الفصل السابع

أكبر مقامرة في التاريخ

نحن رجال بسطاء نخدم قضايا عظيمة، ولكن القضية لعَظَمتها، تُسبغ علينا بعضًا من تلك العظمة أيضًا.

جواهر لال نهرو، ١٩٤٦

الهند تعني لنا شيئين لا ثالث لهما: المجاعات ونهرو.

صحفي أمريكي، ١٩٥١

١

في السنوات الأولى بعد نَيل الحرية، تعرَّض حزب المؤتمر الحاكم لتهديداتٍ من الخارج ومن الداخل؛ فرجال الحركة القومية كانوا نموذجًا للمثالية والتضحية كثوَّارٍ على الراج البريطاني، ولكنهم كحُكامٍ أخذوا يستمتعون بثمار منصبهم. وعلى حد تعبير أحد الصحفيين المُخَضْرَمين من مَدراس: «كانت أولى ضحايا الصراع على السُّلطة بعد وفاة غاندي هي الأخلاق.»1 وذكرت مجلة «تايم» أنه بعد نَيل الاستقلال، حزب المؤتمر «وجد نفسه دون هدفٍ يوحِّده؛ فأصابه الترهُّل والخمول، وصار يشتمل على العديد من الموظفين المتلوِّنين وعددٍ ليس بقليلٍ من تجار السوق السوداء».2 وأشارت إحدى الصُّحُف الأسبوعية المؤثرة في بومباي إلى أنه «من غرب البنغال إلى أوتَّر براديش — على طول وادي الجانج — يعاني حزب المؤتمر الوطني الانقسامات؛ فالهالة القديمة التي أحاطت بالتنظيم السياسي الأصلي بدأت تتلاشى، وازدادت حدة التحزُّبات، وأصبحت شعبية الحزب في تراجُعٍ مستمِر».3

نشأت الانقسامات الحزبية على مستوى المناطق، وكذلك على مستوى الأقاليم. إلا أن أعظم الشقاقات كان الشِّقاق بين عمودَي الحزب الرئيسيين: البانديت جواهر لال نهرو والسردار فالابهاي باتيل. وقعت خلافات كبرى بين هذين الرجلين — الأول رئيس الوزراء والآخر نائبه — في الشهور الأولى التالية على الاستقلال. ثم قرَّبهما موت غاندي من جديد. ولكن خلال عامَي ١٩٤٩ و١٩٥٠ عادت الخلافات إلى الظهور.

لا شك أن نهرو وباتيل كان بينهما تناقض صارخ من حيث طباعهما وشخصيتيهما؛ فرئيس الوزراء كان رجلًا برهميًّا من الطائفة العليا، وكان والده إحدى الشخصيات البارزة أيضًا في الحركة القومية. أما نائبه، فكان ابن طائفة المزارعين، وسليل أحد متمرِّدي السيبوي في التمرد الذي حدث عام ١٨٥٧. وكان نهرو يحب أطايب الطعام والنبيذ، ويتذوق الفنون والآداب الراقية، وتعدَّدت أسفاره إلى الخارج. أما باتيل فلم يكن يدخن ولا يعاقر الخمر وكان نباتيًّا، وبصفةٍ عامةٍ كان «مسئولًا صارمًا لا وقت لديه للَّهو». كان يستيقظ في الرابعة صباحًا، ويقضي ساعة في تفقُّد خطاباته، ثم يذهب للتمشية في شوارع نيودلهي الخافتة الإضاءة. هذا إلى جانب أن «المظهر الجاد والملامح الباردة الساخرة جعلا السردار شخصية صارمة جدًّا». وقد وصفته صحيفة «نيويورك تايمز» بأنه «شديد الصرامة والحدة».

إلا أنه كان ثَمَّةَ أوجُه تشابهٍ أيضًا بينهما؛ فكلاهما كان لديه ابنة تشغل دور ربة المنزل والرفيقة وكاتمة السرِّ الأولى، وكلاهما كان سياسيًّا ظاهرَ النزاهة شديدَ الوطنية. لكن أفكارهما لم تكن متناغمةً على الدوام؛ فعلى حد التعبير الحصيف لأحد مراقبي المشهد، كانت «معارضة السردار للعناصر اليسارية في البلاد إحدى المشكلات الكبرى لعملية التكيف السياسي التي تواجهها الهند». وكان يقصد بذلك أنَّ باتيل كان صديقًا للرأسماليين في حين كان نهرو يؤمن بضرورة سيطرة الدولة على الاقتصاد، وأنَّ باتيل كان أكثر ميلًا إلى مساندة الغرب في الحرب الباردة الناشئة، وأن باتيل كان أكثر تسامحًا مع التطرُّف الهندوسي وأكثر تعنُّتًا بخصوص باكستان.4
وفي أواخر عام ١٩٤٩ وقع خلاف كبير بين نهرو وباتيل؛ ففي مطلع العام الجديد، كان من المقرَّر أنْ تتحوَّل الهند من «دومنيون»، يمثل فيه ملك بريطانيا رئيس الدولة، إلى جمهوريةٍ مكتملة الأركان. وكان نهرو يرى أنه عندما يتحوَّل منصب الحاكم العام إلى منصب الرئيس، ينبغي أن يحتفظ شاغل المنصب — سي راجا جوبالاتشاري — بوظيفته. كان راجا رجلًا أكاديميًّا مهذَّبًا تربطه صلة طيبة جدًّا برئيس الوزراء. إلا أن باتيل كان يُفضِّل راجندرا براساد؛ فقد كان مقرَّبًا منه ولكنه إضافةً إلى ذلك كان يتمتَّع بقَبولٍ أكبر داخل حزب المؤتمر. وكان نهرو قد أكَّد لراجا أنه سينال كرسي الرئاسة، ولكن باتيل أثار استياءه — وأحرجه — بدفع صغار موظفي الحزب إلى طرح اسم براساد عوضًا عن راجا.5
واختير تاريخ الاستقلال الأصلي — ٢٦ يناير — ليكون أول عيدٍ للجمهورية. وفي ذلك اليوم تلقَّى رئيس الدولة الجديد، راجندرا براساد، التحية العسكرية فيما أصبح منذئذٍ استعراضًا سنويًّا متزايد المهابة عامًا بعد عام؛ ففي ذلك العام شارك ثلاثة آلاف جندي من القوات المسلحة في المسيرة العسكرية أمام الرئيس، وأطلق سلاح المدفعية واحدًا وثلاثين مدفعًا للتحية بينما حلَّقت من فوقه طائرات ليبِرايتور التابعة للقوات الجوية الهندية. كانت الهند ربيبة غاندي بصدد إعلان نفسها آنذاك دولة قومية ذات سيادة.6
بذلك رَبِحَ باتيل الجولة الأولى. وبدأت الجولة الثانية بعد بضعة أشهر، متمثِّلةً في معركة رئاسة حزب المؤتمر الوطني الهندي. كان باتيل قد رشَّح بُروشُتَّم داس تندن لهذا المنصب، وهو عضو قديم بالحزب من المقاطعات الاتحادية، بل من مسقط رأس رئيس الوزراء نفسه: مدينة الله أباد. كان تندن صديقًا شخصيًّا لنهرو، ولكنهما لم يكونا حليفين أيديولوجيين بأي حالٍ من الأحوال؛ فقد كان تندن «هندوسيًّا متزمِّتًا ملتحيًا وقورًا … قدَّم مثالًا نموذجيًّا للجناح الطائفي المتطرِّف في حزب المؤتمر». ومثَّل إجمالًا «تجسيدًا للرجعية السياسية والاجتماعية»؛ فقد كان «هندوسيًّا معاديًا للمسلمين ومناصرًا لفكرة الطوائف الهندية» يمثل «انبعاثًا لثقافة بائدة ومنظومة مجتمعية عَفَى عليها الدهر».7

