الفصل الثاني والعشرون

خريف حكم إنديرا غاندي

أجيال المستقبل لن تتذكَّرنا بعدد الانتخابات التي أجريناها، وإنما بالتقدم الذي أحرزناه.

سانجاي غاندي، ديسمبر ١٩٧٦

١

في يوم ٢٦ يونيو ١٩٧٥، في تمام الساعة ٦ صباحًا، انعقَدَ اجتماعٌ لمجلس الوزراء الهندي. أُخْطِرَ الوزراء، وهم غافلون وعيونهم لا تزال غائمةً من أثر النوم، بحالة الطوارئ السارية منذ منتصف الليل. وأُخِذَت موافقتهم الرسمية قبل أن تمضي السيدة غاندي إلى ستوديو إذاعة «أول إنديا راديو» لتنقل الأنباءَ إلى أُمَّةٍ غافلةٍ كوزرائها؛ فأعلنت أن «الرئيس أعلَنَ حالةَ الطوارئ، وأنه لا يوجد ما يدعو للذعر». وقالت إنَّ ذلك الإجراء كان استجابةً ضرورية «للمؤامرة المتغلغلة والمتفشية التي ما انْفَكَّتْ تختمر منذ بدأتُ أطرحُ تدابيرَ تقدُّميةً بعينها، تعود بالنفع على الرجل والمرأة العادية في الهند». فقد كانت «قوى التفكُّك» و«النعرات الطائفية» تهدِّدان وحدةَ الهند. وزعمت أنَّ «هذه ليست مسألةً شخصيةً؛ فلا يهم ما إذا ظللت رئيسة وزراء أم لا». إلا أنَّها أملت أنْ «تتحسَّن الأوضاعُ بسرعة حتى يتسنَّى لنا الاستغناء عن هذا الإعلان في أقرب وقت ممكن».1
بدا في إنكار السيدة غاندي نبرةٌ دفاعية؛ فالحقيقة الواقعة كانت أنَّ إعلان حالة الطوارئ جاء في أعقاب أمر المحكمة الهندية العليا بمنعها من التصويت في البرلمان. عندما أُعْلِنَت حالة الطوارئ، كانت أقرب صديقة لرئيسة الوزراء — المُصَمِّمة بوبال جَياكار — مسافِرةً إلى الولايات المتحدة؛ فأرسلَتْ إليها السيدة غاندي يوم ٢٧ يونيو رسالةً طويلة، شرحَتْ فيها أنَّ ذلك الإجراء اتُّخِذَ استجابةً إلى «العنف المتصاعد» إثر «حملة كراهية وافتراء». وادَّعت السيدة غاندي أنَّ عدد الاعتقالات كان ٩٠٠ فحسب، ومعظم المُحتجَزين لم يُوضَعوا في السجن وإنما «في منازل مريحة». وكان «ردُّ الفعل الشعبي حسنًا بصفة عامة»، وساد «الهدوء في جميع أنحاء البلاد». وقالت رئيسة الوزراء لصديقتها إنَّ حالة الطوارئ كان «القصد منها هو إتاحة العودة للعملية الديمقراطية الطبيعية».2
في جميع أنحاء الهند، كان الناس يُؤْخَذون ويُوضَعون في السجن. كان منهم قيادات ومُشَرِّعون من أحزاب غير حزب المؤتمر، وطلابٌ ناشطون، وأعضاء في اتحادات عمالية؛ فعليًّا أي شخصٍ على أدنى صلةٍ بحزب جانا سانج أو حزب المؤتمر «أوه» أو الاشتراكيين أو غير ذلك من الجماعات المعارضة للحزب الحاكم. بعض المحتجزين — مثل جايا براكاش نارايان ومورارجي ديساي — وُضِعوا في دور استراحة مملوكة للدولة في ولاية هاريانا، على مقربة من دلهي، إلا أنَّ معظمهم أُرْسِلوا إلى سجون مزدحمة أصلًا. وسرعان ما ثبت خطأ حِسبة السيدة غاندي؛ فقد اعْتُقِلَ الآلاف بموجب قانون حفظ الأمن الداخلي، المعروف لدى ضحاياه بقانون حفظ إنديرا وسانجاي، واسْتُخْدِمت أدواتٌ قانونية أخرى أيضًا؛ فراجماتا كل من جواليور وجايبور — خصمتان سياسيتان قديمتان للسيدة غاندي — تم حبسهما بموجب قانون يفترض أنَّه موجَّه إلى تجار السوق السوداء والمهرِّبين.3
خلال الشهور القليلة الأولى بعد إعلان حالة الطوارئ، أجرت رئيسة الوزراء عدةَ حوارات متلاحقة دفاعًا عن إعلانها، وبدا أسلوبها في تلك الحوارات أيضًا دفاعيًّا للغاية؛ فقالت لصحيفة «صنداي تايمز» اللندنية إنَّه «غير صحيح بالمرة القول بأني لجأتُ إلى حالة الطوارئ حفاظًا على منصبي؛ فقد واجهتُ التحدي المخالِف للدستور [من جانب حركة جايا براكش] بالدستور». وحالة الطوارئ «أُعْلِنَت لإنقاذ البلاد من الِاضْطِراب والانهيار»، وقد «مكَّنتنا من تنفيذ البرنامج الاقتصادي الجديد»، وأفضت إلى «شعور جديد بالثقة على المستوى الوطني». وأخبرت مجلة «ساترداي ريفيو» الصادرة في نيويورك أنَّ «ما حدث ليس إلغاءً للديمقراطية وإنما محاولةٌ لصونها». وهاجمت في تلك الحوارات الصحافةَ الغربية بدعوى «التربُّص بالهند»، وتصيُّد الأخطاء لبلدها عوضًا عن دول أكثر استبدادًا بوضوحٍ على غرار باكستان والصين.4

تحدَّثَتْ رئيسةُ الوزراء في حواراتها وأحاديثها الإذاعية عن الحاجة إلى «تجديد روح الانضباط والروح المعنوية»؛ فاسْتُعِين بالمؤلفين الدعائيين لصياغة شعارات من قبيل: «الانضباط يصنع الأمم العظيمة»، و«كُنْ رجلَ أفعالٍ لا رجل أقوال»، و«كُنْ هنديًّا واشترِ الهندي»، و«الكفاءة هي شعارنا». وصِيغَتْ عِظاتٌ أقلُّ موضوعيةً، على غرار: «هي التي وقَفَت بين النظام والفوضى»، و«الشَّجاعة ووضوح الرؤية، اسمهما إنديرا غاندي». كُتبت تلك الشعارات باللغتين الهندية والإنجليزية على جوانب الحافلات، وعبر الجسور، وعلى لوحات إعلانية ضخمة موضوعة أمام المباني الحكومية.

كانت تلك علاماتِ دكتاتورية زاحفة؛ فمثل العسكريين الذين يستولون على السلطة إثر انقلاب، ادَّعَتِ السيدة غاندي أنَّها تصرَّفت لإنقاذ البلد من نفسه. ومثلهم، قالت أيضًا إنَّه في حين أنها حَرَمَتْ شعبَها الحريةَ، فإنها سوف تعطيهم الخبزَ عوضًا عنها؛ فخلال أسبوع من إعلان الطوارئ كانت تعرض «برنامجًا للتقدُّم الاقتصادي مكوَّنًا من عشرين نقطة». وَعَدَ ذلك البرنامج بخفضِ أسعار السلع الأساسية، والإسراعِ بتطبيق الإصلاحات الزراعية، ورفْعِ أجور العاملين، وخفْضِ ضرائب الطبقة الوسطى، وإلغاء الديون والسُّخرة.5
من النادر أن نجد دكتاتورًا امرأةً، وربما كانت السيدة غاندي الوحيدة من نوعها في القرن العشرين. إلا أنَّها بصفتها حاكمةً مُسْتَبِدَّةً، أُتيح لها استخدام صور ورموز غير متاحة لنظرائها الذكور؛ ففي يوم ١١ نوفمبر، بعد إعلان حالة الطوارئ بأربعة أشهر ونصف، وقفتْ رئيسةُ الوزراء أمامَ الميكروفون لكي «تلتقي» بأبناء بلدها وتجري معهم «حديثًا من القلب»؛ فتحدَّثَت لما يربو على الساعة، عن الحاجة إلى الانضباط والنظام، وعن برنامجها الاقتصادي، وأمجاد الهند القديمة، وواجبات مواطنيها في العصر الحديث. وقالت إنَّ «خصومنا يريدون شَلَّ عمل الحكومة المركزية»، ومن ثَمَّ:

وجدنا أنفسنا في موقف خطير، واتَّخذنا بعض الخطوات، ولكنَّ كثيرًا من أصدقائنا في هذا البلد أصابَهم بعض الحيرة إزاء ما فعلته إنديرا جي، وتساءلوا عمَّا سيحدث للبلاد الآن. ولكننا شعرنا أنَّ البلد أُصِيبَ بمرض، وإنْ كان له أن يطيب بسرعة، فلا بد من إعطائه جرعةَ دواءٍ، حتى إنْ كان مُرًّا؛ فمهما كان الطفل عزيزًا على والديه، فإذا وَصَفَ له الطبيب دواءً مُرًّا، فلا بد من إعطائه له لعلاجِه … ومن ثَمَّ فقد أعطينا الأُمَّةَ ذلك الدواءَ المُرَّ.

… من المعروف أنَّه عندما يعاني الطفل، تعاني أمه أيضًا. ونحن من ثَمَّ غيرُ سعداء تمامًا باتِّخاذ هذه الخطوة … ولكننا رأينا أنَّها أتَتْ بالنتيجة تمامًا مثلما فعلَتِ الجرعةُ التي وَصَفَها الطبيبُ.6

٢

في ١٥ أغسطس ١٩٧٥، نشرت صحيفة «ذا تايمز» اللندنية إعلانًا احتلَّ صفحة كاملة ﻟ «حملة إطلاق سراح جايا براكاش». كان مَن دفع أجر الإعلان أفرادًا؛ حيث كان أول المساهمين الأسقف تريفور هادلستون، وآخِرهم السيدة بيجي آشكروفت. كان من الموقِّعين أيضًا أصدقاء قدامى للهند من قبيل الاشتراكي فينر بروكواي، والاقتصادي إي إف شوماخر، وعالِم السياسة دبليو إتش موريس-جونز، بالإضافة إلى مشاهير لا تربطهم علاقةٌ محدَّدة بالهند، مثل الممثِّلة جليندا جاكسون، والمؤرِّخ إيه جي بي تايلور، والناقد كينيث تينان. وطُبِعَت على الصفحة صورتا المهاتما غاندي وجايا براكاش نارايان. إلى جانب القائمة الطويلة للأسماء، تضمَّنَ النصُّ شهادةً على أخلاق جايا براكاش ووطنيته من المهاتما غاندي نفسه.

جاء في الإعلان ما يلي: «اليوم هو عيد استقلال الهند، فلا تَدَعُوا نورَ الديمقراطية الهندية ينطفئ.» وناشَدَ المُوَقِّعون على الإعلان السيدةَ غاندي أن تُطْلِقَ سَراح السُّجَناء السياسيين جميعًا، ولا سيما جايا براكاش نارايان. لم يكن اختصاصُ شخصٍ واحد بالذِّكْر احترامًا لقيادته حركةَ المعارضة في الهند فحسب؛ فقد عرفه المُحَرِّكِون الرئيسيون وراء «حملة إطلاق سراح جايا براكاش» قبل بدئه في «الثورة الشاملة» التي دعا إليها بفترة طويلة؛ فكان اليساريون أنصارُ حزب العمال، من أمثال بروكواي، يعرفونه منذ ثلاثينيات القرن العشرين، بوصفه أحد أبطال حركة الاستقلال. وأنصارُ حماية البيئة، من قبيل إي إف شوماخر، كانوا يعرفونه منذ خمسينيات القرن العشرين باعتباره من معتنقي مذهب التنمية اللامركزية مثلهم. وعرفه علماءُ السياسة قبل الاستقلال وبعده، باعتباره مثالًا نموذجيًّا دائمَ الحضورِ والقوةِ على ما سمَّاه موريس-جونز ذات مرة «سِمَة الوَرَع» في السياسة الهندية.

كان هؤلاء الأصدقاء الأجانب لحرية الهند قد بلغوا من العمر ما يكفي ليكونوا قد شاهَدُوا مدى قُرْب جواهر لال نهرو من جايا براكاش نارايان فيما مضى؛ فهالَتْهم رؤيةُ ابنة غاندي تسجن جايا براكاش، وأَمَلُوا في أن يخرجه استرجاع التاريخ من سجنه. وكان ذلك أملَ مجموعةٍ أخرى عظيمة من أنصار السلام؛ هم جماعة الكويكرز، التي لم تُوَقِّع على إعلان صحيفة «ذا تايمز» ولكنها لجأت إلى القنوات الخلفية للمصالحة. فقد كانتْ لتلك الجماعة علاقةٌ طويلة مشرِّفة بالهند؛ فقد توسَّط أعضاء فيها، مثل أجاثا هاريسون وهوراس ألكسندر، بين المستعمرين البريطانيين والقوميين الهنود، وفيما بعدُ حاوَلُوا مع جايا براكاش عَقْدَ مصالَحةٍ بين الهند وباكستان، وكذلك بين متمردي ناجا والحكومة في نيودلهي.

