الفصل العشرون

إكسير النصر

دمية غبية.

رامانوهار لوهيا، في وصف لإنديرا غاندي، نحو عام ١٩٦٧

١

في نوفمبر ١٩٦٩، ورد التعليق الآتي في مجلة «ثوت» الأسبوعية، التي تصدر في دلهي: «يبدو أنَّ حزب المؤتمر لم يعد يصلح قوةً رابطةً على المستوى الوطني.» فذلك الحزب الذي كان قويًّا يومًا ما أصبح منقسمًا إلى قسمين متناحرين. وجاء في المجلة أنَّه عندما يحين وقت الانتخابات العامة المقبلة «سيقاتل رجال حزب المؤتمر بعضهم بعضًا، مما سوف يصبُّ بالتأكيد في مصلحة الجماعات الإقليمية أو الطائفية». ومن ثَمَّ، «قد لا يحصل حزبُ السيدة غاندي على أكثر من ثُلث مقاعد البرلمان. وفُرَص المجموعة الأخرى تبدو أضعف حتى من ذلك».1
بعد مرور عام دعت رئيسة الوزراء إلى عقد الانتخابات، قبل موعدها المقرر بأربعة عشر شهرًا؛ فقد كان حزبها — الذي أطلق على نفسه حزب المؤتمر «آر» — يرغب في الحصول على تفويض شعبي بتنفيذ إصلاحاته التقدُّمية، التي وجد أن القوى «الرجعية» في البرلمان حجرُ عثرة في طريقها آنذاك. عرض بيان الحزب «برنامجًا راديكاليًّا حقيقيًّا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية»، يصون مصالحَ صِغارِ المُزارعين والعمال الزراعيين المُعدمين، وأصحاب الأعمال الصغيرة في مواجهة الرأسماليين الكبار. ودعا بيان الحزب إلى تحسين أوضاع الطوائف الهندية الدُّنيا، وحماية الأقليات. واخْتَصَّ بالذِّكر اللغةَ الأردية، التي قِيلَ إنَّها «سوف تُمْنَح المكانة الجديرة بها التي حُرِمت منها كلَّ هذا الوقت». ووعد بإقامة «حكومة قوية مستقلة» وطالَبَ بمساندته في المعركة ضد «قوى الظلام والشر المتمثلة في الرجعية اليمينية»، التي «عقدت العزم على تدمير قاعدة أهدافنا الديمقراطية والاشتراكية من أساسها».2

كان الموقف الذي وجدت إنديرا غاندي نفسها فيه عام ١٩٧١ مشابهًا لموقف أبيها في عام ١٩٥٢ من عدة أوجه؛ فمثل نهرو آنذاك، دخلت السيدة نهرو الانتخابات بعد معركة ضارية مع حزبها نفسه. ومثله، عرضت على الناس تفويضًا جديدًا، يبدو تقدُّميًّا. ومثله أيضًا، تزعَّمت هي الحملةَ الانتخابية لحزبها وكانت المتحدثة الرئيسية باسمه، وجسدت ما قال إنَّه يدافع عنه.

عندما دعت رئيسة الوزراء إلى عقد الانتخابات، فصلت بحنكة بين الانتخابات العامة وانتخابات مجالس الولايات المتعددة؛ ففي الماضي، كانت الانتخابات تجري على المستويين معًا، ونتيجةً لذلك تختلط الاعتبارات الضيقة للطائفة الاجتماعية والانتماء العِرْقي بالمسائل الوطنية الأشمل، وفي عام ١٩٦٧ كان لذلك تأثير مُدَمِّر على حزب المؤتمر. أما في هذه المرة، فقد حرصت رئيسة الوزارة على الفصل بين الانتخابات العامة وانتخابات الولايات، بدعوتها إلى انتخابات عامة يمكنها فيها أن تقدِّم إلى جمهور الناخبين أجندةً وطنية كما ينبغي.

في ذلك الوقت، كانت المعارضة تسعى إلى تكوين جبهة متحدة ضد الحزب الحاكم، وتلقَّت تشجيعًا في ذلك من جانب سي راجا جوبالاتشاري — «راجا جي» — الذي كان قد تجاوَزَ عامه التسعين من العمر آنذاك. وبما أنَّه لم يتسنَّ الاتفاق على زعيم مشترك، فقد قال راجا جي إنَّ المعركة ينبغي أن تدور «على نمط حرب العصابات؛ فمرشَّحو إنديرا … تجب معارضتهم في كل مكان على أساس واحد؛ هو معارضتنا مؤامرة تمزيق الدستور ومحو حُرِّيات الناس وتركيز السلطة كلها في يد الدولة».3

ألَّفت المعارضة «تحالفًا كبيرًا»، ضَمَّ أحزاب جانا سانج وسواتنترا وحزب المؤتمر «أوه» والاشتراكيين وبعض التجمُّعات الإقليمية، وكان القصد من ذلك هو الحدُّ من عدد المنافسات المتعددة الأركان. وصاغ أحد اختصاصيي الدعاية الانتخابية شعار «لِنَطْرُدْ إنديرا»، فاستثار ردًّا على لسان رئيسة الوزراء نفسها مفاده «أنهم يقولون لنطرد لإنديرا، بينما نريد نحن أن نطرد الفقر».

سواء أكانت عبارة «لنطرد الفقر» من ابتكار رئيسة الوزراء أم أحد أتباعها الذين أصبحوا منسيين الآن، فقد كانت عبارة مُلهمة؛ فقد أتاحت لحزبها اتخاذ موقف أخلاقي سامٍ، مقدِّمًا نفسه في صورة الحزب التقدُّمي، في مواجهة التحالُف الرجعي؛ فأدَّت شخصنة الانتخابات إلى نتيجة عكسية، وأضرَّت بالمعارضة؛ فقد ظهرت أجندتها في صورة سلبية، على النقيض من برنامج الحزب الحاكم الذي بدا تقدُّميًّا.

عملت السيدة غاندي على حشد الأصوات لحزبها دون كلل أو ملل؛ فبين حلِّ البرلمان، في الأسبوع الأخير من ديسمبر ١٩٧٠، والانتخابات التي عُقِدت بعد عشرة أسابيع، سافرت لمسافة ٣٦ ألف ميل، وخطبت في ٣٠٠ مؤتمر، واستمع إليها أو شاهدها نحو ٢٠ مليون شخص. وقد رَدَّدت السيدة غاندي تلك الأرقام باستمتاع في رسالةٍ كتبتها إلى صديقة أمريكية، وكان استمتاعها بالتجربة واضحًا؛ فكما أشارت: «كان من الرائع أن أرى البريق في أعين الناس.»4
شدَّدت خُطَب رئيسة الوزراء مرارًا وتكرارًا على التناقض — المتصوَّر والحقيقي — بين الحزب الذي تركته والحزب الذي أسَّسته؛ فقالت إنَّ حزب المؤتمر «القديم» كان أسير «العناصر المحافظة» و«المصالح المكتسَبَة»، في حين أن حزب المؤتمر «الجديد» ملتزِمٌ تجاه الفقراء. ألم يَثبُت ذلك بتأميم البنوك وإلغاء مخصَّصات الأمراء؟ خلَّفت تلك الرسالة صدًى قويًّا؛ فقد كتب أحد الصحفيين بشيء من السخرية:
لا شيء أثمن لدى الرجل الموجود في بالوعة يعمل على إصلاحها من إقناعه بأنَّه أعلى مقامًا من مفتش الصرف الصحي؛ فمذلَّة الأغنياء تبدو تأكيدًا على معزَّة الفقراء. وشعار «لنطرد الفقر» فورًا محض سخافة اقتصادية، ولكنه بسبب عوامل نفسية وسياسية مثَّلَ ميزةً حاسمة في ظل مجتمع يعيش حالةَ حربٍ مع العقل والمنطق.5
زادت أسفارُ رئيسة الوزراء في أنحاء الهند معرفةَ الناس بها أكثر بكثير من معرفتهم بها عام ١٩٦٧؛ فهي في التماسها الأصوات، استغلَّت «شخصيتها الآسرة» و«الدور التاريخي لوالدها»، وقبل ذلك كله شعار «لنطرد الفقر» الذي حرَّك المشاعر؛ فصَوَّتَ المُعدمون وأبناء الطوائف الاجتماعية الدنيا لحزبها بأعداد كبيرة، وكذلك فعل المسلمون، الذين لم يُبدوا حماسًا إزاءه في المرة الأخيرة. وعوَّض الشباب المتطوعون في الحزب ضعفَه التنظيمي؛ إذ طافوا أنحاء الريف مُسهبين في كلمات زعمائهم. وأشارت نسبة الإقبال الهائلة في يوم الانتخابات إلى «تفجُّر الحماس في نفوس الناس لدى تجدُّد الأمل في الخلاص».6
في عام ١٩٥٢، قِيلَ إنَّه يمكن لعمود إنارة أن يفوز إذا ترشَّح على قائمة حزب المؤتمر، ولكن النصر الذي حقَّقته السيدة غاندي كان أعظم حتى من نصر والدها؛ فقد رَبِحَ حزب المؤتمر «آر» ٣٥٢ مقعدًا من أصل ٥١٨، وتلاه في الترتيب الحزب الشيوعي الماركسي، الذي فاز بخمسة وعشرين مقعدًا. واتفق كلٌّ من الطرف المنتصِر والطرف المهزوم على أنَّ تلك النتيجة أسفرتْ عنها جهودُ شخص واحد بالأساس؛ فكما قال الكاتب كُشوانت سينج مُعلِّقًا: «لقد نجحتْ إنديرا غاندي في تعظيم صورتها بوصفها الزعيمة الوحيدة التي تمتلك مواصفاتٍ وطنيةً.» ثم أضاف مُتَوَعِّدًا: «إلا أنَّه إذا تنازل القطاع الغالب من الشعب عن السلطة طواعيةً لشخص واحد، وتضاءلت مكانة المعارضة في الوقت ذاته إلى حَدِّ التهميش، فقد يصعب عليه مقاومة إغراء ضرب عرض الحائط بالانتقادات المشروعة؛ فسوف يظل خطر منح إنديرا غاندي سلطةً مُطلَقة حاضرًا دائمًا».7

كان من بين تبعات انتخابات عام ١٩٧١ تغيُّر اسم الحزب الحاكم؛ فقد أصبح حزب المؤتمر «آر» يُعرَف باسم حزب المؤتمر «آي»، نسبةً إلى «إنديرا»؛ وفيما بعدُ، أُسقِط حرف «آي» أيضًا؛ فنظرًا لهامش الربح الذي حقَّقه حزب مؤتمر إنديرا، تأكَّد كونه حزب المؤتمر الحقيقي، ولم يَعُدْ يحتاج إلى إضافة لتوصيفه.