كان نهرو قد انتقد تندن سابقًا لرغبته في فرض اللغة الهندية على مناطقَ جاهلةٍ بها في الهند. وأزعجه كثيرًا مخاطبة تندن اجتماع للاجئين وحديثه عن الانتقام من باكستان؛ فقد كان نهرو يعتقد أن الهند بحاجةٍ إلى لمسةٍ شافية، وسياسةٍ تصالحيةٍ بين الهندوس والمسلمين. وكان من شأن انتخاب تندن رئيسًا للحزب السياسي الأول في الهند — الحزب الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء شخصيًّا — أن يرسل إشاراتٍ خاطئةً تمامًا.

وعندما أُجْرِيَت انتخابات رئاسة الحزب في أغسطس ١٩٥٠، فاز تندن بسهولة. وحينها كتب نهرو إلى راجا جوبالاتشاري قائلًا إن تلك النتيجة كانت «أبلغ علامةٍ على اعتبار انتخاب تندن أكثر أهمية من وجودي في الحكومة، أو الحزب». وأضاف: «حدْسي ينبئني بأنني استنفدت جدوايَ في الحزب والحكومة على حدٍّ سواء.» وفي اليوم التالي كتب إلى راجا مرةً أخرى قائلًا: «أشعر أني منهك؛ بدنيًّا وعقليًّا. ولا أظنني قادرًا على العمل على نحوٍ يرضيني إطلاقًا في المستقبل.»8
حاول راجا آنذاك الوصول إلى تسويةٍ بين الفصيلين. كان باتيل ميَّالًا إلى ذلك الحل، واقترح إصدار بيان مشترك باسميهما، يعلن فيه هو ونهرو التزامهما ببعض الأساسيات في سياسة الحزب. إلا أن رئيس الوزراء قرَّر أن ينفرد بالأمر؛ فبعد أسبوعين من التفكير المتمعِّن قرَّر الاستعاضة عن فكرة الاستقالة بالتحوُّل إلى مَنحى الشِّدة. وفي يوم ١٣ سبتمبر من عام ١٩٥٠ أصدر بيانًا للإعلام أدان فيه «تعبير القوى الطائفية والرجعية عن ابتهاجها صراحةً» لفوز تندن. وقال إنه لَيحزنه أنَّ «روح الطائفية والرجعية قد تغلغلت تدريجيًّا في حزب المؤتمر، وصارت تؤثر أحيانًا على السياسة الحكومية». ولكن خلافًا لباكستان، الهند دولة علمانية. وأصرَّ نهرو على أنه «علينا أن نُعامل الأقليات في بلدنا تمامًا مثلما نُعامل الأغلبية. والحقيقة أنَّ المعاملة المنصفة ليست بالكافية؛ فعلينا أن نُشعِرهم بأنهم يُعامَلون على هذا الأساس». والآن «في ظل الارتباك السائد وخطر العقيدة الزائفة، صار لزامًا على حزب المؤتمر أن يعلن سياسته في هذا الصدد بوضوحٍ كاملٍ لا لبس فيه».9
كان نهرو يشعر أن حزب المؤتمر والحكومة مسئولان عن إشعار المسلمين في الهند بالأمان. أما باتيل، فكان ميَّالًا إلى إلقاء تلك المسئولية على عاتق الأقليات نفسها. وقد قال لنهرو ذات مرةٍ إنَّ «المواطنين المسلمين في الهند عليهم مسئولية تبديد الشكوك والمخاوف التي تعتري قطاعًا كبيرًا من الشعب حيال ولائهم، وتستند بدرجة كبيرة إلى صلتهم الماضية بالمطالبة بإقامة دولة باكستان والأنشطة المؤسفة التي انخرط فيها بعضهم».10
ففيما يتعلق بمسألة الأقليات — وكذلك في مسائل أخرى ذات صلةٍ بالفلسفة والسياسات — لم يكن لنهرو وباتيل أن يتَّفقا كليًّا أبدًا. إلا أنه في أعقاب المنافسة المريرة على رئاسة الحزب، لم يصرَّ باتيل على موقفه، لأنه كان يعلم أن تدمير الحزب سيستتبع على الأرجح تدمير الهند؛ فكان يقول لمن يأتون لزيارته من رجال الحزب: «افعلوا ما يأمر به جواهر لال» و«لا تضعوا هذا الجدل في الاعتبار». وفي ٢ أكتوبر، أثناء تدشين مركز للمرأة في إندور، انتهز باتيل تلك المناسبة — ذكرى مولد غاندي — للتأكيد على ولائه لرئيس الوزراء؛ فوصف نفسه في خطابه بأنه مجرد واحدٍ من جنودٍ مسالمين كُثُرٍ في جيش غاندي. وأضاف أنه بعد رحيل غاندي «صار جواهر لال نهرو قائدنا؛ فقد اختاره بابو (غاندي) خلفًا له، بل أعلن ذلك أيضًا. ويجب على جنود بابو جميعًا أن يعملوا بوصيته … وأنا لست بالجندي الخائن للعهد».11
تلك هي الأدلة التي قدَّمها لنا مدوِّن سيرة باتيل، راجموهان غاندي. وهي في الحقيقة تؤكد المشاعر التي أعرب عنها مدوِّن سيرة نهرو، سارفِبالي جوبال، ومفادها أن ما حال دون «وقوع قطيعة كاملة» بين الرجلين «كان الاحترام المتبادل وكياسة باتيل الرزينة».12 فقد تذكَّر باتيل وعده لغاندي بأن يعمل جنبًا إلى جنبٍ مع جواهر لال. بالإضافة إلى ذلك فوقت وقوع الجدل بشأن رئاسة الحزب، كان باتيل مريضًا جدًّا. والرسالة الخطية التي بعثها إلى نهرو تهنئةً بعيد ميلاده — يوم ١٤ نوفمبر — كتبها على فراش المرض. وبعد أسبوع، عندما زاره نهرو في بيته، قال له باتيل: «أريد أن أتحدث إليك على انفرادٍ عندما أستجمع بعض قوَّتي … أشعر أنك تفقد ثقتك بي شيئًا فشيئًا.» فردَّ عليه نهرو قائلًا: «كنت أفقد الثقة بنفسي شيئًا فشيئًا.»13
بعد ثلاثة أسابيع تُوُفِّيَ باتيل، وعُهِد إلى رئيس الوزراء بإعداد قرار مجلس الوزراء الصادر رثاءً لرحيله؛ فخصَّ نهرو بالذكر تكريسه نفسه لفكرة «الهند المتحدة القوية»، و«عبقريته» في حل المشكلة المعقَّدة التي مثَّلتها الولايات الأميرية. بالنسبة إلى نهرو، مثَّل باتيل رفيقًا وخصمًا، ولكن بالنسبة إلى مواطنيهما كان «مقاتلًا من أجل الحرية منقطع النظير، ومُحِبًّا للهند، وخادمًا عظيمًا للشعب، ورجل دولة عبقريًّا حقق إنجازاتٍ هائلة».14