في شهر أغسطس، بعد شهرٍ على إعلان حالة الطوارئ، أرسلتْ جماعة الكويكرز أحدَ أعضائها — عالم الاجتماع جو إلدر — إلى الهند في بعثةِ تقصِّي حقائق؛ فالتقى أُناسًا كثيرين: أتباع جايا براكاش، وأعضاء في حزب المؤتمر، ورئيسة الوزراء؛ فوجد نفسه «قليلَ الميل إلى إدانة طرف أو آخَر». فقد أخطأ جايا براكاش نارايان ببدء حركة جماهيرية دون تنظيمٍ يضمُّ متطوعين منضبطين وسِلْمِيِّين، وبَدَتْ أفكارُه «ساذجةً وغيرَ مجرَّبة وغير مقنِعة بالنسبة إلى كثيرين»، وضعُفَت مصداقية حركته باشتمالها على عناصر متطرفة من اليمين واليسار. على الجانب الآخر، كان من الجَلَيِّ أنَّ رئيسة الوزراء قد بالغت في رَدِّ فعلها بفرض حالة الطوارئ، مما بثَّ الخوفَ في عقول الناس، وقَوَّضَ العملية الديمقراطية ومؤسساتها.7

وكما يشير سرد إلدر، فقد نشأ سيناريو الطوارئ عن الجهود المتضافرة لكلٍّ من جايا براكاش نارايان والسيدة غاندي؛ فكلاهما أبدى إيمانًا ضئيلًا في المؤسسات النيابية؛ إذ طالَبَ نارايان من جانبه بالإقالة المبكرة للحكومات المنتخَبَة، بينما اعتقلَتِ السيدة غاندي أعضاءً مُنتخَبين وفق القانون في البرلمان والمجالس التشريعية للولايات؛ فكلاهما لم يقدر دور الدولة في الديمقراطية الحديثة حق قدره؛ فكان نارايان يرغب في أن تختفي الدولة ببساطة، وأراد من الشرطة والجيش أن «يعصيا الأوامرَ غير الأخلاقية». وفي المقابل، سعت السيدة غاندي إلى جعل موظفي الدولة معتمدين تمامًا على إرادة شخصٍ واحد في موقع القيادة.

كان ذلك الصدام مؤثرًا لأنَّ الغريمين كانا صديقين فيما سبق، وربطتهما أواصرُ التاريخ والتقاليد وعلاقات حميمة على المستوى الشخصي امتدت عبر الأجيال. لا يمكن معرفة ما كان شعور السيدة غاندي إزاء حبس جايا براكاش، ولكن ما نعرفه هو أنَّ مشاعرَ موظفيها كانت متأرجحةً للغاية؛ فقد كان المستشار الإعلامي لرئيسة الوزراء — إتش واي شارَدا براساد — رجلًا وطنيًّا شارَكَ هو نفسه في الصراع من أجل الحرية، وقد سُجِنَ عام ١٩٤٢، في حملة «ارحلوا عن الهند» ذاتها التي أصبح فيها جايا براكاش نارايان بطلًا قوميًّا لأول مرة؛ فخلافًا لجو إلدر، لم يستطع شارَدا براساد أن يُقِرَّ بأنَّ رئيسة الوزراء بالغت في ردة فعلها، إلا أنَّه — كما كتب لأحد أصدقائه — شعر بأسًى بالغٍ لأنَّ رجلًا من قبيل جايا براكاش، «في لحظةٍ تحمل أهمية أخلاقية محورية، قرَّر أنَّ راشتريا سوايامسيفاك سانج والحزبَ الشيوعي الماركسي أكثر مقبوليةً من حزب المؤتمر. هذا انحراف في المنطق لم يسعني فهمه، فضلًا عن التماس العذر له. ولا يُعَزِّيني سوى فكرة أنَّه ما كان ليبلغ هذه الدرجة من اليأس لو كانت زوجته برابهافاتي على قيد الحياة».8
كان من بين المستائين من حبس نارايان أيضًا الاقتصادي بي إن دهار، الذي خلف بي إن هاكسَر في منصب سكرتير رئيسة الوزراء الأول؛ فقد أرسل دهار عدةَ مبعوثين إلى جايا براكاش، ليرى إذا ما كان يمكن الوصول إلى مصالحةٍ، بإطلاق سراح السجناء ورفع حالة الطوارئ، مع حلول موعد الانتخابات البرلمانية المقبِلة، التي كان قد تَقَرَّرَ عَقْدُها في بدايات عام ١٩٧٦؛ فوجد المبعوثون جايا براكاش مُسْتَعِدًّا للتفاوض؛ فقد أدَّى وقوعُ فيضانٍ في بيهار إلى تعجُّله الذهاب والعمل بين الضحايا. وقد بلغ مسامعَه الحديثُ عن أن استهتاره أدَّى إلى فرض الطوارئ؛ فقال إنه لا رغبةَ لديه في إعادة إحياء الحركة الشعبية، ولكن عندما يُدْعَى لعقد الانتخابات سوف يطالِب بتكوين جبهة مشتركة لمواجهة حزب المؤتمر ويلتمس الأصواتَ لمرشحيها.9
كان نارايان متلهِّفًا لاضطلاع صديقه القديم الشيخ عبد الله — الذي كان قد أصبح جزءًا من المؤسسة الهندية أيضًا آنذاك بِتَبَوُّئِه منصبَ رئيس وزراء جامو وكشمير — بدور الوسيط بينه وبين السيدة غاندي؛ فقد كان قد قرأ تقريرًا نَقَلَ عن الشيخ مَيْلَه إلى عقد «صلْحٍ على مستوى الهند كافة»، وقوله إنَّ رئيسة الوزراء «حريصة أشد الحرص على إنهاء حالة الطوارئ». فحينذاك كتب جايا براكاش إلى عبد الله يعرض عليه «تعاونًا كاملًا» في أي خطوة قد يتَّخِذُها لحلِّ الخلافات بين المعارضة والحكومة. إلا أنَّ الرسالة كشفتْ آثارَ جروح لم تَلْتَئِمْ، كما في إشارة نارايان إلى تصويره على أنه «رأس المشكلة، وكبير المتآمِرين، والمتهم الأول»، واختتامه الرسالة بتَحَدٍّ قائلًا إن «الاختبار الأول» لحرص رئيسة الوزراء على إنهاء حالة الطوارئ «سيكون ما إذا كان سيُسْمَح بوصول هذه الرسالة إليك، وما إذا كان سيُسْمَح لك بمقابلتي».10
رسبت رئيسة الوزراء في الاختبار؛ فالرسالة لم تبلغ الشيخ، وانتهت معها الخطوات الساعية إلى عَقْدِ مصالحةٍ. إلا أنَّه في نوفمبر ١٩٧٥، تدهورت حالة جايا براكاش الصحية، ونُقِلَ إثر إصابته بالفشل الكلوي إلى مستشفى في تشانديجار، وعندما أثبت الأطباء هناك عجْزًا عن التعامل مع حالته، نالَ إطلاقَ سراحٍ مشروطًا ونُقِلَ إلى مستشفى جاسلوك في بومباي، حيث وُضِعَ تحت رعاية اختصاصي الكُلى، إم كيه ماني. وكان ما عَجَّلَ باتِّخاذ الحكومة ذلك الإجراءَ هو إدراك أن أبواب الجحيم ستنفتح لو تُوُفِّيَ نارايان في السجن.11
وعلى الرغم من أنَّ جايا براكاش استلقى على فراش في بومباي، مُقيَّدًا إلى جهاز غسيل كلوي، فإنه لم يصدر أمر عام بإطلاق السراح المشروط للمعتقلين السياسيين؛ فقد قُدِّرَ عدد المعتقلين بموجب قانون حفظ الأمن الداخلي بنحو ٣٦ ألف شخص، احتُجِزوا دون محاكمة. وكان هؤلاء موزَّعين على ولايات الهند على نحو شامل إلى حدٍّ بعيد؛ ١٠٧٨ من أندرا براديش، و٢٣٦٠ من بيهار، وسارت الأعداد على نفس ذلك المنوال أبجديًّا، حتى بلغت ٧٠٤٩ من أوتَّر براديش و٥٣٢٠ من غرب البنغال.12
عُومِلَ ضحايا الانتقام السياسي في مأواهم ومأكلهم وملبسهم معاملةَ المجرمين العاديين، وفي الواقع كان عليهم مشاركة زنزاناتهم مع مثل هؤلاء المجرمين (مما أثار طُرفة مفادها أن الاشتراكية التي تتباهى بها السيدة غاندي كثيرًا تُمارَس في السجون على الأقل)؛ فتطلَّع السجناء الأكبر سِنًّا إلى أيام الراج البريطاني، حينما كانت السجون أنظف والسجَّانون أكثر آدميةً بصفة عامة. وبدا أنَّ السجينات اختُصِصْنَ بمعاملة خاصة؛ فقد عاشت راجماتا كل من جواليور وجايبور في أوضاع من التقشُّف والقذارة غير المعهودين. أما الاشتراكية مرينال جور، الأكثر اعتيادًا على الحياة البسيطة، فطُلِب منها مشاركة المرحاض مع المرأة التي تقطن الزنزانة المجاورة، وكانت مُصابة بالجذام. وفي الزنانة المقابلة كانت هناك امرأة مختلة العقل لا ترتدي أي ملابس وتصرخ ليل نهار.13

٣

في يناير ١٩٦٣، كتبت إنديرا غاندي إلى أحد أصدقائها شاكيةً أنَّ الديمقراطية «لا ترفع قدر الأشخاص دون المستوى فحسب، وإنما تمنح قوةً أيضًا لأعلاهم صوتًا بصرف النظر عن مدى افتقارهم إلى المعرفة والفَهم».14 وبعد ثلاثة أعوام، بعد توليها رئاسة الوزراء مباشَرةً، أخبرت السيدة غاندي صحفيًّا زائرًا أنَّ «حزب المؤتمر أصبح في طور الاحتضار»، مُردِفةً: «أحيانًا يتملكني شعورٌ بأنَّه حتى الديمقراطية البرلمانية أصبحت في طور الاحتضار.» وأضافت: «فإن مَبلغ الجمود الذي يعتري الخدمة المدنية لدينا عسيرٌ على التصديق»؛ «فلدينا منظومة تُسْتَبْدَل فيها العناصر غير المجدية بعناصر غير مجدية أخرى.» وقالت رئيسة الوزراء المنتخَبَة حديثًا في أكبر ديمقراطيات العالم تعدادًا: «أحيانًا أتمنَّى لو كانت حدثت عندنا ثورة حقيقية — مثل فرنسا أو روسيا — وقت الاستقلال.»15
وقد تجلَّى نفاد صبرها إزاء الإجراءات الديمقراطية منذ مرحلة مبكرة؛ مثلًا في مَلْئِها دوائرَ الخدمة المدنية وجهاز القضاء وحزب المؤتمر بأفراد موالين لها. إلا أنَّها تمادت أكثر في تلك العملية بفرض حالة الطوارئ؛ فآنذاك، إذ أُودِعَ النواب البرلمانيون المعارضون الحبسَ، مُرِّرَت عدة تعديلات دستورية لمَدِّ فترة حكم السيدة غاندي، وحَظَرَ التعديل الثامن والثلاثون، الذي أُقِرَّ في ٢٢ يوليو ١٩٧٥، مراجعةَ القضاء لحالة الطوارئ. ونصَّ التعديل التاسع والثلاثون، الذي طُرِحَ بعد مرور أسبوعين، على أنَّه لا يجوز الطعن في انتخاب رئيس الوزراء من جانب المحكمة العليا، وإنما فقط من جانب هيئةٍ يُشَكِّلها البرلمان. وقد جاء هذا التعديل في الوقت المناسِب تمامًا لمساعدة السيدة غاندي في الالتماس الذي قَدَّمَتْه إلى المحكمة العليا؛ حيث حكمت المحكمة بعدم وجود قضيةٍ تَنْظُر فيها؛ نظرًا لأنَّ التعديل الجديد جعل تصرُّفاتها خلال انتخابات عام ١٩٧١ خارج نطاق القانون بأثر رجعي.16
بعد بضعة أشهر، أسدت المحكمة العليا صنيعًا أكبر من ذلك لرئيسة الوزراء؛ فقد دفع المحامون الموكَّلون عن آلاف المسجونين بموجب قانون حفظ الأمن بأنَّه لا يجوز للدولة أن تحرم المسجونين حقَّ المثول أمام القضاء. وبدا أنَّ الأحكام الصادرة في المحاكم الأدنى درجةً تُدَعِّم ذلك الرأي، ولكن عندما بلغت القضية المحكمة العليا، حكمت بأنَّ الحبسَ دون محاكمةٍ قانونيٌّ في ظل الإدارة الجديدة السائدة. ومن بين هيئة أعضاء المحكمة الخمسة لم يعارض ذلك الحكم سوى واحد، وكان ذلك هو القاضي إتش آر كانَّا، الذي أشار إلى أنَّ «الاحتجاز دون محاكمةٍ لعنةٌ بالنسبة لجميع المدافعين عن الحرية الشخصية».17
كان ثمة تلميحات إلى أنَّ الحكم صَدَرَ مُتَأَثِّرًا باعتبارات غير قانونية؛ بأملٍ من ثلاثة قضاة أن يشغلوا يومًا منصبَ رئيس القضاة، وبالخوف من أوامر نقل المسئولين العقابية التي بدأت مع إعلان حالة الطوارئ؛ ففي مقالة افتتاحية يائسة بعنوان «الآمال الزائلة في الهند»، عَلَّقَتْ صحيفةُ «نيويورك تايمز» على أنَّ «خضوع القضاء المستقل لحكومة مستبدة هو فعليًّا الخطوةُ الأخيرة على طريق تدمير المجتمع الديمقراطي».18
في الواقع، كانت ثمة خطوات أخرى لم تُتَّخَذ بعدُ؛ ومنها: التعديل الثاني والأربعون، الوثيقة المُكَوَّنة من عشرين صفحة التي أعطتْ سلطاتٍ غيرَ مسبوقة للبرلمان، فصار بإمكانه تمديد فترته بنفسه، وهو ما فعله فورًا. ومَنَحَ التعديلُ حصانةً أكبر للتعديلات التي تُقِرُّها السلطة التشريعية ضد التدقيق القضائي، وزاد تعزيز سلطات الحكومة المركزية على الولايات؛ ففي المجمل، سمح التعديل الثاني والأربعون للبرلمان «بسُلْطة الحفاظ على الدستور أو تدميره دون قيود».19

في يناير ١٩٧٦، انتهت مدة حكومة حزب درافيدا مونيترا كازاجام؛ فعوضًا عن الدعوة إلى عقد انتخابات، أمرت الحكومة المركزية بفرض الحكم الرئاسي. وبعد مرور شهرين، طُبِّقَ الإجراء ذاته على جوجارات؛ حيث كانت جبهة جاناتا قد خَسِرَت الأغلبية نتيجةَ انشقاقات.

