الفصل الثامن والعشرون

الحكام والحقوق

إليكم المُبَرمِج [الأمريكي] الحانق … إنه الرجل — نعم، يكون رجلًا في المعتاد — الذي يُنشِئ مواقع إلكترونية من قبيل yourjobisgoingtoindia.com وnojobsforindia.com. إنه الرجل الذي يحكي قصصًا — كثير منها حقيقي، وبعضها من قبيل الأساطير الحضرية — عن المُبَرمِجين الأمريكيين الذين يُجْبَرون على تدريب الهنود الذين سيحلُّون محلهم.
مقتطف من مقالة في مجلة «وايِرد»، فبراير ٢٠٠٤

١

في أوائل عام ١٩٩٨، سحب حزب المؤتمر دعمه لحكومة الجبهة المتحدة. وعندما جرت الدعوة للانتخابات، حسَّن حزب بهاراتيا جاناتا وضعه أكثر؛ إذ حصل على ١٨٢ مقعدًا، أي ٤١ مقعدًا أكثر من حزب المؤتمر. وفي هذه المرة، منحه دعم الأحزاب الصغرى والمستقلين الأعداد الكافية لحكم البلاد. وكان من ضمن حلفائه أحزابٌ إقليمية من البنجاب وتاميل نادو ومهاراشترا وهاريانا وغرب البنغال وأندرا براديش وأوريسا، إلى جانب جزء من حزب جاناتا دال القديم، يقوده الاشتراكي الذي كان فائر الحماس؛ جورج فرنانديس.

تلك الشراكة الجماعية كانت تعرف باسم «التحالف الديمقراطي الوطني». وقدم الحزب الأساسي، بهاراتيا جاناتا، رئيس الوزراء، أتَل بِهاري فَجبايي، مع الاحتفاظ بحقائب الداخلية والمالية والشئون الخارجية. لكن جورج فرنانديس عُين وزيرًا للداخلية؛ كما كان المنسق المعين للتحالف، وهي خطوةٌ مهمة، نظرًا لأن فرنانديس كان مسيحيًّا. أراد الحزب بهذا أن يشير إلى أنه بغض النظر عن الخطاب الذي استخدمه مؤخرًا في الحملة الانتخابية، فإنه بمجرد أن يصبح في السلطة، سيسعى لتحسين صورته «الهندوتفية» المتشددة.

أقبل حزب بهاراتيا جاناتا على سياسة الائتلافات استنادًا إلى اعتقاد سليم بأنَّه لا يمكنه أن يصل إلى السلطة بمفرده أبدًا. ولما كانت جذوره راسخةً في شمال الهند، كان توسُّعه يعتمد بشدة على إقامة تحالفات مع أحزاب أخرى، كلٌّ منها قائم في ولاية بعينها. باستثناء حزب شيف سِنا في مهاراشترا، لم يكن أيٌّ من تلك الأحزاب منتميًا إلى أيديولوجية الهندوتفا («الهندوس أولًا»)؛ ومن ثم كان على حزب بهاراتيا جاناتا عند تشكيله تلك التحالفات أنْ يَعِد بتنحية القضايا المثيرة للخلاف جانبًا، مثل قضية معبد الإله رام في أيوديا وقضية إلغاء المادة ٣٧٠ (التي منحت ولاية جامو وكشمير وضعًا خاصًّا).1

٢

خلال التسعينيات، أصبحت السياسة الهندية أكثر تعقيدًا على المستوى الداخلي، مع تزايد المنافسة بين الأحزاب وإدخال مستوًى ثالث من الحكم. إلا أنَّه فيما يتعلق بتعامل الهند مع بقية العالم، كان ثمة تلاقٍ ملحوظ في الرؤى؛ فحكومة الاتحاد — سواء كانت تحت قيادة حزب بهاراتيا جاناتا أم حزب المؤتمر أم الجبهات الثالثة المختلفة — أبدت التزامًا تجاه تعزيز القدرات العسكرية للبلاد، وتبني سياسة خارجية أكثر حزمًا بصفة عامة.2
تبدَّى أحد مظاهر هذه الاستراتيجية الجديدة في نمو حجم الجيش وقوته، فقد أخذت الهند تتحوَّل بسرعة «من دفاع معتمد على الدبلوماسية إلى دبلوماسية يعززها دفاع قوي».3 وحدثت زيادة مطَّرِدة في الإنفاق العسكري على مدار العَقد، مما يعادل ٧ إلى ١٢ مليار دولار أمريكي بين عامي ١٩٩١ و١٩٩٩. أُنْفِقَ بعض هذا المال على الرواتب؛ فقد أصبحت المؤسسة العسكرية الهندية تضم أكثر من مليون فرد — يعملون إما في الجيش أو القوات البحرية أو الجوية — ومليون آخر في مختلف الوظائف شبه العسكرية.
خُصِّصَ قدر من هذا الإنفاق أيضًا لشراء الأسلحة المتطورة، وخُصِّصَ قدر آخر للتصنيع المحلي لمعدات الحرب التي تمتنع البلدان الغربية الأكثر ثراءً عن بيعها للهند، فإضافةً إلى صاروخَي آجني وبريتفي اللذين طورتهما الهند في الثمانينيات، أصبح لديها الآن صاروخ باليستي عابر للقارات يُدعى سورا (الذي يبلغ مداه ١٢ ألف كيلومتر)، وصاروخ آخر يُدْعَى ساجاريكا يمكن إطلاقه من متن السفن. وقد ابتكر العلماء الهنود أيضًا خيارات دفاعية متنوعة؛ إذ صمَّموا صواريخ بمدًى أقصر تُستَهدَف بها أي صواريخ قد يطلقها العدو.4

كانت هذه الصواريخ من تصميم منظمة البحث والتطوير الدفاعي، إحدى المؤسستين العلميتين اللتين تتصدران قطاع الدفاع. أما بالنسبة للمؤسسة الأخرى، فهي هيئة الطاقة الذرية، التي تولَّت مسئولية إنتاج الطاقة النووية والأسلحة النووية. وقد أُجْرِيَ اختبار لقنبلة ذرية عام ١٩٧٤، وفي الأعوام التالية تمكَّن علماء هيئة الطاقة الذرية من زيادة تطورها وقدرتها التدميرية بدرجة كبيرة. فمنذ مطلع التسعينيات أخذوا يضغطون على الحكومة لكي تسمح لهم باختبار قنابلهم المُطورة.

تتبع جورج بركوفيتش في تأريخه للبرنامج النووي الهندي الجهود المتواصلة لهؤلاء العلماء. أخبر قادة البرنامجين الصاروخي والنووي رؤساء وزراء متعاقبين أنَّه في غياب نتائج ملموسة، سوف يفضِّل العلماء الشباب الموهوبون العمل في وظائف ذات رواتب مرتفعة في القطاع التجاري على خدمة الدولة. وقالوا إنَّه «دون إجراء اختبارات واسعة النطاق، ستنخفض الروح المعنوية ولن تجد الدولة من يحلون محل المجموعة الشائخة التي أنتجت القنبلة الأولى عام ١٩٧٤». وفي أواخر عام ١٩٩٥ وافق رئيس الوزراء ناراسيمها راو على إجراء الاختبارات، لكنه تراجع عندما كشفت الأقمار الصناعية الأمريكية عمليات التحضير، مثيرةً تحذيرًا شديد اللهجة من حكومة الولايات المتحدة الأمريكية. وعندما جاءت حكومة الجبهة المتحدة إلى السلطة عام ١٩٩٦، ألَحَّ العلماء على رئيس الوزراء الجديد — إتش دي ديفي جودا — لكي يعطيهم الضوء الأخضر؛ فأبدى جودا ممانعةً، قائلًا إنَّه لا يعبأ برأي الأمريكيين، ولكن كل ما في الأمر أنَّ الأولوية لديه هي التنمية الاقتصادية، لا استعراض القوة العسكرية.5
أمسك التحالف الديمقراطي الوطني — بقيادة حزب بهاراتيا جاناتا — بزمام السلطة في مارس ١٩٩٨. وفي الشهر التالي اختبرت باكستان صاروخًا متوسط المدى، يحمل اسمًا استفزازيًّا هو «غوري»، على اسم سلطان مسلم من العصور الوسطى غزا معظم أنحاء شمال الهند وألحق بها الدمار (حسبما يُشاع). فكان من المحتَّم أن ترد الهند بسرعة، لو لم يكن لشيء فلأنَّ «صلابة حزب بهاراتيا جاناتا التاريخية فيما يتعلق بمسألة الأمن القومي كانت ستبدو جوفاء إنْ لم تأتِ الحكومة باستجابة حاسمة للخطر الباكستاني الجديد».6 أصرَّ رئيس منظمة البحث والتطوير الدفاعي ورئيس هيئة الطاقة الذرية على أنَّ إجراء اختبار نووي سيكون أكثر استجابة مناسبة، وأيَّدهما في دعواتهما عالِم الفيزياء الذرية راجا رامانَّا، الذي كان يحظى بمكانة كبيرة لكونه «العقل المدبر» لاختبارات عام ١٩٧٤. التقى رامانَّا رئيس الوزراء فجبايي، الذي أكَّد لرامانَّا أنه يريد «رؤية الهند بلدًا قويًّا لا بلدًا ضعيفًا». وأضاف عالِم الفيزياء لذلك: «كما أنَّك لا يمكنك أن تُبقِي العلماء في حالة غيبوبة أربعًا وعشرين سنة؛ فسوف يختفون بكل بساطة.»7

في الأسبوع الثاني من مايو ١٩٩٨، أجرى الهنود خمسة تجارب نووية في صحراء راجستان. واخْتُبِرَت ثلاثة أنواع من القنابل: قنبلة انشطارية عادية، وقنبلة نووية حرارية، وقنبلة بقوة «أقل من كيلو طن». وقبل وبعد الاختبارات، أدلى مسئولون كبار في حكومة التحالف الديمقراطي الوطني بتصريحات استفزازية موجَّهة إلى جيران الهند. وصف وزير الدفاع، جورج فرنانديس، الصين بأنَّها «التهديد رقم واحد» للهند، وقال وزير الداخلية، إل كيه أدفاني، إنَّ الهند على استعداد لأن تلاحق عبر الحدود أي إرهابيين قد ترسلهم باكستان لإثارة المتاعب في كشمير.

أشارت استطلاعات الرأي التي أُجْرِيَت بعد الاختبارات مباشرةً إلى أنَّ أغلبية سكان الحضر يؤيدونها. إلا أنَّ الإشادة الأكثر حماسًا جاءت من جانب المنظمتين الشقيقتين لحزب بهاراتيا جاناتا: المجلس الهندوسي العالمي ومنظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج. فقد أعلنتا أنَّهما ستبنيان معبدًا عند موقع الاختبارات النووية، وتطوفان الرمال — «المقدسة» بالنسبة إليهما رغم تلوُّثها بالإشعاع — في أنحاء الهند لتبجيلها. وحَيَّا بال تاكري زعيم حزب شيف سِنا العلماء لإثباتهم أن الرجال الهندوس «ليسوا أشباه رجال». والعلماء أنفسهم وقفوا بالزي العسكري في زهو أمام عدسات كاميرات المحطات الإخبارية.8
بعد أسبوعين انفجرت فقاعة الكبرياء الوطني تلك؛ ففي ٢٨ مايو، أجرت باكستان اختبارات نووية هي الأخرى. كان برنامجها النووي قائمًا على تصميمات وخامات سرقها العالِم إيه كيو خان من معمل هولندي، إضافةً إلى مساعدات فنية من الصين. أما القنبلة الهندية فكانت محلية الصنع بالكامل. إلا أنَّ تلك الفروقات فقدت معناها عندما هزَّت ستة انفجارات نووية (تعمَّدت باكستان زيادة الانفجارات واحدًا عن الهند) جبال تشاجاي في مقاطعة بلوشستان. استقبل الشعب الباكستاني الأنباء بالرقص والغناء في الشوارع. وقال «العقل المدبر» لهذه القنبلة — إيه كيو خان — للمحاورين إنَّ «قنابلنا أكثر اتِّساقًا وأصغر حجمًا وأكثر تطوُّرًا وموثوقية مما يمتلكه الهنود».9
وُصِفَ الإنجاز الباكستاني بأنه قنبلة «إسلامية»، وهو ما يُعزَى جزئيًّا إلى أنَّه في ذلك الوقت لم يكن لدى أي دولة إسلامية أخرى قنبلة من هذا النوع. وفي الهند أيضًا نزع مؤيدو الاختبارات النووية ومعارضوها على حدٍّ سواء إلى اعتبارها «هندوسية». لكن الحقيقة أنَّه على الرغم من أنَّ حزب بهاراتيا جاناتا كان هو الحزب الحاكم في مايو ١٩٩٨، فقد جرت الاستعدادات لتلك الاختبارات في عهد أنظمة متعاقبة لحزب المؤتمر، إلا أنَّ سياسة الغموض النووي — «لدينا القنبلة ولكننا لن نختبرها» — أصبح الاستمرار فيها أمرًا متزايد الصعوبة. ولَمَّا ضغط الغرب على الهند لتوقيع معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، قررت إعلان موقفها النووي.10
بطبيعة الحال حاول حزب بهاراتيا جاناتا استخلاص مكاسب سياسية من الاختبارات، إلا أنَّه في مواجهة توقيع معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، ومن ثمَّ التخلِّي عن أي طموحات نووية، كانت الأنظمة المنتمية إلى حزب المؤتمر ستتصرف على النحو ذاته. في الواقع، كان رؤساء الوزراء من حزب المؤتمر هم من طالبوا بإصرار شديد بمنح الهند مكانة «القوة العظمى»، وازدادت تلك المطالبة مثابرةً بعد انتهاء الحرب الباردة. فقد طالَب زعماء الهند بمنح بلادهم عضوية دائمة في مجلس الأمن بالأمم المتحدة مراعاةً لحجمها وتاريخها الديمقراطي وإمكاناتها الاقتصادية. وأدى تجاهل المطلب إلى زيادة مسألة الاختبارات النووية إلحاحًا. فعلى مستوى الأحزاب الكافة، رأى المفكرون الاستراتيجيون أنَّ الإعلان الصريح عن امتلاك سلاح نووي من شأنه أن يجذب انتباه القوى الغربية. فلما فشل المنطق والحجة، صار لزامًا على الهند أن تصل إلى انتباه العالم من طريق «مفروش بالقنابل».11

٣

البلدان الوحيدة المعتَرَف بامتلاكها قوةً نوويةً كانت هي الدول الخمسة دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وهي: الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين وفرنسا والمملكة المتحدة. وكان من المعروف أيضًا أنَّ إسرائيل تملك قنابل نووية. فعندما دخلت الهند وباكستان — في صيف ١٩٩٨ — ذلك النادي الحصري في وقت واحد، جعلا الأعضاء القدامى يتسرب إليهم القلق؛ فقد ساد خوف من أنْ يُفضِيَ النزاع حول كشمير إلى أول حرب نووية في التاريخ، ومُورِست ضغوط على البلدين حتى يُسَوِّيا خلافاتهما على طاولة المفاوضات.