٢

أسفرت وفاة فالابهاي باتيل في ديسمبر ١٩٥٠ عن زوال الرجل الوحيد المكافئ لنهرو في حزب المؤتمر؛ فلم يعد ثَمَّةَ مركزان للقوة داخل الحزب الحاكم في الهند. إلا أن رئيس الوزراء ظل عليه مواجهة خصمين أقل شأنًا إلى حدٍّ ما: رئيس حزب المؤتمر، بُروشُتَّم داس تندن؛ ورئيس الجمهورية، راجندرا براساد. وقد وصف مدوِّن سيرة نهرو براساد بأنه «يتصدَّر صفوف فكر العصور الوسطى».15 ربما يكون ذلك حكمًا متعنِّتًا في حق رجلٍ وطنيٍّ ضحَّى بالكثير في سبيل حرية الهند. إلا أنه كان من الجليِّ أن رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية اختلفا بخصوص بعض الموضوعات المحورية، مثل مكانة الدين في الحياة العامة.
بلغت تلك الخلافات أوجَها في ربيع عام ١٩٥١، عندما طُلِب إلى الرئيس افتتاح معبد سومناث الذي أُعيد إنشاؤه حديثًا في جوجارات. نظرًا لأن هذا المعبد دارت الأساطير حوله بوجود ثروات فيه، فقد أغار عليه عدة قادة مسلمين، منهم الغازي الشهير من القرن الحادي عشر محمود الغزنوي. وبعد كلٍّ من تلك الغارات التي كان يُهدم فيها، كان يُعاد بناؤه. ثم أمر الإمبراطور المغولي أورنجزيب بهدمه تمامًا؛ فظل حُطامًا طيلة قرنين ونصف من الزمان، حتى زاره السردار باتيل في سبتمبر ١٩٤٧ ووعد بالمساعدة في إعادة بنائه. ثم عُهِد إلى زميله كيه إم مونشي بتلك المهمة.16
وعندما قرر رئيس الهند تشريف طقس افتتاح المعبد بحضوره، صُدِم نهرو لقراره؛ فكتب إليه ناصحًا بالعدول عن المشاركة في «الافتتاح المهيب لمعبد سومناث الذي … سيترتب عليه تداعيات عدة للأسف. في رأيي الشخصي، كنت أظن ذلك وقتًا غير مناسبٍ لتسليط الضوء على عمليات البناء الواسعة النطاق في سومناث، والتي كان من الممكن تنفيذها بصورةٍ تدريجيةٍ وبفعاليةٍ أكبر فيما بعد. ولكن هذا ما حدث. إلا أنني أشعر أنه سيكون من الأفضل لو لم ترأس فعاليات ذلك الحدث بنفسك».17
تجاهل براساد النصيحة وذهب إلى سومناث. ولكن يُحسَب له أن الخطاب الذي ألقاه هناك شدَّد على مبدأ التناغم بين الأديان الذي دعا إليه غاندي. صحيح أنه استحضر في حنينٍ عصرًا ذهبيًّا كان فيه الذهب الذي تحويه معابد الهند يرمز إلى ثروةٍ وازدهارٍ عظيمين. إلا أن الدرس المستفاد من تاريخ سومناث اللاحق كان أن «التعصُّب الديني لا يؤدي إلا إلى التحريض على الكراهية والسلوك اللاأخلاقي». ومن المنطلق نفسه، لم يكن الدرس المستفاد من إعادة بنائه هو «إعادة فتح الجروح القديمة، التي الْتأمت إلى حدٍّ ما على مرِّ القرون»، بل «مساعدة كل طائفة وكل جماعة على نَيل حريتها كاملة». وإذ طالب الرئيس جمهوره ﺑ «التسامح الديني الكامل» حثَّهم على «محاولة استيعاب الجوهر العظيم للدين»، وهو «أنه ليس من الضروري أن يسلك المرء سبيلًا واحدًا من أجل الوصول إلى الحقيقة والتقرُّب إلى الرب». وذلك لأنه «مثلما تمتزج الأنهار كافةً في المحيط الواسع، تساعد كذلك الأديان المختلفة البشر على التقرُّب إلى الرب».18