أصبح لإنديرا غاندي وحزب المؤتمر سيادةٌ مطلقة آنذاك على كافة أنحاء البلاد؛ فعندما ذهب مؤرخا الفن مليدرِد آرتشر ودبليو جي آرتشر لمقابلة السيدة غاندي في مارس ١٩٧٦، أعربت رئيسة الوزراء عن رضاها عن التقدم الذي أحرزَتْه حالةُ الطوارئ، وقالت لهما إن النظام الجديد «جعل فرائص وزراء الولايات ترتعد»، وذلك أمر «كان ينبغي أن يحدث منذ زمن، وهو رائع»، وذلك لأنَّ «التفويض المُفْرِط للسلطات أثره فتَّاك على الهند». وقالت السيدة غاندي في إصرار: «لا بد أن أحافظ على وحدة الهند. هذه ضرورة مطلقة.»20

٤

كانت حرية الصحافة من بين ضحايا الطوارئ؛ فخلال الأسبوع الأول بعد إعلانها، كانت الحكومة قد أنشأت نظامَ «رقابة مسبَقة»، أصبح على المحررين بمقتضاه تقديم المواد التي يُرْتَأَى فيها نقدٌ للحكومة أو موظفيها، حتى تخضع للتدقيق والموافقة. وأُصْدِرَت إرشادات عما يُشَكِّل وما لا يُشَكِّل «نبأ»؛ فقد مُنِع نقل أنباء المسيرات أو الإضرابات أو المعارضة السياسية أو الأوضاع في السجون، ومُنِعَت الأنباء عن المعارضة الصريحة بطبيعة الحال، وحتى الموضوعات التي انطوت على نقد معتدل للإدارة لم يُسمَح بها؛21 فكما جاء في إحدى صحف البنجاب استرجاعًا لأحداث تلك الفترة، تضمَّنَتِ البنود التي حذفها مقص الرقيب:
أنباءً عن إغلاق المتاجر في سوق بَجوارا بتشانديجار احتجاجًا على اعتقال أصحاب المتاجر، وغياب موظف صحة لمدة ستة أعوام، وتعليقات خاصة بالصرف الصحي في المدينة، لا سيما بالوعات الصرف المفتوحة … وثلاثة رسائل إلى المحرر عن انحرافات في المدفوعات ومعدلات الرواتب غير الملائمة لمحاضري الكليات في هيماجَّل براديش، وعن خدمة حافلات غير مرضية، وتقرير من تشانديجار عن ارتفاع أسعار الطماطم، ومقتل شخصين أثناء القيام بدورية عند السكك الحديدية بالقرب من أمريتسار، ونبأ موجز عن الاتجار بالعقاقير الضرورية في السوق السوداء.22
كان لا بد من مَلْء الفراغ، وقد مُلِئَ بكلمات رئيسة الوزراء أو أخبار تمدح حكومتها. (المحررون الذين حاولوا نشر المقالات المدافعة عن الحرية لطاغور وغاندي ونهرو عوضًا عن ذلك سرعان ما كانوا يُسْتَدْعَوْنَ للتحقيق.) فقد كتب أحد القُرَّاء في سيملا إلى صديق إنجليزي يقول: «إنَّ صحفنا تنشر أخبار العالم بالطبع، ولكنها تكاد لا تنشر أيَّ أنباء أخرى ذات صلة ببلدنا نفسه، سوى خُطَب رئيسة الوزراء … لقد قرَّرت التخلي عن متعة قراءة الصحيفة.»23 وكان ذلك الاشمئزاز مُسْتَشْعَرًا لدى الصحفيين أنفسهم أيضًا؛ فكما أخبر صحفي في صحيفة بومباي الأسبوعية «بليتز» صديقَه الإنجليزي: «صحيفتي تساند حالة الطوارئ. ولكننا إنْ لم نفعل شيئًا سوى التغنِّي بفضائل الحكومة، فماذا سيظن بنا قُرَّاؤنا؟»24
كانت الدعابات التي تحمل صِبغة السخرية محظورةً بصفة خاصة؛ فالكاتب الفكاهي التاميلي تشو راماسوامي فشل في تمرير رسم كاريكاتيري صوَّرَ رئيسة الوزراء تتحدَّث مع ابنها، وأسفله التعليق: «نقاش وطني بشأن التعديلات الدستورية.» وعندما سأل أحد القرَّاء: «مَن هي إنديرا غاندي؟» رد تشو: «إنها حفيدة موتيلال نهرو، وابنة جواهر لال نهرو، ووالدة سانجاي غاندي.» فحُذِف هذا الحوار أيضًا. كانت الرقابة تقف بالمرصاد، ولكن بين حين وآخر، كانت دعابةٌ أو اثنتان تفلتان من تحت يديها؛ ومن ثَمَّ تَمَكَّنَ في بالا سوبرامانيام من نشر مقال في مجلة «إيسترن إيكونوميست» بعنوان: «مشكلات الماشية في الهند»، الذي بدأ كالآتي: «يوجد حاليًّا ٥٨٠ مليون خروف في البلاد.» وتمكَّن ديمقراطي مجهول من نشر إعلان في صحيفة «تايمز أوف إنديا» عن «وفاة دي إي إم أوكراسي، الذي تنعيه زوجته تي روث، وابنه إل آي برتي، وبناته فيث وهوب وجاستس»25 (ما قصده هو أن الديمقراطية تُوُفِّيَت، وتنعيها زوجتها الحقيقة، وأبناؤها الحرية والإيمان والأمل والعدالة.)
مع استمرار حالة الطوارئ، زادت الحكومة إحكامَ قبضتها على عملية نشر المعلومات؛ فوكالتا الأنباء المستقلتان — «يونايتد نيوز أوف إنديا» و«برِس تراست أوف إنديا» — دُمِجتا مع وكالتين أصغر منهما في هيئة إخبارية واحدة تابعة للحكومة تُدْعَى «ساماتشار». وأُلْغِيَ مجلس الصحافة الذي كان هيئةً رقابية مستقلة، وأُلْغِيَ قانون يمنح حصانةً للصحفيين الذين يغطون أخبار البرلمان، وقُبِضَ على نحو ٢٥٣ صحفيًّا، منهم كولديب نَيار من صحيفة «إنديان إكسبريس»، وكيه آر سَندر راجان من صحيفة «تايمز أوف إنديا»، وكيه آر مالكاني من مجلة «ماذرلاند».26
بعض الصحفيين المحبين للحرية قاوَموا، ولكن مُلَّاك الصُّحُف امتثل معظمهم، خوفًا من أن تغلق الحكومةُ صُحُفَهم أو تصادِر ممتلكاتهم. وهم لم يكونوا خائفين من العقاب فحسب، وإنما استمتعوا بالمكافآت أيضًا، التي جاءت في صورة إعلانات حكومية مدفوعة من جانب إدارة الدعاية المسموعة والمرئية؛ ففي حين منحت تلك الإدارةُ «إعلانات سخية للدوريات التي سَمَّتها «صديقةً»»، سحبت خدماتها من الدوريات التي اعتبرتها ناقدةً للحكومة؛ فكان ثمة أكثر من صحيفة، ومحرر، ومالك صحيفة، على استعدادٍ لتغيير النغمة استجابةً للحوافز المعروضة.27
من الصحف الكبرى التي امتثلت للضوابط الجديدة عن طيب خاطر: «ذا هندو»، و«تايمز أوف إنديا»، ولا سيما «هندوستان تايمز» التي فَصَلَ مالكها — رجل الصناعة كيه كيه بيرلا — محرِّرَها الفائق الاحترام، بي جي فرجيز، من العمل لمجرد إرضاء السيدة غاندي. (كان بيرلا من الأعوان المخلصين لرئيسة الوزراء؛ فبعد صدور حكم المحكمة العليا في الله أباد يوم ١٢ يونيو، أخذ وفدًا مكوَّنًا من ٥٠٠ رجل أعمال لِتَرَجِّيها أنْ تبقى في منصبها.)28 ومن الصحف التي حاربت بشرفٍ للحفاظ على استقلالها، الصحيفتان «إنديان إكسبريس» و«ذا ستيتسمان»؛ فكلتاهما رفضت الامتثال للحكومة، وقاومت التهديدات والإغراءات على حد سواء؛ فعندما كانت الكهرباء تُقْطَع عنهما، كانتا تلجئان إلى المحاكم لاستعادتها، وعندما كانت مقالاتهما تخضع للرقابة، فضَّلتا ترْكَ مساحات خالية عوضًا عن مَلْئها بصفحات دعائية. وقد نقلتا ببراعة، دون تعليق، الأخبارَ الواردة عن الوضع الهندي في الصحافة الأجنبية، تحت عناوين محايدة من قبيل: «ملخَّص الأنباء» أو «ما يقوله معاصرونا».29

كانت الصحف الواسعة الانتشار هي الأكثر تضرُّرًا، ولكن الحكومة لم ترحم أيضًا مجلاتِ الرأي المرتفعة الجودة القليلة المبيعات؛ فثمة مجلتان محترمتان في دلهي — مجلة «مينستريم» الأسبوعية ومجلة «سمينار» الشهرية — أغلقتا أبوابهما عوضًا عن الاستسلام لمقص الرقابة. وحاربت مجلة «هِمَّت» الأسبوعية التي تصدر في بومباي الرقابة باستماتة، ولكنها أوقفت نشاطها في النهاية عندما طُلِبَ منها دفع مقدِّمة مرتفعة بصورة تعجيزية ضمانًا لحسن السلوك. وفُرِضَت تلك الغرامة بسبب مقالٍ اقْتَبَسَ أقوالَ أشخاصٍ منهم المهاتما غاندي. كذلك أوقفت مجلات أدبية نشاطها، بعدما وجدت استحالة في التعايش مع القيود التي كَبَّلَت استقلاليتها.

من بعض النواحي كانت الحكومة تخشى المجلات الصغيرة أكثر حتى من الكبيرة؛ فمُلاكها لم يكن من الممكن شراؤهم، لذا وَجَبَ إخضاعهم أو إفلاسهم. كان من المجلات المستهدفة مجلة «أوبنيون»، النشرة الإخبارية المكونة من أربع صفحات، التي كانت تصدر في بومباي من قِبَل موظف دائرة الخدمة المدنية الهندية السابق إيه دي جوروالا. كان جوروالا رجلًا يتحلَّى بنزاهة شديدة، وقد رَكَّزَ اهتمامه على هجمات هيئات الدولة على حقوق الفرد، وقد خاض كذلك معركةً طويلة ضد الفساد؛ فبعد مرور عام على فرض حالة الطوارئ، صدر أمر بإغلاق المجلة، ولكن جوروالا تمكَّن من نشر عدد أخير، أشار فيه إلى أنَّ:
النظام الهندي الحالي، الذي تأسَّس في ٢٦ يونيو ١٩٧٥، نشأ عن أكاذيب، وتغذَّى على أكاذيب، وازدهر بالأكاذيب؛ فالمكوِّن الجوهري في كيانه هو الكذب؛ ومن ثم يصبح وجود مجلة مُحِبة للحقيقة مستقيمة التفكير تتفحصه أسبوعًا بعد أسبوع وتشير إلى أكاذيبه، أمرًا غير محتمل بالنسبة إليه.30

٥

في اليوم التالي على إعلان حالة الطوارئ، وجد مراسل صحفي بريطاني شوارعَ دلهي في حالة «هدوء غريب»؛ فقد انطلق «الأسطول الصغير المجلجل» من سائقي الدراجات إلى أعمالهم في الصباح، و«لم تحتشد جموع غاضبة، والمتاجر والمصانع فُتِحَت كالعادة، والمتسولون راحوا يتسولون، وأدَّت خيول السباق الرشيقة المملوكة للأثرياء تمارينها اليومية».31 وكما كتب الصحفي إندر مالهوترا: «على الأقل في الشهور الأولى، أعادت الطوارئ إلى الهند نوعًا من السكون كان غائبًا عنها منذ سنوات.»32

كان ذلك السكون متناقضًا بشدة مع العقد المليء بالقلاقل الذي سبقه، وهذا أحد أسباب الترحيب الواسع الذي لاقاه إعلان الطوارئ فيما بين أبناء الطبقة الوسطى؛ فقد انخفض معدل الجريمة، وسارت القطارات في مواعيدها. وكذلك ترتب على هطول الأمطار الموسمية بوفرة عام ١٩٧٥ انخفاضًا في الأسعار. وقال مسئول في دلهي لصحفي أمريكي زائر إنَّ الأجانب وحدهم هم مَن يعنون بالأشياء من قبيل حرية التعبير، وقال المسئول: «لقد سئمنا كوننا ورشةَ عمل الديمقراطية الفاشلة، وحان وقت الاستعاضة عن بعض الحريات الفردية التي نتفاخر بها ببعض النمو الاقتصادي.»