في فبراير ١٩٩٩، سافر رئيس الوزراء الهندي مستخدمًا إحدى الحافلات إلى لاهور لمقابلة نظيره الباكستاني. تحدَّث أتَل بِهاري فَجبايي ونواز شريف عن زيادة التبادل التجاري بين البلدين، وتحرير تأشيرات الدخول فيما بينهما. ولم يُحْرَز تقدُّم بصدد كشمير، لكنَّ حقيقة أنَّ الطرفين بدآ يتحدثان بدت إشارةً مُطمئِنَةً للغاية في نظر سكان شبه القارة الهندية وكذلك في نظر الغرب.12
ما كادت ثلاثة أشهر تمر على القمة التي جمعت فَجبايي وشريف، حتى عادت العلاقات إلى التوتر مرة أخرى. كان سبب الاستفزاز هو تسلُّل مئات المسلحين إلى منطقة كارجيل في ولاية جامو وكشمير، بعضهم من أصل كشميري ولكن البعض الآخر كانوا مواطنين باكستانيين بلا شك. كانت العملية من تخطيط الجيش الباكستاني، ورئيس الوزراء المدني لم يُخطَر بها إلا بعدما أصبحت قيد التنفيذ بالفعل. كان الهدف من العملية هو احتلال قمم الجبال المُطِلَّة على الطريق السريع الرابط بين سريناجار وليه، وهو الطريق الوحيد الذي يصِل في جميع الأحوال المناخية بين هاتين البلدتين فائقتَيِ الأهمية. والظاهر أنَّ جنرالات الجيش الباكستاني اعتقدوا أنَّ دِرعهم النووي سيوفر لهم الحماية، ويمنع الهنود من التصدِّي للدُّخَلاء.13
كان أول من نبَّه الجيش الهندي للتسلل مجموعة من الرُّعاة؛ فبينما كانوا يتفحَّصون الجبال باستخدام المنظار المكبر، بحثًا عن ماعز برية للصيد، لمحوا رجالًا بالزِّي البشتوني يحفرون لأنفسهم خنادق. فأبلغوا أقرب كتيبة بالمعلومة، وسرعان ما وجد الجيش أنَّ الباكستانيين قد احتلوا مواقع عبر شريحة عريضة من قطاع كارجيل، من وادي مَشكوه في الغرب إلى تشوربَتلا في الشرق. صدر أمر بطردهم.14
رأى الرُّعاة الرجال البشتونيين يوم ٣ مايو ١٩٩٩، وبعد أسبوعين بدأ الهنود قصف مواقع العدو بالمدفعية. فهدرت الطائرات في السماء، بينما راح جنود المُشاة يتسلَّقون مرتفعات الجبال بصعوبة. وأصبح على رجال نَشَئُوا في مناخ استوائي أن يقاتلوا في أرض باردة وَعِرة. «في معركة حاسمة تلو الأخرى راحت كتائب المشاة الهندية تتسلَّق أجرافًا بزاوية شبه قائمة طوال الليل في درجات حرارة منخفضة إلى حد التجمُّد قبل أن يندفعوا إلى القتال ضد الدُّخلاء مباشرةً مع تباشير الصباح.»15
كانت الاشتباكات حامية وفادحة الخسائر، على الجانبين. فقد كان لا بد من استعادة السيطرة على عشرات القمم — وكلٌّ منها تحميه المدافع الآلية — واحدةً تلو الأخرى. تَمَثَّلَ أحد الانتصارات الكبرى في استعادة جبل تايجر هيل، في قطاع دراس. دارت رحى المعركة طول شهر يونيو، وبحلول نهاية الشهر، كان الباكستانيون قد أُخلوا من ١٥٠٠ كيلومتر مربع من الأراضي الهندية، وتضمنت المناطق التي اسْتُعِيدَت السيطرة عليها جميع نقاط المراقبة المُطِلَّة على الطريق السريع بين سريناجار وليه.16
في الأسبوع الأخير من يونيو، تلقَّى بيل كلينتون رئيس الولايات المتحدة الأمريكية مكالمةً هاتفيةً مفاجِئةً من رئيس وزراء باكستان. كان البلدان حليفين وثيقين، وفي تلك المرة طلب الشريك الأصغر المساعدة لإخراجه من ورطة أوقع نفسه فيها. كان أكثر من ألفي باكستاني قد راحوا ضحية النزاع بالفعل، وبدأ نواز شريف يبحث عن مخرَج يتيح له إنهاء أعمال القتال مع الحفاظ على ماء وجهه. حدد كلينتون موعدًا معه يوم ٤ يوليو، الذي يوافق عيد الاستقلال الأمريكي. وفي ذلك اللقاء، وعد شريف بسحب القوات الباكستانية إنْ ضغطت الولايات المتحدة الأمريكية على الهند من أجل حل نزاع كشمير. وافق كلينتون على إيلاء «اهتمام نشط» للمسألة، فعاد شريف مطمئنًّا إلى إسلام أباد وأصدر أمرًا رسميًّا بإنهاء العملية.17
لَقِيَ قرابة ٥٠٠ جندي هندي مصرعهم في نزاع كارجيل، الذين كانوا ينتمون إلى مختلف أنحاء الهند، وعندما أُعيدَت نعوشهم إلى ديارهم اختلط الحزن عليهم بجرعة كبيرة من الفخر. وقد وُضِعَت الجثامين في أماكن عامة — مدارس وكليات وحتى ملاعب رياضية — حيث يمكن للأصدقاء والأهل وغيرهم المجيء لتوديعهم إلى مثواهم الأخير. تَبِع ذلك مراسم دفن أو حرق عسكرية كاملة، حضرها آلاف المعزِّين وعلى رأسهم أهم رجال الدولة الموجودين؛ رئيس وزراء أو حاكم الولاية في أغلب الأحيان. شمل التكريم الضباط والجنود، وكان كثير منهم من مناطق التجنيد التقليدية للجيش الهندي (شمال البلاد وغربها)، إلا أن آخرين كُثُرًا كانوا مولودين في أماكن لم يكن لها أي ماضٍ في القتال، مثل جنجام في أوريسا وتُمكور في كارناتاكا.18 وكثير ممن ماتوا دفاعًا عن الهند جاءوا من مناطق طالما اعْتُبِرَت معارضةً لفكرة الهند في حد ذاتها؛ فقد كان لجنود كتيبة ناجا دور حاسم في استعادة قمم كارجيل. وقد أعرب أحد جنرالات الجيش عن أمله في أن تتيح الجسارة التي أبداها «أبناء ناجا البواسل» على الجانب المقابل من الهيمالايا لهم «نَيْل الهوية الهندية أخيرًا». لا شك أنَّ شجاعتهم كانت محل إشادة لدى أهلهم؛ فعندما عاد جثمان ملازم أول من أبناء ناجا إلى مسقط رأسه كوهيما، توافد آلاف من الناس إلى المطار لاستقباله.19
عززت الاشتباكات الدائرة في كارجيل عودةَ البنجاب وأهلها إلى الاندماج في الهند. فقد أصرَّ المزارعون المقيمون على طول الحدود مع باكستان على أنَّ النزاع إذا انقلب إلى حرب مكتملة الأركان، فإنهم مستعدون لتقديم يد العون إلى الجيش الهندي، بتوفير الطعام والمأوى، وحتى المساعدة العسكرية إنْ لزم الأمر. وقال أحد الفلاحين السيخ: «سوف نحارب مع الجنود، ونلقِّن الباكستانيين درسًا قاسيًا لتعدِّيهم على أرضنا.»20
أطلق النزاع مع باكستان العنان للمشاعر الوطنية في جميع أنحاء الهند؛ فتطوَّع الآلاف للانضمام إلى الرجال المقاتلين على الجبهة، وفي أماكن عدة كانت هناك حشود كبيرة جدًّا من المتطوعين أمام مراكز التجنيد حتى إنَّ الشرطة اضْطُرَّت إلى إطلاق النار في الهواء لتفريقهم.21 كانت الحرب مع الصين قد أثارت استجابة مماثلة، حيث سعى الشباب العاطلون عن العمل إلى الانضمام إلى الجيش. إلا أنَّ الواقعتين بينهما اختلاف مهم؛ ففي المرة الأولى اجتاح الغُزاة آلاف الأميال المربعة قبل أن يقرروا العودة من تلقاء أنفسهم، ولكنَّ الغُزاة هذه المرة طُرِدوا بالقوة.

من هذه الناحية جاءت حرب كارجيل تطهيرًا للعسكريين وللمواطنين الهنود ككل. فقد استردَّ الجيش الهندي كرامته أخيرًا، وتخلَّص بصفة نهائية من وصمة فشله في صد الصينيين عام ١٩٦٢. وفي الوقت نفسه، شَهِدَت الاستجابة للنزاع مولِد قومية هندية جديدة وأقوى عزيمةً. فلم يسبق قط أن استُقبِلت جثامين جنود سقطوا في المعركة بتلك المشاعر الجيَّاشة، بدا كأنَّ كل منطقة مُصِرَّة على إعلان مساهمتها في القضية القومية، ولَقِيَ ذلك المزاج العام إقرارًا وتشجيعًا في الصحافة المطبوعة والمرئية، حيث بدت مغالاتها في الوطنية مفاجئة حتى بالنسبة لمن كانوا على دراية بسجل تلك المهنة القديم في جعل الصدق أول ضحايا الحرب.

٤

شجع الصد الناجح للغزاة في كارجيل حزب بهاراتيا جاناتا على حل البرلمان والدعوة لانتخاباتٍ جديدة. وبنسبه الفضل لنفسه فيما يتعلق بالتجارب النووية والانتصار العسكري، أمل التحالف الحاكم في تعزيز الكبرياء الوطني من خلاله. وقد كان المنافس الرئيسي للحزب، حزب المؤتمر، تقوده حينها سونيا غاندي. وفي سبتمبر ١٩٩٨، بينما كانت تُلقي سونيا غاندي خطبتها الرسمية الأولى بصفتها رئيسة للحزب، أكدت على ضرورة عودة الداليت والأديفاسي والشباب إلى حظيرة الحزب. وقالت إن الحزب يجب أن يتبنَّى منصة «عدالة اجتماعية»؛ ففي حالة عودته للسلطة، ستركز سياساته على «المشكلات الرئيسية للصحة والتعليم والأمن الغذائي والتغذية وتنظيم الأسرة».22

في مايو ١٩٩٩، ترك عدة قادةٍ كبار، أبرزهم رجل ماراثا القوي شاراد باوار، حزب المؤتمر، مشيرين إلى «الأصول الأجنبية» لرئيسة الحزب الجديدة. كانت هناك انتقاداتٌ أخرى أهم بحق سونيا غاندي. على وجه الخصوص، كانت متحدثة غير مبالية وكانت لغتها الهندية صحيحة من الناحية النحوية لكنها كانت تتحدث بلكنةٍ ركيكة (مما يشي بأن لغتها الأولى كانت الإيطالية).

في تلك الأثناء، ومع انسحاب أحد أكبر شركاء فَجبايي في التحالف، وهو أنَّا درافيدا مونيترا كازاجام لعموم الهند، خسرت حكومته اقتراعًا لسحب الثقة في البرلمان بصوتٍ واحد. فسعى حزب المؤتمر بقيادة سونيا غاندي لتشكيل حكومة بديلة، لكنه فشل في الحصول على الدعم المطلوب. فحلَّ الرئيس، كيه آر نارايانان، البرلمان استعدادًا لإجراء انتخاباتٍ جديدة. وعندما أُجريت هذه الانتخابات، في سبتمبر وأكتوبر من عام ١٩٩٩، قلَّ عدد المقاعد التي حصل عليها حزب المؤتمر في البرلمان إلى ١١٤. وحصل حزب بهاراتيا جاناتا على ١٨٢ مقعدًا، وهو نفس عدد المقاعد التي حصل عليها في الانتخابات السابقة. لكن التحالف الديمقراطي الوطني ككلٍّ حصل على ٢٧٠ مقعدًا، وكان على بُعد بضعة مقاعد من الحصول على أغلبيةٍ مطلقة. وهكذا، أصبح واثقًا إلى حدٍّ ما من البقاء في السلطة لفترة كاملة.

بصفته رئيسًا للوزراء، مضى أتَل بِهاري فَجبايي قُدمًا في الإصلاحات الاقتصادية التي بدأها ناراسيمها راو. وبجانب إعطائها مزيدًا من التشجيع لريادة الأعمال، أعطت حكومة فَجبايي دفعة لتطوير البنية التحتية، فسعت لتحديث المطارات وتحسين شبكات الطرق. وفي مارس ٢٠٠٠، أعلنت الحكومة عن مشروعٍ «رباعي ذهبي» يهدف لربط كبرى مدن الهند بالطرق السريعة ذات الحارات الأربع لتسهيل النقل السريع للبضائع بالشاحنات.

في السنوات الأولى من الألفية الجديدة، بعد عَقد من تحرير التجارة والسوق، كان الاقتصاد الهندي قد تجاوز في النهاية ما سُمي على سبيل السخرية «معدل النمو الهندوسي». فكانت معدلات النمو السنوية للناتج المحلي الإجمالي تزيد بنسبة تتراوح بين ٦ و٧٪ بدلًا من ٢ إلى ٣٪. وكان القطاع الذي أبلى بلاءً حسنًا هو ذلك الخاص بالخدمات، وكان ينمو بمعدلٍ متوسِّطه ٨٫١٪ في السنة على مدار تسعينيات القرن العشرين. ومعظم ذلك النمو كان يُعزَى إلى صناعة البرمجيات، التي نمت عوائدها من ١٩٧ مليون دولار فحسب عام ١٩٩٠ إلى ٨ مليارات دولار عام ٢٠٠٠. في بعض الفترات كان معدل نمو ذلك القطاع يفوق ٥٠٪ في السنة. وكان معظم ذلك التوسُّع يستهدف الأسواق الخارجية. ففي عام ١٩٩٠ قُدِّرَت صادرات صناعة البرمجيات الهندية بمبلغ ١٠٠ مليون دولار، ولكن بحلول نهاية العَقد كان ذلك الرقم قد قفز إلى ٦٫٣ مليارات دولار.

في عام ٢٠٠٠، كانت الهند بها ٣٤٠ ألف محترف برمجيات، كان نحو ٢٠٪ منهم نساءً، و٥٠ ألف خريج هندسة جديد يُعَيَّنون سنويًّا. وخلال السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين أخذت تلك الصناعة تنمو بمعدل أسرع؛ فبحلول عام ٢٠٠٤، أصبح عدد المشتغلين فيها ٦٠٠ ألف شخص، وبلغت صادراتها ما قيمته ١٣ مليار دولار من الخدمات.

