين الشيوعيين والجيل الجديد من الأفاقين السياسيين الناشئين في الولايات». واللاعب الثالث كان هو الجيش؛ فحتى ذلك الوقت، ظل جنرالات الجيش بِمَنْأًى عن السياسة، ولكن «هل سيقفون مَكْتوفِي الأيدي بينما تسقط الهند في بئر الفوضى أو تجتاحها الشيوعية؟» كانت تلك هي آفاق المستقبل. وفي ذلك الوقت، «كان يجب على العالم الحر أن يعتاد على فكرة افتقار عضوه الأكثر تعدادًا إلى قيادة متماسكة، بحيث يبتلع المعونة والأسلحة دون أثر يُذكَر، فيكون لقمة سائغة في فم العقليات المفترسة، وإدانةً لوسيلة الترقِّي الحرة الديمقراطية في أعين الأفارقة والآسيويين، حيث الحاجة ماسَّة إلى وجود سلطة ناضجة».12
تؤكد الصور الفوتوغرافية الملتقطة في تلك الفترة أنَّ حالة نهرو البدنية كانت في تدهور: بكَتِفَيْه المُتَدَلِّيَتَيْنِ، والنظرة المُتْعَبَة — بل الخاوية — البادية على وجهه، والبروز غير المألوف حول خصره. وفي الأسبوع الأول من سبتمبر ١٩٦٣، كتبت إنديرا غاندي إلى صديقة لها أنَّه صار يلزم أخذ قراءات أسبوعية لضغط دم والدها ووزنه وبوله. وكتبت قائلةً: «الضغط البدني والذهني والعصبي هائل، ومن المحتم أن يبدو عليه الإرهاق. الدواء الوحيد الذي يمكن أن يساعده هو الراحة والاسترخاء.»13
وبالطبع لم يَنَلْ أيًّا منهما؛ فقد كان لا يزال عليه الاضطلاع بمهام رئيس الوزراء ووزير الخارجية، والمساهمة ولو بقدر ضئيل في إعادة إحياء حزب المؤتمر. وبصفته الوجه الوحيد المعروف في الحزب والحكومة، ظل نهرو يعمل وفق جدول عمل مُنْهِك، ويقطع الهند من شمالها لجنوبها ومن شرقها لغربها ليخطب في المؤتمرات الشعبية، ويفتتح المدارس والمستشفيات، ويتحدث إلى موظفي الحزب؛ ففي ديسمبر ١٩٦٣ — على سبيل المثال — اضْطُرَّ إلى زيارة مدراس ومادوراي وتشانديجار وكلكتا وبيهار وبومباي (مرتين).14
أما المكان الذي كان من الممكن أن يزوره رئيس الوزراء لكنه آثر ألا يزوره، فهو ناجالاند؛ فقد نشأت ولاية بذلك الاسم أخيرًا يوم ١ ديسمبر من عام ١٩٦٣. في ظروف أخرى كان نهرو سيحرص على افتتاحها بنفسه. ولكن الرحلة إلى كوهيما كانت طويلة وشاقة، وربما يكون تذكَّر أيضًا الاستقبال العدائي الذي لاقاه هناك عام ١٩٥٣. ومن ثم فقد حَظِيَ رئيس الجمهورية الجديد — سارفِبالي رادها كريشنان — بذلك الشرف. إلا أنَّ رئيس الوزراء الجديد للولاية وزملاءه الوزراء اعتُبِروا «خَوَنة» من جانب الحركات السرية، التي ظلت باسطةً نفوذها على أجزاء كبيرة من الولاية.15
وفي يناير ١٩٦٤، سافر نهرو عبر البلاد مرة أخرى، لحضور الاجتماع السنوي لحزب المؤتمر، الذي عُقِد ذلك العام في عاصمة أوريسا، ببوبانيشوار؛ فانهار على المنَصَّة وساعده بعض الحضور على الوقوف على قدميه ثم رجعوا به بسرعة إلى دلهي، حيث شُخِّص بسكتة دماغية خفيفة في الجانب الأيسر. وجاء في أحد عناوين الصحف الرئيسية أنَّ: «سحابة من الكآبة خيَّمت على اجتماع بوبانيشوار إثر مرض السيد نهرو.»16

٤

أضعفت الحرب مع الصين موقف نهرو ليس في الهند أو في العالم فحسب، وإنما داخل حزب المؤتمر نفسه أيضًا؛ فقد تحوَّلت بؤرة صنع القرار من منزل رئيس الوزراء إلى الجناح البرلماني لحزب المؤتمر. ولم يعد بإمكان نهرو إقناع الحزب بتنفيذ أوامره لا في كبائر الأمور ولا صغائرها؛17 فعلى سبيل المثال، لم يكن نهرو مُرَحِبًّا بخطة كامَراج؛ على أساس أنها من شأنها أن تستنزف الخبرات والمواهب من حكومته.

وبعد مرض نهرو، استطاع إقناع الحزب بإعادة لال بهادور شاستري إلى مجلس الوزراء. كان شاستري يحمل رسميًّا لقب وزير بلا وزارة، ولكنه في الواقع كان نائب رئيس الوزراء الفعلي. كان الاثنان يتحدثان بلغة واحدة وينتميان إلى ولاية واحدة وجمعهما تاريخ واحد في السجون ذاتها نحو الأوقات ذاتها؛ فكان نهرو يثق بشاستري ويحبه، بشخصيته الهادئة البسيطة شديدة التناقض مع شخصية نهرو نفسه.

كانت أول مهمة يُعهَد بها إلى شاستري متعلقة بولاية جامو وكشمير؛ ففي ٢٧ ديسمبر ١٩٦٣، اشتعل فتيل أزمة بسبب سرقة أثر مقدَّس — شعرة من شعر النبي محمد — من مسجد حضرة بال في سريناجار. وبعد أسبوع من اختفائها، ظهرت في المسجد مرة أخرى في ظروف غامضة. لم يكن أحد يعلم كيف رجعت، مثلما لم يعرف أحد كيف اختفت من الأصل. ولم يكن أحد يعلم إن كان الأثر الموجود آنذاك أصليًّا أم مزيَّفًا.

طوال شهر يناير قامت احتجاجات وتظاهرات في الوادي، وتردَّدت أصداؤها في أرجاء العالم الإسلامي؛ ففي باكستان الشرقية البعيدة حدثت أعمال شغب دينية استهدفت الأقلية الهندوسية، التي فرَّ مئات الآلاف منها إلى الهند. ومن ثم لاح خطر وقوع أعمال شغب مقابلة ضد المسلمين في الهند ذاتها.