وجد الصحفي مجتمعَ رجال الأعمال مسرورًا بحالة الطوارئ بصفة خاصة؛ فقد قال له مالك فندق في دلهي إن الحياة الآن «رائعة؛ فقد كنا نعاني مشاكل رهيبة مع الاتحادات العمالية. أما الآن، فمتى سَبَّبوا لنا أي متاعب، وَضَعَتْهم الحكومة في السجن». وفي بومباي التقى الصحفي جيه آر دي تاتا، الذي يمكن القول إنه أكثر رجال الصناعة احترامًا في الهند، وقد شعر تاتا أيضًا بأنَّ «الأمور كانت قد بلغت حدًّا أبعد من اللازم؛ فلا يمكنك أن تتخيل ما مررنا به هنا: من إضرابات وحملات مقاطعة وتظاهرات. بل إن ثمة أيامًا لم أكن أستطيع فيها الخروج من مكتبي إلى الشارع؛ فالنظام البرلماني ليس ملائمًا لاحتياجاتنا».33

حقيقة واحدة مثَّلت دليلًا قاطعًا على الموافقة الضمنية للطبقة الوسطى؛ حيث لم يتقدَّم أيُّ موظفين حكوميين تقريبًا باستقالتهم احتجاجًا على فرض الطوارئ؛ ففي أيام الحكم البريطاني، دعوة غاندي إلى «عدم التعاون» مع الحكَّام أدَّتْ إلى استقالة آلاف المعلمين والمحامين والقضاة وحتى موظفين في دائرة الخدمة المدنية. أما الآن، فلم يحتَجَّ على إلغاء الديمقراطية سوى قلة من موظفي الحكومة؛ منهم: فالي ناريمان الذي استقال من منصب المحامي العام المساعد، وإم إل دَنتوالا الذي رفض الاستمرار في منصب مستشار في بنك الاحتياطي الهندي، وبَجَراني تُلبوليه الذي ترك منصبه الرفيع في مشروع ضمن القطاع العام.

إلا أنَّ البرلمان الهندي أبدى بعض المقاومة؛ ففي يوم ٢٣ يوليو اجتمع للتصديق على إعلان الطوارئ. كان حزب المؤتمر يتمتع بالأغلبية، وكان أربعة وثلاثون نائبًا برلمانيًّا في السجن. أما نواب المعارضة الذين حظوا بحرية الحضور فقد ألْقَوْا خُطَبًا احتجاجية قبل أن يغادروا؛ فقال نائب الحزب الشيوعي الماركسي إيه كيه جوبالان إنَّ الاعتقالات حوَّلت البرلمان إلى «مهزلة ومحط احتقار». واتَّهم نائبٌ من حزب جانا سانج رئيسةَ الوزراء بخيانة الوطن من «أجل أغراض شخصية».34
فيما بعدُ قاطَعَ نوابُ المعارضة المجلسَ (أو سُجِنوا)، ولكن العضو المستقل الذي استمر في الحضور كان بي جي مفَلَنكار من أحمد أباد، الذي امتهن العلوم السياسية، وكان ابن أول رئيسٍ لمجلس الشعب الهندي؛ فكان من الصعب على الحكومة أن تعتقله نظرًا لنَسَبه؛ ومن ثَمَّ فقد بَقِيَ، ومتى سنحت له الفرصة، كان يستشهد بثالوث القومية الهندية المقدس — طاغور وغاندي ونهرو — في الحديث عن مزايا وفضائل التحرُّر والحرية؛ فقد أظهَرَ التناقضَ بين آرائهم وقانون حفظ الأمن الداخلي «التعسُّفي»، الذي اسْتُخْدِمَ لتحقيق «الأغراض السياسية لحكومة انتقامية»، وهو القانون الذي مَثَّلَ «أبغضَ تشريعٍ سُنَّ في تاريخ الهند الحديث».35
ظهرت مقاومة أيضًا في الشوارع؛ ففي يوم ١٤ نوفمبر — يوم ميلاد جواهر لال نهرو — من عام ١٩٧٥، بدأت مجموعةٌ تُسَمِّي نفسَها لوك سنجهارش ساميتي (لجنة الكفاح الشعبي) حركةَ مقاوَمةٍ سِلْمية في بومباي؛ فكان المتظاهرون يقفون كل يوم عند تقاطع مزدحم ويهتفون بشعارات من قبيل «تسقط الدكتاتورية» و«الحرية لجايا براكاش»؛ ففي خلال شهر، اعْتُقِلَ ١٣٥٩ شخصًا، منهم ١٤٦ امرأة. ثم امتدَّت الاحتجاجات إلى ولايات أخرى، حيث أصبحت مواقف الحافلات، ومحطات القطارات، والمصالح الحكومية أماكنَ يهتف فيها المحتجون بالشعارات ويُعَرِّضون أنفسَهم للاعتقال. وقد ادَّعَى أحدُ التقارير أنَّه خلال الشهور الثلاثة الأولى لحركة المُقاوَمة السِّلْمية هذه، بلغ عدد المعتقلين ٨٠ ألف شخص.36
وفي ١٥ أغسطس ١٩٧٦ (في ذكرى عيد الاستقلال)، بدأت حركة مقاوَمة سِلْمية أخرى في أحمد أباد، تحت قيادة مانيبهين باتيل، ابنة أول وزير داخلية في الهند، فالابهاي باتيل؛ فرفع خمسون متظاهرًا شعارات من قبيل: «أنهوا حالة الطوارئ» و«أطلقوا سراح السجناء السياسيين»، وساروا على الطريق إلى داندي، نفس الطريق الذي سلكه غاندي لكسر قوانين الملح الاستعمارية قبل ستة وأربعين عامًا. قُبِضَ على مانيبهين باتيل بعدما قطعتْ ميلًا على الطريق، ولكنَّ أحد القضاة أمر بإطلاق سراحها في اليوم التالي؛ فواصلَتِ المسيرَ إلى البحر، بصحبة بضعة رجال شرطة غير مرتدين الزي الرسمي.37

كان ممن قُبِضَ عليهم في حركة المقاومة السلمية في بومباي الكاتبةُ الماراثية المعروفة دورجا بهاجوات. وقد أبدى أعضاء آخَرون في مجالها احتجاجَهم بأساليب أكثر تَوَاؤُمًا مع مهنتهم؛ فقد عملت مجموعة من الكُتَّاب الكاناديين على نشر وتوزيع قصائد، في صورة منشورات سرية، تسخر من حالة الطوارئ ومُحَرِّكها الأول. ولننظر في المقاطع الشعرية الآتية من قصيدة «في هذا البلد» لجي إس شيفارودرابَّا:

في هذا البلد
تأليه البطل، والفخر بالعائلة
يجب ألا يكون هناك مكان لهما.
ولكن
امتيازات إله عشيرتي
يجب عدم المساس بها.
في هذا البلد
على الجميع تكميم أفواههم
والتزام الصمت.
ولكنْ
حَرِيٌّ بهم إبقاء آذانهم مصغية
لسماع ما أقول.38
أعرب كُتَّاب آخَرون عن اعتراضهم بسبل أخرى؛ فقد أعلن كاتب المقالات البنغالي أنَّادا سانكار راي أنه سوف يتوقَّف «عن الكتابة تمامًا في فورة غضب غير متعاون». ورفض أن يضع «قلمًا على ورقة ما دامت حالة الطوارئ مستمرة». ورسام الكاريكاتير كيه شانكار بيلاي، الذي شبَّه نهرو الثرثار ذات مرة بشلالات نياجرا (وقُوبِلَ بالتشجيع من ضحيته)، أوقف مجلته عن العمل قبل أن توقفها الدولة، وقال مُعَلِّقًا في أسف: «الدكتاتوريات لا تحتمل الضحك؛ فطوال أعوام حكم هتلر، لم تُؤَلَّف مسرحية كوميدية جيدة، ولا رسم كاريكاتيري جيد، ولا عمل هزلي، ولا دعابة ساخرة.» وأعاد الروائي بانيشواره نات رينو وِسَامَ بادما شري الذي قلَّدَتْه إيَّاه الحكومة الهندية، في بادرةٍ أعادتْ إلى الأذهان تخلِّي طاغور عن لقب فارس بعد مذبحة جليانوالا باج. وأعاد الكانادي الواسع المعرفة شيفاراما كارانت وسامًا أعلى درجة، هو بادما بوشان؛ ففي عشرينيات القرن العشرين، انضم كارانت إلى الحركة الساعية من أجل الحرية بإيعاز من غاندي، وبعد خمسين عامًا من الكفاح في سبيل التمسك بقِيَمه، شعر كارانت بأنَّه «مضطر إلى الاحتجاج على مثل تلك الإهانات المقترَفة في حقِّ شعب الهند».39

وأخيرًا كان ثمة بعض المقاومة تحت الأرض. كانت الشخصية المحورية هنا هي جورج فرنانديس، الاشتراكي الفائر الحماس الذي قاد إضرابَ السكك الحديدية عام ١٩٧٤؛ فعندما أُعلِنت حالة الطوارئ، كان فرنانديس في مدينة جوبالبور الساحلية في أوريسا، فتوارى عن الأنظار بضعة أسابيع، وأطلق لحيته، وتنكَّر في هيئة سيخي. ثم راح يتنقل من مدينة إلى أخرى، ليلتقي رفاقه ويخطط لتخريب منشآت الدولة؛ فجُمِعَ الديناميت وخُزِّنَ، ودُرِّبَ شبابٌ على نسف الجسور وقضبان السكك الحديدية. ومن مخابئه المتغيرة باستمرار، راح فرنانديس يبعث رسائل هاجَمَ فيها «الدكتاتورة» و«تلك المرأة» و«عائلة نهرو الحاكمة»، وحثَّ الشعبَ على الثورة على النظام.

لم يُسْتَخْدَم الديناميت، ولكن كان من الواضح أنَّ الحكومة الهندية كانت غاضبة لعجزها عن القبض على فرنانديس؛ فأُخِذَ شقيقه لورانس من منزله في بنجالور وتَعَرَّضَ لضرب وتعذيب وحشيَّيْن، واعْتُقِلَت أيضًا صديقته، الممثلة سنيهالاتا ريدِّي؛ فقد احْتُجِزَت في زنزانة رطبة وحُرِمَت الطعام اللائق حتى تفاقمت حالة الربو التي كانت تعانيها إلى حد خطير؛ فعندما نالت إفراجًا مشروطًا، تُوُفِّيَت بعد بضعة أسابيع. فرَّت زوجة جورج فرنانديس وطفله من البلاد، خوفًا من الاضطهاد إنْ بَقِيَا. وقُبِضَ على فرنانديس نفسه في كلكتا يوم ١٠ يونيو ١٩٧٦، بعد قرابة عام من إعلان حالة الطوارئ.40
في صيف عام ١٩٧٦، كان أحدَ معارضي النظام القليلين الذين ظلوا طُلقاء جي بي كريبالاني، الذي كان في التسعينيات من عمره آنذاك. وقد شكا إقصاءه في حين مُنِحَ أصدقاؤه جميعًا ميزة السجن. ثم تَذَكَّرَ مثلًا شعبيًّا سنديًّا مفاده: «عندما تقطع ساحرةٌ شارعًا مُدَمِّرةً كلَّ شيء، تترك منزلًا واحدًا سليمًا.»41 وفي يوم ٢ أكتوبر من عام ١٩٧٥ — الموافق لعيد ميلاد غاندي — رأس كريبالاني اجتماعًا للصلاة في نصب المهاتما التذكاري في نيودلهي؛ فأُلْقِيَت خُطَب، وقُبِضَ على عدة أشخاص، ولكنه لم يكن منهم. لم يكن عمره بقدر مركزه الذي أبقاه طليقًا؛ فلا شيفاراما كارانت، ولا مورارجي ديساي، ولا حتى جايا براكاش نارايان، حظوا بمؤهلات وطنية بقوة مؤهلات كريبالاني؛ فقد انضم إلى المهاتما غاندي في المسيرة السلمية بشمباران عام ١٩١٧، قبل أن يصير نهرو جزءًا من تلك الحركة بعدة أعوام. وكان كريبالاني رئيسَ حزب المؤتمر عندما جاءت الحرية بعد ثلاثة عقود من الزمان، وقد اختارته ثلاث ولايات مختلفة نائبًا عنها في البرلمان الهندي؛ ففي المجمل، كانت سيرته المهنية من القوة بحيث تستحي حتى رئيسة الوزراء أن تعتقله للقيام بأنشطة ارْتُئِيَ فيها تهديدٌ «للوحدة والاستقرار» في البلاد.
في أبريل ١٩٧٦ تحدَّى كريبالاني الحكومة أن تنشر أسماء الأشخاص الذين وضعتهم في السجون. ثم مَرِضَ مرضًا شديدًا، فنُقِلَ إلى المستشفى، حيث رُكِّبَت له أنابيب وأسلاك بشتى الأنواع والأشكال، وعندما جاء أحد أصدقائه لزيارته، كان لدى كريبالاني شكوى جديدة: «ليس لديَّ بُنيان (في إشارة للدستور)؛ فكلُّ ما تبقَّى لديَّ هو ملحقات (في إشارة للتعديلات الدستورية التي أدخلتها السيدة غاندي).»42