في الهند وخارجها على حد سواء، عادةً ما تُعتَبَر صناعة البرمجيات تجسيدًا لتلك الإصلاحات. فهي صناعة محلية بالأساس، فيها شركات كبيرة وصغيرة مملوكة لرواد أعمال هنود، يوظِّفون مهندسين هنودًا من خريجي الجامعات الهندية، إلا أنَّ معظم عملهم موجَّه لعملاء في الخارج، يتضمنون كثيرًا من الشركات التي تُدْرَج على قائمة مجلة فورتشِن السنوية للشركات الأمريكية الخمسمائة الأعلى دخلًا. بعض هذا العمل يكون روتينيًّا؛ من قبيل ضبط الحسابات وسجلات الموظفين مثلًا، ولكن بعضه يكون أكثر ابتكارًا، مثل تصميم برامج جديدة، ثم الحصول على براءات اختراع لها وبيعها في الخارج. («آي-فليكس»، البرنامج المالي الذي ابتكرته شركة هندية، أصبح مُستَخدَمًا الآن في أكثر من سبعين بلدًا.) في السنوات الأولى لتلك الصناعة، انصَبَّ تركيزها على إرسال مهندسين بتأشيرات قصيرة الأمد للعمل في مقرَّات شركات أوروبية وأمريكية، إلا أنَّه مع ظهور الاتصالات بالأقمار الصناعية وشبكة الويب، والتطور المتزايد لعمل تلك الصناعة، تحوَّل التركيز إلى خدمات التعهيد؛ حيث أصبحت أكواد البرامج تُكتَب في الهند ثم تُرسل إلى الخارج.

أضحت شركات البرمجيات من قبيل ويربو وتي سي إس وإنفوسيس أسماء معروفة في كل بيت في الهند، إلا أنَّها معروفة وتحظى باحترام واسع في دوائر الأعمال بالخارج؛ فهي مُدرَجَة في بورصة نيويورك، كما أنها تمتلك وتُشَغِّل شركات تابعة في مناطق كثيرة من العالم. إلا أنَّ هذا المجال ينطوي أيضًا على كثير من الشركات الصغيرة والشركات متوسطة الحجم، وحصة الشركات الكبرى من السوق في انخفاض مطَّرد.23

تتركَّز شركات البرمجيات في بضع مدن كبرى: هي دلهي ومدراس وحيدر أباد وبنجالور في المقام الأول التي أصبحت تحمل لقب «وادي السيليكون الهندي». فبنجالور هي مقر أرقى جامعة بحثية في الهند: المعهد الهندي للعلوم، الذي أُنْشِئَ عام ١٩٠٩. وبعد الاستقلال، أصبحت تلك المدينة مركزًا للوحدات الصناعية؛ حيث أُقيمَت فيها مصانع كبيرة مملوكة للدولة لتصنيع الآلات، والطائرات، والتليفونات، والأجهزة الكهربائية. وعندما يضيف المرء إلى هذا التراث العلمي الثري في بنجالور مناخها المتوسطي المعتدل وثقافتها العالمية التوجه، يتفهَّم سبب تحوُّلها إلى وجهة استثمارية جذابة إلى هذا الحد؛ فشركتا ويربو وإنفوسيس مقرهما الرئيسي هناك، وهكذا الحال بالنسبة للعديد من اللاعبين المهمين في مجال صناعة البرمجيات.

حتى يتسنى فهم صعود قطاع البرمجيات يجب على المرء استرجاع العوامل المباشرة وغير المباشرة على حد سواء التي أدت إلى ذلك. فكما قال جون إف كينيدي: النجاح له آباء كُثُر. وفي هذه الحالة تحديدًا، كل الجهات التي زعمت مسئوليتها عن النجاح على جانب من الصحة؛ فبعض الفضل يُعزَى بلا شك إلى إصلاحات عام ١٩٩١، التي فتحت السوق الأجنبية للمرة الأولى، إلا أنَّ بعض الفضل لا بد إرجاعه إلى حكومة راجيف غاندي أيضًا، التي أعطت اهتمامًا خاصًّا لصناعتي الإلكترونيات والاتصالات اللتين كانتا وليدتين آنذاك. وبالرجوع عقدًا آخر إلى الوراء، نجد أنَّ حكومة جاناتا بطردها شركة آي بي إم قد أتاحت إنشاء صناعة محلية لتصنيع أجهزة الكمبيوتر وصيانتها. ولكن ربما كان الأجدر بدء الحكاية فعليًّا من وقت حكومة جواهر لال نهرو، التي تحلَّت ببصيرة دفعتها إلى إنشاء سلسلة من كليات الهندسة عالية الجودة وبحكمة حدت بها إلى الإبقاء على الإنجليزية لغةً للتعليم العالي والاتصالات على مستوى الولايات وعلى المستوى الدولي. فكما قال أحد المحللين المحترمين في قطاع تكنولوجيا المعلومات معلِّقًا: «إن أكبر المزايا التي تركن إليها الهند هو امتلاكها قوة عاملة كبيرة متعلمة تتحدث اللغة الإنجليزية ومستعدة للعمل نظير أجور منخفضة نسبيًّا.»24 تلك مفارقة طريفة جدًّا؛ فقد تسنَّى تحقيق نموذج يُحتَذى به في تحرير السوق على يد رجل كان ملتزمًا بمسار للتنمية الاقتصادية ترعاه الدولة.25

وإضافةً إلى هذه العوامل، ساهمت مصادفة جغرافية بدرجة هائلة في تلك الطفرة، والتي تمثلت في وقوع الهند على الطرف المقابل في الكرة الأرضية من الولايات المتحدة الأمريكية، بحيث يكون العمل المُنجَز خلال النهار جاهزًا بحلول وقت استيقاظ العميل من نومه.

أفضت إجادة الهنود للغة الإنجليزية — وحظ الهند بكونها تسبق الغرب المتقدم بفترة تتراوح بين خمس وعشر ساعات — إلى تعهيد أشكال أخرى من العمل إلى الهند؛ ففي أعلى مستويات سلسلة القيمة كان إرسال الفحوصات الطبية لمرضى في مستشفيات أمريكية لكي يحللها مختصو الأشعة ومختصو علم الأمراض في الهند. وفي أدنى المستويات كانت مراكز الاتصال العديدة، حيث يسهر الشباب الهنود طوال الليل لتلقي المكالمات الهاتفية من حاملي بطاقات الائتمان الغربية، أو لحجز مقاعد على طائرات وقطارات غربية. كثير من موظفي تلك المراكز نساء، يتحدثن الإنجليزية بقواعدها السليمة باللهجة التي يختارها العميل، ويعملن بكدٍّ يفوق نظرائهن الأمريكيات وبعُشر التكلفة. عام ٢٠٠٢، كان عدد مراكز الاتصال في الهند يفوق ٣٠٠ مركز، ويعمل بها ١١٠ ألف موظف. كانت تلك الصناعة تنمو بمعدل مذهل، يبلغ ٧١٪ في السنة، وقُدِّرَ أنَّه بحلول عام ٢٠٠٨ سيبلغ عدد العاملين بها مليوني شخص، وأنَّها ستُدِرُّ ٢٥ مليار دولار، لتشكِّل بذلك ٣٪ من الناتج المحلي الإجمالي للهند.26
يتخذ تعهيد الأعمال الغربية إلى العمالة الهندية أشكالًا متزايدة التنوع باستمرار؛ فمعلمو اللغة الإنجليزية في كيرالا يعطون دروسًا للأطفال الأمريكيين في قواعد اللغة والإنشاء عبر الإنترنت، والقساوسة الكاثوليك في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا يرسلون طلبات الصلاة إلى نظرائهم في الهند؛ فمن الممكن تأدية صلاة شُكر لأحد مقابل ٤٠ روبية (قرابة دولار أمريكي واحد) في كنيسة هندية، في حين أنَّ تلك الصلاة يمكن أن تكلِّف خمسة أمثال ذلك المبلغ في أي كنيسة أمريكية.27
كان للإصلاحات التي أطلقتها حكومة ناراسيمها راو ونفَّذها رئيس الوزراء فَجبايي تأثيرٌ على قطاع التصنيع أيضًا، وإن لم يكن تأثيرًا مذهلًا بالقدر ذاته. لقد أفضت زيادة المنافسة ودخول الشركات الأجنبية إلى رفع الإنتاجية وخفض الأسعار؛ مما عاد بالنفع على المستهلك المحلي. وانتهزت بعض الصناعات الهندية الفرص التي طرحها فتح أسواق دولية؛ ومن ثم أصبحت كبرى العلامات التجارية في مجال الملابس مثل جاب وبولو وتومي هيلفيجر تُصنع منتجاتها في الهند بصفة متزايدة. الهند بحلول عام ٢٠٠٠ كانت تصدِّر نحو ٥٠٠ ألف مركبة في السنة، فضلًا عن كثير من المكوِّنات المتطورة المستخدَمة في المركبات المُجَمَّعة في أماكن أخرى (نصف المركبات الأمريكية تستخدم محور دورانٍ صُنِعَ في شركة هندية). وتُمَثِّل المستحضرات الدوائية منطقة نمو أخرى؛ فقد قُدِّرَت قيمة الأدوية المصَدَّرة من شركات هندية بمليار دولار أمريكي عام ٢٠٠٣، منها عقاقير مصنوعة وفق المعايير الدوائية الرسمية الحديثة وأخرى تتبع منظومة الطب المحلي: الأيورفيدا.28
أدى فتح السوق بكثير من الشركات الأجنبية أيضًا إلى طرق أبواب السوق الهندية؛ ففيما بين عام ١٩٩١ وعام ٢٠٠٠، أقرَّت الحكومة أكثر من ١٠ آلاف طلب استثمار مقدَّمة من شركات أجنبية، ولو كانت كلها تَمَّت لبلغت قيمتها ٢٠ مليار دولار أمريكي. كانت تلك الاستثمارات تتدرَّج من الاتصالات إلى الكيماويات، ومن الصناعات الغذائية إلى المنتجات الورقية. من المشروعات التي بدأ العمل فيها فعلًا، كانت أوضح العلامات التجارية في قطاع السلع الاستهلاكية، مثل السيارات صناعة شركتي فورد وهوندا، وأجهزة التليفزيون صناعة سامسونج، وهواتف نوكيا، والمشروبات الغازية من شركتي بيبسي وكوكاكولا، التي أصبح لإعلاناتها ومعارضها حضور ملحوظ في المدن الهندية الكبرى. وأقل بروزًا منها كانت الشركات من قبيل شركات فيليبس ومايكروسوفت وجنرال إليكتريك التي أنشأت أيضًا مراكز بحثية في الهند، وظَّفت مهندسين محليين وكذلك أجانب في تطوير أحدث التكنولوجيات من أجل السوق العالمية.29
ظلت أهمية التجارة الخارجية لاقتصاد الهند تتنامى باطِّراد طوال عقد التسعينيات. ارتفعت نسبة الصادرات من ٤٫٩٪ إلى ٨٫٥٪ من الناتج المحلي الإجمالي، بينما زادت نسبة الصادرات من ٧٫٩٪ إلى ١١٫٦٪ من الناتج المحلي الإجمالي. ولكن في المجمل، ظل ذلك الاقتصاد مغلقًا نسبيًّا؛ ففي عام ١٩٨٠، كانت الهند تُشَكِّل ٠٫٥٧٪ من التجارة العالمية، وبعد مرور عشرين عامًا تزحزحت تلك النسبة صعودًا إلى ٠٫٧١٪.30

٥

أحد الأوجه الأقل لفتًا للانتباه للتحرر الاقتصادي هو التغير الذي طرأ على التركيبة الاجتماعية لطبقة رواد الأعمال؛ ففي الماضي، كان الرأسماليون البارزون في الهند يأتون من مجتمعات تجارية تقليدية: المارواريين والجاينيين والبانيا والشِّتيار والبارسيين. إلا أنَّه في السنوات الأخيرة، دخلت مجموعة من طوائف الفلاحين قطاع الصناعة، فقد كان بعض رواد الأعمال الأكثر نجاحًا في الآونة الأخيرة ينتمون إلى طوائف اجتماعية اشتغلت في فلاحة الأرض قرونًا من الزمان، من الماراثيين والفيلَّالا والريدِّي والنادار والإزهافا. وكذلك فإنَّ بعض الشركات الناشئة الأكثر شهرة — مثل إنفوسيس — أنشأها براهمة، من عائلات جرى العُرف على عملها في خدمة الدولة أو المِهَن الأكاديمية وتطلَّعوا إلى التجارة بازدراء. وإضافةً إلى ذلك كان يوجد بعض رواد الأعمال المسلمين الناجحين للغاية؛ مثل عظيم بريمجي مؤسس عملاق البرمجيات ويبرو.31
في الوقت نفسه، أسفرت طفرة النمو الاقتصادي عن اتساع حجم الطبقة الوسطى الهندية ودائرة نفوذها. كتب إي شريدهاران يقول إنَّ ظهور هذه الطبقة «غَيَّرَ الهيكل الطبقي الهندي من هيكل يتسم بالتناقض الصارخ بين نخبة صغيرة وحشود جماهيرية كبيرة فقيرة، إلى آخر يحتوي على طبقة متوسطة كبيرة الحجم». إلا أنَّ حجم تلك الطبقة الفعلي لا يزال أمرًا خاضعًا للتعريف والتأويل. فبتعريفها الأشمل — حيث تتضمن الأُسَر كافة التي يزيد دخلها السنوي عن ٧٠ ألف روبية (حسب أسعار ١٩٩٨-١٩٩٩) — تشتمل الطبقة الوسطى على ما يصل إلى ٢٥٠ مليون هندي، وبتعريفها الأضيق — الذي يستبعد منها من يكسبون أقل من ١٤٠ ألف روبية في السنة — تشتمل على ٥٥ مليون هندي فحسب.32
في الماضي، كانت الطبقة الوسطى يهيمن عليها العاملون في القطاع الحكومي مثل موظفي الخدمة المدنية ومديري القطاع العام وأساتذة الجامعات ومن هم على شاكلتهم. والآن، أصبح العاملون في الشركات الخاصة، بالإضافة إلى المهنيين الذين يعملون لحسابهم، يُعدون عناصر مهمة في الطبقة الوسطى، إن لم يكونوا أكثر أهمية من الموظفين الحكوميين.33 وكان عددٌ كبير من هؤلاء يعدون أعضاء الجيل الأول؛ فهم أول أشخاص في أسرهم يمتلكون منازل أو يقودون دراجاتٍ بخاريةً صغيرة أو سيارات أو يحصلون على إجازات. وكان من المرجح أن تكون الطبقة الوسطى الجديدة هذه ذات طابعٍ محلي وليس عالميًّا، تتحدث الهندية أو الماراثية أو التاميلية أو الآسامية وليس الإنجليزية، التي كانت حتى الآن لغة النخبة الهندية.34

هذه الطبقة الوسطى الجديدة هي الهدف الرئيسي للسلع والخدمات الجديدة التي دخلت السوق الهندية في السنوات الأخيرة، ففي أوائل القرن الحالي أصبح عدد المشتركين في القنوات التليفزيونية الخاصة يفوق ٥٠ مليون شخص في الهند، و١٠٠ مليون هندي على الأقل يمتلكون هواتف محمولة. هاتان الخدمتان انتشرتا على نطاق واسع وبمعدل سريع، مثلها في ذلك مثل الأداة الأكثر تعبيرًا عن الاقتصاد الاستهلاكي الحديث، وهي: المركبات.