تجرَّأت السيدة غاندي، إثر النجاح الذي حقَّقته في الانتخابات، على التصرُّف بحزم مع الأمراء؛ فطوال عام ١٩٧١، حاوَلَ الجانبان الوصولَ إلى حلٍّ وسط وفشلَا؛ فقد كان الأمراء مستعدين للتخلي عن مُخصَّصاتهم، ولكنهم أمَلُوا في إنقاذ ألقابهم على الأقل. ولكن في ظل الأغلبية الكاسحة التي تمتعت بها رئيسة الوزراء في البرلمان، لم تكن بها حاجة للتنازل؛ فطرحت يوم ٢ ديسمبر مشروع قانون لتعديل الدستور وإلغاء كافة امتيازات الأمراء. مُرِّرَ مشروع القانون في مجلس الشعب بموافقة ٣٨١ صوتًا مقابل ستة أصوات معارضة، وفي مجلس الولايات بموافَقةِ ١٦٧ صوتًا ومعارَضةِ سبعة. وفي خطاب ألقته رئيسة الوزراء نفسها، دعت «الأمراء إلى الانضمام إلى ركب نُخبة العصر الحديث، التي تكتسب الاحترام بموهبتها وطاقتها ومساهمتها في تقدُّم البشرية، وكلها أشياء لا يمكن تحقيقها ما لم نعمل معًا سواسيةً دون أنْ نتطلَّع إلى أحد على أنه يتمتع بمكانة خاصة».8

٢

طُبِعَت إحصاءات الانتخابات العامة الخامسة بتفصيل كبير في تقرير رئيس اللجنة الانتخابية. كان قوام جمهور الناخبين ٢٧٥ مليونًا إجمالًا؛ أي إنه زاد ١٠٠ مليون عما كان عليه عام ١٩٥٢. ولم يحتَج هندي إلى السَّيْر أكثر من كيلومترين لكي يُدلِي بصوته؛ فقد بلغ عدد مراكز الاقتراع ٣٤٢٩٤٤ مركزًا، بعد أن كان عددها نحو ١٠٠ ألف عام ١٩٦٢. وزُوِّدَ كل مركز بثلاثة وأربعين بَنْدًا منفصلًا، مثل: أوراق الاقتراع، والصناديق، وحبر الانتخابات، والشمع الذي تُقْفَل به الصناديق. طُبِعَ نحو ٢٨٢ مليون ورقة اقتراع؛ أي إنَّه كان ثمة ٧ ملايين ورقة أكثر من عدد الناخبين (تحسُّبًا للحوادث والأخطاء). وخدم ١٧٦٩٨٠٢ هندي في مراكز الاقتراع، معظمهم من موظفي الحكومة المركزية وحكومات الولايات.

بعد ذلك تَحَوَّلَ رئيس اللجنة الانتخابية، دون القدر ذاته من السرور، إلى الممارسات الانتخابية الخاطئة؛ فقد وجدت دراسةٌ أُجْرِيَت على انتخابات عام ١٩٦٧ أنَّه كان ثمة ٣٧٥ حالة من العنف الانتخابي بشتى صنوفه، ثمانٍ وتسعون منها في بيهار.9 وفي عام ١٩٧١، سجَّلت اللجنة الانتخابية ستًّا وستين حالة «استحواذ على مركز الاقتراع»؛ حيث يأخذ الأشخاص الصناديق بالقوة ويملئونها بأوراق اقتراع لصالح مرشحيهم. وفي أنانتنَج بوادي كشمير، أخذت امرأةٌ صندوقَ الاقتراع تحت برقعها ثم عادت به، وقد زاد عليه عدة مئات من أوراق الاقتراع. ومرةً أخرى، كانت أكثر الانتهاكات في بيهار؛ فتلك الولاية شَهِدَت الاستحواذ على اثنتين وخمسين مركز اقتراع من بين الحالات الست والستين المسجَّلة، وذلك بفعل بلطجية مأجورين لصالح زعماء الفصائل الطبقية الهندوسية؛ فرأى رئيس اللجنة الانتخابية أنَّ تلك «ربما كانت الولاية الأكثر تضرُّرًا من صراع الطوائف الهندية في الهند قاطبة، وهذا الوباء من النعرة الطبقية المفرِطة يُعَكِّر صَفْوَ المناخ السياسي بقدرٍ غير هَيِّن».

على الرغم من تلك التشوُّهات، كان عقد الانتخابات العامة الخامسة حدثًا جديرًا بتهنئة البلاد نفسها عليه. هذا ما كتبه رئيس اللجنة الانتخابية، في تمهيدٍ بدَتْ عاطفته الجيَّاشة متنافرةً مع التحليل العددي الجاف الذي تبعه؛ ففيما بين الانتخابات الأخيرة وتلك الانتخابات، «كانت الهند قد توغَّلت في قلب غابة عميقة مظلمة، راحت تتحسَّس طريقَها للخروج منها». كانت النزعة التحزُّبية متفشِّية، وحكومات حزب المشرِّعين المتَّحدين ذاهبةً آيبةً، ورئيس الجمهورية تُوُفِّيَ، ممَّا زاد «الوضع السياسي المظلم بالفعل … ظلامًا». ثم انشقَّ حزب المؤتمر العتيد، وهو ما كان لا يضاهيه في وجهة نظر رئيس اللجنة الانتخابية سوى «الشقاق العظيم الذي حدث في حزب الأحرار في بريطانيا العظمى عام ١٧٩٦». ففي ظل تلك «الحالة من التوتر والضغط والارتباك والتقلُّب، بدأ المتشائمون في داخل البلاد وخارجها يُعرِبون عن مخاوف وشكوك خطيرة حيال استمرار الديمقراطية أساسًا في هذه الأرض العظيمة».

وقال رئيس اللجنة الانتخابية إنَّ هؤلاء المتشائمين لم يضعوا في حسبانهم «صانعَ مصير الهند»، الذي صدَّ منذ «قديم الأزل الظروف المناوئة والمُعادِية»، ببثِّه «في روح الهند ذلك الإلهامَ الباعث على الخلود، الذي أكسب قواها الحيوية والأخلاقية والروحانية عنفوانًا متجدِّدًا». ربما عارضه آخرون، ممَّن رأوا تلك الانتخابات ليس على أنَّها انتصارٌ للنزعة الروحانية الهندية، وإنما مسوِّغٌ لصيغة سياسية حديثة للغاية؛ أَلَا وهي الديمقراطية الانتخابية.10

٣

قبل أن تعقد الهند انتخاباتها العامة الخامسة بثلاثة أشهر، عقدت باكستان انتخاباتها الأولى القائمة على أساس تصويتٍ للبالغين؛ بناءً على دعوة الجنرال يحيى خان، الذي خَلَف أيوب خان في منصب رئيس الجمهورية وكبير مديري الأحكام العرفية.

تصدَّر الحملةَ الانتخابية حزبان؛ حزب الشعب الباكستاني بزعامة ذو الفقار بوتو في باكستان الغربية، وحزب رابطة عوامي الوطني بزعامة الشيخ مجيب الرحمن في باكستان الشرقية. كان بوتو ابن أحد كبار الأعيان الزراعيين وتلقَّى تعليمه في جامعتَيْ أكسفورد وبيركلي، ولكنه سعى إلى التحلُّل من طبقته — في خُطَبه على الأقل — بوعده كلَّ باكستاني «المأكلَ والملبسَ والمأوى». أما حملة مجيب الرحمن فكانت قائمةً على الشعورِ بالظلم السائد في باكستان الشرقية، وغضبِ أهلها من قمع اللغة البنغالية واستغلالِ الحكَّام العسكريين في نصف البلاد الغربي لمواردهم الطبيعية الغنية.11

ويبدو أنَّ يحيى خان دعا إلى عقد انتخابات على أمل أن يربح حزب الشعب الباكستاني بزعامة بوتو، ويسمح له بالبقاء على كرسي الرئاسة. أُجْرِيَت الانتخابات في الأسبوع الثالث من ديسمبر عام ١٩٧٠، وفاز فيها حزب الشعب الباكستاني بثمانية وثمانين مقعدًا من أصل ١٤٤ مقعدًا في باكستان الغربية، بينما اجتاحت رابطة عوامي الجناح الشرقي الأكثر اكتظاظًا بالسكان؛ إذ رَبِحَ ١٦٧ مقعدًا من أصل ١٦٩. فاجأت تلك النتائج مجيب الرحمن وصدمت يحيى خان؛ فقد كان الرئيس يأمل في أن يصوغ المجلس المنتخَب حديثًا دستورًا ديمقراطيًّا، ثم أصبح مبعث القلق الآن أنْ تُصِرَّ رابطةُ عوامي، بأغلبيتها، على إنشاء اتحاد فيدرالي يكون للجناح الشرقي فيه أن يدير شئونه بنفسه، ولا يترك للحكومة المركزية سوى شئون الدفاع والسياسة الخارجية. وكان مجيب قد أشار بالفعل إلى أنَّه يود أن تكون للشرق سيطرةٌ في العملة الأجنبية المتولِّدة عن منتجاته، وربما يُصدِر عملةً خاصة به أيضًا.