٦

أعادت حالة الطوارئ إحياء النقاش بشأن ما إذا كان يُمْكِن أو ينبغي أو يُحْتَمَل أن تصير الهند يومًا ديمقراطية بحق؛ ففي أكتوبر ١٩٧٥، زار مراسل صحفي من مجلة «تايم» البلاد، وأُعْجِبَ كثيرًا بما رآه؛ فقد رأى أنَّ حرية الصحافة وما شابهها كانت أمورًا «غير ذات أهمية كبيرة لمعظم تعداد الهند البالغ ٦٠٠ مليون نسمة»، الذي كان «أكثر انشغالًا» بمعدل التضخم (انخفض لأقل من ٣١٪ في السنة السابقة). وكتب: «لقد نالت رئيسة الوزراء تأييدًا واسع النطاق باقتناصها فرصةً نادرةً لفرض عشرات الإصلاحات الاجتماعية بالقوة؛ فالهند منخرطة هذه الأيام في حملة محمومة لتشجيع الانضباط والالتزام بالمواعيد والنظافة والكياسة.»43
إذن على الأقل كان ثمة مَن يأخذ الشعارات على محمل الجد؛ ففي حين أنَّ المراسل الصحفيَّ لمجلةِ «تايم» رأى ديمقراطيةً غيرَ ملائمة للهند، أبدَتْ صحيفة «سيدني مورنينج هيرالد» يَأْسَها إزاء انطفاء شعلة الديمقراطية في بلدٍ كان هو «الأمل الرئيسي للديمقراطية في آسيا، بل في العالم النامي أيضًا». وقالت الصحيفة إنَّه إنْ كانت الهند قد «ارتدَّت إلى الاستبدادية الآسيوية التقليدية»، فلا بد من توزيع اللوم على كلٍّ من «الإمبراطورة إنديرا» ووالدها، الذي فرض «التصنيع الثقيل والبيروقراطيات المُؤَمَّمَة على روَّاد الأعمال الهنود، على الطريقة السوفييتية، باسم «الاشتراكية»، ولإنجاح «اشتراكيته» أضافَت ابنتُه الأسلوبَ السوفييتي المُكَمِّل المتمثِّل في الدكتاتورية السياسية».44
دارت أقوى نقاشات لمسألة الهند والديمقراطية — كما يمكن للمرء أن يتوقَّع — في الصحافة البريطانية؛ فكانت الطبقة السياسية في المملكة المتحدة منقسمةً؛ ففي حين وَقَّعَ بعض أعضاء البرلمان عريضة «الحرية لجايا براكاش»، سانَدَ آخَرون نظام السيدة غاندي، منهم مايكل فوت (على أساس أنَّ ابنة نهرو لا يمكن أن تخطئ) وجيني لي ومارجريت تاتشر، اللتان زارتا الهند وخلصتا إلى أنَّ الطوارئ، بصفة عامة، أفادت شعب الهند. وبعد أن سافر نائب في البرلمان البريطاني يُدْعَى إلدون جريفيث إلى الهند وتحدث إلى قيادات حزب المؤتمر، كتب إلى صحيفة «ذا تايمز» أنَّ النظام «أقل قمعًا بكثير» ممَّا ورد عنه في هذه الصحيفة، وألمح أيضًا إلى أنَّ النظام البرلماني البريطاني غير ملائم للسياقات غير الغربية. وفي رَدٍّ لاذع حماسي، قال دبليو إتش موريس-جونز مُعَلِّقًا إنَّ مثل ذلك الكلام كان «رياضةً يمكن أنْ يجد فيها كلٌّ من قيادات حزب المحافظين الإمبريالية والماركسيين الثوريين متعةً مشتركة». فحسبما أشار موريس-جونز: «بدأ عددٌ متنامٍ من الهنود في توطين عادة الديمقراطية الليبرالية.» فقد أُجْرِيَت خمسة انتخابات بنجاح، وأُنشِئت صحافة حرة ومؤسسات مستقلة، قبل أن تجلب الطوارئ «ضررًا هائلًا» على «أسلوب حياة سياسية، حوَّل بالفعل في غضون عقدين من الزمان كثيرين كانوا رعايا منبوذين من الساحة السياسية إلى مواطنين».45
ماذا كانت آفاق المستقبل؟ في تقييمٍ أجرته صحيفة «ذي أوبزرفر» في الذكرى الأولى لفرض حالة الطوارئ، ادَّعَت رؤية حركة تحت غطاء السكون؛ فإذا شَحَّت الأمطار الموسمية فيمكن للاقتصاد الهَشِّ أن يُدَمَّر، ممَّا سوف يؤدِّي إلى تضخُّم، و«إشعال فتيل السخط الشعبي الذي يغلي تحت السطح. وقد يُسفِر الانفجارُ الناجم عنه عن أزمة سياسية أخطر من أزمة يونيو ١٩٧٥». ورأت الصحيفة أنَّه فيما بين النتائج المحتملة، يمكن للمرء أن يستبعد العودةَ إلى الديمقراطية؛ لأنَّ «الخَلَفَ المحتمل لحزب المؤتمر لا يزال هو الجيش».46

٧

ارتكبت صحيفة «ذي أوبزرفر» خطأ التركيز على المؤسسات عوضًا عن الأفراد؛ ففي داخل الهند، لم يكن المُشاهَد هو صعود الجيش من وراء واجهة حكم حزب المؤتمر، وإنما صعود ابن رئيسة الوزراء الثاني إلى موقع الخليفة المرجَّح.

كان سانجاي غاندي هو مَن حذَّر والدته من الاستقالة وأيَّد إعلان حالة الطوارئ بقوة. وخلال الشهور الأولى بعد إعلانها، زاد حضوره على الملأ؛ فأصبح كثيرًا ما يُشاهَد إلى جوار السيدة غاندي، حتى إنه صار ينصحها بشأن التعيينات الوزارية. فعندما ارْتُئِيَ أنَّ الليبرالي آي كيه جوجرال كان متساهِلًا مع الصحافة أكثر من اللازم، اسْتُبْدِلَ به في سي شُكلا الأكثر صرامةً وزيرًا للإعلام والبث. وعندما لم يُبْدِ سواران سينج المُخَضْرَم (الذي كان أحد كبار وزراء نهرو يومًا ما) حماسًا كبيرًا إزاء إعلان حالة الطوارئ، اسْتُبْدِلَ به صديق سانجاي، بانسي لال، وزيرًا للدفاع.47
بعد إعلان حالة الطوارئ بستة أسابيع، أجرت مجلة «سِرج»، التي تُنشَر في دلهي، حوارًا طويلًا مع سانجاي غاندي. في ذلك الحوار تحدَّث سانجاي عن حياته الخاصة — لم يكن يُدَخِّن ولا يُعاقِر الخمر — وعن علاقته بوالدته. (قال ردًّا على أحد الأسئلة: «نعم، إنها تستمع إلى آرائي بالتأكيد. لقد كانت تستمع إليها حتى عندما كنتُ في الخامسة من عمري.») وتحدَّث عن عمله — زعم أنَّه كان يقضي اثنتي عشرة ساعة إلى أربع عشرة ساعة في اليوم في مصنعه التي تنتج سيارات ماروتي — وعن السيارة التي سوف ينتجها عمَّا قريب، والتي سوف «تأخذ مكان سيارات فيات أو سيارات أمباسادور» (هما السيارتان المسيطرتان على السوق الهندية آنذاك). وأعرب عن ميله إلى الاقتصاد الحر — لأنه «أسرع طريقة للنمو» — ورأى أن الحكومة ينبغي أن تزيل جميع الضوابط المتعلقة بأين وكيف وعلى أي نحوٍ تنشأ الصناعات. وعندما سُئِلَ عن فكرته عن الديمقراطية، قال: إنها «لا تعني حريةَ تدميرِ كلِّ شيء في البلاد. الديمقراطية تعني حرية بناء البلاد». وعندما سُئِلَ عن حزب المؤتمر، قال إنه ينبغي أن يصير «حزبًا قائمًا على الكوادر»؛ فعندما أشار المحاور إلى أنَّ كلًّا من جانا سانج والشيوعيين قائم على الكوادر، أشار سانجاي إلى الأول بأنه «حزب قائم على المحاباة». أما عن الثاني، فقال معلِّقًا: «إذا أخذتَ جميع الناس في الحزب الشيوعي؛ الرءوس الكبيرة وحتى الرءوس الأصغر، فلا أظنك ستجد أشخاصًا أكثر منهم ثراءً أو فسادًا في أي مكان.»48
كانت «سِرج» مجلة جديدة، ومثَّل الحوار سَبقًا صحفيًّا لها؛ فسرعان ما باع محررها الحوار إلى وكالات الأنباء، التي مررته بدورها إلى الصحف الهندية والأجنبية؛ فاختارت الصحف أن تُسَلِّط الضوء على آراء سانجاي غاندي المتعلقة بالاقتصاد الحر — المخالفة لاشتراكية والدته المعلنة — وتوصيفه لحلفائها المخلصين الشيوعيين بأنهم «فاسدون»؛ فعندما نُشِرَت تلك المقتطفات، أرسلت رئيسة الوزراء مذكرة مذعورة إلى سكرتيرها، بي إن دهار؛ فكتبت: إنَّ تعليقات سانجاي «مفرطة الغباء»؛ فهي «لن تلحق أذًى بالغًا بمَن ساعدونا فحسب»، وإنما ستتسبَّب في «مشكلات خطيرة مع الكتلة الاشتراكية برمتها». استطاع دهار الحدَّ من الأضرار؛ إذ لم تظهر مقتطفات أخرى في الصحف، ومُنِعَت مجلة «سِرج» من نشر الحوار، وأُقنِع سانجاي نفسه بأن يدلي بتصريح مفاده أنَّ قيادات حزبَيْ جانا سانج وسواتنترا أكثر «فسادًا»، وأنَّ الحزب الشيوعي الهندي يستحق التحية على دعمه «السياسات التقدُّمية، لا سيما تلك التي تطول الفقراء».49
إلا أنَّ ذلك لم يُرْدِع سانجاي عن الإدلاء بحوارات أخرى؛ فعندما سُئِلَ في حوار مع مجلة «ذي إلاستريتد ويكلي أوف إنديا» عن القيود المفروضة على الصحافة، ردَّ بأنَّ الصحف «لا تتوانى عن ترديد الأكاذيب الصريحة المؤذية. والرقابة هي السبيل الوحيد لإنهاء ذلك». وعندما طُلِب منه تقديم كشف حساب لحالة الطوارئ، قال إن «المكسب الأكبر المتحقِّق هو حِسُّ الانضباط وتعجيلُ وتيرةِ العمل». وأضاف: «ماذا خَسِرَت البلاد؟ التهريب، والسوق السوداء، والاكتناز، وحرق الحافلات، وعادة التأخُّر عن العمل.»50
ظهر رئيس تحرير تلك المجلة، كَشوانت سينج، في دور المشجِّع والمهلِّل الرئيسي للابن الصاعد؛ فوصف سانجاي بأنه «رجل المهام الصعبة» واختاره «رجل العام في الهند». ونشرت المجلة مقالات عديدة تمدح سانجاي وزوجته الشابة مانيكا، وصفحات وصفحات من الصور المصاحبة لنصوص مُتَزَلِّفَة على الدوام. (نماذج منها: «لديه العزيمة وحس العدالة وروح المغامرة، ولا يعرف الخوف مطلقًا»، «سانجاي غاندي أضاف بُعدًا جديدًا إلى القيادة السياسية؛ فهو لا صلة له بالشخصيات المشبوهة ولا بالمتملقين؛ فهو لا يعاقر الخمر، ويعيش حياة بسيطة … كلماته ليست فارغة وإنما مشحونة بالعمل».)51
ربما كان الأقل إثارةً للدهشة الاهتمام الذي أولته إذاعةُ «أول إنديا راديو» إلى ابن رئيسة الوزراء، والقناةُ التليفزيونية التي تديرها الدولة «دوردَرشان»؛ ففي غضون عام واحد، أُذيع ١٩٢ نبأ عن سانجاي غاندي على إذاعة «أول إنديا راديو»، و٢٦٥ نبأ على قناة «دوردَرشان». وعندما ذهب سانجاي في رحلة مدتها أربع وعشرون ساعة إلى أندرا براديش، صوَّرت شُعبة الأفلام فيلمًا تسجيليًّا كاملًا يُدْعَى «يوم للذكرى»، رافَقَه تعليقٌ بثلاث لغات.52
العلامة الأوضح على تنامي أهمية سانجاي غاندي على الساحة السياسية الهندية كان الاحترام الذي عامله به وزراء الاتحاد ووزراء الولايات؛ فقبل أن يقرر وزير الدفاع بانسي لال أي قائد أسطول يرقِّي، كان يأخذ الرجلين المرشحين إلى سانجاي ليختار أيهما يصلح من بينهما. وعندما زار ذلك الشاب راجستان، جاء رئيس وزراء الولاية إلى المطار لاستقباله، وأثناء رحلته إلى مدينة جايبور بالسيارة عايَنَ سانجاي ٥٠١ قوس أُقيم على شرفه، وأُعِدَّ عرضٌ مشابه عندما زار أوتَّر براديش. وفي مطار لكنو، عندما انزلق سانجاي على مدرج الإقلاع وسقط منه نعله، التقطه رئيس وزراء الولاية بنفسه، وأعاده إليه بتبجيل.53