في السنوات الأولى بعد نيل الهند استقلالها، سيطرت بشدة على الطبقة الوسطى الهندية أخلاق التقشُّف الغاندية؛ ففي بلد فقير، لم يكن يُفتَرَض للمرء أن يحوز ثروة كبيرة، والأكيد أنه لم يكن يُفتَرَض به أن يتباهى بها؛ فحتى ذوو الميل إلى إمتاع أنفسهم عرقلهم انعدام الخيارات. ومع انفتاح الاقتصاد في التسعينيات، سرعان ما تبدَّد الإحساس بالذنب الذي كان يقترن في الماضي بالنزعة الاستهلاكية؛ فسواء في السجائر أم السيارات أم الخمور أم النظارات الشمسية، العلامات التجارية الأجنبية التي لم تكن متاحة في الهند مسبقًا أصبحت تُغرق السوق الهندية؛ فتعرض الإعلانات التليفزيونية صورًا جذَّابة للسلع المتاحة، بينما تهرع البنوك وشركات بطاقات الائتمان إلى مساعدة المرء على شرائها واستهلاكها.35
على الرغم من كون النزعة الاستهلاكية الجديدة أكثر تَبَدِّيًا في المدن الكبيرة، فإنها ليست حِكرًا عليها. فثمة دراسة إثنوغرافية حديثة لريف كيرالا تصف ممارسة المستهلكين في هذا العصر التحرري للاختيار بعناية وتمييز، واضعين قدرتهم المادية نصب عينٍ وجيرانَهم نصب الأخرى. قطعًا ريف كيرالا ليس مُعَبِّرًا عن الريف الهندي ككل بأي حال. من ناحية، تمتزج القرى بالمدن في سلاسة، ومن ناحية أخرى قضى كثير من القرويين وقتًا في العمل في الشرق الأوسط؛ حيث جنَوا ما يكفي من المال للانتقال إلى الطبقة الوسطى مباشرةً. على أية حال، وكما كتب باحثان، بالنسبة لهؤلاء المستهلكين الجدد:
الأساليب والأذواق لها ترتيب هرمي، حيث تُمَثِّل العلامات التجارية مؤشِّرًا مميِّزًا؛ فتليفزيون «كِلترون» (من إنتاج شركة كيرالا إلكترونيكس التابعة للولاية) يضفي مكانةً أدنى من تليفزيون «أونيدا» — الهندي الصنع — الذي يقل مكانةً بدوره عن تليفزيون «سوني» الذي يُصَنَّع في الهند بترخيص من شركة سوني، حيث تُنسَب أعلى مكانة لأجهزة التليفزيون المستوردة المصنوعة في الخارج … فأحيانًا يترك الناس بطاقة العلامة التجارية على السلع الاستهلاكية المعمِّرة للتأكيد على أصلها.36

وما يسري على أجهزة التليفزيون يسري أيضًا على مجموعة كبيرة من المنتجات، من كريمات البشرة إلى السيارات، لقد أصبح المستهلك الهندي يجد صعوبة الآن في الاختيار بين كَمِّ الخيارات المتاحة؛ فيما مضى كانت السيارات الوحيدة المتاحة محليًّا هي سيارات من نوع موريس طراز الخمسينيات وسيارات من نوع فيات طراز الستينيات. أما الآن فالمرء إذا توفر لديه المال صار بإمكانه شراء أحدث سيارة مرسيدس بنز. والهنود من الطبقة الوسطى، الذين كان اهتمامهم ينصب في الماضي على الادخار من أجل المستقبل، أصبحوا الآن أكثر توجُّهًا نحو الحاضر. وقبل عشرين عامًا، كانت قلة من الهنود هي من تحمل بطاقات ائتمان، والآن أصبح أكثر من ٢٠ مليونًا يحملونها. كانت تلك فيما مضى ثقافة معادية للمجازفة، ولكن الآن أصبح ملايين من الهنود يستثمرون أموالهم في أسواق العقارات والأوراق المالية.

أدت تلك التغييرات في الإنتاج والاستهلاك إلى تحوُّل جذري في المشهد الحضري؛ فالبيوت المتواضعة تحوَّلت إلى عمارات فارهة، والشركات المكونة من دور واحد حل محلها بنايات أسمنتية شاهقة مكسوة بالزجاج. ولا تزال الأسواق التقليدية — التي تبيع أكشاكُها الصغيرة أوانيَ ومقاليَ محلية الصنع أو فاكهة وخضراوات مزروعة محليًّا — موجودة، ولكن الآن أصبح لدينا مراكز تجارية ضخمة أيضًا، تعرض تحت سطح واحد علامات تجارية دولية مثل ليفايز وإستي لودر وسوني وباسكن روبنز.

٦

تمثَّلت العاقبة الثانية للنمو الاقتصادي السريع في التسعينيات في انخفاض نسبة الهنود الذين يعيشون تحت خط الفقر الرسمي. وثمة نقاش أكاديمي محتدم بشأن عدد الفقراء في الهند تحديدًا. خلص بعض الإحصائيين إلى أنَّ ١٥٪ فقط كانوا يعيشون تحت خط الفقر، في حين أوصلت التقديرات الأكثر تشاؤمًا تلك النسبة إلى ٣٥٪. أما تقدير الحكومة الهندية فيقع بين هذين التقديرين المتطرفين، ويبلغ ٢٦٪. وعلى الرغم من أن الأرقام الدقيقة مُختَلَف عليها، فكل الباحثين تقريبًا متفقون على أنَّ معدل الفقر انخفض في التسعينيات من الناحية المطلقة والنسبية على حد سواء؛ ففي بداية العقد، كان قرابة ٤٠٪ من الهنود «فقراء»، وبحلول نهايته انخفضت النسبة إلى ٣٠٪ أو أقل.37
على الرغم من ذلك، فأعداد الفقراء كانت هائلة في الهند؛ ربما تقترب من ٣٠٠ مليون. وكثير من الفقراء يعيشون في المدن، فوراء المُجَمَّعات التجارية البرَّاقة والمباني الإدارية الجديدة تكمن العشوائيات ومدن الصفيح حيث يقطن معظم سكان الحضر. هؤلاء هم الناس الذين يقومون على خدمة الطبقة الوسطى، لكنهم لن ينتموا لها أبدًا؛ فهم «يبيعون صُحُفًا لن يقرءُوها أبدًا، ويحيكون ملابس لن يمكنهم اقتناؤها، ويُلَمِّعون سيارات لن يمتلكوها أبدًا، ويشيدون مباني لن يقطنوها أبدًا».38 آخرون من ساكني العشوائيات يعملون ساعات طويلة بأجور متدنية، في أعمال ضارة بصحتهم؛ مثل قطع المعادن وفصل الكيماويات. وعادةً ما يفتقرون إلى التنظيم، فيكونون مُعرَّضين للتسريح دون إخطار مسبق ودون تأمين أو استحقاقات تقاعد.39
إلا أنَّ أغلبية فقراء الهند يعيشون في القرى. نادرًا ما تطول الريف آثار التحرر الاقتصادي. وقد كان معدل النمو الزراعي شديد البطء خلال التسعينيات. صحيح أنه جَرَت محاولات لتنويع المحاصيل، وزراعة فاكهة وخضراوات للسوق المحلية وزهور للتصدير، إلا أنَّ تلك المحاولات كانت محدودة النجاح، وهو ما يُعزَى بدرجة كبيرة إلى أوجه القصور التي تعتري البنية التحتية: من قلة الكهرباء المتاحة لمعالجة المحاصيل أو تخزينها، وقلة الطرق المتاحة لنقلها إلى السوق.40
وحتى فيما يتعلق بالمورد الأكثر أهمية — الغذاء — كان الوضع أقل إبهاجًا بكثير مما كان من الممكن أن يكون. فبالنظر إلى البلد ككل، كان فائض الغذاء متواضعًا؛ فقد حفظت الحكومة «مخزونًا احتياطيًّا» في مخازنها يتراوح بين ٤٠ مليون طن و٥٠ مليون طن. إلا أنَّ آليات التوزيع اعتراها قصور خطير؛ ففي أوقات النُّدرة، لم تكن المخزونات تتحرك بالسرعة الكافية إلى المجتمعات المحتاجة إليها. وكان استهداف المناطق يفتقر إلى الكفاءة؛ فكانت حبوب منظومة التوزيع العامة تصل بسهولة أكبر إلى المدن عن المناطق الريفية، والولايات الغنية عن الولايات الفقيرة. وشابها فساد هائل؛ فوفقًا لأحد التقديرات، كان ٢٠٪ فقط من الحبوب الصادرة عن منظومة التوزيع العامة يصل بالفعل إلى من يُفتَرَض تلقِّيهم لها، أما الباقي فكان يُباع في السوق السوداء؛ فظل الجوع وسوء التغذية متوطِّنين في مناطق متعددة، وسُجِّلَت حالات من الموت جوعًا عندما كانت الأمطار تشِحُّ.41
في أجزاء كثيرة من البلاد، ظل العيش وسُبُله معتمدَين على توفُّر المياه؛ فبعد مرور خمسين عامًا على الاستقلال، لم يكن الري متاحًا إلا في ٤٠٪ من المناطق المزروعة. وبالنسبة إلى معظم المزارعين، تفاقم عدم اليقين الناتج عن تقلبات سقوط الأمطار من عام لآخر بفعل منح المدن الأولوية في الحصول على مصادر المياه المتاحة. كانت دلهي تأخذ احتياجاتها من سد تِهري الذي يبعد عنها ٢٠٠ ميل، وبنجالور تأخذ احتياجاتها من نهر كوفري الذي يبعد عنها ١٠٠ ميل. فالمدن التي ضمَّت الفئات ذات الحظوة والنفوذ كانت تحصل على ما تطلبه من مياه بأسعار مُدعَّمة عادةً. وفي بعض الأحيان كانت النُّدرة والتمييز يستثيران تصرُّفات يائسة؛ ففي رحلة قطعها الصحفي بي ساينات في تاميل نادو، أوقف فلاحون قطاره في قلب الليل، وأخذوا كل ما استطاعوا الحصول عليه من مياه. وبعد عشرة أعوام، عندما ضرب الجفاف شمال راجستان، اضْطُرَّ الرعاة في بيكانير إلى شراء المياه من السوق لإنقاذ ماشيتهم من الموت، فكان السعر الذي دفعوه أكثر مما يدفعه المستهلك في دلهي نظير المياه ١٦٦ مرة.42

في الأعوام الأخيرة من القرن العشرين، سُجِّلَت أولى حالات الانتحار بين المزارعين. كانت تلك ظاهرة مستجَدة مزعجة؛ فعلى الرغم من تواجد الجوع والفقر في شبه القارة الهندية قرونًا من الزمان، فلم يبلغ الأمر بكل هذا العدد من أهل الريف حد قتلهم أنفسهم. كان الانتحار — كما ذهبت الدراسات الرائدة لعالِم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم — نِتاجًا للتفسُّخ الاجتماعي والاغتراب الناجمَين عن الحياة الحضرية الحديثة، وقد زاد معدله في فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر، بين النازحين إلى المدن الذين انتُزِعوا من كنف أُسَرهم ومجتمعهم، وزاد معدله أيضًا في بنجالور في أواخر القرن العشرين، بين الشباب العاملين في مجال البرمجيات الذين يعيشون تحت ضغط ساعات العمل الطويلة أو سرعة نجاح زملائهم.

رصد علماء الأنثروبولوجيا الهنود فيما مضى ارتفاع معدلات الانتحار بين أبناء بعض القبائل في المناطق الجبلية المنعزلة،43 ولكنَّ ما كان يحدث في ذلك الوقت بين المجتمعات الزراعية المستقرة كان أمرًا غير مسبوق؛ ففيما بين عام ١٩٩٥ وعام ٢٠٠٥ وقعت عشرة آلاف حالة انتحار على الأقل بين المزارعين، في ولايات متفرِّقة كأندرا براديش وراجستان. عادةً كان أرباب المنازل من الذكور هم من يقتلون أنفسهم، بتناول المبيدات الحشرية في أغلب الأحيان، وبشنق أو صعق أنفسهم بالكهرباء في أحيان أخرى. في كثير من الحالات، كانوا يتخذون تلك الخطوة المتطرفة بسبب عجزهم عن دفع الديون المتراكمة عليهم على مر الأعوام، سواء كانت ديونًا لبنوك أو جمعيات تعاونية أو مُرابين. إلا أنَّ المديونية كانت أيضًا سمة متغلغلة في الحياة الريفية؛ فلمَ أصبحت تفضي إلى هذه النتيجة المأساوية بهذا التواتُر؟ لم تظهر بعدُ دراسات منهجية تجيب عن هذا السؤال، ولكن ربما جاز القيام ببعض التكهُّنات المبدئية. مع وافر الاحترام لدوركايم، ربما كانت حالات الانتحار بين المزارعين مرتبطة بالمعدل السريع للتغير الاجتماعي في الهند المعاصرة؛ فالمجتمع الاستهلاكي الجديد — الذي ينقل التليفزيون صوره إلى القرى — يُعلي شأن النجاح كثيرًا فعلًا. لذا، عندما يفسد المحصول، أو لا يعطي محصولٌ جديد الغلة المنشودة منه، يصير شعور الإهانة الشخصية أشد بكثير مما كان يمكن أن يكون عليه في زمن ماضٍ أكثر استقرارًا وأقل ولعًا بالنجاح والكسب.44

٧

كان أحد أسباب الفقر المستمر هو أداء الحكومات السيئ فيما يتعلق بتوفير الخدمات الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية؛ ففي عام ١٩٩١ — العام الذي بدأت فيه الإصلاحات — كان ٣٩٪ فحسب من نساء الهند و٦٤٪ فحسب من رجالها يمكنهم القراءة والكتابة. في هذا الصدد كانت الهند متخلِّفة ليس عن الدول الغربية المتقدمة فحسب، وإنما عن بعض جيرانها الآسيويين أيضًا؛ فكانت سريلانكا قد وفَّرت التعليم لنسبة ٨٩٪ من نسائها و٩٤٪ من رجالها، بينما كانت الأرقام المقابلة في الصين هي ٧٥٪ للنساء و٩٦٪ للرجال.