لا أحد يعلم ما إذا كان نهرو قد قرأ الخطاب. ولكنه على أي حالٍ كان يُفضِّل ألا يذهب براساد من الأساس؛ فقد كان يرى أن المسئولين الحكوميين ينبغي ألا تكون لهم صلة «علنية» بالأديان والأضرحة أبدًا. أما رئيس الجمهورية، فكان يعتقد أن المسئولين الحكوميين ينبغي أن يُبدوا قدرًا متساويًا وعلنيًّا من الاحترام للجميع. وقال براساد لنهرو إنه على الرغم من كونه هندوسيًّا، فإنه «يحترم الديانات كافة ويزور الكنائس والمساجد وأضرحة المتصوِّفين والمعابد السيخية من حينٍ لآخر».

في تلك الأثناء، كان تنامي الطابع الهندوسي لحزب المؤتمر قد أفضى إلى رحيل بعض رجاله الأكثر نشاطًا؛ ففي عام ١٩٤٨، ترك الحزبَ مجموعةٌ من الشباب النوابغ ليؤسسوا الحزب الاشتراكي. وفي يونيو ١٩٥١، ترك الحزب جيه بي كريبالاني — أحد أتباع غاندي الموقَّرين — لينشئ حزب كيسان مجدور براجا (الحزب الشعبي للفلاحين والعمال)، الذي ناصَر مصالح الفلاحين والعمال وغيرهم من الطبقات الكادحة. وقد زعم كريبالاني، على غرار الاشتراكيين، أن حزب المؤتمر بات تنظيمًا محافظًا بدرجةٍ مفرطةٍ تحت قيادة بُروشُتَّم داس تندن.

في الواقع، فقد عضَّد تأسيس حزب كريبالاني موقف نهرو في مواجهة تندن؛ فقد صار بإمكانه آنذاك أن يقول إنه يجب على حزب المؤتمر أن يَعدِل عن المسار الرجعي الذي سلكه في الآونة الأخيرة، ويستعيد تراثه الديمقراطي الاحتوائي. وفي شهر سبتمبر — عندما انعقدت لجنة حزب المؤتمر لعموم الهند في بنجالور — فرض نهرو مواجهةً مع تندن وأنصاره؛ فقد أبدى الأعضاء الصغار بحزب المؤتمر قلقًا متناميًا حيال الانتخابات العامة المقبلة. ومثلما أشار صحفي من الجنوب، فقد كان من الواضح أن اللجنة ستدعم رئيس الوزراء في مواجهة تندن، ولو لمجرد أن «رئيس حزب المؤتمر ليس ممن يجتذبون أصوات الناخبين». وعلى النقيض منه، كان «البانديت نهرو صائد أصواتٍ منقطع النظير. وقُبيل الانتخابات العامة، لا صوت يعلو فوق أصوات الناخبين، والبانديت نهرو يُمثِّل قيمة لحزب المؤتمر لا يُمثِّلها غيره».19
كان ذلك ما حدث في بنجالور فعلًا، حيث استقال تندن من منصب رئيس الحزب، وانتُخِب نهرو مكانه. وإذ صار رئيس الحزب ورئيس الحكومة، «صار بإمكان نهرو الآن شَنُّ حربٍ شاملةٍ على جميع العناصر ذات النزعة الطائفية في البلاد».20 وكانت أولى معاركه في تلك الحرب هي الانتخابات العامة في ١٩٥٢.

٣

مثَّلت أول انتخابات عامة تُجرى في الهند أمورًا عدةً منها كونها بادرة ثقة؛ فقد اختار بلد حديث الاستقلال أن يتجه مباشرةً إلى منح حق الاقتراع لجميع السكان البالغين، عوضًا عن أن يبدأ — مثلما حدث في الغرب — بقصر حق التصويت على مُلَّاك الأراضي الذكور، ومنح الطبقات العاملة والمرأة ذلك الحق بعد رَدَحٍ من الزمان؛ فقد نالت الهند حريتها في أغسطس ١٩٤٧، وشكَّلت اللجنة الانتخابية بعد عامين. وفي مارس ١٩٥٠ عُيِّنَ سوكومار سين رئيسًا لتلك اللجنة. وفي الشهر التالي مرَّر البرلمان قانون تمثيل الشعب. وعند اقتراح رئيس الوزراء جواهر لال نهرو ذلك القانون، أعرب عن أمله في عقد الانتخابات في تاريخ لا يتجاوز ربيع عام ١٩٥١.