٨

وبَّخت رئيسة الوزراء الأمراءَ الهنود ذات مرة على إعلائهم النسب على الموهبة. ثم إنَّها استسلمت لذلك الإغراء هي نفسها؛ فقد سلك ارتقاءُ ابنها طريقًا إقطاعيًّا على نحو ملحوظ؛ فمثلما يُمْنَح الوريث لقبه في سن مبكرة — دوقًا أو أميرًا — عُهِدَ إلى سانجاي بجناح الشباب في حزب المؤتمر. (لقد كان مجرد عضو في المجلس التنفيذي نظريًّا، ولكن عمليًّا كانت رئيسة جناح الشباب بحزب المؤتمر تتلقَّى أوامرَها منه.) وتمامًا مثلما كان أبناء أباطرة المغول يُمْنَحون مقاطعةً فيما مضى لإدارتها قبل تولِّي حُكْم المملكة نفسها، طُلِبَ من سانجاي رعاية شئون عاصمة الهند. وخلال بضعة شهور من إعلان الطوارئ، ذاع نبأٌ مُفادُه أنَّ «رئيسة الوزراء نفسها تريد أن يتولَّى ابنها جميعَ المسائل ذات الصلة بدلهي».54
بحلول ذلك الوقت، كان سانجاي غاندي قد شكَّل برنامجًا من خمس نقاط مُكَمِّلًا لبرنامج والدته المكوَّن من عشرين نقطة. تمثَّلت نقاطه الخمس في تنظيم الأسرة، والتشجير، والقضاء على ممارسة دفع العروس مَهْرًا، ومحو الأُمِّية، وتطهير العشوائيات. من بين تلك النقاط، انصبَّ التركيز على النقطة الأولى، على المستوى الوطني، وعلى الخامسة، فيما يتعلَّق بدلهي؛ فقد كانت العاصمة مليئةً بالعشوائيات التي تشكَّلت تلقائيًّا لإيواء النازحين الذين عملوا في الوظائف ذات الأجور المتدنية في الأحياء السكنية والمصالح الحكومية؛ ففيها كان يقطن الكنَّاسون وعمَّال جَرِّ العربات وخدم المنازل والفرَّاشون وأُسَرهم، لقد حوت المدينة نحو ١٠٠ من تلك المناطق العشوائية، وسَكَنها قرابة ٥٠٠ ألف شخص.55

كان سانجاي غاندي يريد إزالة تلك العشوائيات، وتسكين قاطنيها في أراضٍ زراعية على الضفة المقابلة من نهر يمنا، فتواءمت أفكاره في هذا الصدد مع أفكار جاجموهان، نائب رئيس هيئة تنمية دلهي الطموح. كان قدوة جاجموهان هو البارون هاوسمان، وأَمَلَ أن يفعل من أجل دلهي ما فعله هاوسمان من أجل باريس؛ فبإزالة العشوائيات وبناء الطرق العريضة، حَوَّلَ البارون العاصمةَ الفرنسية من «مدينة قبيحة حقيرة» إلى «مركز ثقافة قوية ونابضة بالحياة». في الواقع، كان إعجاب جاجموهان بالأساليب الاستبدادية عامًّا؛ فقد أشاد بما حقَّقه الشيوعيون الصينيون في شنجهاي، على سبيل المثال، «نتيجةَ السياسات القومية الحازمة والالتزام»، في حين «أننا في الهند، في المقابل، لا نزال هائمين على وجوهنا». وذات مرة قال جاجموهان متحسِّرًا:

لست بهاوسمان جديد
لست لوتيِنز واتته فرصة
ولا كوربوزييه أمدَّه نهرو بالقوة
أنا مجرد رجل بسيط
يتيم أنجبته هذه الشوارع.

ولكن:

على الرغم من كل تلك الأعباء
الملقاة على كاهلي
أقفُ منتصبًا
لا أهدأ ولا أتوانى
راغبًا في الكفاح
راغبًا في الحلم.56

كُتِبَت هذه القصيدة عام ١٩٧٤، قبل إعلان الطوارئ. وبعد مرور عام وصل سانجاي غاندي، لرفع الأعباء عن كاهل جاجموهان؛ فلطالما انزعج مُخَطِّط المدينة من العشوائيات، التي اعتبرها علامةً على «مدينة مريضة بلا روح». ولما كان يتعجَّل تنظيفها وتطهيرها، أعاقت فوضى الإجراءات الديمقراطية عمَلَه؛ متمثِّلةً في الحاجة إلى الحصول على الموافَقة، وتوفير سكن جديد ملائم، والتعامل مع النشطاء السياسيين الذين يزعمون أنَّهم يُمَثِّلون الناس.

كان جاجموهان عضوًا مهمًّا في زُمرةٍ نشأت حول سانجاي غاندي، تضمَّنَتْ أيضًا نافين تشاولا، سكرتير حاكم دلهي، والمسئول الشرطي الكبير بدلهي بي إس بايندر. وكان من النساء اللائي عملن مع سانجاي رئيسةُ جناح الشباب بحزب المؤتمر، أمبيكا سوني، وسيدةُ المجتمع المشتغلة بالخدمة الاجتماعية رُكسانا سلطانة، التي اعْتُبِرَت ممثلته غير الرسمية لدى قاطني العشوائيات؛ ففي كل صباح، كانت تلك الزمرة تجتمع في مكتب سانجاي، لتلقِّي الأوامر وتقديم التقارير. وتضمَّن الحضور أيضًا كاتب الاختزال الخاص برئيسة الوزراء، آر كيه دهاوان، الذي مَثَّلَ حلقةَ الوصل بين هذه الزمرة وبين أعمال حكومة الهند. وسبق هؤلاء جميعًا دهيرندرا براهماتشاري، الكاهن الهندوسي الطويل الشعر الذي دخل بيت آل غاندي في البداية لتدريب إنديرا على اليوجا، ثم مكث ليصبح من المقرَّبين لابنها؛ فعلى الرغم من أن لباسه والتدريب الذي حصل عليه كانا لرجلِ دينٍ هندوسي، كان براهماتشاري متطور الفكر بما يكفي لامتلاك مصنع أسلحة في كشمير وإدارته.

أصبحت أسماء أعضاء تلك الزمرة معروفةً في المدينة، وصنائعهم تُناقَش همسًا؛ فقيل إن أضمن طريق لعمل الحكومة في صالحك هو أن تتحدَّث إلى أحدهم (وترضيه)؛ فرجال الأعمال الساعون إلى الحصول على تراخيص أو إعفاءات ضريبية كانوا يهرعون إليهم، وكذلك كان يفعل أعضاءُ البرلمان الآمِلون في تعيينات وزارية. وعُقِدت المقارنات بين «العصابة البنجابية» الطائشة المحيطة بسانجاي، وبين جماعة الضغط الكشميرية الراقية المحيطة بوالدته، التي كانت قويةً يومًا ما. إلا أن الاختلافات بينهما لم تكن متعلِّقة بالأسلوب بقدر ما كانت متعلِّقة بالمقصد؛ ففي حين كان الكشميريون «مخلصين» للأيديولوجية الاشتراكية المشتركة بينهم بقدر إخلاصهم لزعيمتهم، كانت عصبة سانجاي مخلصةً له هو فحسب.57
تمثَّل استثناءُ هذه القاعدة العامة في جاجموهان؛ فقد حدَّد بالفعل ترتيبَ الأوضاع في دلهي باعتباره رسالتَه في الحياة، وسُرَّ بدعم ابن رئيسة الوزراء لتلك الرسالة؛ فالدعم الصادر عن سانجاي، بالإضافة إلى الغطاء الذي وَفَّرَتْه حالةُ الطوارئ، مَنَحَا مشروعيةً لتفضيل جامجموهان أساليبَ الإجبار على الإقناع؛ فاستطاعت الجرَّافات دخولَ العشوائيات، بعيدًا حتى عن أعين الصحافة الساهرة؛ ففي السنوات الخمس عشرة السابقة على الطوارئ، تمكَّنَتْ هيئةُ تنمية دلهي من نقل ٦٠ ألف أسرة فقط، وفي الشهور الخمسة عشر التالية عليها، زاد ذلك الرقم إلى أكثر من الضِّعْف.58

رَكَّزَت عمليات جاجموهان على المدينة القديمة، التي كانت فيها الصروح والمساجد المغولية جنبًا إلى جنب مع مساكن رطبة في شوارع مظلمة؛ ففي صبيحة يوم ١٣ أبريل ١٩٧٦، دخلت جرَّافةٌ منطقةَ بوابة التركمان، خلف طريق آصف علي، الذي يفصل بين دلهي القديمة والجديدة، وفي غضون يومين أزالَتْ منطقةً عشوائية حديثةَ النشأة سكنتها أربعون أسرة. ثم انتقلت بعد ذلك إلى مجموعة من المساكن البوكا (تلك المصنوعة من مواد بناء قوية) غير المحددة القِدَم؛ فاتصل قاطنوها بنائبتَهم في البرلمان، التي كانت عضوًا في حزب المؤتمر ومُقَرَّبةً إلى السيدة غاندي، تُدعَى سوبهادرا جوشي. واتصلت السيدة جوشي بدورها بمسئولي هيئة تنمية دلهي، وبلغت المناشدة جاجموهان نفسه.

عَطَّلَتِ المفاوضاتُ العملَ مؤقتًا، ولكنها اسْتُؤْنِفَت بعد يومين؛ فشُغِّلَت ثلاث جرافات، عملًا بأوامر جاجموهان، حسبما قال السائقون. وبعدما هُدِمَ أكثر من ١٠٠ منزل، جلست مجموعة من النساء والأطفال، بعدما بلغ منهم اليأس مبلغه، على قارعة الطريق مُتَحَدِّين الجرافات أن تَدْهَسَهم. وعندما رفضوا التحرُّكَ، اسْتَدْعَتْ هيئةُ تنمية دلهي الشرطةَ؛ فبدأت المتاجرُ القريبة تغلق أبوابها تعاطفًا مع المحتجين.

حاولت الشرطة استخدامَ العِصِيِّ لزحزحة المعتصمين، وعندما فشلت جرَّبَتِ الغازَ المسيل للدموع؛ فجاء الرد في صورة أحجار. تصاعدت وتيرة القتال، وانتشر في الحارات الضيقة، وتزايدت أعداد الجموع الغاضبة، وتقدَّمت الشرطة من استخدام الغاز المسيل للدموع إلى استخدام الرصاص. واستغرقت إعادةُ النظام الجزءَ الأكبر من اليوم. تراوحت تقديرات عدد القتلى في تلك الاشتباكات بين عشرة قتلى و٢٠٠ قتيل، وفُرِضَ حظر التجوال في المدينة القديمة، ولم يُرْفَع إلا بعد مرور شهر كامل.59
كانت مقرات الصحف الهندية الكبرى تقع في طريق بهادور شاه ظفر مرج، على بُعْد أقل من ميل من بوابة التركمان، إلا أنَّ أيًّا من تلك الصحف لم تستطع الكتابةَ عن الحادث في ظل حالة الطوارئ. إلا أنَّ الحركات السرية التقطَتْه وأبرزَتْه؛ فبلغت الأنباء الشيخ عبد الله، الذي شعر «بعميق الأسى» إزاء حوادث إطلاق النار، وشكا إلى رئيسة الوزراء، التي وافقت على زيارته للمنطقة؛ فطاف الشيخ عبد الله أنحاء المدينة القديمة بصحبة عضو بارز في حزب المؤتمر، متحدِّثًا إلى الناس عن تجاربهم الأخيرة.60 وهناك عرف أنَّه إلى جانب ممانعة المحتجين الطبيعية لمبارحة منازلهم، فقد تَأَذَّوْا من إخضاعهم للنقطة الأولى ضمن نقاط سانجاي غاندي الخمسة، أَلَا وهي تنظيم الأسرة؛ ففي يونيو ١٩٧٦، أفادت الصحيفة السرية «ساتيا سماتشار» بأنَّ الشيخ أخبر مجموعة من نوَّاب حزب المؤتمر البرلمانيين أنَّ: «المشكلةَ كلها بدأت عندما جُرَّ الشباب والشيوخ وحتى المعاقون إلى معسكرات التعقيم. لا أحدَ يعترض على السياسات الاقتصادية لرئيسة الوزراء، ولكن أسلوب تنفيذها سيُؤَدِّي إلى انفجارٍ بالتأكيد».61

٩

إحقاقًا للحق، لم يكن سانجاي غاندي وحده القَلِق بشأن تعداد الهند الكبير والمتنامي؛ فشبح مالتوس طالما طارد الهند، كما اتضح بالفعل على صفحات هذا الكتاب؛ فقد كان الصحفيون الغربيون يخشون المجاعةَ الواسعة النطاق، وفَقَدَ البيولوجيون الغربيون الأملَ في الهند برمتها، وكثيرٌ من الهنود أيضًا كانوا متخوفين من أنَّ تزايدَ عدد السكان من شأنه أن يدمر الإنجازات الأخرى لدولتهم؛ ففيما بين عام ١٨٥٧ وعام ١٩٤٧ لم يرتفع معدل الناتج الوطني الإجمالي، بل إنه انخفَضَ في بعض الفترات. أما بعد الاستقلال، فقد نما بمعدل ٣٪ سنويًّا، إلا أنَّه مع الزيادة الكبيرة في أعداد البشر، زاد الدخل الفردي بمعدل ١٪ فحسب سنويًّا.

ترجع النقاشات بشأن تعداد الهند إلى الأيام الأولى للاستقلال؛ فقد أنشأ العاملون بالخدمة الاجتماعية جمعيةَ تنظيم الأسرة الهندية عام ١٩٤٩، وتحدَّثت لجنة التخطيط منذ نشأتها في ١٩٥٠-١٩٥١ عن أهمية تنظيم الأسرة، إلا أن الثقافة والاقتصاد جاءَا في صالح الأُسَر الكبيرة؛ فالتحيزات التي صبغت عملية تطوير التعليم كانت تعني أنَّ قيمة الفتيات الإنجابية ظلَّتْ أعلى من قيمتهن الكَسبيَّة؛ فاستمرارُ الاعتماد على الزراعة قد زاد من أهمية الأطفال. وكذلك حَضَّ رجالُ الدين رعاياهم من الهنود المسلمين والكاثوليكيين على الامتناع عن تنظيم الأسرة، وإضافةً لذلك أبدى الأزواج الهندوس تفضيلًا عظيمًا للبنين على البنات، بحيث كانوا يستمرون في محاولة الإنجاب حتى يُرْزَقوا بصبي.