تعزَّزت تحفُّظات يحيى بطموحات بوتو؛ فالعلاقة بين الجناحين الباكستانيين لطالما كانت استعماريةَ الطابِع؛ حيث سيطر الجناح الغربي على الشرقي عسكريًّا واقتصاديًّا وحتى ثقافيًّا. وبالنسبة إلى اللواء يحيى خان والأرستقراطي بوتو على حد سواء، بدا احتمالُ وضع مصيرهما في يدي رجلٍ بنغالي أفظعَ من أن يمكنهما تصوُّره؛ فالمسلم البنغالي كان نظيره في باكستان الغربية يعتبره واهنًا أنثويًّا، يسهل إفساده لقربه من الهندوس (الذين كان أكثر من ١٠ ملايين منهم ما زالوا يعيشون بينهم)، وكان من بين هؤلاء الهندوس مِهَنيون كُثُر، من محامين وأطباء وأساتذة جامعيين؛ فكانت النخبة الباكستانية الغربية متخوِّفةً من أنَّه إذا تسنَّى لرابطة مجيب تشكيل الحكومة، «فسيحمل الدستور الذي ستتبناه أثَرَ القبضة الحديدية الهندوسية».12
على الجانب الآخر، تطلَّع مسلمو باكستان الشرقية إلى نظرائهم في باكستان الغربية باعتبارهم «الطبقات الحاكمة؛ طبقات حاكمة أجنبية، وطبقات حاكمة أجنبية مستغلة». فكانوا مستائين من تجاهُل الحكام لغتهم البنغالية، وشَكَوْا استنزافَ ثروتهم الزراعية لإطعام القطاع الغربي، وأشاروا إلى أنَّ نسبة تمثيل البنغاليين ضعيفة جدًّا في صفوة البيروقراطية الباكستانية وجهازها القضائي، وأخيرًا وليس آخرًا: الجيش. وراح شعور الاضطهاد يتنامى مع مرور السنين؛ فبحلول وقت انتخابات عام ١٩٧٠، كان البنغاليون الشرقيون «ذوو التوجُّه السياسي» قد تكوَّن لديهم «نفورٌ من سلطةٍ مركزية تبعد عنهم آلاف الأميال».13

في يناير ١٩٧١، سافَرَ كلٌّ من يحيى خان وبوتو على حِدة إلى دَكَّا، عاصمة باكستان الشرقية، وخاضا محادثات مع مجيب، ولكنهما وجدَا موقفَه متصلِّبًا فيما يتعلَّق بمسألة الدستور الفيدرالي؛ ومن ثَمَّ أرجأ الرئيس انعقاد الجمعية الوطنية، فردَّت رابطة عوامي بالدعوة إلى إضرابٍ عامٍّ لأجَلٍ غير مُسَمًّى؛ ففي جميع أنحاء باكستان الشرقية، أُغلِقَت المتاجر والمكاتب وحتى السكك الحديدية والمطارات، وأصبحت الاشتباكات بين الشرطة والمتظاهرين حدثًا يوميًّا.

قرَّر الجيش قمْعَ تلك الاحتجاجات باستخدام القوة؛ فأُرسِلت تعزيزات عسكرية جوًّا وبحرًا إلى الميناء الشرقي الرئيسي، تشيتَّاجونج، وفي ليلة ٢٥-٢٦ مارس، شَنَّ الجيش هجمة كبيرة على جامعة دَكَّا، التي كان طُلَّابها من أقوى المساندين لرابطة عوامي؛ فدخل موكب من الدبَّابات الحَرَم الجامعي، مُطلِقًا نيرانه على مساكن الطلاب، وجَمَعت قواتُ الجيش الطلابَ، ثم أطلقت عليهم الرصاص وألقتهم في قبورٍ حُفِرَت وجرفتها الدبابات في عُجالة. ونُشِرت كتائب من القوات في أماكن أخرى من المدينة، حيث استهدفت مكاتبَ الصُّحُف البنغالية ومنازلَ السياسيين المحليين. وفي تلك الليلة أيضًا، قُبِضَ على مجيب الرحمن في بيته، ونُقِلَ جوًّا إلى موقع سري في باكستان الغربية.14
انتشر الجيش الباكستاني في أنحاء الريف، ساعيًا إلى قمع أي شكل للتمرُّد. وقد تمرَّدَ جنودٌ من شرق البنغال في مناطق متعددة، منها تشيتَّاجونج، حيث سَيْطَرَ رائدٌ عسكري على محطة إذاعية، وأعلَنَ إقامة «جمهورية بنجلاديش الشعبية المستقلة».15 ولكي يحارب الجيش تلك الجماعات المسلَّحة، استعان بجماعات محلية موالية له، تُدعَى رضا كار، كانت تُعلِي مزاعم الدين — ومن ثَمَّ باكستان متحدة — على مزاعم اللغة؛ فسقطت قُرًى وبلدات صغيرة، وحتى بضعة مطارات، في أيدي المتمردين، ثم أُعِيدت السيطرة عليها. وازدادت الأعمالُ الانتقامية وحشيةً؛ فقد ذكر موظف قنصلي أمريكي أنَّ «ضباط الجيش وجنوده يُبْدُون كافةَ العلامات على إيمانهم بأنَّهم الآن في جهادٍ ضد البنغاليين الذين أفسَدَهم الهندوس.»16
سَرَد أحد الجنود فيما بعدُ ذكرياتٍ حيَّةً عن عملية مكافحة التمرُّد، و«إعادة تأكيد سلطة الدولة» واستعادة «المناطق التي احتلتها العناصر المُعادية للدولة». فكما تذكَّر، «كانت مقاومةُ التضاريس أشدَّ من مقاومة المتمردين؛ فقد كان التقدُّم عسيرًا بسبب الأضرار البالغة التي لحقت بالاتصالات الأرضية ومخالطة العناصر العدائية لعامة الشعب بحُرِّية».17
بعد الهجوم الأول، طُلِب من المُراسلين الأجانب مغادرة باكستان الشرقية، ولكنْ سُمِح لبعضهم بالعودة فيما بعدُ في الصيف؛ فرأى صحفي ألماني آثارَ الحرب الأهلية في كل مكان، في البازارات المحروقة في المدن والعِزَب المُهَدَّمة في القرى؛ فقد خيَّمَ «على المستوطنات التي كانت نابضةً يومًا بالحياة والطاقة خواءٌ كأنها مسكونة بالأشباح». ووجد صحفي أمريكي دَكَّا «مدينةً تحت احتلال قوة عسكرية تحكم بالقوة والإرهاب والترويع». وكان الجيش يتحرَّش بالأقلية الهندوسية بصفة خاصة؛ حيث عمدت السلطات إلى «هدم المعابد الهندوسية، بصرف النظر عمَّا إن كان ثمة هندوس يستخدمونها». ووجد فريقٌ من البنك الدولي الذي زارَ باكستان الشرقية حالةَ «دمارٍ عامٍّ في الممتلكات في المدن والبلدات والقرى» أفضت إلى «خوف متفشٍّ» فيما بين السكان.18
استثارت العمليات العسكرية في دَكَّا نوبة فرار مذعورة من المدينة، وفاقَمَ القمع في المناطق الداخلية هذا الفرار، موجِّهًا إياه عبر الحدود إلى الهند؛ فبنهاية أبريل ١٩٧١ كان ثمة ٥٠٠ ألف لاجئ من باكستان الشرقية في الهند، وبحلول شهر مايو وصلت الأعداد إلى ٣٫٥ ملايين، وبحلول نهاية شهر أغسطس صارت الأعداد تفوق ٨ ملايين، معظمهم (ولكن ليس جميعهم بأي حال من الأحوال) كانوا هندوسًا.19 أُقِيمت مخيَّمات اللاجئين على طول الحدود، في ولايات غرب البنغال وتريبورا وميجالايا. وبغية تخفيف العبء، فُتِحَت مُخَيَّمات في ماديا براديش وأوريسا أيضًا. سُكِّن اللاجئون في أكواخ مصنوعة من البامبو والبولي إيثيلين، بينما سكن الأوفر حظًّا بينهم شُرُفات المدارس والكليات. وجاء الغذاء من المخازن الهندية — التي لم تكن جدباء كما كانت قبل الثورة الخضراء — ومن إمدادات مقدَّمة من وكالات المعونة الغربية.20
منذ البداية، اتَّبعت الحكومةُ الهندية سياسةَ «الباب المفتوح»؛ حيث سمحت لأي أحد يأتي بالدخول. ومن الجدير بالذكر أنَّ الحكومة المركزية، وليس الولايات، هي التي تولَّت مسئوليةَ المخيَّمات. في الواقع، أبدت نيودلهي منذ بداية النزاع اهتمامًا بالغًا بمستقبل ما صار يُشار إليه بالفعل في الاتصالات الرسمية السرية باسم «الصراع من أجل بنجلاديش». وعلى الجانب الآخر، تحدَّثت إسلام أباد في قنوط عن «مخطَّط هندي صهيوني ضد باكستان الإسلامية».21 كانت تلك مبالغةً؛ إذ كان أصل المشكلة نابعًا من داخل باكستان، وإسرائيل لم تكن في الصورة مطلقًا؛ إلا أنَّه ما إنْ أَعلن الخلافُ عن نفسه، لم يتوانَ الهنود عن تأجيجه لأغراضهم الخاصة.
كان أحد الأطراف الرئيسية في هذا النزاع جناح البحث والتحليل، الوكالة الاستخباراتية التي تأسَّست عام ١٩٦٨ سَيْرًا على نموذج وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية. استهدف ذلك الجهاز السعْيَ وراء مصالح الهند في جميع أنحاء العالم، وحُجِبَت أنشطته عن المساءلات البرلمانية، وكان يتبع مكتبَ رئيسة الوزراء مباشَرةً. كان رئيس جناح البحث والتحليل برهميًّا من كشمير (وهو ما كان حتميًّا على الأرجح)، وهو آر إن كاو، بينما جاء موظفو الجناح من جهاز الشرطة، وأحيانًا من الجيش؛ فما كادت الدعوة إلى عقد الانتخابات الباكستانية تصدر، حتى انهمك جناح البحث والتحليل في إعداد التقارير؛ فقَدَّمَت مذكرةٌ وردَتْ في يناير ١٩٧١ صورةً مزعجة إلى حدٍّ ما عن قوة تسليح باكستان؛ إذ نصت على وجود أعداد من الجنود والدبابات والطائرات والسفن، وادَّعت أنَّ باكستان قد «بلغت حالةً جيدة من الاستعداد العسكري لأي مواجهة مع الهند». ورأت أنَّ «الخطر المحتمل» لشنِّ هجوم على الهند «حقيقيٌّ إلى حدٍّ بعيد، خاصةً في ظل التواطؤ بين الصين وباكستان». وإضافةً إلى ذلك، فالأزمة الدستورية ربما تشجِّع جنرالات الجيش على القيام بمغامرة تمويهية، والبدء — كما في عام ١٩٦٥ — «بحملة تسلل في جامو وكشمير».22
لا يمكن إلا للسجلات الباكستانية الكشفُ عمَّا إذا كان يحيى خان يُضمِر أيَّ خطط من هذا النوع في يناير ١٩٧١. أما السجلات على هذا الجانب، فتخبرنا أنَّ الهند كانت لديها خططها الخاصة، التي استهدفت باكستان بطبيعة الحال. كانت تلك الخطط من تدبير بي إن هاكسَر وزميله دي بي دهار، الذي كان سفيرَ الهند إلى الاتحاد السوفييتي آنذاك؛ ففي أبريل ١٩٧١ كتب دهار إلى هاكسَر مُعرِبًا عن سعادته بانتصار الهند في الحرب الدعائية ضد باكستان، وذلك بالأساس عن طريق نجدتها ضحايا القمع الباكستاني. بعضُ المحلِّلين كانوا يرغبون في تحرُّك عسكري سريع، ولكن دهار نصح بأنَّه عوضًا عن اتِّباع «سياسات وبرامج مندفِعة»، ما ينبغي للهند التخطيط له هو: «ليس هزيمة فورية لجيش باكستان الغربية المُدَرَّب تدريبًا رفيع المستوى، وإنما تحويل شرق البنغال كلها إلى مستنقع بلا قرار يستنزف قوةَ باكستان الغربية ومواردها؛ فدعونا نفكِّر في إطار عام أو اثنين، لا أسبوع أو اثنين».23