كان من الممكن تفهُّم تعجُّل نهرو الانتخابات، لكنه سبَّب بعض القلق للرجل المسئول عن إجرائها. من المؤسف أننا لا نعرف الكثير عن سوكومار سين؛ فهو لم يترك مذكِّرات، وكذلك الوثائق الباقية عنه قليلة. لقد وُلِدَ عام ١٨٩٩ وتلقَّى تعليمه في كلية الرئاسة وجامعة لندن، حيث حصل على ميدالية ذهبية في الرياضيات. الْتحق بالعمل في دائرة الخدمة المدنية الهندية عام ١٩٢١، حيث خدم في مقاطعات عدة وعمل قاضيًا قبل تعيينه رئيسًا لسكرتارية غرب البنغال، وهو المنصب الذي انتُدِب منه لمهمة رئاسة اللجنة الانتخابية.

ربما كانت خلفية سين الرياضية هي التي دفعته إلى مطالبة رئيس الوزراء بالتمهُّل؛ ففي الحقيقة لم يحدث أن وجد مسئول حكوميٌّ — ولا سيما مسئول هنديٌّ — نفسه أمام مثل تلك المهمة الرهيبة؛ أولًا: لكم أن تتخيلوا حجم جمهور الناخبين؛ ١٧٦ مليون هندي تبلغ أعمارهم واحدًا وعشرين عامًا أو أكثر، منهم ٨٥٪ أُمِّيُّون، وكل واحد منهم لا بد من التوصُّل إليه ومعرفة اسمه وتسجيله. كان تسجيل الناخبين الخطوةَ الأولى فحسب. فكيف يمكن للمرء أن يصمم رموز أحزاب، وأوراق اقتراع، وصناديق اقتراع لجمهور من الناخبين معظمه لا يعرف القراءة والكتابة؟ بعد ذلك جاء تحديد مراكز الاقتراع، والاستعانة بموظَّفي اقتراعٍ يتميزون بالأمانة والكفاءة. إضافةً إلى ذلك، فإلى جانب الانتخابات العامة كان من المزمع عقد انتخابات لمجالس الولايات. وفي هذا الصدد عمل أعضاء اللجان الانتخابية للأقاليم المختلفة — الذين كانوا موظفين في دائرة الخدمة المدنية الهندية عادةً — إلى جانب سوكومار سين.

وأخيرًا تقرَّر عقد الانتخابات في الشهور الأولى من عام ١٩٥٢. وعنها كتب معلِّق أمريكي أن آليات عملية الانتخابات «تطرح مشكلة هائلة الأبعاد»،21 وكان مُحِقًّا في تعليقه. وسنورد بعض الأرقام لتساعدنا على استيعاب حجم المهمة العسيرة الموكَلة إلى سين. كانت المقاعد المطروحة للانتخاب ٤٥٠٠ مقعد، ٥٠٠ منها للبرلمان والبقية للمجالس المحلية. وقد أُقيمَت ٢٢٤ ألف لجنة انتخابية وزُوِّدَت بمليونَي صندوق اقتراع فولاذي؛ مما تطلَّب ٨٢٠٠ طن من الفولاذ. وعُيِّن ١٦٥٠٠ كاتب لكتابة قوائم الناخبين وفرزها بموجب عقودٍ مدتُها ستة أشهر. واسْتُخْدِمَت ٣٨٠ ألف رُزمة من الأوراق لطباعة قوائم الناخبين، فيما اختير ٥٦ ألف موظف مسئول للإشراف على عملية الاقتراع، بمعاونة ٢٨٠ ألف موظف من «درجة أدنى». وكُلِّف ٢٢٤ ألف شُرطي بالنزول ذلك اليوم لمنع استخدام العنف والإرهاب.

كانت الانتخابات وجمهور الناخبين موزَّعَيْن على مساحة تزيد عن مليون ميل مربع. كانت المساحة الجغرافية شاسعة متنوعة التضاريس وفائقة الوعورة في بعض الأحيان، بالنسبة إلى المشروع قيد التنفيذ؛ ففي القرى الجبلية المنعزلة، لزم إقامة الجسور خصوصًا عبر الأنهار، وفي الجُزُر الصغيرة في المحيط الهادئ اسْتُخْدِمَت السفن لنقل قوائم الناخبين للجان الانتخابية. أما المشكلة الثانية فكانت اجتماعية وليست جغرافية، وتمثَّلت في إحجام كثيرٍ من النساء في شمال الهند عن التصريح بأسمائهنَّ؛ فقد كُنَّ يرغبن في تسجيل أنفسهن تحت اسم أم فُلان أو زوجة عِلَّان. وقد أثارت تلك الممارسة جنون سوكومار سين، ووصفها بأنها «بقايا عادة عجيبة بالية من الماضي»، وأمر موظفيه بتصحيح القوائم عن طريق إدخال أسماء النساء «محل ما لا يزيد عن كونه وصفًا لذلك القطاع من الناخبين». على الرغم من ذلك، لم يكن ثَمَّةَ مفرٌّ من شطب ٢٫٨ مليون امرأة من القوائم. ورأى سين موجة السخط الناتجة عن استبعادهنَّ «أمرًا إيجابيًّا»، لأن من شأنه القضاء على ذلك السلوك المتعصِّب عند حلول الانتخابات التالية، وحينها سوف يتسنَّى تسجيل النساء بأسمائهنَّ الحقيقية.