في الأسبوع الأخير من يناير، أرسل نهرو لال بهادور شاستري إلى كشمير. وبعد أن تحدَّث إلى المسئولين وتشاوَر مع الساسة المحليين، قرَّر شاستري تنظيم جلسة «رؤية» خاصة للتأكُّد من أصالة الأثر المرتَدِّ. وتشكَّلت لجنة من كبار رجال الدين لرؤية الأثر؛ فتجمعوا يوم ٣ فبراير لذلك الغرض، وقرروا أنه أصلي، مما أورث الجميع ارتياحًا ملموسًا. عاد الهدوء إلى الوادي. وبغية استدامة السلام، عيَّنت الحكومة الهندية في منصب رئيس وزراء الولاية جي إم صديق، السياسي المعروف بتوجُّهاته اليسارية ولكن أيضًا بنزاهته.18
مرة أخرى أكَّدت حادثة حضرة بال على حقيقة أنَّ وقوع المتاعب في كشمير يُخَلِّف تداعيات في شبه القارة الهندية قاطبة. وبعد الفشل الذي شهده نهرو مع الصين أصبح أكثر تنبُّهًا لضرورة السعي وراء حل نهائي للنزاع على كشمير؛ فالهند لم يكن بإمكانها تحمُّل جبهتين عدائيتين. ولَقِيَ نهرو تشجيعًا في أسلوب تفكيره ذاك من جانب صديقه القديم اللورد ماونتباتن؛ ففي أبريل ١٩٦٣، قال ماونتباتن لنهرو: «لو كان مجده جلب الثناء للهند ذات يوم» حول العالم، فإنَّ بلده، وهو نفسه الآن، أصبحت «صورتهما مشوَّهة»، بسبب الفشل في حل مسألة كشمير بالأساس. وكان ماونتباتن يشعر أنَّ هذا الوضع يمكن «تصحيحه» بقيام «الهند ببادرة بطولية»، من قبيل «منح وادي كشمير الاستقلال بصرف النظر عن موقف باكستان».19

والحقيقة أنَّ عامي ١٩٦٢ و١٩٦٣ شهدا عدة جولات من المحادثات مع باكستان بشأن القضايا التي اختلف عليها البلدان؛ مَثَّل حكومة الهند فيها السياسي المُخَضْرَم السردار سواران سينج، بينما مَثَّل باكستان الشاب الطموح ذو الفقار علي بوتو. ولم يُمَثِّل أحدٌ كشمير في تلك المحادثات. ولكن مثلما ثبت في واقعة حضرة بال، فإنه لم يكن من الحصيف أن تُهْمَل مشاعر الأشخاص المعنيين بالنزاع بالأساس. ومَن خيرٌ من الشيخ عبد الله يمكن أن يعبِّر عن نبضهم؟! بحلول نهاية عام ١٩٦٣، كان نهرو يفكر بالفعل في إطلاق سراح الشيخ، الذي قضى عشرة أعوام في السجن حتى ذلك الحين؛ فالسكتة الدماغية التي أصابت نهرو في بوبانيشوار، وما أثارته في نفسه من إشارات الموت دفعته إلى المضي بتفكيره قُدُمًا في هذا الصدد؛ فلِمَ لا يُطْلِق سَراح عبد الله ويحاول حل مشكلة كشمير للمرة الأخيرة قبل رحيله عن العالم؟

٥

قد نذكر أنَّ الحكومة الهندية قبضت على الشيخ عبد الله في أغسطس ١٩٥٣. لم تُوَجَّه إليه اتهامات، وأُطْلِقَ سراحه فجأة في يناير ١٩٥٨؛ فاتَّجه إلى وادي كشمير، حيث لَقِيَ استقبالًا مهيبًا. خطب في مؤتمرات شعبية في سريناجار أمام جماهير عريضة، منها مؤتمر عُقِدَ في مسجد حضرة بال. ويبدو أنَّ ذلك أزعج أعداءه في الإدارة؛ فقرب نهاية شهر أبريل قُبِضَ عليه مرة أخرى. وفي تلك المرة أُرْسِل إلى السجن في جامُّو واتُّهِم بالتآمر مع باكستان لتفكيك الهند. وكان من بين التُّهَم الموجَّهة إليه تهمة محاولة «تيسير ضم باكستان أراضي الولاية عن غير حق، وبث الأحقاد الطائفية والتنافر بين الطوائف في الولاية وتلقِّي معونة سرية من باكستان في صورة أموال وقنابل، وما إلى ذلك».20

وإذا تحدَّثنا بصراحة، فقد كانت تلك التهم مُلفَّقة؛ فعلى الرغم من أنَّ الشيخ كانت تراوده فكرة الاستقلال، فإنه لم يرغب في الانضمام إلى باكستان قط. وعلى الرغم من أنَّ فكرة كونه حاكم كشمير الحرة راقت له، فقد اعتبر سكان الولاية كلهم رعاياه، بصرف النظر عن ديانتهم. وكما أقرَّ حتى خصومه السياسيون، فإنه لم يكن يحوي بداخله ذَرَّة طائفية.

تحدَّث الشيخ عبد الله في محاكمته قائلًا إنَّه متمسِّك بهدف واحد فقط، وهو: حق تقرير المصير لشعب جامو وكشمير، الذي أصَرَّ أنه «ليس قطيعًا من الأغنام والماعز يُساق بالقوة يمنةً ويسرة». ورغم ذلك، فقد كرَّر تأكيده على التزامه بالعلمانية وإعجابه بالمهاتما غاندي، وصداقته التي كانت قوية يومًا بجواهر لال نهرو. وقال مذكِّرًا إنَّ نهرو نفسه أقرَّ بأن «شعب الولاية هو سيد مصيره في النهاية»، وأضاف إضافةً ذات مغزى قائلًا: «لا أظنه — حتى في هذه اللحظة — ينكر علينا ذلك الحق.»21
بعد شهرين من اعتقال الشيخ أول مرة — عام ١٩٥٣ — كتب نهرو أنَّ «مجرد فكرة احتجازه تسبب لي بالطبع ضيقًا شديدًا».22 ثم تحوَّلت الشهور إلى سنين، ليزداد إحساسه بالذنب عمقًا. وكانت إحدى الطرق التي وجَّه فيها هذا الشعور هو إبداء اهتمام وثيق بتعليم أبناء صديقه (الذي قِيلَ إنَّه ساعد حتى في تحمل نفقاته). وفي يوليو ١٩٥٥، قام ابن عبد الله الأكبر — فاروق، الذي كان طالبًا آنذاك في كلية طب بجايبور — بزيارة نهرو؛ فأخبر فاروق رئيس الوزراء أنَّ زملاءه في الفصل كانوا ينعتون أباه «بالخائن» بصفة مستمرة، وهو ما دفع نهرو إلى أنْ يكتب إلى أحد وزراء حكومة ولاية راجستان؛ ليطلب منه التأكُّد من أنْ يُوفَّر للصبي «سكن لائق وصحبة ودودة»، حتى لا تصيبه أي «عُقَد نفسية أو شيء من هذا القبيل». وعلى حد تعبير نهرو: «بعض الناس يتخيَّلون عن حماقة أنه نظرًا لاختلافنا مع الشيخ عبد الله، فإننا لا ننظر بعين العطف إلى ابنه وأسرته. قطعًا هذا ليس سخفًا محضًا فحسب وإنما هو أيضًا عكس شعورنا تمامًا. أنا شخصيًّا — نظرًا لوجود الشيخ عبد الله في السجن — أشعر بمسئولية خاصة نوعًا ما عن محاولة مساعدة أبنائه وأسرته.»23
بحلول عام ١٩٦٤ كان الشيخ عبد الله قد أمضى الجانب الأكبر من العقد السابق في السجن. وإذ أيقظت الحرب مع الصين نهرو، ووضعته في حالة التأهب القصوى بشأن صحته المتدهورة، قرر أن يضع حدًّا لتلك المسألة؛ فتحدث إلى رئيس وزراء ولاية جامو وكشمير، وبعد نيل موافقته، قرَّر إطلاق سراح الشيخ عبد الله. ونُقِل ذلك الخبر إلى العالم على لسان لال بهادور شاستري، كاتم أسرار نهرو؛ فقال شاستري إنَّ احتجاز عبد الله كان «من دواعي ألم الحكومة، ولا سيما رئيس الوزراء».24