في عام ١٩٠١، كان تعداد الهند يبلغ ٢٤٠ مليونًا، وبحلول عام ١٩٧١ وصل ذلك العدد إلى قرابة ٥٥٠ مليونًا. خلال تلك الفترة، حدث انخفاض طفيف في معدل المواليد، نزولًا من خمسين مولودًا لكل ألف هندي إلى نحو أربعين. إلا أنَّ انخفاض معدل الوفيات كان أكبرَ بكثير، نزولًا من اثنين وأربعين لكل ألف في مطلع القرن إلى خمسة عشر لكل ألف بحلول سبعينيات القرن العشرين؛ فقد أتاح تطوُّرُ الرعاية الطبية وتحسن نوعية الأطعمة عمرًا أطول للهنود كافة، بما في ذلك الأطفال الرُّضَّع الذين كانوا مُعرَّضين فيما مضى لخطر الوفاة المبكرة. وبما إنَّ معدل المواليد ومتوسط حجم الأُسَر لم ينخفضا بمعدل مماثل، فقد ظلَّ تعداد السكان ينمو باطِّراد.62
من الصعب أن نحدد على وجه الدقة متى بدأ اهتمام سانجاي غاندي نفسِه بعملية تنظيم الأسرة؛ فالحوار الذي أجراه مع مجلة «سِرج» في أغسطس ١٩٧٥ لم يأتِ على ذِكْر تلك المسألة مطلقًا. إلا أنَّه بعد مرور عام، ذكرت مجلة «ذي إلاستريتد ويكلي أوف إنديا» أنَّ «سانجاي أعطى دَفعةً كبيرة لبرنامج تنظيم الأسرة في جميع أنحاء البلاد». وزعم أنَّ برنامجه إذا طُبِّقَ «سيُحَلُّ ٥٠٪ من مشكلاتنا». وأعرب عن تأييده للتعقيم القسري، الذي ينبغي توفير مرافق له «حتى مستوى القرية».63
عن نقاط سانجاي غاندي الخمس، كتب مدوِّنُ سيرته أنَّ النقاط الأربع الأخرى كانت رتيبة وغير باهرة، «لا يمكن اعتبارها مادة لبناء مؤهلات القيادة الكاريزمية بالتأكيد». ولكن «تنظيم الأسرة كان … مشروعًا جبَّارًا، أقرَّ الجميع بأنَّ تنفيذه يحمل أهميةً حيوية، إنْ كان للأمة أمل في البقاء، فضلًا عن الازدهار». ومن ثَمَّ «أصبح تنظيمُ الأسرة الركيزةَ الأساسية لأنشطة سانجاي غاندي خلال فترة الطوارئ».64
خلال الجولات التي قام بها سانجاي غاندي في أنحاء الهند، شجَّع المنافسةَ بين ولايات الاتحاد الهندي في مجال تنظيم الأسرة؛ فكان يخبر رئيس وزراء إحدى الولايات بما ادَّعى آخَر أنه حقَّقه — «٦٠ ألف عملية تعقيم في غضون أسبوعين» — ويشجِّعه على التفوق عليه. وكانت هذه الأهداف تُعلَن لمسئولي المناطق، الذين كانوا يُكافَئون إذا حقَّقوها أو تجاوزوها، ويُنقَلون إذا فشلوا؛ فأسفرت تلك العملية عن انتشار ممارسة التعقيم القسري؛ فكان على الموظفين الحكوميين من الدرجات الدنيا تسليم أنفسهم لمبضع الجرَّاح حتى يُفرَج لهم عن مستحقاتهم المتأخرة، ولم تكن رخصة سائقي الشاحنات تُجَدَّد ما لم يُقَدِّموا شهادةَ تعقيم، ولم يُمْنَح قاطنو العشوائيات قطعةَ أرض لإعادة توطينهم فيها ما لم يُقَدِّموا شهادةً مماثلة.65
ضربت الدولة على المدن بيد من حديد، ولم يُفْلِت أهل القرى كذلك من بطشها؛ فقد أفاد عالم أنثروبولوجيا، قام ببعض العمل الميداني في منطقة سَتارا بولاية مهاراشترا، بأنَّ أثر الطوارئ كان محدودًا في السنة الأولى بعد فرضها؛ فقد شُيِّدَت بضعة منازل للمُعدمين بموجب برنامج العشرين نقطة، ورُسِمَت بعض الشعارات المُنَدِّدة بالدكتاتورية. ثم إنه في سبتمبر ١٩٧٦ — بُعَيْدَ زيارة سانجاي غاندي للولاية — بدأت حملة للتعقيم القسري في القرى؛ فأَعَدَّ المسئولون المحليون قوائمَ بأسماء «الرجال المؤهلين»، الذين أنجبوا بالفعل ثلاثة أطفال أو أكثر؛ فكانت عربات الشرطة تأتي وتأخذهم إلى أقرب مركز صحي؛ فكان بعض الرجال يفرون إلى الجبال هربًا من الشرطة، أما الذين خضعوا لعملية قطع القناة المنوية فكانوا يخجلون من التحدُّث عن الأمر.66

كما في حالة هدم العشوائيات، كانت ثمة مقاومة؛ ففي سبتمبر ١٩٧٦، سجَّلت صحيفة سرية قيام «موجة احتجاجات» ضد تنظيم الأسرة في دلهي وأوتَّر براديش؛ فقد وقعت اشتباكات بين موظفي صحة وأصحاب متاجر رفضوا الخضوع للتعقيم. وسُجِّلَ ظهور مقاومة في مدن كثيرة بأوتَّر براديش؛ سلطان بور وكانبور وباريلِّي، وساد سخط هائل فيما بين معلمي المدارس، الذين طُلِبَ منهم إجراء عمليات مسح للمنازل كافة تماشيًا مع حملة التعقيم، وقُبِضَ على ١٥٠ معلمًا لتحدِّيهم الأوامر.

حدثت أسوأ واقعة — بوابة التركمان في تنظيم الأسرة، إن جاز التعبير — في مدينة مُظَفَّر نجر، على بُعْد سبعين ميلًا شمال غرب دلهي. كان قاضي تلك المنطقة مشهورًا بتعصُّبه وطائفيته؛ فبناءً على أوامر منه، راح رجال الشرطة، الذين كانوا هندوسًا في معظمهم، يلاحقون الحرفيين والعُمال المسلمين باستمتاع واضح. وفي يوم ١٨ أكتوبر، نشبت مشاجرة بين الموظفين المشجِّعين للتعقيم وبين ضحاياهم المحتمَلين؛ فأطلقت الجماهير الغاضبة العنان لغضبها المكبوت، وأضرمت النار في العيادات الصحية وقذفت الزجاجات والحجارة؛ فاسْتُدْعِيَت الشرطة ولجأت بسرعة كبيرة إلى إطلاق النار؛ مما أسفر عن مقتل أكثر من خمسين شخصًا؛ فهُرِعَ وفد من نواب المعارضة في البرلمان إلى المدينة، ولكنهم مُنِعوا من التحدُّث إلى المقيمين. إلا أنَّ الأنباء سُرِّبَت إلى الصحافة الأجنبية، وأُجْبِرَت رئيسة الوزراء على الاعتراف في البرلمان بحدوث «واقعة» في مظفر نجر.67
كان من الضحايا العرضيين لحملة تنظيم الأسرة التي تبنَّاها سانجاي غاندي المطربُ كيشور كومار ذو الشعبية الهائلة؛ فقد قَبِلَ غيره من نجوم السينما والموسيقيين المشاركة في برنامج لجمع المال من أجل عملية التعقيم، ولكن كيشور رفض؛ ونتيجةً لذلك، حُظِرَت إذاعة أغانيه على محطة «فيفيد بهاراتي»، وهي المحطة التابعة لإذاعة «أول إنديا راديو» التي احتكرت إذاعة أغاني الأفلام، وصدرت تعليمات لمجلس الرقابة على الأفلام بإيقاف إصدار الأفلام التي شارك فيها كيشور بالتمثيل أو الغناء، وحَذَّرَ رجال سانجاي شركات التسجيلات أيضًا من بيع أغاني كيشور. كان ذلك إجراءً انتقاميًّا ضيِّق الأفق، متماشيًا مع روح الفترة.68

١٠

كان اختيار رئيسة الوزراء الاعتمادَ على سانجاي غاندي عوضًا عن بي إن هاكسَر ورفاقه، في وقت ذي أهمية سياسية حاسمة، تفكيرًا شاذًّا حتى أصدقاؤها المقرَّبون وجدوا صعوبةً في فهمه. قُدِّمَت نظريات متعددة لتفسير تصرُّفِها؛ منها أنها شعرت بالذنب لكونها أمًّا عاملة ووالدة وحيدة، أو أنها كانت مُتَوَجِّسة خِيفَة من أنْ تُغْتال ومن ثَمَّ لم تستطع الثقة بأحدٍ سوى أفراد عائلتها، أو أنَّ سانجاي كان يعرف أدقَّ أسرارها ومن ثَمَّ كانت له سيطرة عليها، أو أنها كانت ممتنةً للدعم الذي قدَّمه لها عند إعلان الطوارئ. قد تروق مثل هذه التكهنات لمدوِّني السِّيَر، ولكنها تكاد تكون عديمة الجدوى بالنسبة إلى المؤرِّخين؛ فالمهم ليس هو النية، وإنما العواقب؛ أيْ إن المهم ليس معرفة سبب اختيار السيدة غاندي الاعتماد على ابنها الأصغر بهذا القدر، وإنما معرفة تبعات ذلك الاختيار على الهند والهنود.

قد يتراءى لنا تقسيم سيرة السيدة غاندي السياسية إلى مرحلتين، حيث يُمَثِّل فرضُ الطوارئ والاعتماد على ابنها سانجاي الخطَّ الفاصل بين المرحلتين؛ فيمكن القول إنها قبل الاعتماد على سانجاي فازت بانتخابات، وأنشأت بنجلاديش، وأدخلت إصلاحات في حزب المؤتمر، وأجرت محاولات جريئة لإعادة تنظيم الاقتصاد، ثم إنَّها تحت التأثير الخبيث لسانجاي أدارت ظهرَها للأهداف الاجتماعية الكبرى، واستحوذت عليها فكرةُ الحفاظ على نفسها وأسرتها.69

إلا أنَّه عند النظر إلى سيرة رئيسة الوزراء في مجملها، يمكن القول إن سانجاي والطوارئ لم يُمَثِّلا تحوُّلًا جذريًّا عن الممارسات السابقة، وإنما مَثَّلَا تعميقًا لها؛ فمنذ وقت الانقسام الذي حدث داخل حزب المؤتمر، عملت السيدة غاندي على وضع أفراد موالين لها في مناصب السلطة، وعلى جعل المؤسسات العامة أداةً طوع إرادتها؛ فالمؤسسات من قبيل الحكومة ومؤسسة القضاء ومؤسسة الرئاسة وحزب المؤتمر، جُرِّفَت قبل فرض حالة الطوارئ بزمنٍ، ثم زاد ظهور سانجاي تلك العملية حِدَّةً — بدرجة كبيرة من وجهة نظر البعض — وكذلك زادها سوقيةً وفسادًا وعُنفًا، لكنَّ العملية نفسها سبقت دخولَ سانجاي ساحةَ السياسة الهندية.

بحلول شهر يونيو من عام ١٩٧٥، كانت السيدة غاندي تشغل منصب رئيسة وزراء الهند منذ فترة تقلُّ قليلًا عن عشرة أعوام، وعندما يقارن المرء بين الوقت الذي قضته في ذلك المنصب وبين الوقت الذي قضاه والدها، يُصدَم بتناقُضٍ صارخ؛ فمحاولاتُ نهرو المخلصة على الرغم من تعثُّرها لتشجيع روح الديمقراطية في ظل مجتمع هرمي، أُبطِلَت على يد ابنته نفسها، وبأساليب حاسمة ودرامية؛ فباستثناء قرار إقالة الحكومة الشيوعية في كيرالا، الذي جانَبَ نهرو الصواب فيه تمامًا، كان نهرو يأخذ فكرة المعارضة على محمل الجد. ولكن السيدة غاندي لم تُبدِ احترامًا يُذكَر للأحزاب السياسية الأخرى، وكانت أقل انتظامًا من والدها في حضور جلسات البرلمان، وفي حالة حضورها كان حديثها أقل منه بكثير. وقد أقام نهرو صداقات ثابتة مع سياسيين من أحزاب أخرى، وهو الشيء الذي كاد يكون من المستحيل تصوُّره في حالة السيدة غاندي. وكان ثمة تناقُض أيضًا في أسلوب معاملة كلٍّ منهما لحزبهما نفسه؛ ففي عهد نهرو كان حزب المؤتمر تنظيمًا لامركزيًّا وديمقراطيًّا إلى حدٍّ بعيد؛ فحتى إنْ رغب نهرو، لم يكن في مقدوره فرض رئيس وزراء في إحدى الولايات رغمًا عن إرادة سياسيِّيها.