في النظم الديمقراطية الغربية، معظم الناخبين يمكنهم التعرُّف على الأحزاب بأسمائها، ولكن في الهند اسْتُخْدِمَت الرموز المصوَّرة لتيسير التعرُّف على الأحزاب. كان يسهل تمييز تلك الرموز المستمَدَّة من الحياة اليومية؛ مثل استخدام أحد الأحزاب زوجًا من العجول رمزًا، واستخدام آخر رمز الكوخ، وثالث رمز الفيل، واستخدام رابع مصباحًا خزفيًّا. وتمثَّلت الفكرة المبتكرة الأخرى في تعدُّد صناديق الاقتراع؛ ففي حالة وجود صندوق اقتراع واحد، يمكن للناخب الهندي الجاهل بقواعد القراءة والكتابة أن يرتكب خطأً؛ ولذا كان لكل حزبٍ صندوق اقتراع عليه رمزه في كل مركز اقتراع؛ بحيث يمكن للناخبين إلقاء أوراق الاقتراع فيه بكل بساطة. ولتجنُّب انتحال ناخبٍ شخصيةَ آخر، ابتكر العلماء الهنود نوعًا من الحبر يبقى أثره على إصبع الناخب أسبوعًا عند استخدامه. وقد كان إجمالي القنينات المستخدَمة في الانتخابات من ذلك الحبر ٣٨٩٨١٦ قنينة.22
طوال عام ١٩٥١، وظَّفت اللجنة الانتخابية الأفلام والإذاعة لتثقيف عامة الشعب بشأن تلك الممارسة المستحدَثة في الديمقراطية؛ فعُرِض فيلم وثائقي عن حق الانتخاب ووظائفه، وواجبات جمهور الناخبين في أكثر من ٣ آلاف دارٍ للعرض السينمائي. ووصلت اللجنة الانتخابية إلى عددٍ أكبر من ذلك بكثيرٍ من الهنود عبر إذاعة «أُول إنديا راديو»، التي أذاعت برامج عدة عن الدستور والغرض من منح حق الانتخاب للبالغين وعملية إعداد قوائم الناخبين وعملية التصويت نفسها.23

٤

من المفيد أن نتأمل الوضع الدولي الذي كان سائدًا في الشهور السابقة على أول انتخاباتٍ عامةٍ للهند؛ ففي مناطق أخرى من آسيا، كانت فرنسا تحارب رابطة استقلال فيتنام، وكانت قوات الأمم المتحدة تعمل على صَدِّ عدوان من كوريا الشمالية. وفي جنوب أفريقيا، كان الحزب الوطني الخاص بالجنوب أفريقيين البيض قد سحب حق الانتخاب من الملونين من كيب الغربية، وهي آخر جماعة من غير البيض كانت تتمتع بحق التصويت. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد انتهت لتوِّها من اختبار أول قنبلةٍ هيدروجينيةٍ لها. وكان الجاسوسان ماكلين وبرجِس قد أعلنا تحوُّل ولائهما إلى روسيا لتوِّهما. وشهد عام ١٩٥١ ثلاثة اغتيالات سياسية؛ لملك الأردن ورئيس وزراء إيران ورئيس وزراء باكستان — لياقت علي خان، الذي أُصيب بطلقٍ ناريٍّ أرداه قتيلًا يوم ١٦ أكتوبر، أي قبل تسعة أيام من الإدلاء في أول انتخابات عامة في الهند.

ومن المثير للاهتمام أن انتخابات الهند كان من المقرر أن تتزامن مع الانتخابات العامة في المملكة المتحدة؛ فقد كان السياسي المُخَضْرَم ونستون تشرشل يسعى إلى إعادة حزبه المحافظ إلى السلطة. وفي المملكة المتحدة، كانت الانتخابات منافسة بين حزبين بالأساس. أما في الهند فتضمنت الانتخابات مجموعة مربكة من الأحزاب والزعماء. كان الحزب الحاكم هو حزب المؤتمر الوطني الهندي بقيادة جواهر لال نهرو، ذلك الحزب الذي كان الوارثَ والمستفيدَ الرئيسيَّ من الحركة المطالِبة بالحرية. وكان ثَمَّةَ مجموعة من الأحزاب الجديدة التي شكَّلها بعض الأفراد العظيمي الموهبة في مواجهة حزب المؤتمر.