فمثَّل العجز في توفير الهند المستقلة التعليم لجميع مواطنيها أو حتى معظمهم — الذي قد يعتبره البعض امتناعًا من جانبها — أكبرَ فشل لها.45 إلا أنَّ الحكومة بدأت في التسعينيات مجموعة من البرامج الرامية إلى تعميم التعليم. أولًا: أنشأت الحكومة «برنامج التعليم الابتدائي الخاص بالمناطق»، الذي ركَّز على ٢٥٠ منطقة يقل فيها مستوى إلمام الإناث بالقراءة والكتابة عن المتوسط الوطني. وبعد فترة قصيرة، حلَّ محله «برنامج التعليم للجميع». وزادت مخصصات التعليم الابتدائي من الأموال العامة، كما تدفق التمويل من جهات أجنبية مانحة أيضًا.
وحُثَّت الحكومة على اتِّخاذ دور أكثر فاعلية بموجب أمر من المحكمة العليا لحكومات الولايات كافة بتوفير وجبات غداء مطهوة في وقت الظهر في المدارس. كان كثير من الأطفال الذين يدخلون المدرسة الابتدائية يتركونها قبل الوصول إلى المرحلة الثانوية بكثير، ونسبة كبيرة من هؤلاء التلاميذ المتسربين كانوا فتيات، أخرجتهن أسرهن من المدرسة للمساعدة في الأعمال المنزلية كالطهي والتنظيف وجمع الحَطَب. وفي تاميل نادو — أول ولاية أُدخِلت فيها وجبات الغداء المدرسية — ساعد إدخال نظام الوجبات بدرجة كبيرة على زيادة معدل الالتحاق بالمدارس، وكان المرجو أن يشجع التوسُّع في تقديم تلك الوجبات على مستوى البلد كله الآباء على إرسال أطفالهم إلى المدرسة وإبقائهم فيها.46
دخل عدد من المنظمات غير الحكومة المبتكِرة مجال التعليم أيضًا في التسعينيات. إحدى تلك المنظمات — التي تركَّز نشاطها في المناطق الأكثر فقرًا في أندرا براديش — تمكَّنت من إلحاق جميع الأطفال في ٤٠٠ قرية بالمدارس، وأعدت دورة «تأهيلية» للأطفال الذين تأخروا في الالتحاق بالمدرسة (والذين كان معظمهم من الفتيات)؛ كانت تعطيهم فيها ستة أشهر من التدريب المكثَّف قبل إلحاقهم بالمنهج النظامي. واتبعت منظمة غير حكومية أخرى أساليب مشابهة فيما بين سكان العشوائيات بأكبر مدينة في الهند: مومباي. افتتحت تلك المنظمة ٣ آلاف روضة أطفال لتعليم الأطفال بين عُمر الثالثة والخامسة القراءة والكتابة. وفي المناطق العشوائية المزدحمة، حيث كانت المساحات المتاحة قليلة جدًّا، اسْتُخْدِمَت جميع أنواع الأماكن كرياض أطفال؛ من ساحات المعابد وشُرفات المدارس والحدائق العامة وحتى مكاتب الأحزاب السياسية. ومن مرحلة الروضة كان الأطفال يُرسَلون لاستكمال تعليمهم في المدارس البلدية النظامية. بحلول عام ١٩٩٨، كان ٥٥ ألف طفل قد مروا بهذه العملية، التي امتدَّ نطاق تطبيقها آنذاك ليشمل مدنًا وبلدات أخرى في شمال الهند وغربها.47
كان ثمة تفاوتات كبيرة في التنفيذ والفاعلية داخل منظومة التعليم بالولايات. فقد عانت المدارس في بيهار وأوتَّر براديش سوء الإدارة ونقص المرافق أو انعدامها؛ فلم يكن فيها سَبُّورات ولا مقاعد ولا دورات مياه للفتيات. وكان المعلمون غير مهتمين — وارتفعت نسبة التغيُّب عن المدرسة — والآباء غير مبالين. من الولايات الأفضل أداءً كانت كيرالا وتاميل نادو في الجنوب وهيماجل براديش في الشمال. كان تطور التعليم في الأخيرة سريعًا وكذلك غير متوقع، فقد سيطرت عليها طائفة الراجبوت، التي جرى العُرف على إبقاء نسائها في المنزل، وإضافةً إلى ذلك فهي ولاية جبلية، بها قرًى صغيرة متناثرة على مسافات متباعدة؛ مما جعل إنشاء المدارس صعبًا والوصول إليها أصعب. إلا أنَّ إدارة الولاية — تحت قيادة رئيس وزرائها النشط الدكتور واي إس بَرمار — تغلَّبت على تلك العوائق الطبيعية والثقافية. فبعد اقتطاع ولاية هيماجل براديش من البنجاب في أواخر الستينيات، جعل برمار التعليم الابتدائي عنصرًا محوريًّا في السياسة العامة. كان الإنفاق الحكومي على التعليم ضِعف المتوسط الوطني، ونسبة المعلمين إلى الأطفال أعلى بكثير من سائر أنحاء الهند. وسرعان ما أدرك الآباء مزايا إرسال أبنائهم وكذلك بناتهم إلى المدرسة. وعملت الأسر المعنِيَّة ومسئولو الإدارة القديرون على كفالة الحفاظ على المدارس في حالة جيدة وتوفير الحوافز اللائقة للمعلمين. وكانت النتائج مبهرة؛ ففي عام ١٩٦١، كانت ١١٪ فحسب من الفتيات متعلِّمات، وبحلول عام ١٩٩٨ كانت النسبة قد قفزت إلى ٩٨٪.48
على الرغم أنَّه لم يكن ثمة ولاية أخرى أداؤها مقارِب تعليميًّا لهيماجل براديش، فالبيانات تشير إلى أنَّ قطاع التعليم لم يعد خاملًا كما كان فيما مضى. بحلول نهايات التسعينيات، كانت نسبة المتعلِّمات قد ارتفعت من ٣٩٪ إلى ٥٤٪، بينما ارتفعت تلك النسبة لدى الذكور من ٦٤٪ إلى ٧٦٪. ووراء هذه التغيرات في العدد، كَمُنَ تغيُّر جوهريٌّ في العقلية؛ ففي الماضي كان أولياء الأمور الفقراء يُؤثِرون تشغيل أطفالهم على إرسالهم إلى المدرسة، والآن أصبحوا يرغبون في وضع أبنائهم في موضِع يمكنهم من خلاله — بشيء من الحظ وحِس المغامرة — الفرار من حياة قائمة على الأعمال الوضيعة إلى وظيفة في الاقتصاد الحديث. كتب التربوي فيمالا راماتشاندران عام ٢٠٠٤: «لم يسبق لكفَّة الطلب أن تبدو واعدةً إلى هذا الحد؛ فالأدلة الكاسحة الواردة من الدراسات التي أُجْرِيَت خلال الأعوام العشرة الأخيرة تظهر بوضوح أنَّ ثمة طلبًا هائلًا على التعليم، على جميع المستويات وفي مختلف الفئات الاجتماعية. فحيثما تكفل الحكومة توافر مدرسة حسنة الأداء، يرتفع معدل الالتحاق بالتعليم.»49

في حين أنَّ التطورات الحادثة في مجال التعليم كانت مبعث تفاؤل حذِر، ظلت آفاق قطاع الصحة قاتمة. كانت المستشفيات التي تملكها وتديرها الحكومة المركزية وحكومات الولايات في حالة يُرثَى لها؛ كانت مزدحمة، يكثر فيها الفساد، وتفتقر إلى المرافق الأساسية والأطباء المؤهلين. وبدت الطبقة السياسية غير مبالية، بل إنَّ الإنفاق العام على الصحة كان في انحدار؛ فقد شكَّل ١٫٣٪ من الناتج المحلي الإجمالي عام ١٩٩٠، ولكن بحلول عام ١٩٩٩ كانت النسبة قد انخفضت إلى ٠٫٩٪. وفي الوقت نفسه، حدث توسُّع هائل في الرعاية الصحية الخاصة، التي أصبح يُنسَب إليها قرابة ٨٠٪ من إجمالي الإنفاق على الصحة بحلول عام ٢٠٠٢. إلا أنَّ ذلك النوع من الرعاية الصحية استهدف خدمة الطبقة المتوسطة المتنامية. في بعض المناطق كانت منظمات غير حكومية متفانية تخدم الفقراء، الذين كانوا في أغلب الأنحاء يُهمَلون، فيلجئون إلى ممارسي الطب الشعبي أو الدجَّالين في القرى لمعالجتهم.

ربما كان يجدر بنا هنا عرض بعض الإحصاءات في هذا الشأن. كان متوسط العمر المتوقع عام ٢٠٠١ أربعة وستين عامًا فحسب، وفي كثير من الولايات، ظل معدل وفيات المواليد مرتفعًا؛ ففي ميجالايا — على سبيل المثال — بلغ المعدل تسعًا وثمانين حالة وفاة لكل ألف مولود. وكان ٦٠٪ من حالات الجُذام في العالم (نحو ٥٠٠ ألف حالة) متركِّزًا في الهند، كما أنَّ خمسة عشر مليون هنديٍّ كانوا مصابين بالسل، وهو الرقم الذي كان يزيد مليونين كل عام. وأُضيف إلى تلك الأمراض القديمة مرض جديد: الإيدز؛ فبحلول عام ٢٠٠٤، كان ثمة أكثر من ٥ ملايين هندي مصاب بفيروس نقص المناعة البشرية.50
كتب مُراقِب مُحنَّك يقول: «لقد كَفَّت الهند عن التفكير في الصحة العامة ودفعت الثمن غاليًا.»51

٨

لقد ارتقى التحرر الاقتصادي بحياة ملايين الهنود، لكنه لم يمَسَّ ملايين أكثر. وإضافةً إلى ذلك فثمة هنود تأثَّروا سَلبًا بتحرير السوق وفتح الاقتصاد للعالم الخارجي.

ربما كان الأديفاسي (أهل القبائل الأصلية) الموجودون في وسط الهند يحتلُّون موقع الصدارة بين الفئات المتضرِّرة من عملية التحرر الاقتصادي. كان الأديفاسي يعيشون في أكثر المناطق ثراءً بالموارد في الهند؛ فبها كانت أفضل الغابات، وأثمن المعادن، وأكثر الأنهار فيضًا. وعلى مَرِّ السنين، كانوا قد فقدوا كثيرًا من هذه الموارد لصالح الدولة أو الأغراب عن أرضهم، واجتهدوا في محاولة الحفاظ على ما تبقى.

كان من الوجهات المهمة التي استهدفتها النعرة القبلية إدارة الغابات، التي حظرت حصولهم على الأخشاب ومنتجات الغابات من غير الأخشاب؛ مثل: العسل والأعشاب، التي كانوا يجمعونها ويبيعونها لكسب عيشهم. وفي ولاية ماديا براديش، كان الاتجار في أوراق التِّندو (التي تُستَخدَم لعمل لفائف التبغ أو السجائر المحلية) مربحًا بصفة خاصة. كانت الحكومة قد سلَّمت زمام تلك التجارة إلى متعهدين من القطاع الخاص، ولكنَّ عملية الجمع الفعلي للأوراق كان يقوم بها أفراد من القبائل، وكان السعر الذي يتقاضونه نظيرها زهيدًا، بلغ ثلاثين روبية لكل ٥ آلاف ورقة. وفي مطلع التسعينيات، طالب القبليون برفع سعرها، وعندما رُفِضَ مطلبهم، أوقفوا حركة المرور على الطرق السريعة الرئيسية في الولاية.52
طبقًا لإحدى الدراسات، في حين أن الأديفاسي مثلوا ٨٪ من سكان البلد، فقد مثلوا ٤٠٪ من السكان الذين جرى تهجيرهم قسريًّا بسبب السدود والمناجم ومصانع الصلب ومشروعاتٍ أخرى مماثلة.53 وثَّقت دراسةٌ أخرى كيف أن حالهم، فيما يتعلق بالحصول على الخدمات التعليمية والصحية، كان حتى أسوأ من الداليت. وأظهرت استقصاءات تقارن بين الطائفتَين أنه بينما كان ٤١٪ من الداليت يعيشون تحت «خط الفقر» الرسمي، كانت النسبة الخاصة بالأديفاسي أقرب إلى ٥٠٪. بالمثل، بينما كانت نسبة المتعلمين الخاصة بالداليت منخفضة، وصلت إلى نحو ٣٠٪، فإن تلك الخاصة بالأديفاسي كانت أقل بمقدار ٦ نقاطٍ مئوية. وفيما يتعلق بالمرافق الصحية العامة، كان بإمكان واحد من كل ستة من الداليت الذهاب للأطباء والعيادات، مقارنة بواحد من كل أربعة في حالة الأديفاسي. ٤٣٪ فقط من الأديفاسي كان بإمكانهم الحصول على مياه شرب نظيفة، مقارنة ﺑ ٦٤٪ من الداليت.54
كان ثمة جماعات متباينة من النشطاء في مناطق الأديفاسي؛ بعضهم من الغاندِيين، وآخرون ماركسيون، وتضمنت القضايا التي تبنَّوها الحق في الأراضي والغابات وتوفير المدارس والمستشفيات اللائقة. لا شك أنَّ تلك الجماعات كانت هي الأكثر تَعَرُّضًا للإهمال من جانب الدولة الهندية، وكذلك للاستعلاء. فقد صنَّف النظام الاستعماري مجموعة من المجتمعات القبلية باعتبارها «إجرامية»؛ حيث تمثلت جريمتهم في أنَّهم لا يعيشون في قُرًى مستقرة، وإنما يتنقَّلون من مكان لآخر بحثًا عن مصدر للكسب. بعد الاستقلال، أُزِيلَت تلك القبائل من ذلك التصنيف، ولكنها ظلت مضطهدة. فقد عُرِفَ عن الموظفين المُعَيَّنين في المناطق القبلية ازدراؤهم للأشخاص الذين يتقاضون راتبهم نظير خدمتهم. فتلك القبائل — التي اتسمت بالهدوء قبلًا — اتَّجهت إلى الاحتجاج، تحت تأثير النشطاء، وترتَّب على ذلك نشوب سلسلة من الاشتباكات مع الشرطة.55
تمثَّل التأكيد الأشهر على وضع القبائل خلال تسعينيات القرن العشرين في حركة «أنقذوا نرمادا». لم تكن زعيمة الحركة — ميدها بَتكار — نفسها من أبناء القبائل، وإنما كانت إخصائية اجتماعية تربَّت وتحوَّلت إلى الراديكالية في بومباي. كانت تلك الحركة تستهدف وقف بناء سَد ضخم على نهر نرمادا كان من شأنه أن يُشَرِّد نحو ٢٠٠ ألف شخص، معظمهم من الأديفاسي في الأصل. فنظَّمت بتكار أبناء القبائل في سلسلة من المسيرات العامرة بالألوان إلى موقع السد في جوجارات، وإلى مدينة بوبال (عاصمة ماديا براديش، الولاية التي كان معظم الأفراد المهجَّرين ينتمون إليها)، وإلى عاصمة البلاد — دلهي — لطلب العدالة من حكومة الهند. وأقدمت زعيمة الحركة نفسها على الصوم عن الطعام لفترة طويلة عدة مرات بغية جذب الانتباه إلى معاناة جماعتها.56

لم يفلح كفاح بتكار في وقف بناء ذلك السد بعينه، ولكنه جذب الانتباه على نطاق واسع بالفعل إلى سجلِّ الحكومة المخزي في إعادة توطين الملايين الذين يُهَجَّرون من منازلهم بسبب المشروعات التنموية. إلا أنَّ الاعتراف الرسمي بمعاناة الأديفاسي طويلة الأمد جاء عبر إنشاء ولايتين جديدتين داخل الاتحاد عام ٢٠٠٠؛ هما: جهارخاند وماديا براديش، حيث اقْتُطِعت الأولى من المناطق القبلية في بيهار، بينما اقْتُطِعَت الثانية من المناطق القبلية في تشاتيسجار. وشُكِّلَت أيضًا ولاية أوتَّراخند، من المناطق الجبلية في أوتَّر براديش، الغنية أيضًا بالموارد الطبيعية المُعرَّضة لاستغلال قلةٍ من أصحاب المصالح ذوي النفوذ.