٤

بحلول صيف عام ١٩٧١، كانت الهند تستضيف، إلى جانب مئات من مخيَّمات اللاجئين، معسكراتِ تدريب للمسلَّحين البنغاليين أيضًا. بلغ عدد هؤلاء المقاتلين المعروفين باسم «موكتي باهيني» (جيش التحرير) نحو ٢٠ ألفًا إجمالًا؛ تألَّفوا من ضباط وجنود نظاميين من الجيش الباكستاني الذي كان متَّحِدًا ذات يومٍ، إضافةً إلى متطوعين أصغر سِنًّا يتعلَّمون كيفية استخدام الأسلحة الخفيفة. تولَّت قوات أمن الحدود شبه العسكرية مسئوليةَ تدريبهم في البداية، ولكن بحلول الخريف كان الجيش الهندي قد تولَّى المسئوليةَ المباشِرة عنهم؛ فكان هؤلاء المسلحون ينطلقون من قواعدهم في الهند، لمهاجمة معسكرات الجيش وقَطْع الاتصالات.24
في أبريل ١٩٧١، كتب رئيس الوزراء الصيني تشو إن لاي إلى رئيس باكستان مندِّدًا «بالتدخُّل الصارخ» من جانب الهند في «المشكلات الداخلية» لباكستان، واستهزأ بالمقاومة باعتبارها «بضعة أشخاص يرغبون في تخريب وحدة باكستان». وأكَّد ليحيى خان أنَّه «لو تجرَّأ التوسُّعيون الهنود على الاعتداء على باكستان، فالحكومة الصينية والشعب الصيني سوف يقفان — كما يفعلان دائمًا — وراء حكومة باكستان وشعبها في معركتهما المشروعة من أجل الحفاظ على سيادة الدولة والاستقلال الوطني».25
نُشِرَت رسالة تشو في الصحف الباكستانية، ومن المؤكَّد إنها قُرِئت على الجانب المقابل من الحدود. وفي ذلك الوقت، أرسلت نيودلهي بعض كبار الوزراء الاتحاديين إلى بلدان في أوروبا وأفريقيا، للتحدُّث فيها عن المأساة الجارية والجهود التي تبذلها الهند للتعامُل معها، وكتبت رئيسة الوزراء إلى زعماء العالم تحثُّهم على كبح جماح الجيش الباكستاني. وفي الأسبوع الأول من يوليو ١٩٧١، التقى الدكتور هنري كيسنجر — مستشار الأمن القومي للرئيس نيكسون آنذاك — السيدةَ غاندي في نيودلهي، حيث لمس لأول مرة «شدة المشاعر إزاء قضية شرق البنغال»؛ فقد شكَّل تدفُّقُ اللاجئين عبئًا رهيبًا على الهند؛ فحسبما قالت رئيسة الوزراء: «كانت قوة إرادتنا وحدها هي التي مكَّنَتْنا من السيطرة على الوضع.» ولم يكن من الممكن حل الأزمة إلا عند «التوصل إلى تسويةٍ تُرضِي شعبَ شرق البنغال مع زعمائهم الحقيقيين». وطُلِب من الولايات المتحدة فرْضَ تلك التسوية على الحكام العسكريين في باكستان الغربية.26
مضى كيسنجر من نيودلهي إلى إسلام أباد، ومن هناك — سِرًّا — إلى العاصمة الصينية بكين. كانت باكستان قد توسَّطت في إذابة الجليد بين هذين البلدين اللذين طالت عداوتهما؛ فكانت المساعدة التي أمدَّ بها جنرالاتُ إسلام أباد الولايات المتحدة، فيما يتعلق بالصين، سببًا آخر لوقوفها بقوةٍ وراءهم؛ ومن ثَمَّ حمل كيسنجر رسالة من نيكسون إلى السيدة غاندي، طلب فيها العون منها في إعادة اللاجئين سِلْمِيًّا والحفاظ على وحدة كيان باكستان. وفي ردٍّ مشاكس، أعربتْ رئيسة الوزراء عن أسفها لأنَّ الأسلحة التي أمَدَّ بها الأمريكيون باكستان، والتي وُجِّهَت ضد الهند عام ١٩٦٥، أصبحت الآن «تُستَخدَم ضد شعبهم نفسه، الذي كان كلُّ خطئه على ما يبدو هو أنه أخذ وعودَ الرئيس يحيى خان بإعادة الديمقراطية على محمل الجد». كان الرئيس قد طلب إشرافَ مراقبين من الأمم المتحدة على عملية إعادة توطين اللاجئين؛ فسألت السيدة غاندي: «هل كان مراقبو عصبة الأمم المتحدة سينجحون في إقناع اللاجئين الهاربين من طُغيان هتلر بالعودة، حتى مع استمرار المذابح المدبَّرة ضد اليهود والمعارضين للنازية السياسيين بلا هوادة؟»27

تشير وثائق رُفِعَت عنها السِرِّيةُ مؤخَّرًا إلى أنَّه كان ثمة اختلاف واضح في الرؤى بين الرئيس نيكسون ومستشاره الأول؛ فالمؤرخ في داخل كيسنجر كان بإمكانه التنبؤ بأنَّه «ستكون ثمة بنجلاديش مستقلة ذات يوم». وكان يشعر أيضًا — كما أخبر سفير الهند إلى واشنطن — بأنَّه في حين أنَّ «الهند كانت قوة عالمية محتملة، فإنَّ باكستان سوف تكون دائمًا قوة إقليمية».

إلا أنَّ نيكسون عقَدَ الآمال على حلٍّ عسكري لمشكلة شرق البنغال؛ فقد كان شديدَ النفور من الهند — إذ أخبر كيسنجر أنَّ «الهنود لا يصلحون لشيء البتة» — وتعلَّق عاطفيًّا بزعيم باكستان؛ ففي رأي الرئيس، كان يحيى خان «رجلًا خلوقًا متعقِّلًا» لا بد من مكافأة ولائه للولايات المتحدة بتأييد قمعه لثورة شرق البنغال؛ فعندما أعَدَّ كسينجر مذكِّرة في أبريل ١٩٧١، أشار فيها إلى أنَّ المستقبل يحمل لباكستان الشرقية «مزيدًا من الحكم الذاتي، وربما حتى الاستقلال في النهاية»، كتب الرئيس على المذكرة في عجالة: «لا تضغطْ على يحيى في الوقت الحالي.»