كان من الأحزاب اليسارية البارزة حزب كيسان مجدور براجا بقيادة جيه بي كريبالاني، والحزب الاشتراكي الذي كان من أعلامه جايا براكاش نارايان البطل الشاب لحركة التمرُّد «ارحلوا عن الهند» لعام ١٩٤٢. وقد اتهم هذان الحزبان حزب المؤتمر بخيانة الْتزامه تجاه الفقراء، زاعمَين أنهما يُعبِّران عن المُثُل القديمة التي اعتنقها حزب المؤتمر في «عهد غاندي»، التي كانت تُعلي مصالح العمال والفلاحين على مصالح مُلَّاك الأراضي والرأسماليين.24 وورد نقد من نوعٍ آخر عن حزب جانا سانج، الذي كان يطمح إلى توحيد الجماعة الدينية الكبرى في الهند — الهندوس — في كتلةٍ تصويتيةٍ واحدة. وقد أعرب الحزب عن مقاصده بوضوحٍ في المعاني الرمزية التي اشتملت عليها جلسته الافتتاحية، التي عُقِدت في نيودلهي يوم ٢١ سبتمبر من عام ١٩٥١؛ فقد بدأت الجلسة بتلاوة مقاطع من نصوص فيدا وترديد النشيد الوطني «فاندي ماتارام». وجلس مؤسس الحزب — شياما براساد موكرجي — على المنصة إلى جانب قياداتٍ أخرى من الحزب، ومن ورائهم:
خلفية بيضاء مزدانة برسوم لشيفاجي، والإله كريشنا وهو يقنع أرجونا النادم بحمل السلاح لمحاربة قوى الشر المتمثلة في الإخوة كاورافا على ساحة المعركة في كوروكشترا، ورانا براتاب سينج، ومصباح خزفي هندوسي الطراز، بلون الزعفران. وتدلَّت من سقف السُّرادق لافتاتٌ نُقِش عليها جملة من ملحمة «مهابهاراتا» نصها «سانج شاكتِ كالي يوجيه»، تزعُم للحضور أنه في عهد الإلهة كالي لم تأتِ القوة إلا بالاتحاد [إشارةً إلى اسم الحزب «جانا سانج»، أي اتحاد الشعب].25
كانت الصور لافتة للنظر؛ فهي مأخوذة من ملاحم هندوسية ولكنها تستحضر كذلك المحاربين الهندوس الذين حاربوا الغزاة المسلمين فيما بعد. ولكن من يا تُرى يُمثِّل العدو الشرير، الإخوة كاورافا؟ هل هي باكستان أم المسلمون أم جواهر لال نهرو أم حزب المؤتمر؟ فكلٌّ منهم بدا موضع كراهية في خُطَب زعماء الحزب. كان الحزب يدعو إلى إعادة توحيد الوطن عبر احتواء (أو ربما غزو) باكستان. وكان يرى أن المسلمين الهنود أقلية إشكالية، «لم تتعلم بعدُ أن تنتميَ إلى هذه البلاد وثقافتها وتعطيها الأولوية في الحب والولاء». واتُّهِم حزب المؤتمر بأنه «يسترضي» هؤلاء المسلمين المشكوك في وطنيتهم.26
كان إس بي موكرجي عضوًا ذات يومٍ في وزارة الاتحاد الهندي، وكذلك كان بي آر أمبيدكار — المحامي العظيم من فئة المَنْبوذين — الذي ساهم بوصفه وزير القانون لحكومة الاتحاد في صياغة الدستور الهندي. كان أمبيدكار قد استقال من منصبه بهدف إنشاء حزب اتحاد الطوائف الْمُجَدْوَلَة استعدادًا للانتخابات. وقد شنَّ هجومًا عنيفًا على حكومة حزب المؤتمر في خطبه لعدم فعلها شيئًا يُذكَر للارتقاء بالطوائف الدنيا؛ فالحرية لم تستتبع تغييرًا لأولئك الناس؛ فهم لا يزالون يعانون «الممارسات المعتادة نفسها من استبدادٍ وقهرٍ وتمييز». وقال أمبيدكار إنه بعد نَيل الحرية، تحوَّل حزب المؤتمر إلى استراحة، تفتقر إلى وحدة الأهداف والمبادئ، و«أبوابه مفتوحة أمام الجميع؛ الحمقى والمحتالين، والأصدقاء والأعداء، والطائفيين والعلمانيين، والمصلحين والأصوليين، والرأسماليين وأعداء الرأسمالية».27
وعلى يسار تلك الأحزاب كان الحزب الشيوعي الهندي. كما رأينا، كان كثير من نشطاء ذلك الحزب قد تحوَّلوا عام ١٩٤٨ إلى العمل تحت الأرض بغية قيادة تمرُّدٍ للفلاحين كانوا يأملون في أن يُفضيَ إلى انتفاضةٍ ثوريةٍ على النموذج الصيني. إلا أن الشرطة — والجيش في بعض المناطق — واجهت ذلك بأيدٍ من حديد. أما الآن، فقد عاد الشيوعيون إلى العمل فوق الأرض استعدادًا لخوض المعركة الانتخابية. وأعلن الأمين العام الانسحاب «غير المشروط» للحزب من التمرد في تيلانجانا؛ فقد صدر عفو مؤقت وألقى المقاتلون سلاحهم وانطلقوا سعيًا وراء أصوات الناخبين. وقد أسفر ذلك التغيير المباغت في الأدوار عن معضلاتٍ لا يمكن لأيٍّ من نصوص ماركس أو لينين حلها. لذا ترددت إحدى المرشحات الشيوعيات في تنافُسها على أحد مقاعد البنغال ما بين أن ترتديَ ساريًا رثَّ الهيئة — دليلًا على وحدتها مع الفقراء — وأن تغسلَه وتكويَه حتى تلقى قَبولًا أكبر لدى جماهير الطبقة الوسطى. وذكر أحد مرشحي البرلمان في تيلانجانا (حيث بلغت ثورة الفلاحين أوجَها) حيرته عندما قدَّم إليه موظَّف كبير مشروبًا، فقبِل وتجرَّعه ليعتريَه «إحساس بالدوار» في رأسه؛ إذ اتضح أن ذلك المشروب كان ويسكي وليس عصير فواكه.28
أُجْرِيَت الحملات الانتخابية لانتخابات ١٩٥١-١٩٥٢ عبر اللقاءات الجماهيرية الكبيرة، وطرْق الأبواب لجمع الأصوات، واستخدام وسائل الإعلام المرئية. وكتب أحد المراقبين البريطانيين أنه «في أوج الحُمَّى الانتخابية، انتشرت المُلصقات والشعارات في كل مكان — على الجدران، وفي نواصي الشوارع، حتى إنها زَيَّنت التماثيل في نيودلهي، متحديةً كبرياء جيلٍ سابقٍ من نواب الملك». وظهرت وسيلة دعاية جديدة في كلكتا؛ حيث كُتِبَ على ظهور الأبقار الشاردة «انتخبوا حزب المؤتمر» باللغة البنغالية.29
وقد استخدمت الأحزاب كافة الخُطَب والملصقات للدعاية، إلا أن الشيوعيين فقط تمكَّنوا من الوصول إلى الإذاعة؛ ليست إذاعة «أُول إنديا راديو» — التي حظرت الدعاية للأحزاب — بل إذاعة «موسكو راديو» — التي كانت تبثُّ برامجها عبر محطاتٍ في طشقند؛ فكان بإمكان المستمعين الهنود — إنْ رغبوا — أن يسمعوا وصف الأحزاب غير الشيوعية المشاركة في الانتخابات بأنها «فاسدة وعميلة للإمبريالية الأنجلو أمريكية وتقهر العمال».30 وللشريحة القادرة على القراءة، قدَّمت صحيفة أسبوعية في مدراس ترجمةً مفيدة من مقال مأخوذ من صحيفة «برافدا» الروسية وصف حزب المؤتمر الوطني الحاكم بأنه «حكومة مُلَّاك الأراضي والمحتكِرين، وخائني الوطن، والعِصِيِّ والرصاص»، وأعلن أن البديل أمام «الشعب الهندي المطحون الذي طالت معاناته» هو الحزب الشيوعي، الذي «تلتفُّ حوله القوى التقدُّمية كافة في البلاد، وكل من يُعلي المصالح الحيوية لأرض آبائه».31

أُضيف إلى القائمة (وإلى رصيد الإثارة والتشويق) الأحزاب الإقليمية القائمة على الولاء العِرقي والديني. كان من بينها حزب درافيدا كازاجام في مدراس، الذي مثَّل الكبرياء التاميلي في مواجهة سيطرة الشمال الهندي، وحزب أكالي دال في البنجاب؛ الحزب الرئيسي لطائفة السيخ، وحزب جهارخاند في بيهار، الذي طالب بإقامة دولة منفصلة لأهل القبائل. كذلك كان ثَمَّةَ عدد كبير من الجماعات الصغيرة المنشقة في اليسار السياسي، إضافةً إلى حزبين هندوسيين أكثر تزمُّتًا من حزب جانا سانج؛ هما: هندو ماهاسابها ورام راجيا باريشاد.