كانت أوريسَّا إحدى الولايات التي بها عدد كبير من القبليين. وهي كانت تنقسم إلى منطقة ساحلية، تسيطر عليها الطوائف الهندوسية العليا، وسلاسل جبلية في الداخل، تعيش فيها مجتمعات متنوعة من الأديفاسي. يمثل الهندوس أغلبيةً في الولاية ككل، ويتركز في أيديهم مُعظم السلطة السياسية والإدارية. وفي عام ١٩٩٩، تغلَّبت أوريسا — إن جاز التعبير — على بيهار لتصبح الولاية الأكثر فقرًا في الهند. والقبائل التي تقطن المرتفعات هي الأكثر فقرًا وعُرضةٌ للاستضعاف بين سكان أوريسا؛ فسواء من حيث الأرض أو الدخل أو المرافق الصحية أو نسبة المتعلِّمين، كانوا متأخرين عن بقية الولاية كلها. القبائل تعتمد بدرجة كبيرة على الأمطار الموسمية وعلى الغابات لبقائها، ومع زوال الغابات، وشُحِّ الأمطار أحيانًا، ازداد انغماسهم في مستنقع الفقر، كما كان يتبيَّن بصفة دورية في حالات الموت جوعًا.57
تكمن ثروة تلك المرتفعات في باطن الأرض بالأساس؛ فأوريسا تمتلك ٧٠٪ من احتياطيات البوكسيت في البلاد، كما تتمتع بمخزون وفير من رواسب خام الحديد. يتركَّز هذان المعدنان في منطقتي راياجادا وكورابوت القَبَلِيَّتين. في الماضي، كانت شركات هندية من القطاع العام هي التي تتولى استخراج هذين المعدنين الخامين، ولكن في التسعينيات حلت الشركات الخاصة محلها، سواء المحلية أو الأجنبية. ووقعت حكومة الولاية سلسلة من العقود، قدَّمت بموجبها الأرض بأسعار جذابة للشركات التي ترغب في التنقيب عن المعادن في تلك الجبال.58

طرح ائتلاف أُتكال ألومينا — الائتلاف الذي ضم شركة كندية وأخرى نرويجية إلى مجموعة أديتيا بيرلا — أحد المشروعات الأكثر طموحًا. وجَّه هذا الائتلاف أنظاره إلى جبال بابليماني في قسم كاشيبور بمنطقة راياجادا، الذي حوت أرضه في باطنها ٢٠٠ مليون طن من رواسب البوكسيت. تمثَّل المقترح في التنقيب عن خام هذا المعدن ونقله إلى معمل تنقية حديث الإنشاء، لكي يعالج المادة الخام ويُصَدِّر المنتَج المنقَّى إلى الخارج.

كانت بعض الأراضي التي ستُسْتَخْدَم في تلك العمليات مملوكة للحكومة، ولكن القبائل كانت تزرع نحو ٣ آلاف فدان منها، فلم ترَ في ذلك المشروع نفعًا، الذي كان سينتزع منهم أراضيهم دون إعطائهم شيئًا في المقابل. التقى وفد من النشطاء القبليين برئيس وزراء الولاية وطالبوه بإلغاء التعاقد، فرُفِضَ طلبهم. وفي المقابل، أرسلت الحكومة فريقًا لاستطلاع حالة الأراضي تمهيدًا لمصادرتها. وعلى مدار الأعوام القليلة التالية جرَّب أهل القبائل استراتيجيات متنوعة لوقف إطلاق المشروع؛ فحُظِر على موظفي أُتكال ألومينا دخول القرى، وسُدَّت الطرق، ونُظِّمَت مسيرات للتوعية بالأضرار البيئية والاجتماعية التي من شأنها أن تنشأ عن التعدين. وعندما أنشأت الشركة نموذجًا لنوع المساكن التي تنوي نقل أهل القبائل إليها، ما كان من المستفيدين المستقبليين إلا أن هدموا النموذج.59
إلا أنَّ الإدارة كانت عازمة على المضيِّ قدمًا في المشروع؛ إذ اعتبرته مصدر دخل كبير لخزانة الدولة، وهو العائد الذي نُوِيَ أن يئُول بعضه للأحزاب ولجيوب الساسة أيضًا؛ ففي مارس ١٩٩٩، ذهبت مجموعة من مختصي العلوم الاجتماعية من دلهي في زيارة إلى راياجادا وكتبوا تقريرًا حذَّروا فيه حكومة أوريسا من أنَّه «إذا لم تُعالَج مشاعر السخط الشعبي فيما بين القبائل المحلية بشأن مصادرة الأراضي معالجةً سليمة فربما تتحول هذه المنطقة المسالمة إلى مرتع لنشاط الناكسَل [الماويين]».60 وبعد مرور عام ونصف العام، جاء الصحفي داريل ديمونتي من مومباي لدراسة الوضع. وجد القبائل قاطعةً في معارضتها، وأخبروه أنَّ المناجم سوف «تدمر النظام البيئي في هضبة بابليماني». وقال أحد زعماء الأديفاسي إنهم سيمنعون جميع أنواع المركبات من دخول المنطقة. وقال في إصرار: «نحن مستعدون للعواقب كافة.» وأردف: «عند نشوب حريق، يجب على الجميع التهيُّؤ لأن تحرقهم النار.» وأشار ديمونتي إلى أنَّ الحكومة عازمة بالقدر ذاته على الدفع بالمشروع حتى اكتماله، وقال: «على مدار الأعوام الخمسة الماضية، كانت إدارة المنطقة — بالتعاون مع الشرطة ورجال السياسة — تكاد تقوم مقام طليعة الجيش بالنسبة إلى الشركات.»61
نشب الحريق بعد شهرين، وكان أهل القبائل هم من احترقوا بناره؛ ففي يوم ١٥ ديسمبر، نظَّم حزب بيجو جاناتا دال الحاكم مؤتمرًا في المنطقة، لكسب تأييد أهلها للمشروع؛ فرفض القرويون الغاضبون السماح للحكومة بعقد المؤتمر، فجاءت ثلاث فصائل من الشرطة لتفريق المتظاهرين، ولكن مجموعة من النساء تصدَّت لها، فعندما هجمت الشرطة بالعصي، جاء الرجال لمساعدة النساء، وفي مرحلة ما فتحت الشرطة النار، لتقتل ثلاثة من أبناء القبائل. وكان من بين أول مَن أعربوا عن تضامنهم معهم الثوريون الماويون.62

٩

لا جدال في أن الهند لطالما اتسمت بتفاوتات حادة. كانت بعض المناطق وبعض الفئات الاجتماعية أفقر من غيرها بصورة ملحوظة، إلا أنَّ الإصلاحات الموجَّهة نحو السوق في التسعينيات نزعت إلى إبراز تلك التفاوتات. كان معدل نمو الولايات الأكثر فقرًا هو الأبطأ خلال ذلك العقد، بينما نمت الولايات التي كانت أفضل حالًا بالفعل بمعدل أسرع. فخلال التسعينيات، سجَّلت بيهار معدل نمو سنويًّا قدره ٢٫٦٩٪، بينما كانت النسبة المقابلة في أوتَّر براديش هي ٣٫٥٨٪ و٣٫٢٥٪ في أوريسا. وفي المقابل، بلغ معدل النمو في جوجارات ٩٫٥٧٪، و٨٫٠١٪ في مهاراشترا، و٦٫٢٢٪ في تاميل نادو. بصفة عامة، كانت الولايات حسنة الأداء في جنوب البلاد وغربها، بينما كانت الولايات متوسطة الأداء في الشمال والشرق، واحتلت ولايتا بيهار وأوتَّر براديش ذواتا الكثافة السكانية بالغة الارتفاع قاعدة الهرم؛ ففي عام ١٩٩٣، كانت هاتان الولايتان تحتكمان على ٤١٫٧٪ من فقراء الهند، وعلى ٤٢٫٥٪ منهم عام ٢٠٠٠.63
بدا أنَّ الأداء الاقتصادي يعتمد اعتمادًا حاسمًا على الملَكات الأصلية من رأس مال بشري وبنية تحتية مادية. فالولايات التي كانت تتمتع بمدارس ومستشفيات أفضل، ومن ثم قوة عاملة أكثر مهارةً وصحة، كانت عادةً هي الولايات التي تتمتع أيضًا بطرق أفضل وطاقة كهربائية أكثر كفاءة وإدارات أقل فسادًا.64 وبطبيعة الحال، كانت تلك الأماكن هي التي تجتذب الاستثمار والمستثمرين؛ ففي عهد ما قبل الإصلاح، كانت الحكومة المركزية كثيرًا ما تختار إقامة الصناعات في المناطق التي تُعتَبَر «متخلفة». إلا أنَّ رواد الأعمال الخاصة لم يتقيَّدوا بالتزام من هذا القبيل، فقد كانوا يوجهون أنظارهم إلى المناطق التي يمكن أن يحققوا فيها أعلى عائد على رءوس أموالهم. وتمثلت تلك المناطق في الولايات الجنوبية والغربية، التي تلقَّت دفعة إضافية إلى الأمام نتيجة لذلك.
على الرغم من ذلك، فحتى أكثر الولايات ازدهارًا لم ينعم فيها سكان الولاية كافة بالازدهار. تزعمت عاصمتا ولايتي كارناتاكا وأندرا براديش — بنجالور في الأولى وحيدر أباد في الثانية — طفرة البرمجيات، إلا أنَّ ظهيرهما الخلفي نفسه تخلَّف عنهما كثيرًا؛ ففيما بين عامي ١٩٩٤ و٢٠٠٠، نما متوسط الإنفاق الاستهلاكي للفرد في ريف كارناتاكا بمعدل ٩٫٥٪ سنويًّا، بينما نما في حضر كارناتاكا بمعدل ٢٦٫٥٪، وكانت النسبة المقابلة في أندرا براديش هي ٢٫٨٪ (في الريف) و١٨٫٥٪ (في الحضر). وبالنظر إلى الهند قاطبة، نجد أن الإنفاق نما بمعدل ٨٫٧٪ في الريف، ولكن ذلك المعدل بلغ ١٦٫٦٪ في المدن.65
وكما علَّق الاقتصادي تي إن سرينيفاسان في ٢٠٠٠، فإن تلك التفاوتات الشاسعة معناها أنَّه «إذا كان المرء فقيرًا في الهند»، فإذن:
سيصير من الأرجح أن يعيش في المناطق الريفية، وأن يكون عضوًا في الطوائف الاجتماعية أو القبائل الْمُجَدْوَلَة أو غيرها من الفئات المضطَهدة اجتماعيًّا، وأن يعاني سوء التغذية والمرض وضعف الصحة، وأن يكون أُمِّيًّا أو تعليمه ضعيف المستوى ومهاراته متدنية، ويصير من الأرجح أن يعيش في ولايات معينة (مثل … بيهار وماديا براديش وراجستان وأوتَّر براديش وكذلك أوريسا) دون غيرها.66
فالازدهار كان قائمًا جنبًا إلى جنب مع البؤس بالفعل، وكذلك تطوُّر التكنولوجيا كان قائمًا جنبًا إلى جنب مع تدهور البشر. وقد قدَّمت محادثة جرت بين رئيس الوزراء الهندي وقرويين في أوريسا في سبتمبر ٢٠٠١ تصويرًا كاشفًا لتناقضات الحياة في الهند. فمن بيته في نيودلهي، تحدَّث أتل بهاري فجبايي عبر الأقمار الصناعية إلى أبناء القبائل في كاشيبور، الذين مات ذووهم من جرَّاء أكل بذور المانجو لأنَّ محاصيلهم تلفت؛ فقال رئيس حكومة استطاعت التحدث إلى مواطنيها عبر الهاتف المرئي، لكنها عجزت عن إمدادهم بغذاء صحي: «إنه لأمر مؤسف للغاية أن يموت أشخاص في عالم اليوم من جراء تناول طعام مُسَمَّم.»67

١٠

في عام ٢٠٠٤، تحوَّل الاقتصاد الهندي إلى موضوع نقاش في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. كان ذلك حدثًا غير مسبوق، والأكثر إثارةً للدهشة هو أنَّ موضوع المناقشة لم يكن فقر الهنود بل ثراءهم؛ فخلال عدة خُطَب انتخابية، عمل المرشح الديمقراطي جون كيري على تأجيج المخاوف من أن يزداد إرسال الوظائف الأمريكية شرقًا عبر البحار إنْ أُعيد انتخاب الرئيس بوش. ووعد كيري بأنه في حالة انتخابه، سيعيد فرض نظام حِمائي لإنقاذ الوظائف الأمريكية من «براثن بنجالور». وكانت تلك أيضًا سابقة؛ حيث كانت تلك أول مرة يخصُّ بها مرشح رئاسي مدينة هندية بالذكر باعتبارها خطرًا يهدد المصالح الأمريكية.