وكما أخبر كسينجر أحدَ زملائه ببعض اليأس: «الرئيس يكنُّ شعورًا خاصًّا حيال الرئيس يحيى. لا يمكن لأحد أن يصوغ سياسةً على هذا الأساس، ولكن هذا هو الأمر الواقع.» وقد أعرب نيكسون عن تحامُله بقوة تجاه الهند؛ إذ تحدَّث إلى فريقه في أغسطس ١٩٧١، قائلًا إنَّه في حين أنَّ الباكستانيين يتحلَّوْن «بالاستقامة» وإنْ كانوا «يتَّسمون بغباء مفرط في بعض الأحيان»، فإنَّ «الهنود أكثر تحايلًا، ويتَّسمون أحيانًا بذكاء شديد، حتى إننا تنطلي علينا خدعتهم». وأصرَّ الرئيس على أنَّ الولايات المتحدة «يجب ألَّا تسمح للهند باستخدام اللاجئين ذريعةً لتفكيك باكستان، ولا يجوز ذلك مطلقًا».28
وإذِ ازدادت الهند بُعْدًا عن قوةٍ عظمى، راحت تتقرَّب إلى الأخرى؛29 فقد أقرَّت موسكو برأي الهند في أنه «من المستبعد أن يجتمع شطرا باكستان الشرقي والغربي مجددًا». آنذاك كان الاتحاد السوفييتي والهند يفكِّران في إقامة تعاون اقتصادي أوثق، عن طريق زيادة تدفُّق المواد الخام والسلع الجاهزة بين البلدين. وعلى سبيل الحافز، عرض الاتحاد السوفييتي بيعَ عدد من الطائرات القاذفة السوفييتة تي يو-٢٢ إلى القوات الجوية الهندية. وفي توصيته بالمقترح، أقرَّ السفير الهندي دي بي دهار بأنَّه في حين أنَّها ليست على مستوى النماذج الغربية، فإنَّ شراء الطائرات من أحد بلدان حلف شمال الأطلنطي من شأنه أن يتضمَّن شروطًا «غير مقبولة من الناحية السياسية، وتعجيزية من الناحية المادية».30
في يونيو ١٩٧١، كان من المقرر أن يزور وزير الخارجية الهندي، السردار سواران سينج، موسكو. وقُبَيْل وصوله، اقترح الاتحاد السوفييتي على دي بي دهار أن يوقِّع الاتحاد السوفييتي والهند معاهدةَ صداقةٍ، من شأنها أنْ «تمثِّل رادعًا قويًّا يجبر باكستان والصين على التخلِّي عن فكرة المغامرة العسكرية». وقيل لدهار إنَّ «الهند لا ينبغي أن تقلق بشأن باكستان، وإنما ينبغي أن تضع في اعتبارها العدو الشمالي الذي يصعب التنبؤ بتحركاته» (أي، الصين).31 وفيما بعدُ، عندما التقى وزيرَا الخارجية، تصدَّر تشكُّكهما المشترك إزاء الصين جدولَ الأعمال؛ فقال سواران سينج معلِّقًا: إنَّ الصين كانت هي البلد الوحيد الذي منح «دعمًا شاملًا كاملًا لا لبس فيه» للنظام العسكري الباكستاني. ردَّ جروميكو قائلًا: «لطالما كان الصينيون ضد أي شيء يدعمه الاتحاد السوفييتي؛ فأيُّ قضيةٍ نساندها تلقى معارضتهم، وأيُّ شيء نعتبره غير جدير بدعمنا يضمن دعمهم. ولا يمكنني التفكير في أي استثناء محدَّد لهذه القاعدة العامة.»32

كان عداء الهند تجاه الصين يرجع إلى النزاع الحدودي بين عام ١٩٥٩ وعام ١٩٦٢. أما عداء الاتحاد السوفييتي فكان أحدث من ذلك؛ إذ كان نِتاج المنافسة على زعامة الحركة الشيوعية العالمية. كان ماو تسي تونج قد تحدَّثَ بسخرية عن «المراجعات الروسية» (بمعنى الانحراف عن التعاليم الماركسية الأصيلة)، واشتبك جيشا الطرفين على ضفاف نهر أوري عام ١٩٦٩. لم تكن الهند والاتحاد السوفييتي متلامسين في أي موضع، ولكنَّ كلَيْهما كانت له حدود طويلة جدًّا مع الصين؛ فكانت إقامة تحالف وثيق في مصلحة الطرفين. إلا أنَّ الوثائق السرية التي اقتَبَستُ منها ما ذُكِر أعلاه، تكشِف أنَّه على عكس الفكرة المسلَّم بها فإنَّ أول مَن اقترح فكرة ذلك التحالف لم يكن البلد الفقير المتخلِّف النمو، وإنما القوة العظمى.

بعد مقابلة جروميكو، ناقَشَ سواران سينج معاهدةً محتملةً مع رئيس هيئة الرئاسة لمجلس السوفييت الأعلى، أليكسي كوسيجين؛ فتمَّ تبادُل المسودات قبل أنْ يوقِّع وزيرا خارجية الطرفين وثيقةً نهائية في نيودلهي في ٩ أغسطس ١٩٧١. كانت «معاهدة السلام والصداقة والتعاون بين جمهورية الهند واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية» نمطيةً في معظمها؛ إذ نصت على الصداقة الأبديَّة بين «الطرفين الساميين». وكان بيت القصيد هو عبارة واحدة في المادة التاسعة، التي نصها:
في حالة تعرُّض أيٍّ من الطرفين لهجوم أو تهديد بهجوم، سوف يدخل الطرفان الساميان المتعاقدان فورًا في مشاورات مشتركة بغية إزالة ذلك التهديد واتِّخاذ التدابير الفعَّالة الملائمة لكفالة سلام بلدَيْهما وأمنهما.33

بحلول أواخر صيف ١٩٧١، كان محورَا التحالف في شبه القارة واضحين؛ (غرب) باكستان مع الصين والولايات المتحدة في مقابل (شرق) باكستان مع الهند والاتحاد السوفييتي.

٥

في الأسبوع الأخير من سبتمبر ١٩٧١ سافرت إنديرا غاندي إلى الاتحاد السوفييتي، وفي الشهر التالي زارت سلسلةً من المدن الغربية، انتهاءً بعاصمة العالم الحر، واشنطن. تحدثت في كل مكان عن الأزمة المتفاقمة في باكستان الشرقية؛ فكما أخبَرَتْ ناديَ الصحافة الوطنية في واشنطن، تلك «لم تكن حربًا أهلية بالمعنى العادي للكلمة، وإنما هي عقابٌ في صورةِ إبادةٍ جماعية لمواطنين أدلَوْا بأصواتهم على نحو ديمقراطي». وأردفت: «إن كبت الديمقراطية هو السبب الأصلي لكل المتاعب في باكستان؛ فإذا كان في الديمقراطية خيرٌ لكم، ففيها خيرٌ لنا في الهند، ولشعب شرق البنغال.»34
التقت السيدة غاندي الرئيسَ نيكسون مرتين خلال زيارتها في نوفمبر؛ فتكوَّن لدى كيسنجر انطباعٌ بأن ذلك «نموذج كلاسيكي لحوار الصُّمِّ»؛ فقد قال نيكسون إنَّ الولايات المتحدة لن تشارك في الإطاحة بيحيى خان، وحذَّر الهند من أنَّ «تبعات العمل العسكري خطيرةٌ جدًّا». ردَّت السيدة غاندي قائلةً إنَّ الباكستانيين هم مَن يتحدَّثون عن شَنِّ «حرب مقدسة». وأشارت أيضًا إلى أنَّه في حين أنَّ سكان باكستان الغربية «تعاملوا مع الشعب البنغالي بأسلوب يتَّسِم بالخيانة والغدر و… دائمًا ما حَطُّوا من شأنهم»، فالهند «في المقابل، لطالما أعربتْ عن درجةٍ من التسامح مع العناصر الانفصالية داخلها».35
اشتدَّ النزاع خلال فترة غياب السيدة غاندي؛ فمنذ نهاية أكتوبر، ازداد القصف شراسةً على طول الحدود، بتشجيع من الجيش الهندي، الذي ارْتَأَى في الاشتباكات تغطيةً تسمح للجماعات المسلَّحة بالتسلُّل دخولًا وخروجًا. وبحلول الأسبوع الثالث من نوفمبر، بدأ استخدام المدفعية الثقيلة، وقيل إنَّ الباكستانيين فقدوا ما يصل إلى ثلاث عشرة دبابة في معركةٍ دارت يوم ٢١ نوفمبر.36 وإذ نَقَلَ يحيى خان تلك الأنباء إلى نيكسون، شكا أنَّ الهند «اختارتْ طريقَ العدوان السافر وغير المبرَّر». فقد احتشدت اثنتا عشرة فرقةً عسكرية هندية على مَقْرُبة من باكستان الشرقية، بهدف تحويل «الهجمات المحدودة النطاق إلى حرب مفتوحة واسعة النطاق».37
في تلك المرحلة من تاريخ جيشَي الطرفين، كان التفاوت بينهما هائلًا؛ ففي العقد السابق، كانت القوات المسلحة الهندية قد زادت مُعَدَّاتها، وحدَّثت تنظيمها، وأرست دعائم صناعةِ أسلحةٍ وطنية؛ فكانت الاستخبارات الهندية قد بالغت في وصف قوة باكستان؛ إذ كشفت دراسةٌ للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية أنَّ الهند في الواقع كانت تملك ضِعْفَ عدد الدبابات وقِطَع المدفعية التي تملكها جارتها. وإضافةً إلى ذلك، فقد تأثَّرت الروح المعنوية للجيش الباكستاني تأثُّرًا بالغًا بالحرب الأهلية، وانشقاقِ الضباط البنغاليين، والِاضْطِرار إلى محاربة أشخاصٍ يُفترَض أنهم من أبناء بلدهم.38

وفي حقيقة الأمر، سعى الجانب الأضعف إلى أخذ زمام المبادرة؛ ففي عصر يوم ٣ ديسمبر، هاجمت الطائرات القاذفة الباكستانية مجالاتٍ جويةً على طول الحدود الغربية. وفي الوقت نفسه، هاجمت سبعُ كتائب مدفعية مواقعَ في كشمير.