ويتعزز التناقض عند النظر إلى الجوانب الأخرى غير السياسية للحياة الديمقراطية في الهند؛ فقد كان نهرو يحترم حريةَ الصحافة، وأتاح لها الازدهار. وكان يحترم استقلاليةَ الجهازين البيروقراطي والقضائي؛ فلا توجد حالاتٌ معروفةٌ تَدَخَّلَ فيها لصالح مسئولٍ بعينه أو ضده.

إلا أن السيدة غاندي، منذ حدوث الانقسام في حزب المؤتمر عام ١٩٦٩ على الأقل، بدأت تنحرف عن مسار التقاليد السياسية لرئيس الوزراء المُؤَسِّس للهند. ازدادت الانحرافات وضوحًا مع مرور الأعوام، ولكنها لم تتجلَّ تمامًا إلا مع فرض حالة الطوارئ، والقمع الذي تلاها. لم يكن باستطاعة السياسيين المعارضين، لأسبابهم الحزبية الخاصة، إبراز التناقض بين رئيسَي الوزراء الأول والثالث للهند؛ فنظرًا لأنهم عارضوا نهرو من قبلُ، ونظرًا لأن حزب المؤتمر أصبح يعمل تحت قيادة ابنته، لم يكن في إمكانهم الإشادة بأحدهما والتقليل من الآخَر.

لكنَّ الكُتَّاب الغربيين لم يعانوا مثل تلك القيود، وأصبح بمقدور من عرفوا الزعيمين أن يَرَوْا بوضوحٍ كيف انحرفَتْ إنديرا غاندي عن المسار الذي رسمه جواهر لال نهرو؛ فبعد عام على بدء الطوارئ، جعل صديقان بريطانيان لنهرو ذلك التناقُضَ محورَ انتقاداتهما للنظام؛ فقد كتب فينر بروكواي في صحيفة «ذا تايمز» مُنَدِّدًا بتحوُّل «أعظم ديمقراطية في العالم» إلى «دكتاتورية قمعية». ولما كان بروكواي نفسه «ابن الهند»، فقد ناشَدَ السيدة غاندي «إكرامًا لذكرى مبادئ والدها الجليل، أن تُنهِي هذا الحرمان من الحرية والتحرُّر».70 وكتب جون جريج في مجلة «ذا سبكتايتور» مذكِّرًا بالتزام نهرو بحرية الانتخابات والصحافة؛ فقد كان أولُ رئيس وزراء للهند «رجلًا وطنيًّا بحق لأنه كان ديمقراطيًّا بحق … وقد ارتكب أخطاءً كثيرة خلال الفترة الطويلة التي قضاها في منصبه، ولكنه لم يَخُنْ ثقةَ الشعب الهندي قطُّ فيما يتعلَّق بالقضية التحرُّرية المحورية». ثم استدرك جريج بحزن مشيرًا إلى أنَّه في الوقت الحالي، «يبدو أنَّ موعد نهرو مع القَدَر تحوَّل إلى موعد مع الاستبداد، على يد ابنته نفسها». فالسيدة غاندي «كان حَرِيًّا بها أن تكون أكثر الناس اعتدادًا بالتمسُّك بتجربة الهند الديمقراطية، التي أثبتَتْ للعالم أجمع أنَّه ليس من الضروري أن يكون الناس أثرياء أو متعلمين حتى ينعموا بالحريات المدنية». إلا أنَّها بأفعالها «أكَّدت بدناءةٍ» رؤيةَ «الإمبرياليين الرجعيين» القائلة بأنَّ «الأساليب المتسلِّطة هي وحدها التي يمكن أن تصلح لبلد مثل الهند». وطلب جريج إلى رئيسة الوزرء أنْ تحرِّر نفسها من تأثير ابنها، وتعود إلى قِيَم جيل والدها، بل إنَّه رجاها «أيًّا كانت التكاليف من حيث السلطة و«ماء الوجه» ومشاعر الأمومة المُحِبَّة أن تعيد الحريات التي أخذتها». وكتب أنَّ ذلك «سيكون أصعبَ عملٍ قامت به في حياتها المهنية، لكنه سيكون الأشجع والأفضل أيضًا».71
كتب أصدقاء بريطانيون آخَرون إلى السيدة غاندي بصفة شخصية، يحثُّونها على إنهاء حالة الطوارئ. كان أحدهم هوراس ألكسندر عضو جماعة الكويكرز، الذي توسَّط ذات مرة بين المهاتما غاندي والراج البريطاني، وكان كذلك أول مَن أَطْلَعَ رئيسة الوزراء الحالية على مباهج مراقَبة الطيور في الريف الهندي.72 كذلك ورد في صحيفة «ذا تايمز» نقدٌ علني، غيرُ شخصيٍّ، في مقالات للصحفي برنارد ليفين، الذي يحظى باحترام واسع النطاق؛ ففي أكتوبر ١٩٧٦ كتب ليفين مقالين طويلين عن الاعتداءات الأخيرة على الديمقراطية في الهند؛ ففي حديثه عن تعليق حق المثول أمام القضاء، وعن القيود المفروضة على الصحافة، حَذَّرَ من أنَّ السيدة غاندي في سبيلها إلى تحويل بلدها إلى «دكتاتورية رديئة». وفي الأسبوع الأول من يناير ١٩٧٧، كتب مقالين آخَرين، انتقد فيهما التعديلات الدستورية التي أُقِرَّت بهدف تقويض مؤسستَيِ الرئاسة والقضاء؛ فتلك «الأحكام الاستبدادية» لم يكن «ثمة داعٍ لها بالمرة، إلا لشخص يرغب في الحصول على سلطة كاملة والقدرة على استخدامها دون رقابة». وقال ليفين إنَّ تلك التغيرات الأخيرة أكَّدت «تحوُّل الهند إلى نظام سلطوي تمامًا يعمل تحت إمرة حاكمته الدكتاتورة السيئة السمعة؛ السيدة إنديرا غاندي».73

في ١٨ يناير ١٩٧٧، أعلنتْ رئيسة الوزراء أنَّ البرلمان سوف يُحَلُّ وتُعْقَد انتخابات. جاء ذلك الخبر مفاجئًا لمعارضيها السياسيين، الذين أُخرِجوا من محبسهم لحظة بَثِّ الخبر على إذاعة «أول إنديا راديو». وبحسب الروايات كافة، كانت تلك صدمةً لابنها سانجاي، الذي لم يُخْطَر مُسبقًا هو الآخَر؛ فقد كان من الممكن مَدُّ فترة البرلمان القائم عامًا بعد عام. وقد رُوِّضَت المعارضة السرية. إلا أنَّ السيدة غاندي قررت، فجأةً ودون استشارة أحد، أن تعيد الهند إلى الديمقراطية.

سادت تكهُّنات كثيرة بشأن سبب تراجُع رئيسة الوزراء عن حكم الطوارئ؛ ففي مقاهي دلهي، أُشِيعَ أنَّ رئيس مخابراتها أكَّد لها أنَّ حزب المؤتمر سوف يُعاد انتخابه بأغلبية كبيرة، بينما شعر البعض أنَّ قرارها جاء وليد المزايدة التنافسية؛ فقد كان بوتو قد أعلن لتوِّه عقْدَ الانتخابات في بلده الاستبدادي عادةً، باكستان؛ فهل كان يمكن للسيدة غاندي تأخير الانتخابات في بلدها الاستبدادي، على غير العادة، الهند؟ وكتب سكرتيرها بعد حدوث تلك الواقعة بفترة طويلة، مقدِّمًا تفسيرًا ثالثًا؛ فقد أشار إلى أنَّ حالة الطوارئ قطعت قنوات اتصال السيدة غاندي بعامة الشعب، وهي القنوات التي كانت تُقَوِّيها سابقًا. وأضاف: «لقد راوَدَها الحنينُ إلى رد فعل الناس إزاءها في الحملة الانتخابية لعام ١٩٧١، وكانت تتوق إلى سماع تصفيق الجماهير مرة أخرى.»74
ربما ساهمت تلك العوامل مجتمعةً، وساهم أيضًا النقد الصادر عن المراقبين الغربيين ولا سيما الأصدقاء؛ فإلى جانب الأشخاص الذين استشهدنا بهم فعلًا، صدرت تنديدات حادة لحالة الطوارئ عن فيلي برانت ومنظمة الأممية الاشتراكية («يجب على الاشتراكيين جميعًا أن يتملَّكهم الآن إحساس جارف بالمأساة الشخصية لما يحدث في الهند»)، وعن مجلس الكنائس العالمي في جنيف («انتقاص خطير جدًّا لحقوق الإنسان»)، وعن التنظيم القائد للاتحادات العمالية الأمريكية؛ أَلَا وهو الاتحاد الأمريكي للعمل ومؤتمر المنظمات الصناعية («لقد أصبحت الهند دولة بوليسية تختنق فيها الديمقراطية»).75

ما الذي أقنع السيدة غاندي بإنهاء حالة الطوارئ في نهاية المطاف؟ لا يمكننا أن نعرف يقينًا، ولكن الحقيقة أنَّه يبدو أنَّها تأثَّرت بتعليقات أولئك المراقبين الغربيين الذين كان يستحيل تجاهُلهم باعتبارهم أعداءً للهند؛ ففينر بروكواي وجون جريج لم يكونا مثل ريتشارد نيكسون ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، ولا كانا من المتشكِّكين الذين استهزءوا بالهند أو أملوا أن تفشل ديمقراطيتها، وإنما كانا صديقين قديمين لحرية الهند؛ فأثناء حكم الراج البريطاني، ضغطا على بريطانيا كي ترحل، وبعد الاستقلال رَحَّبَا بإقامة نظام ديمقراطي. نحن لا نعلم ما إذا كانت السيدة غاندي قرأتْ مقالاتهما أو مقالات برنارد ليفين، ولكن الأرجح أنَّها قرأتها؛ فربما وضَعَ أحدُ موظفيها أنفسهم تلك الكتابات أمام ناظرَيْها دون تعليق، أو أحدُ المنتمين إلى الدائرة المقرَّبة إليها؛ إذ كان هو نفسه غير راضٍ عن الطوارئ. كانت مصادفة لافتة للنظر أنَّ الدعوة للانتخابات صدرت بعد سلسلة المقالات الثانية لليفين في صحيفة «ذا تايمز»، وهي فترة تكفي لكي تُرْسَل إلى الهند بالبريد الجوي، ويطَّلِع عليها أحد الموظفين في مكتبها، ويأخذ منها مقتطفات ليعرضها على رئيسة الوزراء.

قد لا نعرف يقينًا أبدًا، وأحد أسباب ذلك أنَّ أوراق السيدة غاندي لا تزال غير متاحة للاطِّلاع. إلا أنَّه من الملائم أن نُنْهِي هذا الفصل بجزئية توضح مدى تنافر النظام الدكتاتوري الذي فرضته رئيسة وزراء الهند الثالثة مع الميراث الديمقراطي لوالدها، رئيس وزراء الهند الأول؛ فقد زار الهندَ إبَّان فترة الطوارئ الصحفي إيه إم روزنثول من صحيفة «نيويورك تايمز» — الذي كان مراسلها في الهند في وقتٍ ما — وخلص إلى أنَّه لو كان جواهر لال نهرو حيًّا في ظل حكم إنديرا غاندي، لكان الاثنان خصمين سياسيين، لا حليفين. وعَبَّرَ صديق هندي لروزنثول عن ذلك السيناريو المتصوَّر كالآتي: «إنديرا في منزل رئيس الوزراء، وجواهر لال عاد يكتب إليها الرسائل من السجن مجددًا.»76

كانت تلك إشارةً إلى سلسلة من الرسائل كتبها نهرو لإنديرا غاندي في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين، بينما كان في السجن البريطاني. قدَّمت تلك الرسائل لابنته البالغة من العمر ثلاثة عشر عامًا رؤيةً بانوراميةً لتاريخ العالَم. بدأت القصة التي رواها والدها بالإغريق وانتهت بكفاح الهند من أجل الحرية، والتي تكشف عن مسيرة بني البشر التطوُّرية (المتقطِّعة في كثير من الأحيان) تجاه مزيد من الاختلاط الاجتماعي والحرية. ثم كشفت الرسائل اللاحقة كيف أنَّ «الديمقراطية، التي مثَّلت طوال ما يربو على القرن مثلًا أعلى ومصدرَ إلهام لأُناس بلا حصر، والتي يُحصى شهداؤها بالآلاف»، الآن «أصابها التراجع في كل مكان». واختُتِمت الرسالة الأخيرة، التي أرسلها لإنديرا يوم ٩ أغسطس ١٩٣٣ — بعد الرسالة الأولى بثلاثة أعوام — بأنشودة الحرية المحرِّكة للمشاعر، والتي تحويها قصيدةُ رابندرانات العظيمة «قربان الأغاني».

عندما نُشِرَت الرسائل في هيئة كتاب، نفدت نسخ الكتاب بسرعة، وبعد فترة، أقنع الناشر مؤلفها نهرو بإصدار طبعة موسعة؛ فأشار في ملحق أعدَّه خاصة، بتاريخ ١٤ نوفمبر ١٩٣٨، إلى التطورات السياسية الكبرى التي حدثت في الجزء الأخير من ذلك العقد؛ فكتب نهرو لإنديرا يقول: «إنَّ نموَّ الفاشية خلال الأعوام الخمسة الأخيرة وهجومَها على كل مبدأ ديمقراطي وتصوُّر للحرية والحضارة، جعلا الدفاع عن الحرية مسألةً حيوية في يومنا هذا.» فممَّا يُؤسَف له أنَّ «الديمقراطية والحرية مُعَرَّضتان لخطر محدق اليوم، والخطر أصبح أعظم لأنَّ أصدقاءهما المزعومين يطعنانهما في الظهر».77

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