كان ثمة ساسة أمريكيون آخرون انخرطوا في تلك الممارسة قبل كيري؛ ففي عام ٢٠٠٢، ترشح مبرمِج كمبيوتر من فلوريدا للكونجرس ببرنامج مكوَّن من نقطة واحدة: إنهاء «التعهيد». وفي العام نفسه، طرحت عضوة في مجلس شيوخ نيوجيرسي مشروع قانون لحظر تعهيد عقود الولاية إلى شركات أجنبية، شاكيةً — مثل نظيرها في فلوريدا — شركات الكمبيوتر الهندية بالأساس ومتخصصيها. لقد أبدى هؤلاء السياسيون تعاطفًا إزاء «المبرمِج الحانق»، وإزاء الأمريكيين الذين فقدوا وظائفهم للهنود وأرادوا استعادتها.68
في ديسمبر ٢٠٠٣، نشرت مجلة «بيزنس ويك» المهمة قصة غلاف بعنوان «صعود الهند»، ذكرت فيها أنَّ بنجالور أصبح فيها الآن مهندسو تكنولوجيا المعلومات أكثر مما في وادي السيليكون بأكمله. وأضافت أنهم كانوا يعملون لحساب عملاء أمريكيين بالأساس؛ من شركات عملاقة مثل جنرال إليكتريك رغبت في حل مشكلات هندسية معقدة، وكذلك مزارعين في كانساس لا يرغبون إلا في إعداد إقرارهم الضريبي. علَّقت المجلة على أنَّ «هذه الانطلاقة التكنولوجية رائعة للهند، ولكنها مخيفة للأمريكيين». فالعمال المحليون الذين يُسْتَغْنى عنهم بإحلال أجانب محلهم سيتعرضون إلى «تغيُّر عاصِف»؛ فقِلة منهم هي التي ستتمكَّن يومًا من الحصول على وظيفة براتب جيد كالوظيفة التي فقدوها لتوِّهم. وأضافت: «لا عجب في أنَّ الهند كانت مركزًا لعاصفة تختمر في الولايات المتحدة الأمريكية.» كانت المجالس التشريعية للولايات تحت ضغط المطالبة بحظر التعهيد، وبعضها رضخ، مثل: إنديانا، التي فسخت العقود المُبرَمة مع شركات هندية.69
يكتب بعض المعلِّقين على نهضة الهند الاقتصادية بنبرة مذعورة، وآخرون بنبرة إعجاب؛ ففي أبريل ٢٠٠٤، أعلَمت مجلة «نيوزويك» قُرَّاءها بأنَّ الهند لم تَعُدْ بلدًا فقيرًا جاهلًا من بلدان العالم الثالث، وإنما أضحت «بيئة مواتية للنشاط التجاري»، بل «شريكًا جديرًا بالاستثمار» للأمريكيين والشركات الأمريكية.70

توالت التنبؤات بسرعة وكثرة بأنَّ الهنود سوف يستولون على وظائف الأمريكيين والأوروبيين، وأنَّ الهند — إلى جانب الصين — ستصبحان القوتين العظميين العالميتين خلال القرن الحادي والعشرين. وسواءً كانت تلك التنبؤات نابعة من الخوف وجنون الارتياب، أم من الدهشة والإعجاب، فلا بد من اعتبار صدورها من الأساس معجزة؛ فطوال معظم تاريخ الهند كدولة مستقلة، كانت تسمع حديثًا مغايرًا لذلك تمامًا. فبعد كل واقعة شغب طائفي، كان يُقال إنَّ الهند ستتفكك أجزاءً متفرِّقة، وكلما شحَّت الأمطار الموسمية، تردَّدت النبوءات بحدوث قحط ومجاعات جماعية، وعقب وفاة زعيم كبير أو مقتله، كانت تسود نبوءات بأنَّ الهند ستتخلى عن الديمقراطية وتصبح دكتاتورية.

نشأت تلك التنبؤات المبكرة أيضًا عن دوافع متنوعة؛ فكان بعضها صنيعة القلق، والبعض الآخر صنيعة الشفقة أو الازدراء. وقد بثَّت في نفوس الهنود المثقفين مشاعر الغضب والحَرَج. إلا أنْ تلك النبوءات الأحدث أفضت إلى مدٍّ متنامٍ من الزهو. نشرت الصحف والمجلات الهندية قصصًا بعنوان «أبطال العالم» و«الطريق إلى الصدارة». وأبدى أحد الكُتاب الصحفيين في دلهي يقينًا أكيدًا من أنَّ الهند في سبيلها إلى أن تصبح عملاقًا عالميًّا، حتى إنَّه أعرب عن تَخَوُّفه من أن تكرِّر أخطاء سابقيها؛ ففي حين أنَّ الغرب في ذروة مجده استغل المستعمرات بلا رحمة، حثَّ «الشركات الهندية على إقامة علاقات ود وصداقة مع البلدان الأخرى». وقال إنَّ المهم هو «التأكُّد من عدم النظر إلى الهند على أنَّها قوة إمبريالية قاسية في عالم الغد». إلا أنَّ تحوُّل الهند إلى قوة إمبريالية فعلًا عما قريب اعْتُبِرَ مسألة مفروغًا منها.71

كانت تلك التوقعات الأقدم لسقوط الهند مبالَغًا فيها بدرجة هائلة. لقد أتاح الدستور الذي صاغه مؤسسو الدولة الهندية للتنوع الثقافي الازدهار في محيط دولة قومية (وديمقراطية) واحدة. إلا أنَّ الاحتفال بتحول الهند الوشيك لقوة عظمى كان أمرًا سابقًا لأوانه أيضًا. فعلى الرغم من النجاحات الظاهرة للاقتصاد الجديد، فكان لا يزال ثمة شرائح كبيرة تعاني الفقر والحرمان، ولا يمكن معالجة هذه الاختلالات إلا بتدخُّل حازم من جانب الدولة، والدولة في نحو عام ٢٠٠٠ متآكلة وفاسدة إلى حد يمنعها من التصرُّف بقدر كبير من الحزم. فقد كانت رؤية الهند على أنَّها في سبيلها إلى الضياع سريعًا خاطئة، وكذلك الحال بالنسبة للرؤية الحالية لها باعتبارها ستتخذ عما قريب مقعدًا بين صفوة دول الأرض.

١١

في أكتوبر ١٩٩٩، انتهت تجربة باكستان القصيرة مع الديمقراطية البرلمانية. عُزِلَ رئيس الوزراء نواز شريف من منصبه إثر انقلاب بقيادة رئيس أركان الجيش برويز مُشَرَّف. لم تَرُق تلك التطورات للهند؛ إذ كان ثمة اعتقاد سائد بأنَّ العقل المدبر وراء عملية كارجيل في وقت سابق من ذلك العام هو مشرَّف.

في مارس من عام ٢٠٠٠ زار الرئيس كلينتون جنوب آسيا. فقضى خمسة أيام في الهند وخمس ساعات في باكستان، في تنافٍ تاريخي مع الانحياز الأمريكي التقليدي للبلد الأصغر. كان ذلك اعترافًا منه بتنامي قوة الهند الاقتصادية، وتعقيبًا كذلك على ارتداد باكستان إلى الحكم العسكري.

أثناء الحرب الباردة أبدت الولايات المتحدة الأمريكية ميلًا واضحًا إزاء باكستان. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، تحولت إزاء موقفٍ متعادل بين الهند وباكستان. وكانت زيارة كلينتون تشير إلى أن أمريكا قد بدأت تبدي في واقع الأمر تفضيلًا للهند. وكانت الأسباب التي تقف وراء ذلك اقتصاديةً بالأساس؛ فهي نابعة من الشعور بأنَّها كانت سوقًا كبيرة للبضائع الأمريكية. ففي عام ١٩٩٠، كان حجم التبادل التجاري بين الهند والولايات المتحدة الأمريكية قدره ٥٫٣ مليارات دولار أمريكي، وبحلول ذلك الوقت، كان ذلك الرقم قد وصل إلى ثلاثة أمثاله تقريبًا. وبالتالي، بينما مالت واشنطن على مدار عقودٍ طويلة من الزمان إلى معاملة الهند على أنها «بيدق غير ذي شأن» في الحرب الباردة، فإنها بحلول نهاية القرن العشرين كانت قد أصبحت «حليفًا طبيعيًّا».72
وفي اليوم التالي لوصول كلينتون إلى نيودلهي، هجم إرهابيون مرتدون الزي العسكري الهندي على قرية تشتِّيسِنجبورا في كشمير، حيث أخرجوا رجالًا سيخ من منازلهم وأَرْدَوْهم قتلى؛ ففي قرية تحوي ٣٠٠ مسكن، «كل بيت تقريبًا … فَقَد قريبًا أو جارًا أو صديقًا». وتفاقمت المأساة بإطلاق قوات الأمن الرصاص على خمسة رجال بزعم ارتكابهم الجريمة ثم ظهرت براءتهم فيما بعد.73
الأرجح أنَّ القتلة في تشتِّيسِنجبورا كانوا يعملون لحسابهم الخاص دون دعم من الحكومة الباكستانية. إلا أنَّه لم يكن ثمة شك يُذكَر في أنَّ قضية كشمير ظلَّت سببًا عميقًا للفُرقَة بين الدولتين. وكان الرئيس مشرَّف يُرَدِّد مذكِّرًا بصفة دورية التزام باكستان الباقي تجاه «معركة تحرير» الكشميريين، فكان رئيس الوزراء الهندي يوبخ نظيره الباكستاني لتشبُّثه «بنظرية الدولتين الخبيثة التي جلبت التقسيم».74

لم يكن أي من البلدين على استعداد للقَبول بموقف البلد الآخر فيما يتعلق بكشمير، إلا أنَّ الحوار بينهما اسْتُؤْنِفَ، ربما بدافع الحاجة إلى التصرُّف كقوتين نوويتين مسئولتين في نظر العالم؛ ففي يوليو ٢٠٠١ زار الرئيس مشرف أجرا بناءً على دعوة الحكومة الهندية، وأُعِدَّت له ولزوجته الإقامة في فندق فاخر يطلُّ على تاج محل. تبادل الجنرال وفجبايي أطراف الحديث ساعات طويلة، بصحبة مساعديهما وعلى انفراد. إلا أنَّ المشاورات انتهت دون التوصل إلى نتيجة حاسمة، حيث جاءت مسودة البيان الرسمي غير مُرضية للطرفين؛ حيث كانت الهند ترغب في تأكيدٍ أكبر على مسألة الإرهاب العابر للحدود، بينما طالبت باكستان باعترافٍ أكثر صراحةً بالتطلُّعات الديمقراطية لشعب كشمير.

أثناء وجود الجنرال مُشَرَّف في أجرا، نفَّذ الإرهابيون عملية أخرى في وادي كشمير، قُتِلَ فيها ثمانون شخصًا على الأقل في اثني عشر هجومًا منفصلًا. كان ذلك قد بدأ يصير نمطًا متكررًا؛ فمتى أتت شخصيات مهمة لزيارة نيودلهي، تصاعد العنف في كشمير. فعندما جاء وزير الخارجية الأمريكي كولِن باول في أكتوبر ٢٠٠١، شَنَّ الإرهابيون هجومًا بالقنابل اليدوية على مجلس ولاية جامو وكشمير. وبعد مرور شهرين، نفَّذوا عملية أكثر جرأة؛ فقد اقتحم أربعةٌ انتحاريون مبنى البرلمان الهندي بسيارة وحاولوا تفجيره، ولكن الشرطة قتلتهم، وأعلنت فيما بعدُ أنَّهم باكستانيون.75

مثَّل مبنى المجلس التشريعي في سريناجار رمزًا لوحدة الولاية مع الهند. بينما مثَّل مبنى البرلمان في نيودلهي رمز الديمقراطية الهندية ذاتها. فبين جدرانه كان يلتقي الساسة المنتخبون الذين يمثلون مليار شخص. فكان الهجوم على هذين المكانين نهايةً للحوار الدبلوماسي. واتهمت الهند باكستان بتحريض الإرهابيين، وناشدت الحكومة الأمريكية كبح جماح حليفها القديم. وأضافت الهند أنَّها تعاطفت مع الولايات المتحدة بعد أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١، وأنَّ ما يزيد تعاطفها إخلاصًا هو أنها طالما كانت ضحية العنف الإرهابي.

في ربيع عام ٢٠٠٢ ازدادت وتيرة المواجهات بين القوات الهندية والقوات الباكستانية. ومع تبدُّل الربيع صيفًا، وتضاعُف حشد القوات على الجانبين، عادت مخاوف عام ١٩٩٨ إلى الظهور؛ فهل سيُقَدَّر لشبه القارة الهندية أن تشهد أول مواجهة نووية؟ رأت مجلة نيبالية شهرية محترمة أنَّ المنطقة «تقف على أعتاب الحرب مرة أخرى»، بينما كان أحد المحللين الأمريكيين البارزين على قناعة بأنَّ «الأزمة الواقعة بين الهند وباكستان هي المواجهة الأخطر منذ إبحار السفن السوفييتية لكسر الحصار البحري الأمريكي لكوبا عام ١٩٦٢».76
في النهاية اجتُنِبَت الحرب، وإنْ كان المحتمل أنَّها لم تكن في الحسبان من الأساس. وداخل الهند، تحوَّل الانتباه صوب انتخابات المجلس التشريعي المقبلة في كشمير. فقد كان لتلك الولاية — كما أعربت صحيفة في دلهي صراحةً — «باع طويل في تزوير الانتخابات»، مع كون انتخابات عام ١٩٧٧ استثناءً القاعدة.77 في الماضي كانت اللجنة الانتخابية — في كشمير على أي حال — «تظهر دائمًا مصاحبةً لقوات الأمن وموظفي حكومة الولاية ذوي الانتماءات الحزبية؛ ومن ثمَّ تبدو متعاونة معهم». ولكنها حاولت جاهدة تحسين سُمعتها هذه المرة؛ فقد أمر رئيس اللجنة الانتخابية بإجراء مراجعة كاملة لقائمة الناخبين، التي لم تتغير منذ عام ١٩٨٨. فأفرز استطلاع مُستَفيض لكافة المنازل قائمة جديدة شاملة، غطت ٣٥٠ ألف صفحة بالكتابة الأردية الأنيقة رغم صعوبة طباعتها. بعد ذلك وُزِّعَت نُسَخ من القوائم الانتخابية على الأحزاب كافة، وعُرِضَت في المدارس والمستشفيات والمصالح الحكومية في جميع أنحاء الولاية. ولمزيد من الاحتياط، تم استيراد ٨ آلاف ماكينة للتصويت الإلكتروني، بهدف منع التزوير.78
عُقِدت انتخابات مجلس الولاية في سبتمبر ٢٠٠٢. كانت العناصر المسلحة قد اغتالت أحد الشخصيات المعتدلة البارزة قبيل الانتخابات مباشرةً وحثَّت الناس على مقاطعة الانتخابات. ولكن على الرغم من هذه التهديدات، بلغت نسبة الإقبال ٤٨٪ من الناخبين المؤهَّلين للتصويت، وهي نسبة أقل قليلًا من النسبة المعتادة في أنحاء أخرى من الهند، ولكنها أكثر بكثير مما كان متوقَّعًا. وحضر مراقبون دوليون لتأكيد نزاهة الانتخابات. فكانت نتيجة التصويت ابتعاد حزب المؤتمر الوطني الكشميري عن السلطة، وفوز تحالف مكوَّن من حزب المؤتمر والحزب الديمقراطي الشعبي. وكتب متابعان قديمان للشئون السياسية بالولاية أنَّ انتخابات عام ٢٠٠٢ يمكن «اعتبارها انقلابًا على انتخابات مجلس ١٩٨٧ التي حفَّزت بتضييقها الحيِّز الديمقراطي ظهور السياسات الانفصالية … هذه الانتخابات أحدثت تغيُّرًا في النظام من خلال حكم الشعب. ومن هذا المنطلق سيكون لها دور محوريٌّ في الوصل بين الشعب والحكومة».79 وأعرب رئيس وزراء الولاية الجديد — مفتي محمد سعيد — عن هذه المشاعر بوضوح أكبر، قائلًا: «هذه أول مرة منذ عام ١٩٥٣ تكتسب فيها الهند مشروعيةً في نظر الشعب الكشميري.»80

١٢

بعد انهيار مسجد بابري في ديسمبر ١٩٩٢، كانت العناصر الراديكالية الهندوسية تأمل في بناء معبد مهيب في مكانه. فكُلِّف مهندسون معماريون بتصميم صرح رخامي، واستُعين بحِرَفيِّين لقطع الأحجار وصقلها. إلا أن الموقع نفسه ظل في عهدة الدولة. ورُفِعَت قضايا أمام كلٍّ من المحكمة العليا في الله أباد ومحكمة الهند العليا، لحسم مسألة ما إذا كان قد سبق وجود معبد للإله رام في هذه البقعة من قبل، وما إذا كان للمجلس الهندوسي العالمي حق قانوني (كما زعم) في الأرض المحيطة بالمسجد القديم. أُجْرِيَت محاولات أيضًا للعثور على حل خارج نطاق المحاكم؛ فالتقى كاهن كانتشي قوي التأثير بلجنة عمل مسجد بابري، وحثَّها على تسليم ذلك المكان في مقابل عدم مطالبة المسلمين بأي شيء آخر.