ردَّ الجانب الهندي بسلسلة من الضربات الجوية، وفي كشمير والبنجاب ردَّ بهجمات أرضية. وفي البحر، شاركت القوات البحرية في الأحداث لأول مرة، إذ اتجَّهت نحو كراتشي. قدَّم اندلاعُ نزاعٍ في الغرب عُذْرًا ممتازًا للهند حتى تحرِّك قواتها ودباباتها عبر الحدود إلى باكستان الشرقية، محوِّلةً نزاعًا في الظل إلى نزاع مفتوح.39
بدا القرار الذي اتَّخذه يحيى خان بمهاجمة الهند من الغرب مفاجئًا إلى حد ما، في أول الأمر وفيما بعدُ، بل إن أحد المؤرِّخين العسكريين وصفه بأنَّه قرار «يكاد لا يُصَدَّق».40 ربما كان الباكستانيون يأملون في تسديد ضربات سريعة، مطالبين بتدخُّل الأمم المتحدة أو الولايات المتحدة قبل أنْ يخرج الصراع عن نطاق السيطرة. وإضافةً إلى ذلك، فقد اعتقد بعض جنرالات الجيش في إسلام أباد أنَّ النجدة ستأتي من الصين؛ ومن ثَمَّ تلقَّى قائد القوات الباكستانية في باكستان الشرقية — الفريق إيه إيه كيه نيازي — رسالةً يوم ٥ ديسمبر من مقر الجيش تُخطِره بأنَّ «الأمل كبير جدًّا في حدوث تحرك صيني في القريب العاجل».41

ربما لم يكن ذلك المدد سيأتي على أي حال، ولكنَّه في ديسمبر كان مستحيلًا بسبب الثلوج التي غطَّتْ جبالَ الهيمالايا؛ ومن ثَمَّ كان ذلك فعليًّا هو الفصل الأمثل لمُضِيِّ الهنود في مسيرتهم نحو دَكَّا؛ فقبل ثلاثة أشهر كانت الأمطار الموسمية قد جعلتِ الأرضَ رخوةً تحت الأقدام، وبعد ثلاثة أشهر كان الصينيون سيُتاح أمامَهم خيارُ عبور «نقطة الالتقاء الثلاثية» مع الهند وباكستان الشرقية. كانت حالة الطقس مواتية للهنود، وكذلك كان التأييد الشعبي في المنطقة، وأُضيف هذا وذاك إلى التفوُّق الكاسح في الأعداد.

تحرَّك الجيش الهندي تجاه دَكَّا من أربعة اتجاهات. كانت الدلتا ملتقى أنهار عدة، ولكنَّ مقاتلي موكتي باهيني كانوا يعرفون المواضعَ المثلى لبناء الجسور، وأي البلدات تأوي أي نوع من فِرَق العدو. وتلقَّى المقاتلون بدورهم عونًا من رفاقهم المدنيين؛ فكما ذكر قائد باكستاني فيما بعدُ: «كان الجيش الهندي يعرف جميع مواقعنا القتالية، حتى آخِر خندق، من السكان المحليين.»42 ولمَّا كان طريق الهنود ممهَّدًا هكذا، فقد تقدَّموا بسرعة؛ فقطعوا الاتصالات بين دكَّا والمدينة الرئيسية الأخرى — تشيتَّاجونج — وسيطروا على نقاطِ تجمُّع السكك الحديدية الحيوية، بحيث شلُّوا حركةَ القوات الدفاعية.43
ويوم ٦ ديسمبر كشفت حكومة الهند رسميًّا عن النية التي احتفظت بها في قرارة نفسها منذ زمن؛ أَلَا وهي دعم وتيسير تشكيل دولة قومية جديدة محل باكستان الشرقية القديمة؛ ففي ذلك اليوم، اعترفت رسميًّا بالحكومة المؤقتة لجمهورية بنجلاديش الشعبية. في غياب مجيب الرحمن، كان سيد نظر الإسلام هو القائم بأعمال رئيس الدولة الجديدة، إلى جانب مجلس وزراء كامل. كان هؤلاء الرجال بالنسبة إلى الهنود مثل قوات فرنسا الحرة بقيادة ديجول بالنسبة إلى الحلفاء؛ إذ انتظروا — بصبر نافد — ريثما ذهب الأخ الأكبر لاسترداد مدينتهم العزيزة وتسليمها إليهم. وبعد مرور أسبوع على بدء الحرب، كانت القوات الهندية قد اقتربتْ من دَكَّا إلى مسافةٍ تسمح بضربها؛ فانهالت نيران المدفعية على المدينة، وراحت القوات تتقدَّم من الشمال والجنوب والشرق. ثم تعطَّل التقدُّم برهةً بفعل حاملة طائرات من الأسطول السابع الأمريكي، التي دخلت خليج البنغال، على سبيل «تسجيل موقف» — على حد تعبير هنري كيسنجر.44
إلا أنَّ التهديد كان فارغًا؛ فالأمريكيون المتورِّطون في فيتنام لم يكن بوسعهم إقحام أنفسهم في حرب أخرى، يمكن أن تخرج عن نطاق السيطرة بدرجة مريعة، في ضوء المعاهدة الهندية السوفييتية. وإذ أصبح سقوط دَكَّا وشيكًا، نشأ خلاف بين الحاكم المدني لباكستان الشرقية، الذي أراد الاستسلام، والجنرال قائد القوات المُحاصَرة الذي رغب في مواصلة القتال؛ ففي يوم ٩ ديسمبر، أبرَقَ الحاكم إلى إسلام أباد مُطالِبًا الحكومةَ بطلب «وقف إطلاق النار والوصول إلى تسوية سياسية فورًا»، وإلا فإنَّه «بمجرد أنْ تفرغ القوات الهندية من الجناح الشرقي في غضون بضعة أيام، سيكون الجناح الغربي في خطر». واعتبَرَ «التضحيةَ بالجناح الغربي بلا معنًى»، مشيرًا إلى أنَّ «الجنرال نيازي لا يوافق لأنَّه يعتبر أنَّ الأوامرَ الموجَّهةَ إليه تقضي بالقتال حتى الرمق الأخير، وسيكون ذلك بمنزلة تسليم دَكَّا».45
أيَّد حليفا باكستان الرئيسيان — الصين والولايات المتحدة — كلٌّ على حدة آراءَ الحاكم؛ ففي يوم ١٠ ديسمبر، التقى كيسنجر السفير هوانج هوا في واشنطن، وعلَّق الدبلوماسي بمرارة على أنَّ إقامة بنجلاديش من شأنها أن تخلق «نسخة جديدة من مانشوكو»، في صورة نظام عميل للهند على غرار النظام الذي أدارته اليابان سابقًا في الصين؛ فردَّ كسينجر قائلًا: «إننا نرى — بكل أسف — أنَّ الجيش الباكستاني سوف يتفتت في غضون أسبوعين في الغرب كما تفتَّت في الشرق.» وقال: «إننا نبحث عن وسيلةٍ لحماية ما تبقى من باكستان.» ثم أردف على سبيل التعزية: «إننا لن نعترف ببنجلاديش، ولن نتفاوض معها.»46
في ليلة ١٣ ديسمبر، فجَّرَ الهنود منزل الحاكم في دَكَّا، وفي الليلة ذاتها تلقَّى نيازي رسالةً من يحيى نصحه فيها بإلقاء السلاح، بما أنَّ «مواصلة المقاومة ليستْ ممكنة». انتظَرَ الجنرال يومًا كاملًا قبل أن يقرِّر أنَّه لا خيار أمامه سوى الطاعة؛ ففي صبيحة يوم ١٥ ديسمبر التقى القنصلَ العام الأمريكي، الذي وافق على نقل رسالة إلى نيودلهي. وفي اليوم التالي، ١٦ ديسمبر، سافر الفريق جيه إس أورورا من القيادة الشرقية للجيش الهندي إلى دكَّا لقبول توقيع صك الاستسلام.47 وفي مساء اليوم ذاته، أعلنت رئيسة الوزراء لمجلس الشعب الهندي أنَّ «دكَّا الآن عاصمة حرة لبلد حُرٍّ». فهتف أعضاء حزب المؤتمر: «تحيا إنديرا غاندي.» حتى إنَّ أحد أعضاء المعارضة سُمِع وهو يقول: «إنَّ التاريخ سيخلِّد اسم رئيسة الوزراء باعتبارها السيف الذهبي لتحرير بنجلاديش.»48 مضت السيدة غاندي من البرلمان إلى استديوهات إذاعة «أول إنديا راديو»، لتعلن وقف إطلاق النار من جانب واحد على الجبهة الغربية. وبعد مرور أربع وعشرين ساعة، تحدَّث الجنرال يحيى خان على الراديو، قائلًا إنَّه أصدر تعليماته إلى القوات بوقف إطلاق النار أيضًا.49
دامت الحرب أقل قليلًا من أسبوعين، وادَّعى الهنود أنَّهم فقدوا اثنتين وأربعين طائرة مقابل الطائرات الست والثمانين التي فقدتها باكستان، وفقدت إحدى وثمانين دبابة مقابل ٢٢٦ دبابة فقدتها باكستان.50 وكان أكبر تفاوت في عدد الأسرى؛ ففي القطاع الغربي، أخذ الجانبان بضعة آلاف من الأسرى، ولكن في الشرق صار على الهنود تولِّي مسئولية نحو ٩٠ ألف جندي باكستاني أسير.
لم يكن الرئيس ريتشارد نيكسون مسرورًا بنتيجة الحرب؛ فقد قال لهنري كيسنجر: «الهنود أوغاد على أي حال.» وقال: «من المحزن أن يشاهد المرء حالةَ باكستان، وقد فعل بها الهنود فعلتهم، حتى بعدما حذَّرنا تلك اللئيمة.» وعن زيارة السيدة غاندي لواشنطن في نوفمبر، تساءل نيكسون عمَّا إذا كان تصرَّف «بتساهُل أكثر من اللازم مع تلك اللعينة»، وبدا له أنَّه أخطأ إذ «أطلق العنان لمشاعره أمام الساحرة العجوز». بحلول ذلك الوقت، حتى كيسنجر كان قد تحوَّل ضد الهنود، وكان غاضبًا من نفسه لإساءته تقدير قوتهم العسكرية؛ فقد زعم في شهر أكتوبر السابق أنَّ «مستوى الطيارين الهنود ضعيف جدًّا، حتى إنَّهم لا يقدرون على الإقلاع بطائراتهم». وبعد الحرب أصبح كل أمله هو أنَّ «الليبراليين سيظهرون بمظهر الحمقى لأنَّ الاحتلال الهندي لباكستان الشرقية سيجعل الاحتلال الباكستاني له يبدو أمرًا تافهًا».51
أما عن الصحافة الأمريكية، فقد ألقت مجلة «تايم» باللوم على الجانبين بالتساوي؛ فقالت إنَّ قيام يحيى بذلك «الهجوم القاتل على المتمردين البنغاليين»، إلى جانب شَنِّ إنديرا غاندي «حربًا مكتملة الأركان»، أدَّيَا إلى «جلب مزيد من المعاناة إلى شبه القارة». إلا أنَّ الصحفي المؤثر جيمس (سكوتي) رِستون من صحيفة «نيويورك تايمز» اتَّخذ موقفًا أكثر تحيُّزًا؛ إذ كتب مقالًا متأمِّلًا، يكاد يكون تآمُريًّا، رأى فيه أن الاتحادَ السوفييتي المستفيدُ الحقيقي من «هذه المأساة القذرة»؛ فحليفته الجديدة — الهند — ستوفِّر «مدخلًا لقوة موسكو البحرية المتنامية إلى المحيط الهندي، وقاعدةً للعمليات السياسية والعسكرية في الجناح الجنوبي للصين». وزعم رِستون أنَّ «الاتحاد السوفييتي أصبحت لديه الآن إمكانية إنشاء قواعد في الهند». ورأى أنَّ تجربة الهند مع الديمقراطية كانت مُعَرَّضة للخطر، وتساءل عمَّا إذا كان «في مقدور الهند أن تشجِّع استقلالَ فصيلٍ في باكستان دون تشجيع استقلال فصائل أخرى في الهند نفسها، بما في ذلك الفصيل الشيوعي القوي في ولاية كيرالا الهندية».52