صبيحة يوم ٨ أبريل، خرج الشيخ عبد الله من سجن جامو، ليصبح حرًّا مرة أخرى. فاستقلَّ سيارة مكشوفة طاف بها شوارع البلدة، متلقِّيًا أطواق وباقات الزهور. وفي اليوم التالي ألقى أول خطاب له على الملأ؛ فوفقًا لما ورد عن إحدى الصُّحُف، «قال الشيخ عبد الله: إن المشكلتين المُلِحَّتين اللتين تواجهان شبه القارة الهندية — أي، القلاقل الطائفية وكشمير — ينبغي حلُّهما في حياة رئيس الوزراء نهرو. ووصف نهرو بأنه آخر الرجال البواسل الذين تعاونوا مع السيد غاندي وقال إنَّ التوصُّل إلى حل لهاتين المشكلتين سيكون صعبًا بعده.»

كان نهرو قد دعا عبد الله للبقاء معه في نيودلهي؛ فقال الشيخ إنَّه سيذهب أولًا إلى الوادي، ليتشاور مع أصدقائه وأعوانه، ثم يذهب للقاء رئيس الوزراء بعد احتفالات العيد (الموافق يوم ٢٣ أبريل). ويوم ١١ أبريل انطلق بسيارة إلى سريناجار، في رحلة كانت تستغرق بضع ساعات في المعتاد. ولكن الشيخ مضى في رحلته على مهل، وتوقف في البلدات والقرى التي قابلته على الطريق. وأينما توقَّف كان يخطب في الناس أيضًا. حضر آلاف الناس لرؤيته والاستماع إليه، قاطعين أميالًا من قُراهم الصغيرة النائية. وفي تلك التجمُّعات، كان النساء يفُقن الرجال عددًا.

وصف عبد الله ولايته في خُطَبه بالعروس الأثيرة لدى زوجين — الهند وباكستان — اللذين لم «يبالِ أي منهما بتبيُّن ما يرغب به الكشميريون». وقال إنَّه سوف يقابل جواهر لال نهرو بعقلية متفتِّحة، وطلب إلى الهنود ألَّا يتخِّذوا قرارات مسبقة أيضًا. وكما ذكر صحفي أجرى حوارًا معه، فإنَّ الشيخ لم يُبدِ «مرارة شخصية، ولا ضغينة» — وإنما كان مفعمًا «بِحسٍّ قوي بأن لديه رسالة»، ورغبة مُلِحَّة في السعي وراء حل لمسألة كشمير. سُئِلَ في أحد المؤتمرات عن شعوره الحالي تجاه نهرو؛ فأجاب عبد الله بأنه لا يحمل له ضغينة، لأنَّ «سوء التفاهم يحدث حتى فيما بين الأشقاء. لن أنسى المحبة التي أغدقها عليَّ السيد نهرو في الماضي … سأقابله كصديق ورفيق قديم».

في يوم ١٨ أبريل، بعد أسبوع من ترك الشيخ عبد الله جامو، استقلَّ سيارة جيب مكشوفة من أنانتنَج إلى سريناجار عاصمة كشمير. وعلى طول الطريق البالغ ثلاثين ميلًا اصطفَّت «حشود من الناس في حالة شبه هستيرية» بلغ عددهم حوالي ٥٠٠ ألف شخص. وفُرِشَ الطريق بزهور الأقحوان والزنبق المقطوفة لتوِّها، وزُيِّن بالأقواس والرايات الملونة. وعندما دخل البلدة أخيرًا «تزاحم أهالي سريناجار كلهم في الشوارع المتشابكة التي كانت من فرط زينتها لا تنفذ أشعة الشمس حتى من بين الحرائر والبُسُط والشيلان الكشميرية المعلَّقة كالغصون المتشابكة».

وفي ذلك الوقت، في دلهي، أثارت المحادثات المرتَقَبة بين نهرو وعبد الله انزعاج كثير من أعضاء حزب المؤتمر الحاكم. وأدلى كبار الوزراء بتصريحات أصَرُّوا فيها على أنَّ قضية كشمير «أُغْلِقَت»، وأنَّها كانت — وستظل — جزءًا لا يتجزَّأ من الهند. أما أعضاء حزب جانا سانج فكانوا أكثر شراسة؛ فقد ندَّد الأمين العام للحزب — دين دَيال أوباديايا — بخُطَب الشيخ عبد الله الأخيرة، التي بدا فيها وكأنه «يشكِّك حتى في الحقائق المسلَّم بها في قضية كشمير» (مثل انضمامها النهائي إلى الهند). وقال أوباديايا مُتَبرِّمًا: «عوضًا عن الوصول بوضع الولاية السياسي إلى حالة من الاستقرار، حاول الشيخ عبد الله زعزعة استقرار كل قضية.»

كانت معارضة اليمين الهندوسي متوقعة. إلا أنَّ ما كان مفاجئًا في الواقع كان إبداء اليسار تشكُّكًا في عبد الله ونواياه؛ فقد ظنَّ الحزب الشيوعي أنَّ عبد الله معرَّض لخطر الوقوع في «فخ إمبريالي» نُصِبَ بهدف فصل كشمير عن الهند؛ فيبدو أنَّه في إطار المؤسسة السياسية، كان ذهن نهرو هو وحده الذي ظلَّ متفتِّحًا. إلا أنَّه تلقَّى مساندة غير متوقعة من جانب رجلين هنديين عَمِلَا مع المهاتما غاندي هما أيضًا. الأول كان جايا براكاش نارايان، المشهور بالأحرف الأولى من اسمه: جيه بي، الاشتراكي الراديكالي السابق الذي كان من الأعلام البارزين لحركة سارفودايا طوال العقد السابق. كان جيه بي صديقًا قديمًا للشيخ، كما أنَّه كان يجاهر بتأييد تحسين العلاقات مع باكستان؛ ففي عام ١٩٦٢، أنشأ مجموعة الوفاق الهندي الباكستاني، التي تضمنَّت مساعيها إيجاد حل «منصِف وشريف» لنزاع كشمير.25

وإذ رحَّب جيه بي بإطلاق سراح الشيخ عبد الله في مقال مُوَقَّع بصحيفة «هندوستان تايمز»، ندَّد بالتلميحات الواردة ضد الشيخ عبد الله من جانب السياسيين داخل حزب المؤتمر وخارجه، الذين هدَّدوا بأنَّه سيُودَع السجن مجدَّدًا إذا «تمادى» فيما يفعله؛ فعلَّق جيه بي على كلامهم بحدة قائلًا: «ما أعجب رؤية من كانوا يحاربون من أجل الحرية بالأمس وقد بدءوا يقلِّدون لغة الإمبرياليين بكل سهولة.»