ظل حزب بهاراتيا جاناتا ملتزمًا بتشييد معبد في أيوديا، وعندما جاء الحزب إلى السلطة عام ١٩٩٨، قال إنَّه سوف يسعى إلى التوصل إلى وِفاق وطني في هذا الشأن، وإنه في حالة عجزه سوف يسن تشريعًا يتيح تشييد المعبد. وقال رئيس الوزراء أتَل بِهاري فَجبايي: «راما يحتل مكانة جليلة في الثقافة الهندية»، وزعم أنَّ «البلد كله يريد معبدًا للإله راما في أيوديا» وأنَّ المسألة هي «كيف وأين يمكن بناؤه».81

إلا أنَّه في الموقع نفسه، ظل الحال على ما هو عليه، فقد أطالت المحكمتان النظر في المسألة، ولم يُتمكَّن من الوصول إلى تسوية خارجهما. وفي تلك الأثناء، نظَّم المجلس الهندوسي العالمي جولات في أيوديا للمتطوعين من جميع أنحاء البلاد. وأقام أيضًا مراسم احتفالية دينية تمهيدًا لبناء المعبد، أحد تلك المراسم — أُقيم في الأسبوع الأخير من فبراير ٢٠٠٢ — حضره مئات المتطوعين من ولاية جوجارات. وفي طريق عودتهم بالقطار إلى ديارهم، اشتبكوا مع بائعين مسلمين في محطة القطار ببلدة جودرا، فقد طلبوا من البائعين ترديد شعارات إجلالًا للإله رام، وعندما رفضوا شدَّوا لِحاهم. ذاع نبأ المشاجرة، وجاء شباب من الحي السكني المسلم المقابل للمحطة ليشاركوا في الشجار؛ فعاد المتطوعون أدراجهم إلى القطار، الذي بدأ يتحرك أثناء رشقه بالحجارة، إلا أنَّ القطار توقف عند الضواحي المحيطة بالمحطة، عندما شَبَّ حريق في إحدى عرباته، ولَقِيَ ثمانية وخمسون شخصًا مصرعهم في الحريق.

كان لبلدة جودرا تاريخ طويل مع العنف الطائفي؛ إذ شَهِدَت أعمال شغب خطيرة عام ١٩٤٩، ومرة أخرى عام ١٩٨١. فمن الواضح أنَّ الهندوس والمسلمين فيها لم يكونا على وِفاق دائم، وأنَّ مشكلة أيوديا زادت علاقتهما توترًا، ولا جدال أيضًا في أنَّ واقعة محطة القطار بدأت بمضايقة المتطوعين للبائعين المسلمين. أما ما لم يتضح حتى الآن فهو سبب الحريق الذي شَبَّ لاحقًا. زعم المجلس الهندوسي العالمي أنَّه صنيعة يد جمهرة من المسلمين، بينما تشير أدلة المعمل الجنائي إلى أنَّه نشأ داخل القطار، في الأرجح عند اشتعال النار في أسطوانة غاز أو موقد كيروسين بسبيل الخطأ.82
سرعان ما ذاع في أنحاء جوجارات نبأ موت مجموعة من المتطوعين حرقًا في جودرا. تبع ذلك موجة من العنف الانتقامي، بلغ أكثر درجاته شِدة وترويعًا في مدينتي أحمد أباد وبارودا. فهاتان المدينتان — اللتان اشتهرتا يومًا برجال الصناعة الخيِّرين والمثقفين التقدُّميين، واللتان كانتا يومًا مركزين للابتكار التقني والتميُّز الفني — عايشتا فترة تدهور اقتصادي مطوَّلة، وصاحب ذلك التدهورَ تدهورٌ في العلاقات المجتمعية. فصار من النادر أن يشترك الهندوس والمسلمون معًا في العمل أو اللهو، وهو فصل تجسَّد في الماضي القريب في صورة نوبات من العنف الطائفي.83
كانت أعمال الشغب الأخيرة في بارودا وأحمد أباد غير مسبوقة في وحشيتها. هوجِمت المتاجر والأعمال المملوكة للمسلمين، وأُحْرِقَت المساجد، وخُرِّبَت السيارات، واغْتُصِبَت النساء المسلمات، بينما قُتِلَ الرجال، وأُشْعِلت النيران في جثثهم. في كثير من الأحيان كانت الجماهير الغاضبة تعمل تحت قيادة نشطاء من المجلس الهندوسي العالمي، بالتعاون مع الإدارة المحلية. وتضمنت أسلحتهم السيوف والأسلحة النارية والزجاجات الحارقة وأسطوانات الغاز، وقد كان المخرِّبون بحوزتهم قوائم للناخبين، أتاحت لهم تحديد أي المنازل مملوكة للمسلمين وأيها غير مملوك لهم. وأقام وزراء حكومة الولاية معسكرًا في حجرات مراقبة تابعة للشرطة، ليديروا منها العمليات، فقد تلقَّت الشرطة تعليمات بأن «تترك زمام الطرق لجماهير المجلس الهندوسي العالمي وبجرانج دال».84
إلى جانب بارودا وأحمد أباد، وصل العنف أيضًا إلى بلدات وتجمُّعات سكنية ريفية أصغر حجمًا؛ ففي منطقة ساباركانتا، طافت الجماهير الغاضبة أنحاء الريف في جرَّارات وسيارات جيب، مستهدفةً ممتلكات المسلمين. وثمة سجل رقمي متاح لحصيلة أفعالهم، تمثل في الآتي: «٢١٦١ منزلًا، ١٤٦١ متجرًا، ٣٠٤ أعمال تجارية صغيرة، … ٧١ مصنعًا، ٣٨ فندقًا، ٤٥ دار عبادة، ٢٤٠ مركبة، دُمِّرَت كليًّا أو جزئيًّا.»85 وما حدث في ساباركانتا سرى على مستوى الولاية ككل بصفة عامة. فقد أوضح المجلس الهندوسي العالمي رغبته في إشعار المسلمين بالعجز إضافةً إلى تشريدهم؛ ومن ثم، في أحمد أباد، بعدما خمدت نيران الشغب بأسابيع، ظل المسلمون يجدون صعوبة في الحصول على قروض من البنوك، وعلى الوقود والاتصالات الهاتفية، وفي إدخال أطفالهم المدارس. وقيل للمسلمين الذين فرَّوا من قراهم إنَّهم سيكون عليهم إسقاط التُّهَم التي وجَّهوها ضد مرتكبي أعمال الشغب إذا كانوا يرغبون في العودة، وأحيانًا كان أمانهم يصير مشروطًا باعتناقهم الهندوسية.86
كان رئيس وزراء جوجارات وقت أحداث الشغب التي وقعت عام ٢٠٠٢ هو ناريندرا مودي، نصير الحركة القومية الهندوسية المتشدِّد الذي تربَّى في مدرسة راشتريا سوايامسيفاك سانج عديمة الرحمة. آنذاك برَّر مودي العنف المرتَكَب ضد المسلمين بذكر واقعة احتراق عربة القطار في جودرا، التي أطلقت — حسبما قال — «سلسلة من الأفعال وردود الأفعال». والحقيقة أنَّ ردود الأفعال كانت أعظم من الفعل الرئيسي عدة مرات؛ فقد قُتِلَ أكثر من ألف مسلم، وشُرِّدَ ١٠٠ ألف على الأقل وأصبحوا يعيشون في مخيمات للاجئين في ظروف مثيرة للشفقة استرعت انتباه رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية نفسيهما.87

يعني مصطلح «المذبحة المدبرة»: «المجزرة المعدة لها مسبقًا المرتكبة في حق جماعة عِرقيَّة بعينها.» ووفقًا لهذا التعريف، على الرغم من اندلاع المئات من أعمال الشغب الدينية في الهند المستقلة، فلم تحدث بها سوى مذبحتين مدبرتين: المذبحة الموجَّهة ضد السيخ في دلهي عام ١٩٨٤، وتلك الموجَّهة ضد المسلمين في جنوب جوجارات عام ٢٠٠٢. وثمة أوجه تشابه لافتة للنظر بين الحالتين؛ فكلتاهما بدأت استجابةً لواقعة عنف منفردة طائشة ارتكبها — على نحو أو آخر — أعضاء في مجتمع الأقلية، وكلتاهما تطوَّرت لتأخذ صورة انتقام مُعَمَّم على الأقليات ككل؛ فالسيخ الذين ذُبِحوا لم يكن لهم صلة من قريب أو بعيد بالسيخ الذين اغتالوا السيدة غاندي، والمسلمون الذين قتلتهم الجماهير الهندوسية الغاضبة كانوا أبرياء تمامًا من جريمة جودرا.

وفي الحالتين، تمت المذبحة المدبَّرة نتيجةَ انهيارِ سيادة القانون طوعًا؛ فرئيسُ الوزراء في دلهي عام ١٩٨٤، ورئيسُ وزراءِ جوجارات عام ٢٠٠٢، أدلَيَا بتصريحاتٍ عديمةِ الكياسة، برَّرَت فعليًّا جرائمَ القتل، وبلغ الأمر بالوزراء العاملين في حكومتَيهما حدَّ معاوَنةِ المشاغبين وتوجيههم.

وجه الشبه الأخير هو الأكثر دلالة، وربما كان الأكثر كآبة أيضًا؛ فكلا الحزبين، والزعيمين، جنيا في الانتخابات ثمار العنف الذي أباحاه وأشرفا عليه؛ فقد فاز حزب راجيف غاندي في الانتخابات العامة سنة ١٩٨٤ بهامش رِبْح كبير جدًّا. وفي ديسمبر ٢٠٠٢، أُعيد انتخاب ناريندرا مودي إلى منصب رئيس وزراء جوجارات بعد فوز حزبه بأغلبية الثلثين في انتخابات مجلس الولاية.88

١٣

لدى زيارة رئيس الوزراء أتَل بِهاري فَجبايي لجوجارات في أبريل ٢٠٠٢، أعلن عن برنامج لإعادة تأهيل ضحايا أحداث الشغب الأخيرة. وفي المؤتمر الصحفي الذي أقامه في أحمد أباد، قال لرئيس وزراء الولاية إن عليه من الآن فصاعدًا الاضطلاع بواجباته وعدم التمييز بين المواطنين بناءً على طائفتهم أو جماعتهم.89

انزعج رئيس الوزراء من التعامل السيئ من جانب حكومة جوجارات مع أعمال الشغب، والدعاية الدولية السلبية الناتجة عن ذلك. وأراد إزاحة مودي من منصبه بوصفه رئيسًا وزراء للولاية، لكن كبار رجال حزبه (ومن بينهم نائبه في رئاسة الوزراء، إل كيه أدفاني) ثنَوه عن ذلك، وحاججوا بأن الاعتراف العلني بهذا الفشل سيكلف الحزب غاليًا.

لقد رُشح فَجبايي لمنصب رئيس الوزراء من قبل حزب بهاراتيا جاناتا، لأسباب منها طول مدة خدمته في البرلمان (إذ كان عضوًا به منذ ١٩٥٧)؛ ومنها أيضًا مهاراته الخطابية؛ ومنها أيضًا أنه كان يلقى قَبولًا لدى حلفاء الحزب أكثر من أدفاني. وبمساعدة سكرتيرٍ أول متمكن هو بريجيش ميشرا، أدار فَجبايي كرئيس للوزراء الأمور بحزم، واستطاع إبقاء حلفائه تحت السيطرة وكبح جماح المتطرفين في حزبه. ولذا، أصبح أول رئيس وزراء من خارج حزب المؤتمر يكمل مدةً كاملة في منصبه، وهو إنجاز ليس بالهين. فعلى مدى العقود الثلاثة الأولى التالية للاستقلال، هيمن حزب المؤتمر بالكامل على عالم السياسة الهندية. ولكن الآن، أخيرًا، ظهر حزبٌ معارضٌ قادر على تحدِّيه وهزيمته. لقد تحدى حزب بهاراتيا جاناتا من قبلُ حزب المؤتمر على مستوى الأيديولوجية، ثم تحداه بنجاح في الانتخابات، والآن، وتحت قيادة فَجبايي، أثبت أن بإمكانه أيضًا إدارة حكومة.

كان من المفترض أن تنتهيَ مدة حكم حكومة التحالف الديمقراطي الوطني في أكتوبر ٢٠٠٤، لكن، ربما خوفًا من التأثير السلبي لفشل موسم الرياح الموسمية، حل رئيس الوزراء في شهر فبراير البرلمان. وجرى إطلاق حملة لإعادة الانتخاب، ترفع شعار «الهند تتألق». وجعل التقدم المنتظم الذي أُحرز في ظل حكومة التحالف الديمقراطي الوطني، وحالة الفوضى التي كانت تسود المعارضة، معظم المراقبين يتوقعون تحقيق التحالف الحاكم لانتصارٍ كبير. وقدر استطلاع رأي أجرته مجلة «إنديا توداي» الواسعة الانتشار أن التحالف الديمقراطي الوطني سيربح ما بين ٣٣٠ و٣٤٠ مقعدًا، محققًا أغلبيةً مريحة. وكتبت المجلة تقول: «كل شيء في خارطة الطريق يشير ثانية إلى حيث كانت البداية بالنسبة لأتَل بِهاري فَجبايي: ٧ ريس كورس رود [مقر إقامة رئيس الوزراء] ومدة حكم أخرى في محيطه العامر». كان التحالف الديمقراطي الوطني «يعيش أزهى عصوره»؛ على الجانب الآخر، بالنسبة لحزب المؤتمر، توقعت المجلة «أسوأ هزيمة على الإطلاق سيتعرض لها الحزب الذي عمره ١١٩ عامًا في تاريخه».

رأت المجلة أن الانتخابات العامة التي كانت متأكدة من نتائجها ستطرح سؤالًا على كلٍّ من قائدَي التحالفَين الكبيرَين. وبالتالي، «بالنسبة لفَجبايي، قد يكون السؤال هو: ما الفترة التي يود أن يبقى فيها في منصب رئيس الوزراء؟»؛ وبالنسبة لسونيا غاندي، «هل ستنسحب — أو هل عليها الانسحاب — من صراع السياسة الانتخابية وتترك المجال لقائدٍ آخر؟»90

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