٦

أطلق النصرُ على باكستان العنانَ لموجة عارمة من المشاعر الوطنية؛ فقد أشادت به إحدى الدوريات باعتباره «أول نصر عسكري للهند منذ قرون»،53 وقصَدت بذلك ليس الهند كدولة، وإنما الهند ممثَّلةً في كتلة الأرض والحضارة؛ ففي النصف الأول من الألفية الثانية، تعاقبت الجيوش الأجنبية على الهند عبر الممر الشمالي الغربي، وأعملت فيها السَّلْبَ والغزوَ، ثم حَلَّ حكَّامٌ مسيحيون محلَّ المسلمين، آتين من البحر لا البرِّ. وكانت أحدث الغزوات على يد الصينيين الذين ألحقوا بالهند هزيمة نكراء؛ فالهنود الذين اعتادوا الهوانَ والهزيمةَ زمنًا طويلًا، استطاعوا أخيرًا أنْ يستنشقوا عبير النجاح العسكري.
كان المشهد مختلفًا تمامًا على الجانب الآخر من الحدود؛ فبعد وصول أنباء استسلام قواتهم، كتبت صحيفة أردية في لاهور أنَّ «الأمةَ كلها اليومَ تبكي دمًا … فاليومَ دخل الجيش الهندي دَكَّا، واليومَ لأول مرة منذ ألف سنة انتصَرَ الهندوس على المسلمين … اليومَ نجِد مرارة الهزيمة تفُتُّ في عضدنا». إلا أنَّه في غضون أيام، كانت الصحافة الأردية تلتمس المواساة من دروس التاريخ؛ ففي حين أنَّ الهزيمة أحدثت بلا شك «صَدعًا في قلعة الإسلام»، فحتى السلطان العظيم محمد الغوري خَسِرَ حربه الأولى في شبه القارة الهندية، وكما ذكَّرتْ صحيفةٌ أخرى في لاهور قُرَّاءَها، عاد الغوري «بعزيمة متجددة على رفع راية الإسلام على أرض الهند الكافرة».54

في الهند، عُزِيَ الفضلُ في النصر إلى عددٍ لا حصرَ له من الجنود المجهولين في معظمهم، بالاشتراك مع شخصية سياسية واحدة محددة، هي رئيسة الوزراء؛ فقد نالت السيدة غاندي إعجابَ الناس لتصدِّيها لاستقواء الولايات المتحدة، وتخطيطها لتقطيع أوصال العدو بذلك الهدوء؛ فبالَغَ رجالُ حزبها في تحياتهم إليها، وحتى السياسيون المعارضون أصبحوا يشبِّهونها في حديثهم بالإلهة القاهرة دورجا في الأساطير الهندوسية، وكذلك كانت طبقات المثقفين والمهنيين، المتشكِّكة عادةً إزاء السياسية ورجالها، سخِيَّةً في مديحها.

تمثَّل مزاج الإعجاب الشامل ذاك في ندوة عن تحرير بنجلاديش نظَّمتها مؤسسة غاندي للسلام في نيودلهي. بدأت الندوة بقول محرر صحيفة «تايمز أوف إنديا» — جيريلال جاين — إنَّ «احترام الهند لذاتها وصورتها في العالَم تحسَّنَا بدرجة كبيرة نتيجة ارتفاع أسهم حزب المؤتمر من جديد تحت قيادة السيدة غاندي». واستمرَّت الندوة بوصف كيه آر مالكاني من منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج لعام ١٩٧١ بأنه «علامة فارقة في مسار التطور السياسي للهند». ففي ظل أحداث ذلك العام، «بدأت صورة السلام القديمة يُستبدَل بها صورة جديدة للقوة؛ فالصورة القديمة لم تستَثِرْ سوى الابتسامات المتعالية، أما الصورة الجديدة فتفرض الانتباه والاحترام». ثم ادَّعَى الدبلوماسي جي إل مِهتا أنَّ «الناس أصبح لديهم إحساسٌ جديد بالثقة في النفس وفخرٌ مبرَّر بهيبتهم المكتسَبة حديثًا في العالم». وأكَّد الصحفي اليساري روميش تابار على ذلك الرأي قائلًا إن «نجاح سياسة بنجلاديش» أعطى «الهندي المفكِّر إحساسًا بالإنجاز والقوة». ورأى الفقيه القانوني اليساري في آر كريشنا آير في الأحداث الأخيرة نُضجًا تقدُّميًّا في القيادة الهندية، وقال: «ما كان في أيام غاندي عقيدةً مُبهَمة، صِيغَ في عهد نهرو على شكل فلسفة اجتماعية ناشطة، وأصبح — تحت قيادة السيدة غاندي — برنامجًا ملموسًا وديناميكيًّا للعمل الحكومي.»55
بعيدًا عن الهند، نال هدوء السيدة غاندي وقتَ الأزمة كذلك إعجابَ امرأة عاصرتْ بعضَ الأحداث التاريخية؛ هي الفيلسوفة حَنة أرِنت؛ ففي أوائل شهر نوفمبر، التقت أرِنت رئيسةَ الوزراء في منزل أحد الأصدقاء في نيويورك. وبعد شهر، مع تقدُّم القوات الهندية صوب دَكَّا، كتبت إلى الروائية ماري مكارثي عن رؤيتها السيدةَ غاندي قائلةً: «إنها وسيمة جدًّا، إلى درجة تقترب من الجمال، وراحت تغازل كلَّ رجل في الغرفة دون تكلُّف، وهي هادئة تمامًا؛ لا بد أنها كانت تعرف بالفعل أنَّها سوف تشنُّ حربًا، وربما وجدت متعةً منحرفة في تلك المعرفة، فيا لحزم تلك النساء حين ينلن مرادهن!»56