كان ما أزعج السياسيين في دلهي هو حديث الشيخ عن التحقُّق من رغبات الشعب الكشميري مرة أخرى. كان جيه بي يرى ذلك الحديث منطقيًّا إلى حدٍّ بعيد؛ فانتخابات عامي ١٩٥٧ و١٩٦٢ كانت أبعد ما تكون عن الحرية والنزاهة. وعلى أي حال، فإذا كانت الهند «واثقة تمام الثقة من قرار الناس، فلِمَ كل تلك المعارضة من جانبنا لإعطائهم فرصة تأكيد ذلك القرار؟!» كان الوصول إلى تسوية مُرضِية لمسألة كشمير من شأنه أنْ يُحْدِث تحسُّنًا هائلًا في العلاقات بين الهند وباكستان؛ فكان جيه بي يأمل أنْ يبدي زعماء الهند «الرؤية والحنكة السياسية اللتين تَتَطلَّبهما هذه اللحظة التاريخية». وأضاف: «من حسن الحظ أنَّ صوت العقل الوحيد في الحزب الحاكم هو صوت رئيس الوزراء نفسه.»26

أما الأكثر مفاجأة فكان الدعم الذي تلقَّاه نهرو من سي راجا جوبالاتشاري («راجا جي»)، رجل الدولة البارع الذي كان يومًا رفيقًا حميمًا لرئيس الوزراء قبل أن يتحول إلى خصمه السياسي في الآونة الأخيرة. كان راجا جي، بصفته مؤسس حزب سواتنترا، قد انتقد سياسات رئيس الوزراء الاقتصادية بشراسة، وكانت انتقاداته في بعض الأحيان مشوبة بصبغة شخصية حادة. إلا أنه فاجأ أتباعه بتأييده القوي لمبادرة نهرو المتمثلة في إطلاق سراح عبد الله. وعلى غرار جيه بي، أدان هو أيضًا التهديدات بإعادة الشيخ إلى السجن، ومن ثَم «إجباره على السكوت والخضوع». ولحسن الحظ، «ربما كان رئيس الوزراء مريضًا ولكنه كان محتفظًا باتِّزانه، ورفض على ما يبدو أنْ يتَّخِذ أي خطوة حمقاء يحطَّ بها من قدر الهند».

وقال راجا جي إنَّ إطلاق سراح عبد الله ينبغي أن يكون توطئةً للسماح «لشعب كشمير بممارسة حقه الإنساني في حكم نفسه على أفضل نحو ممكن له». بل إنَّ فض الاشتباك على كشمير من شأنه أنْ يمهِّد الطريق أمام حل أكبر للنزاع القائم بين الهند وباكستان. لذا، كتب راجا جي عن ضرورة:
محاولة التفكير في جوهر الأزمة الحالية؛ فهل يجدر بنا الرضوخ للمشاعر المتعصبة للجماعات المناهضة لباكستان لدينا؟ هل يبقى أي أمل للهند أو باكستان، إذا استمرَّت كراهية أحدنا للآخر وشك أحدنا في الآخر والاقتراض من أجل تسليح كلٍّ منا نفسه ضد الآخر؛ بحيث نبني منزلينا، بينما يقف كلانا على رمال المعونة الأجنبية المستمرة في مواجهة مستقبل دامٍ كساحة كوروكشترا؟ من المؤكد أننا سنلقي بأنفسنا إلى التهلكة الأبدية لو بقينا على هذا المنوال … وسنحوِّل كل آمال الازدهار المستقبلية إلى مجرد سراب، إذا واصلنا سباق التسلُّح هذا القائم على أحقاد عتيقة والمخاوف والشكوك المنبثقة عنها.27

٦

في ذلك الوقت، كان الشيخ عبد الله في كشمير يتحدث إلى زملائه ورفاقه؛ فاكتشف أنَّه أثناء الفترة التي قضاها في السجن، حُوِّلَ إلى شريك للجانب الباكستاني. في محاكمة عبد الله، كان الأخير قد أصرَّ على أنه لم يعرب قط عن رغبته في انضمام كشمير إلى باكستان. إما الهند أو الاستقلال؛ كان هذان هما الخياران الوحيدان المقبولان لديه. إلا أنَّ محضر الجلسات لم يبلغ عامة الشعب في الوادي قط؛ فكل ما عرفوه هو أنَّه يُحاكَم بتهمة التآمر ضد الدولة الهندية. ألا يجعله ذلك، بالتبعية، صديقًا لباكستان؟

تعزَّزت اعتقادات عامة الناس بدعاية حكومة باكشي غلام محمد، التي صوَّرت الشيخ مُحَرِّضًا على إجراء استفتاء شعبي، ومن ثم عدوًّا للهند. وإضافةً إلى ذلك، فإنَّ ممارسات التدليس والفساد التي انخرط فيها نظام باكشي شوَّهت صورة الهند لدى الكشميريين. ووجد عبد الله أنَّ العناصر الموالية لباكستان أصبحت هي الأغلبية على الأرجح، وهو ما لم يُرضِه. إلا أنَّه لتفهُّمه المزاج العام، عمل على استمالة الناس تدريجيًّا إلى وجهة نظره؛ فقابل رجل الدين واسع النفوذ مولوي فاروقي، وحثه على دعم التوصل إلى حل «واقعي»، عوضًا عن ادِّعاء أنَّ كشمير ينبغي أن تنضم إلى باكستان تماشيًا مع نظرية الدولتين.28

في يوم ٢٣ أبريل، بعد مرور أسبوعين على إطلاق سراح الشيخ عبد الله، خطب الشيخ في اجتماع للصلاة في سريناجار. وقال فيه إنَّ أي حل لنزاع كشمير لا بد أن يضع في الاعتبار تبعاته المرجَّحة على ٥٠ مليون مسلم في الهند، و١٠ ملايين هندوسي في باكستان الشرقية. وبعد مرور ثلاثة أيام، في خطابه الأخير قبل أن يغادر إلى دلهي، حثَّ أهل كشمير على الحفاظ على الوحدة الوطنية ليكونوا بذلك قدوةً لكل من الهند وباكستان. وأعلن أنَّه «لن يرفع مسلم في كشمير يده على الأقليات أبدًا».

في يوم ٢٨ أبريل، اليوم السابق على الموعد المقرَّر لوصول عبد الله في دلهي، قاد حزب جانا سانج مسيرة كبيرة في شوارع العاصمة. وراح المشاركون فيها يهتفون بشعارات مضادة لعبد الله ونهرو، ويطالبون باحتكام حكومة الهند إلى المادة ٣٧٠ وإعلان كشمير جزءًا «أصيلًا لا يتجزأ» من الهند. وفي مؤتمر شعبي عُقِدَ في اليوم ذاته، طالب إيه بي فَجبايي رئيس الوزراء بإخبار عبد الله أنَّ ولاية جامو وكشمير «اندمجت بالفعل في الاتحاد الهندي ولا مجال للنقاش في هذه المسألة».

في يوم ٢٩ أبريل، وصل عبد الله إلى مطار بَلام مع نخبة من رفاقه. واستقلَّت المجموعة سيارة إلى قصر نهرو، حيث كان رئيس الوزراء في انتظار عبد الله. كان تلك أول مرة يلتقي فيها الرجلان منذ سجنت حكومة نهرو الشيخ عبد الله في أغسطس ١٩٥٣. فكما كتب أحد شهود العيان: «تعانق الرجلان بحرارة. كانا يلتقيان بعد فراق ١١ عامًا، ولكن أسلوب تحيتهما لم يعكس أي آثار حَرَج، ولا مرارة، بسبب ما حدث في الفترة التي تخللت اللقاءين.» ووقف الاثنان أمام عدسات مجموعة من المصورين الصحفيين قبل أن يدخلا إلى المنزل.

كانت تلك مصالحةً بين زعيم أمة ورجل كان يُنظَر إليه حتى وقت قريب على أنه خائن. وسبقت تلك المصالحة — بنحو ثلاثين عامًا — مصالحة لا تقل عنها روعة بين رئيس جنوب أفريقيا وسجينه السياسي واسع الشهرة. ولكن إف دبليو دي كليرك لم يصل إلى حد دعوة نيلسون مانديلا للإقامة في قصره.

في تلك الزيارة، قضى عبد الله خمسة أيام مع نهرو في قصر تين مورتي، كانا يلتقيان خلالها على الأقل مرة أو مرتين يوميًّا، عادةً دون مساعديهما. وفي أوقات انشغال رئيس الوزراء عنه، استطلع الشيخ عبد الله آراء طائفة واسعة من الهنود؛ فتحدث إلى وزراء من حزب المؤتمر، وإلى زعماء المعارضة، وإلى شخصيات بارزة من خارج الساحة السياسية، مثل: جايا براكاش نارايان. ووضع طوقًا من الزهور على قبر غاندي في راج جات، وخطب في اجتماع للصلاة بمسجد دلهي الأكبر، المسجد الجامع.

لم يَرُقْ تحدُّث نهرو إلى عبد الله لحزب جانا سانج. ومن الجدير بالذكر أنَّه أحدث اضْطِرابًا أيضًا فيما بين أعضاء مجلس وزراء نهرو، الذين كانوا قلقين من «إعادة فتح» قضية كشمير؛ فبغية استباق ذلك الاحتمال، قال أحد كبار الوزراء للبرلمان: «إنَّ الحفاظ على الوضع الراهن في كشمير من مصلحة شبه القارة الهندية.» وأصدر سبعة وعشرون نائبًا برلمانيًّا من حزب المؤتمر بيانًا ينص على الآتي: «لا يمكنك الحديث عن تقرير المصير في حالة كشمير بأكثر مما يمكنك في حالة بومباي أو بيهار مثلًا.»

فبدا أنَّ الوحيد بين الأعضاء الكبار داخل حزب نهرو، الذي أبدى تعاطفًا مع جهوده كان هو لال بهادور شاستري. إلا أنَّ بعض السياسيين المعارضين استوعبوا أهمية الحديث الجاد مع عبد الله؛ فقد أرسل مينو ماساني زعيم حزب سواتنترا برقية عاجلة إلى راجا جي قال فيها:
أفهم أنَّ نهرو ولال بهادور يحاولان إيجاد حلٍّ مع الشيخ عبد الله، لكنهما يواجهان تفكيرًا مُتَخبِّطًا داخل حزب المؤتمر إلى جانب جبهة جانا سانج والشيوعيين. إذا كنت ترى أنَّ إرسال برقية أو رسالة منك إلى جواهر لال لتشجيعه على اتِّخاذ الخطوة الصحيحة وتأكيد دعمك الشخصي سيساعد، فرجاءً تَدَخَّل في الأمر.29
آثر راجا جي ألا يكتب إلى نهرو، ربما لفرط كبريائه، أو لخوفه من الصدِّ. ولكنه كتب إلى لال بهادور شاستري، يحثُّه على منح كشمير نوعًا من الحكم الذاتي؛ فقد كان يرى ما يلي: «منح كشمير حق تقرير المصير في رأينا قضية أقل أهمية من هدف خفض التوتر الهندي الباكستاني.» وظن أنَّ «فكرة أننا إذا «أطلقنا سراح كشمير»، فسنكون بذلك نشجِّع الانفصال في كل مكان ليس لها أي أساس من الصحة». وكتب راجا جي إلى شاستري قائلًا: «آمل أن يُسَدِّد القدر خطاكما أنت ونهرو وتستخلصا من هذه الفرصة العظيمة نتيجة محمودة.»30
أعرب عبد الله بُعَيْد إطلاق سراحه عن رغبته في «أن أقدِّم تحياتي لراجا جي شخصيًّا، وأستفيد من نصائحه الناضجة».31 فبعد محادثاته مع نهرو، مضى جنوبًا لمقابلة راجا جي، صديق رئيس الوزراء الذي تحوَّل إلى خصم ثم حليف. كان ينوي التوقف في طريقه عند وارذا، ليسلِّم على فينوبا بهافي، الزعيم السائر على خُطا غاندي؛ فكما قال لأحد الصحفيين مازحًا، كان سوف يناقش «الأمور الروحانية» مع فينوبا وأمور «السياسة العملية» مع راجا جي.
في يوم ٤ مايو، كتب لال بهادور شاستري إلى راجا جي يحثه على أن «يقترح على الشيخ عدم اتِّخاذ أي مسار متطرف … فالشيخ قد خرج لتوِّه من السجن، وسيكون من مصلحته أن يفكر مليًّا في الجوانب المختلفة لقضية كشمير وأن يصل إلى حكم بعد التأمل والتفكُّر في المسألة على نحو وافٍ وناضج؛ فسيكون أمرًا مؤسفًا للغاية أن تتم الأمور في عجالة أو تسرُّع».32

أُرْسِلَت تلك الرسالة بالبريد الجوي، ولكننا لا نعلم إن كانت بلغت مدراس قبل يوم ٥ مايو، عندما التقى عبد الله راجا جي أخيرًا. دام حديثهما ثلاث ساعات ونصف الساعة، واحتلَّ لقاؤهما عنوانًا رئيسيًّا في الصفحة الأولى من صحيفة «هندوستان تايمز»، جاء فيه: «عبد الله وسي راجا يطوران الصيغة الكشميرية: طرح مقترح للنقاش مع رئيس الوزراء.» لم يُدْلِ راجا جي بأي كلمة للصحافة، لكن عبد الله كان أكثر ميلًا إلى الحديث بدرجة طفيفة؛ فقال إنَّ حديثه إلى العجوز الحكيم «ساعد على تصفية ذهنه بشأن ما يمكن أن يكون الحل الأمثل الذي من شأنه أن يستأصل هذا السرطان من الجسد السياسي للهند وباكستان». وعند الإلحاح عليه لتقديم بعض التفاصيل، قال إنَّ عليه انتظار مزيد من المحادثات مع رئيس الوزراء. إلا أنَّه صرَّح بأنَّه توصل بالتعاون مع راجا جي إلى «حل مشرِّف لن يُشعِر أيًّا من الجانبين الهندي والباكستاني بالنصر، وفي الوقت نفسه يكفل مكانةً كريمة لشعب كشمير».

بينما كان عبد الله في مدراس نَمَى إلى علمه أنَّ الرئيس أيوب خان دعاه لزيارة باكستان؛ فعند عودته إلى دلهي يوم ٦ مايو، ذهب إلى قصر تين مورتي من فوره. وقضى هناك تسعين دقيقة مع نهرو، أطلعه خلالها على ما أُشير إليه — على نحو يتَّسِم بالغموض إلى حد ما — باسم «صيغة راجا جي». بعد ذلك وجَّه رئيس الوزراء عبد الله إلى لجنة غير رسمية من المستشارين تألَّفت من سكرتير الخارجية الهندية واي دي جوندِفيا، والمفوض السامي لباكستان جي بارتاساراتي، ونائب رئيس جامعة عليكرة الإسلامية بدر الدين طيابجي.