٧

بطبيعة الحال، سعت رئيسة الوزراء وحزبها إلى استغلال إنجازات جنودها لتحقيق مكاسب سياسية؛ ففي مارس ١٩٧٢، دُعِيَ إلى إجراء انتخابات في ثلاث عشرة ولاية، كان لبعضها حكومات مُعارِضة وللبعض الآخر ائتلافات غير مستقرة تحت قيادة حزب المؤتمر؛ ففي الولايات الثلاث عشرة كلها، رَبِحَ حزب المؤتمر بهامش كبير، وكانت منها ولاياتٌ محورية مثل بيهار وماديا براديش ومهاراشترا. وكما قال أتَل بِهاري فَجبايي زعيم حزب جانا سانج بأسفٍ في تعليقه على الانتخابات، فقد رشَّحت المعارضة ٢٧٠٠ مرشَّحٍ، ولكن الحزب الحاكم رشَّح شخصًا واحدًا فعليًّا في الدوائر الانتخابية كافة؛ إنديرا غاندي.57
إلا أنَّه في ولاية واحدة على الأقل لم يكن حضورُ رئيسة الوزراء والنموذجُ الذي قدَّمته كافيَيْن. كانت تلك هي ولاية غرب البنغال، حيث رَبِحَ حزب المؤتمر بمزيج من الإرهاب والترويع والتزوير؛ فقد راحت عصابات من البلطجية تملأ صناديق الاقتراع، بينما وقفت الشرطةُ مكتوفةَ الأيدي. وحدث «تلاعب هائل النطاق» في كلكتا؛ فكما ذكر أحد النشطاء، قال البلطجية الذين استأجرهم حزبُ المؤتمر للناخبين المحتشدين خارج مراكز الاقتراع إن من الأجدر بهم أن يعودوا إلى منازلهم، بما أنَّ البلطجية كانوا قد أَدْلَوْا بالفعل بجميع الأصوات المُسَجَّلة؛58 فبالتحالف مع الحزب الشيوعي الهندي تلك المرة، رَبِحَ حزب المؤتمر ٢٥١ مقعدًا من أصل ٢٨٠ مقعدًا في مجلس تلك الولاية، مُنهِيًا بذلك خمسة أعوام من عدم الاستقرار السياسي، ومُدخِلًا الولاية في نطاق نفوذ نيودلهي.
وإذ توطَّد حكم رئيسة الوزراء المحلي، حوَّلَتِ انتباهها إلى الوصول إلى تسوية مع باكستان. كان يحيى خان قد استقال وحلَّ ذو الفقار بوتو محله، وأخبر بوتو رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، السير أليك دوجلاس-هوم، أنَّه حريص على إقامة «علاقة جديدة كليًّا مع الهند»، بدءًا باجتماع قمة مع السيدة غاندي؛ فمُرِّرَت الرسالة، مُرفَقةً بنصيحة إضافية مفادها أنَّه في ضوء كبرياء باكستان الجريحة، ينبغي أن تكون الهند هي مَن تُصدِر الدعوة.59
كان الهنود متخوِّفين أولَ الأمر، نظرًا لصعوبة التنبؤ بتصرُّفات بوتو وتاريخه العدائي إزاء الهند؛ فهُرِعَ المقرَّبون إلى الرئيس الباكستاني يطمئنونهم ويؤكدون صِدْق نواياه. وأخبر الاقتصادي محبوب الحق نظيرًا هنديًّا له أنَّ بوتو كان آنذاك «في مزاج بالغ التأدُّب والواقعية».60 وقال الصحفي مظهر علي خان، رئيس تحرير صحيفة «دون»، لرفيقه الشيوعي السابق الهندي ساجد ظهير، إنَّ بوتو كان يحاول صادقًا نسيان الماضي؛ فينبغي للهند أن تعمل على تعضيد موقفه، وإلا اجتمع الجيش واليمين الديني للإطاحة به، وهي نتيجة ستكون كارثيةً على كلٍّ من الهند وباكستان.61
كان ظهير وخان قد عملا معًا قبل التقسيم، كناشطَين في اتحاد طلاب الهند، ثم التقيا في لندن — بتشجيع من رفيقِ دَرْبِهما السابق، بي إن هاكسر — في الأسبوع الثالث من مارس ١٩٧٢، لمناقشة شروط اتفاق محتمَل بين زعيمَيْهما الوطنيين. تضمَّنت اقتراحاتُ خان إعادةَ جميع أسرى الحرب الباكستانيين، واعترافَ باكستان ببنجلاديش، وكذلك تراجُع القوات إلى مواقعها قبل بدء النزاع، وإصدار إعلانِ سلامٍ مشترك. وأخيرًا؛ فيما يتعلق بكشمير، قال خان إنَّ ذلك النزاع «لا ينبغي ذِكْرُه في الإعلان مطلقًا لأنه سيفتح أبواب الجحيم». فرد ظهير قائلًا: «يجب أنْ تحصل الهند على طمأنةٍ بعدم قيام باكستان بمزيد من الهجمات أو الاختراقات أو التقويض أو الدعاية المضادة للهند في كشمير.» فوافَقَ خان ولكنه قال إنَّ ذلك «ينبغي أن تطالب به الهند «بالممارسة العملية»». وقال إنَّنا ينبغي أن ندرك أنَّه لا يمكن الاستمرار لحكومة في باكستان إن تخلَّتْ، صراحةً، عن دعمها حقَّ الكشميريين في تقرير مصيرهم.62
نقل خان تلك المحادثات إلى بوتو مباشَرةً، بينما نقلها ظهير إلى السيدة غاندي من خلال بي إن هاكسَر؛ فدُعِي الرئيس الباكستاني إلى قمةٍ تقرَّر عقدها في سيملا، العاصمة الصيفية القديمة للراج البريطاني، في الأسبوع الأخير من يونيو ١٩٧٢، وجاء بصحبة ابنته بينظير وطاقم كبير إلى حدٍّ ما. في البداية التقى المسئولون، ثم الزعيمان. كان الهنود يرغبون في إبرام معاهَدة شاملة لتسوية جميع المشكلات المعلَّقة (بما فيها كشمير)، بينما فضَّلَ الباكستانيون اتباعَ نهجٍ مُجَزَّأ. وقد أخبر بوتو السيدةَ غاندي في اجتماع سري أنَّه لا يمكنه أن يعود إلى شعبه «خالي الوفاض». كانت المساومة مع الجانب الباكستاني شاقةً؛ فقد رغِب الجانب الهندي في «ميثاق عدم اعتداء»، واضْطُرَّ إلى أن يقنَع «بنبذ استخدام القوة» المتبادل. وطلب الهنود «معاهدة»، ثم حصلوا في النهاية على «اتفاق». وقالت الهند إنَّها يمكن أن تنتظر لحظة مواتية أكثر لحل نزاع كشمير، ولكنها طالبت باتفاق على «احترام الجانبين لخط السيطرة»، ونجح بوتو في إضافة الشرط: «دون الإخلال بالوضع المعترَف به لأيٍّ من الطرفين.»63
كان أحد مستشاري السيدة غاندي — دي بي دهار — يريدها أنْ تصِرَّ على «تسوية قضية كشمير باعتبارها جزءًا لا يتجزأ ولا يُختزَل من أي تسوية مع باكستان»، وأن تجعل ذلك شرطًا مسبقًا لإعادة أسرى الحرب إلى وطنهم.64 كان دهار كشميريًّا ١٠٠٪، وُلِدَ وتربَّى في الوادي. أما رئيسة الوزراء، التي كانت كشميرية بمقتضى أصولها البعيدة فحسب، فكانت مشاعرها أقلَّ حدةً في هذا الصدد، إضافةً إلى ذلك، كانت أكثر وعيًا بالرأي العام العالمي، وكانت (كما حذَّر مظهر على خان) مُدركةً لوضع بوتو الخَطِر داخل باكستان. والاتفاقية التي وقَّعا عليها أخيرًا — عصر يوم ٣ يوليو — لم تتحدَّث إلا عن الحفاظ على خط السيطرة، إلا أنَّه بعد إصرار الجانب الهندي، أُضِيف بندٌ ينصُّ على أنَّ البلدين سوف يُسَوِّيان خلافاتهما كافة «بالسبل السلمية عن طريق المفاوضات الثنائية أو أي سبل سِلْمية أخرى يتَّفِق عليها الطرفان»، ما كان من شأنه، نظريًّا، أن يستبعد خيار وساطة طرف ثالث أو استثارة العنف في كشمير.65 إلا أنَّ بوتو على ما يبدو طمأن السيدة غاندي بأنَّه بمجرد أنْ يصبح وضعه أكثر استقرارًا، سوف يقنع شعبه بقَبول تحويل خط السيطرة إلى الحدود الدولية.
لم يكد حِبر اتفاق سيملا يجفُّ حتى تراجَعَ بوتو عن هذا الوعد (غير الرسمي باعتراف الجميع)؛ ففي يوم ١٤ يوليو تحدَّث لثلاث ساعات في الجمعية الوطنية الباكستانية، وشغل خطابه تسعًا وستين صفحة فولسكاب مطبوعة بمسافات ضيقة؛ فتحدث عن كفاحه «من أجل مبدأ وحدة باكستان منذ عُمر ١٥ سنة»، ولام مُجيب ويحيى والجميع ما عداه على «الانفصال المؤسف والمأساوي لباكستان الشرقية». ثم إنه بلغ في خطابه موضعَ الخلاف القائم بين باكستان والهند، أَلَا وهو مستقبل جامو وكشمير؛ فقال بوتو إنَّ الهند، لأنَّها كانت المنتصرة في الحرب، «تملك جميع الأوراق في يديها»، إلا أنَّه رغم ذلك قد توصَّل إلى اتفاقية متكافئة انطلاقًا من بداية غير متكافئة؛ فقد قال إن اتفاق سيملا كان ناجحًا لأنَّ باكستان سوف تستعيد أسرى الحرب والأراضي التي سيطرت عليها القوات الهندية، ولأنَّه «لم يتنازل عن حق شعب جامو وكشمير في تقرير مصيره». وقدَّم «التزامًا صارمًا من جانب الشعب الباكستاني بأنَّه إذا بدأ شعب كشمير حركةً من أجل الحرية غدًا، وإذا بدأ الشيخ عبد الله أو مولوي فاروقي أو غيرهما غدًا حركةً شعبية، فسوف نكون معهم».66
شكا الهنود أنَّ بوتو نكث وعده.67 ولكن ربما كان يجدر بهم أن يفكِّروا في شعورهم هم أنفسهم في الأيام الأخيرة من عام ١٩٦٢؛ فقد كانت الصين آنذاك قد ألحقت بالهند ذُلًّا، استُشعِر على المستوى الوطني من جانب الزعماء والمواطنين من جميع الأطياف والمشارب، وكان ذلك هو شعور الباكستانيين أيضًا عام ١٩٧٢ بعدما تعرَّضوا لهزيمةٍ مشابهةٍ على أيدي الهنود. والحقيقة أن وضعهم كان أسوأ؛ لأنَّه في حين انتزَعَ الصينيون بعض الأراضي (العديمة الجدوى في معظمها) من الهند فحسب، فقد أحدث الهنود صَدْعًا في الأيديولوجية المؤسِّسة للدولة الباكستانية، بمساعدتهم في تكوين بنجلاديش. ولم يكن ثمة ردٌّ فعَّال على ذلك سوى واحد: المساعدة في فصل كشمير عن الهند، ومن ثَمَّ إحداث صَدْع في الفكرة المؤسِّسة للعلمانية الهندية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