على مدار يومين طويلين، قتل عبد الله ومستشاري رئيس الوزراء قضية كشمير بحثًا. وناقشوا شتى أنواع البدائل. تضمنت تلك البدائل: إجراء استفتاء شعبي لولاية جامو وكشمير كاملةً مكتملة مثلما كانت قبل عام ١٩٤٧، والحفاظ على الوضع الراهن، وإجراء تقسيم جديد للولاية؛ بحيث تتبع جامو ومناطق لاداخ الهند، بينما تتبع آزاد كشمير أو شمال كشمير باكستان، ويُقام استفتاء شعبي في الوادي وحده لحسم مصيره. وأخبر عبد الله المستشارين أنَّه يثق في أنَّه سيكون بإمكانهم أن يضعوا تفاصيل الحل، الذي كان يريد أنْ: يُعَزِّز الصداقة الهندية الباكستانية، ولا يضعف المُثُل العلمانية للدستور الهندي، ولا يُضْعِف موقف الأقليات في أيٍّ من البلدين. وطلب إليهم أن يعطوه أكثر من خيار، يمكنه أخذهن معه إلى باكستان.

استبعدت الشروط التي وضعها الشيخ تقريبًا احتمال إقامة استفتاء شعبي، تتسبب نتيجته — أيًّا كانت — في عدم رضا أحد البلدين ووضع الأقليات على الجانبين في موقف أضعف. وماذا عن صيغة راجا جي؟ الظاهر أنَّ تلك الصيغة تمثَّلت في تمتُّع الهند وباكستان بسيادة مشتركة على كشمير، بحيث يكون الدفاع والشئون الخارجية مسئولية مشتركة بين الحكومتين. (كان النموذج الذي استند إليه في تلك الصيغة هو أندورا، تلك المنطقة المحصورة الصغيرة جدًّا التي يكفل أمنَها جارتاها الكبيرتان: فرنسا وإسبانيا.) وتَمَثَّل احتمالٌ آخر في تشكيل اتحاد كونفيدرالي بين الهند وباكستان وكشمير.33
اختير مستشارو نهرو الثلاثة لمقدرتهم ومعرفتهم، ولكن من الجدير بالذكر أيضًا لأنهم جاءوا من ثلاثة مذاهب دينية مختلفة، كما أن جميعهم كانوا مسئولين حكوميين. دعونا نُذَكِّر هنا بأنَّه عندما كانت الفرصة سانحة لتسوية النزاع مع الصين، أجبرت النزعة الشوفينية لدى رجال السياسة نهرو على اتِّخاذ مواقف أكثر تشدُّدًا مما كان يمكن أن يفعل لولاهم. والآن وفي إطار السعي وراء الوصول إلى تسوية مع باكستان، سعى نهرو إلى العمل مع مسئوليه، عوضًا عن وزرائه. وقد اتضحت حكمة هذا النهج في رسالة من الكاتب والبرلماني بي شيفا راو إلى راجا جي، جاء فيها:

توجد محاولة واضحة من داخل مجلس الوزراء وكذلك من داخل البرلمان لمنع رئيس الوزراء من الوصول إلى اتفاق مع الشيخ عبد الله إذا كان ذلك سوف يعني إعادة فتح مسألة الانضمام. وقد أدلى كثير من أولئك الوزراء ببيانات علنية بينما كانت المباحثات مستمرة بين الطرفين. وإنَّ تجرُّؤهم على ذلك لعلامة على تضاؤل مكانة رئيس الوزراء ونفوذه.

كان ذلك الحديث مثيرًا للاهتمام، وكان الرد عليه أكثر إثارةً للاهتمام. فصَّل ذلك الرد «صيغة راجا جي»، مع عرض معضلة نهرو بحجمها الحقيقي. كتب راجا جي يقول:

إن مطالبة أيوب خان بتقديم التزام مسبَق بشأن آزاد كشمير الآن سوف يقضي على الخطة بأسرها؛ فهو لن يقبل ولن يستطيع أن يقدِّمه؛ فوضعه أسوأ من نهرو من حيث الضغوط الشعبية والقيود العاطفية … ومن ثم ينبغي لأي خطة ألا تمس بغنائم الحرب … على الأرجح سيكون أفضل إجراء هو تركيز الشيخ على الوادي مع ترك جامو كثقل موازِن لآزاد كشمير، بحيث يُفْتَرَض اندماجها في الهند دون شك.

هذا الشكل المصغَّر للمشكلة يكفي — إن حُلَّ كما نأمل — لتحسين العلاقة بين الهند وباكستان. ونظرًا لصِغَر حجمه، فإنه سيكون موضعًا ملائمًا لوصاية الأمم المتحدة سواء الجزئية أو الكاملة.34

على الجانب الهندي، كان أكبر أمل للسلام هو جواهر لال نهرو. ويبدو أنَّ الشيخ عبد الله رأى أنَّ نهرو هو أيضًا الأمل الأخير؛ ففي يوم ١١ مايو قال الشيخ للصحافة: «لا أقصد الدفاع عن نهرو ولكنه رمز الهند رغم ضعفه. ولا يمكنك أن تجد رجلًا مثله.» وأضاف أنَّه «بعد نهرو لا يمكنه تخيل معالجة شخص آخر لهذه المشكلات بسعة الأفق ذاتها».

ومن جانبه، كان نهرو مستعدًّا بدرجة كبيرة أيضًا لأن يشهد بخُلُق رفيقه القديم وخصمه لبعض الوقت؛ ففي حديثه أمام لجنة حزب المؤتمر لعموم الهند في بومباي يوم ١٦ مايو، قال رئيس الوزراء إنَّ الشيخ عبد الله متمسِّك تمامًا بمبادئ العلمانية، وإنَّه لا يؤمن أيضًا بنظرية الدولتين. وكان هو ونهرو على حد سواء يأملان في «أن تستطيع الهند — دون التخلي عن مبادئها — أنْ تعيش في سلام وصداقة مع باكستان ومن ثم تضع نهايةً لمسألة كشمير بالتبعية». وقال رئيس الوزراء: «لا أستطيع أن أجزم بنجاحنا في ذلك، ولكن من الواضح أننا ما لم ننجح فستتحمل الهند عبء الصراع مع باكستان بكل ما ينطوي عليه من تبعات.»

٧

في يوم ٢٠ مايو، عاد الشيخ عبد الله إلى دلهي، للإقامة في قصر تين مورتي ودخول جولة محادثات أخيرة مع نهرو قبل السفر إلى باكستان. وفي مؤتمر صحفي عُقِد في ٢٢ مايو، رفض نهرو البوح بالتفاصيل، قائلًا إنَّه لا يريد أن يُعَرِّض مهمة الشيخ للخطر. ولكنه أشار إلى أنَّ حكومته «مستعدة للوصول إلى اتفاق مع باكستان على أساس احتفاظها بذلك الجزء الذي احتلته من كشمير».35
أوراق نهرو نفسه في هذا الصدد غير متاحة للباحثين، ولكن ثمة رسالة بعثها إلى سكرتير خارجيته تشير إلى مسار تفكيره في ذلك الوقت؛ فالظاهر أنَّ رئيس الوزراء طلب إلى الخبراء القانونيين دراسة تبعات تشكيل اتحاد كونفيدرالي بين الهند وباكستان وكشمير، «بصفته حلًّا محتملًا لمتاعبنا الحالية». مثل ذلك الترتيب لا يعني «إلغاء» التقسيم؛ فسوف تظل كل من الهند وباكستان بموجبه دولة منفصلة ذات سيادة، وتكون كشمير جزءًا من الاتحاد الكونفيدرالي، حيث يتحدَّد وضعها الدقيق من خلال الحوار. ربما ينشأ اتحاد جمركي بين الوحدات الثلاث، وإحدى صور التكامل المالي، وأحكام خاصة لحماية الأقليات.36
وبغية الإبقاء على استمرار ذلك النقاش، كانت الهند مستعدة للإقرار بسيطرة باكستان على آزاد كشمير وجلجيت، وهما الجزءان اللذان خَسِرَتهما الهند من تلك الولاية في حرب ١٩٤٧-١٩٤٨؛ فهل تتنازل الهند بدورها عن أي شيء؟ بينما كان عبد الله يتأهَّب للرحيل إلى روالبندي، كتب مينو ماساني إلى إيه كيه بروهي، الذي كان المفوض السامي الباكستاني في الهند لفترة من الزمن قبل أن يصبح محاميًا بارزًا في كراتشي، وعضوًا معتمَدًا في المؤسسة الباكستانية يُولِيه الرئيس أيوب خان آذانًا مُصْغِيَة؛ فقال ماساني لبروهي: «طبيعة الاستجابة التي يمكن للشيخ استثارتها من الرئيس أيوب سيكون لها تأثير حاسم من حيث تعزيز موقف المؤيدين للتآلف الهندي الباكستاني هنا أو إضعاف موقفهم.» فقد قُوبِلَت مبادرة نهرو تجاه باكستان بمعارضة شرسة داخل حزبه وخارجه. وحتى تُحْرِز المبادرة تقدُّمًا، ويُعْقَد اجتماع قمة بين رئيس الوزراء نهرو والرئيس أيوب خان، كان «من المهم أن يرجع الشيخ عبد الله بشيء يمكن أن ترتكز عليه أي مباحثات مستقبلية». وحثَّ ماساني بروهي على إعمال نفوذه مع أيوب وغيره من الزعماء، حتى تأتي مباحثاتهم مع عبد الله «بنتائج مثمرة في صالح كلا البلدين».37
في ذلك الوقت، مضى عبد الله إلى باكستان. كان يأمل في قضاء أسبوعين هناك، بدءًا بالعاصمة روالبندي، مرورًا بآزاد كشمير، وانتهاءً بباكستان الشرقية، حيث كان ينوي — ضمن أمور أخرى — أن يستطلع مشاعر الأقلية الهندوسية. في يوم ٢٤ مايو وصل مدينة روالبندي، ليجد استقبالًا صاخبًا؛ فقد ركب سيارة مكشوفة من المطار إلى المدينة، واصطفَّ آلاف الباكستانيين مهلِّلين على طول الطريق. وقال أحد المراسلين الصحفيين إنَّ الترحيب الذي لاقاه «فاق الذي ناله السيد تشو إن لاي في فبراير من حيث شدته وعمقه».38

وفيما بعد، أثناء حديث عبد الله إلى المراسلين، وصف زيارته بأنها «بعثة سلام ذات طبيعة استطلاعية». وناشد الصحافة أن تساعد على تنمية الصداقة بين الهند وباكستان. بالإضافة إلى ذلك، «قال إنَّه خَلُصَ إلى استنتاج مؤكد مفاده أنه لا بد من فض الاشتباك بين القوات المسلحة للبلدين المتواجهين على خط وقف إطلاق النار وأنَّ صَرْح كشمير السعيدة المزدهرة لا يمكن بناؤه إلا على أساس صداقة دائمة بين الهند وباكستان». وكما في نيودلهي، أكَّد في كراتشي أيضًا على أنَّ أي حل للنزاع يجب ألا يسفر عن شعور بالهزيمة لدى الهند أو باكستان، وألا يضعف العلمانية الهندية أو يُقَوِّض مستقبل ٦٠ مليون مسلم فيها، ويجب أن يُلَبِّي طموحات الكشميريين أنفسهم.

في اليوم التالي، يوم ٢٥، التقى الشيخ عبد الله بأيوب خان لثلاث ساعات. لم يخُض الشيخ في التفاصيل، مكتفيًا بقوله إنَّه وجد في روالبندي «الاستجابة المشجِّعة ذاتها كما في دلهي. يوجد حرص متساوٍ على الجانبين على الوصول إلى تفاهم حقيقي».

وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، خطب عبد الله في مؤتمر شعبي كبير في روالبندي. وفيه «هلَّل الحضور أكثر من مرة أثناء خطابه الذي دام ساعتين حذَّر الهنود والباكستانيين خلالهما صراحةً من اقتراف أخطاء تُعَرِّض حياة الأقليات في البلدين للخطر». وقال عبد الله إنَّه آن أوان تسوية الهند وباكستان خلافاتهما، لأنَّه إذا «استمرت مرحلة التوتر والتشكك وسوء التفاهم الحالية، فسيعاني البلدان وتتعرض حريتهما للخطر».

في يوم ٢٦ مايو التقى عبد الله أيوب خان مجدَّدًا، لمدة أربع ساعات هذه المرة، وخرج من الاجتماع مشرق الوجه. وقال في مؤتمر صحفي حاشد إنَّ الرئيس الباكستاني قد وافق على مقابلة رئيس الوزراء نهرو في منتصف يونيو. كان من المزمع عقد الاجتماع في دلهي، ووجود عبد الله في المدينة آنذاك أيضًا، جاهزًا لتقديم المشورة. وقال الشيخ: «من بين العوامل المُهَيِّجة كافة التي تسبب التوتر بين الهند وباكستان، كشمير هي الأهم. وما إن يتم التخلص من ذلك العامل المهيِّج، فلن يمثل حل المشكلات الأخرى صعوبة كبيرة.»

إلا أنَّه بحلول ذلك الوقت كان التأثير الآسِر للشيخ يتضاءل في أوساط النخبة الباكستانية؛ فقد كتب البوق المُعَبِّر عنهم — صحيفة «دون» — أنَّ تصريحات عبد الله «لا سيما إشاراته إلى علمانية الهند المزعومة، أثارت قدرًا من الإحباط لدى عامة الشعب في المجمل والنخبة المثقفة على وجه الخصوص». ورأت الصحيفة أن الشيخ «استدرجته العلمانية الهندية الظاهرية، لينسى كما يبدو واضحًا المعاملة غير الإنسانية التي لاقاها ٦٠ مليون مسلم في تلك الدولة التي تدَّعي العلمانية». كذلك كان لدى الصحيفة شكوى أكثر جوهرية، وهي أنَّ عبد الله «تَبَوَّأَ مقعد رائد السلام والصداقة بين الهند وباكستان، عوضًا عن مقعد الزعيم الكشميري، الذي «ينبغي أن يكون هدفه الرئيسي هو السعي وراء تحريرها من أَسْر الهند».»39

في يوم ٢٧ مايو مضى عبد الله إلى مظفر أباد، وهي بلدة لم يرها منذ تقسيم كشمير عام ١٩٤٧. لم يكن لديه فكرة عن رد فعل الكشميريين على هذا الجانب من خط وقف إطلاق النار إزاء مقترحاته. وقبل أن يتسنَّى له أن يعرف، بلغته أنباء من نيودلهي بأن نهرو قد تُوُفِّيَ؛ فعلى الفور «اغرورقت عيناه بالدموع وأجهش بالبكاء». وفي صوت مكتوم قال للصحفيين المتجمِّعين حوله: «لقد مات. لن أستطيع أن أقابله.» وعندما طُلب منه مزيدًا من التوضيح، انسحب إلى إحدى الغُرَف، لينفرد بأحزانه.

ثم استقلَّ عبد الله سيارة إلى روالبندي، وركب أول طائرة إلى دلهي. وعندما وصل إلى تين مورتي ورأى جثمان نهرو «بكى كالأطفال». واستغرق بعض الوقت حتى «يتمالك نفسه ويضع طوق الزهور على جثمان صديقه ورفيقه القديم». وإلى جانب هذا الوصف المقدَّم من جانب صحفي كان موجودًا في الموقع، لا بد أن نضيف شهادة دبلوماسي رافق جثمان نهرو حتى حرقه؛ فبينما كانت النيران تلتهم الجسد لتحيله ترابًا نُفِخ البوق العسكري للمرة الأخيرة؛ «فكان هذا رمزًا للرابطة التي لا تنفصم بين الهند وإنجلترا في حياة نهرو». ثم، قبل أن تخمد النيران نهائيًّا «قفز الشيخ عبد الله على المنصة، وألقى زهورًا بين ألسنة اللهب ودموعه تنهمر دون توقف؛ فكان هذا رمزًا لرابطة العالم الإسلامي التي لا تنفصم بحياة نهرو ومرثاةً لقضية كشمير».40

٨

مما يُؤْسَف له أنَّ الباحثين أغفلوا أحداث أبريل-مايو ١٩٦٤، ومنهم مدونو سيرة نهرو ومحلِّلو النزاع على كشمير.41 وقد تناولتها بالنقاش هنا لأنَّها تلقي ضوءًا جديدًا على تلك المشكلة المستعصية لأقصى درجة — ذلك «الصداع الممض» كما سمَّاها فالابهاي باتيل؛ هذا «السرطان في الجسد السياسي للهند وباكستان» كما وصفها الشيخ عبد الله — ولأنها تُمَثِّل تَتِمَّة مؤثرة بصورة خاصة لحياة جواهر لال نهرو وعمله.
يظلُّ السؤال هو: ماذا كان مدى جِدِّية الأطراف الثلاثة في حملة سلام أبريل-مايو ١٩٦٤؟ الشخص الذي لم يكشف عن خبايا فكره مطلقًا — في العلَن على الأقل — كان هو المشير أيوب خان؛ فنحن لا نعرف شيئًا عما كان يدور بفكره فعلًا آنذاك، وإن كان جادًّا بالفعل بشأن التفاوض على تسوية بشأن كشمير، وإن كان قادرًا في تلك الحالة على إقناع شعبه باتفاق مع الهند. في المقابل، كان الشيخ عبد الله صريحًا في آرائه؛ إذ أعرب عنها للصحافة وفي مؤتمرات شعبية وخُطَب لا حصر لها. رأى بعض الناس في كلماته قناعًا يخفي وراءه طموحًا شخصيًّا. وكتب أحد المعلِّقين في مجلة «إكونوميك ويكلي» زاعمًا أنَّه «حتى الدراسة السطحية لسلوكه السياسي تقنع القائم بها بأنَّه مُقدِم على خطة متشعِّبة لأبعد حد للفوز بدولة مستقلة عن طريق الاستغلال البارع للأحقاد والأحكام المسبقة — الواعية وغير الواعية — والاشتباكات السياسية للقوة، التي تُمَثِّل كلها خلفية العلاقات الهندية الباكستانية».42

يبدو ذلك الرأي مسرفًا في التشاؤم؛ فأقوال عبد الله — وأفعاله بدرجة أكبر — توضح بجلاء التزامه بالعلمانية، واهتمامه بالأقليات في الهند وباكستان على حد سواء. لا شك أنَّه كان طموحًا، ولكن في حين أنَّه عام ١٩٥٣ تخيَّل نفسه ملك كشمير غير المُتَوَّج على ما يبدو، فإنَّه عام ١٩٦٤ رأى نفسه صانع سلام جليل، والرجل الوحيد القادر على جلب الطمأنينة والازدهار لشبه القارة الفقيرة المنقسمة.

فيما يتعلق بدوافع جواهر لال نهرو فلا ينبغي أن يكون ثمة شكٌّ بالمرة؛ فقد كان يشعر بالذنب حيال طول مدة سجن عبد الله، وكان قلقًا بشأن مشاعر النفور المستمرة في كشمير، وكذلك مدركًا لتكاليف النزاع على كل من الهند وباكستان على المدى البعيد. إذن فالسؤال ليس عن دوافعه، وإنما عن تأثيره؛ فهل كان زملاؤه سيُصْغون إليه؟ ولو كان توصَّل بالفعل إلى تسوية مع أيوب خان — بقليل من المساعدة من جانب الشيخ عبد الله — فهل كانت ستحظى بقَبول حزب المؤتمر أو البرلمان الهندي؟

من المحتمَل أنها لم تكن ستُقبَل. وحتى لو قُبِلت، فهل كانت ستنجح على المدى البعيد؟ الخبير القانوني الذي استشاره مكتب نهرو بشأن فكرة الاتحاد الكونفيدرالي أشار في كياسة إلى أنَّه «على مدار التاريخ، كانت الاتحادات الكونفيدرالية يسيطر عليها عضو واحد أو تتَّحد تحت ضغط».43 ومن حيث الحجم الصِّرف كانت الهند عملاقًا بالنسبة إلى باكستان وكشمير؛ فهل كانت ستتصرف مثل أخ أكبر؟ ثمة رسم كاريكاتيري ذو صلة هنا، رسمه راجيندر بوري وظهر في صحيفة «هندوستان تايمز» يوم لقاء عبد الله بأيوب خان. صوَّر الرسم المشير أيوب خان يقف متأمِّلًا، واضعًا إصبعه على ذقنه، بينما الشيخ يقول له ملوِّحًا بحماس: «هل تخشى محاولة الهند بسط سيطرتها على بندي (روالبندي)؟ يا ولدي العزيز، إنْ كانت دلهي عاجزة عن بسط سيطرتها على لكنو أو تشنديجار …»44
إذن لدينا هنا مجموعة من الأمور التي نعجز عن سبر أغوارها: دوافع أيوب، ومعتقدات عبد الله، وقوة نهرو، وقابلية السيادة المشتركة أو الاتحاد الكونفيدرالي للاستمرار. في النهاية كانت قوة نهرو هي التي خارت، بالمعنى الحرفي للكلمة. وكما ذكرت إحدى الصحف الباكستانية، فقد كانت وفاته تعني «نهاية فكرة التفاوض على تسوية بشأن قضية كشمير». فأيًّا كان من سيخلف نهرو فلن يتحلَّى «بالمكانة والشجاعة والدعم السياسي اللازمين للسير عكس التيار الانفعالي الجارف للرأي العام في الهند الذي يُفَضِّل الحفاظ على الوضع الراهن في كشمير».45

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