كان لزعماء هذه الأحزاب جميعًا سنوات من الخبرة في العمل السياسي، وبعضهم سُجِن في سبيل القضية القومية، بينما سُجِن البعض الآخر في سبيل القضية الشيوعية. ورجال من قبيل إس بي موكرجي وجايا براكاش نارايان كانوا خُطَباء مفوَّهين، يمتلكون القدرة على أَسْر الجماهير واجتذابهم إلى صفهم. وقد كتب عالم السياسة ريتشارد بارك قُبيل الانتخابات أن «الأحزاب الهندية البارزة وأعضاءها ليس لهم نظير في أي بلدٍ آخر من حيث مهارتهم في الدعاية الانتخابية أو طرحهم المثير للقضايا أو فن الخطابة السياسية أو تمكُّنهم في ميدان علم النفس السياسي».32
ربما احتفى البعض بهذا التنوُّع باعتباره برهانًا على صلابة العملية الديمقراطية. إلا أن البعض الآخر انتابته شكوك في هذا الصدد؛ لذا سخر أحد الرسوم الكاريكاتورية في مجلة «شانكارز ويكلي» من نفاق العملية الانتخابية. إذ صوَّر رجلًا بدينًا يرتدي معطفًا أسود اللون منخرطًا في الدعاية الانتخابية بين جماعات متباينة من الناخبين، فأخبر مزارعًا هزيلًا قائلًا له: «هدفي هو إعطاء الأراضي للفلاحين.» وأكَّد لشابٍّ حسن الهندام أن «حقوق ملاك الأراضي مصونة». وفي إحدى المناطق قال إنه «مع التأميم قلبًا وقالبًا»، وفي أخرى أكَّد على أنه سوف «يشجع القطاع الخاص». وأخبر سيدة ترتدي الساريَ الهنديَّ أنه يدعم مشروع القانون الهندوسي (إصلاح تشريعي يستهدف بالأساس تعزيز حقوق المرأة)، لكنه قال لبرهميٍّ مضفَّر الشعر إنه سوف «يحمي ثقافتنا العريقة».33

٥

كل تلك الأحزاب على مختلِف ضروبها وضعت هدفًا واحدًا نُصْب أعينها: حزب المؤتمر الحاكم. كان زعيمه جواهر لال نهرو قد تغلَّب لتوِّه على أحد التحديات التي تعرَّضت لها قيادته؛ فبوفاة فالابهاي باتيل أصبح أيضًا الشخص المسيطر داخل الحكومة. لكنه واجه مشكلاتٍ لا حصر لها، منها اللاجئون الغاضبون من باكستان الشرقية والغربية، الذين لم يكونوا قد استقرُّوا بعدُ في منازلهم الجديدة. وكان الأندريون في الجنوب والسيخ في الشمال قد بدءوا يتململون. ولم تكن مسألة كشمير قد حُلَّت بعدُ في نظر العالم. ولم يكن الاستقلال قد أحدث أي تحسُّنٍ بعدُ في مشكلتَي الفقر وعدم المساواة، وهو الوضع الذي كان من المرجح أن يُلام عليه الحزب الحاكم بطبيعة الحال.

أحد الأساليب الممكنة لسرد قصة الحملة الانتخابية هو عبر تصفُّح عناوين الصحف. وقراءتها شائقة، لا سيما وأن القضايا التي سلطت عليها الضوء ظلت في طليعة اهتمام الانتخابات الهندية منذئذٍ؛ فجاء في خبر من أوتَّر براديش: «معارضة ضارية للوزراء»، وقال خبر آخر: «صراعات الطوائف الهندية تُضعِف حزب المؤتمر في بيهار.» وورد الخبر الدالُّ الآتي عن المنطقة الشمالية الشرقية: «مطالب الحكم الذاتي في مانيبور.» وعن مدينة جَواهاتي، صدر الخبر: «فرص حزب المؤتمر في آسام: أهمية أصوات المسلمين والقبائل.» وفي جواليور جاء الخبر: «استياء في أوساط حزب المؤتمر: قائمة المرشَّحين تفاقم الشِّقاق.» وفي كلكتا جاء الخبر: «استقبال رئيس حزب المؤتمر في غرب البنغال بصيحات الاستهجان في اجتماع الحزب» (وكان مَن اعترض طريقه اللاجئون الوافدون من باكستان الشرقية). واستُهِلَّ خبر صادر عن مدينة لكنو بالآتي: «لا أمل في انتخابات حرة نزيهة»، وهو الحكم الذي أصدره جيه بي كريبالاني، الذي زعم أن موظفي الدولة سوف يعمدون إلى تزوير نتائج الانتخابات لصالح الحزب الحاكم. وورد عن مدينة بومباي — في ثلاث مراحل مختلفة من الانتخابات — تلك العناوين الخالدة إلى حدٍّ بعيد: «حزب المؤتمر يعتمد على مساندة المسلمين» و«فتور من جانب حزب المؤتمر تجاه الطوائف الْمُجَدْوَلَة: اتهامات يرددها الدكتور أمبيدكار» و«أربعة عشر مصابًا في اشتباكات بانتخابات مجلس المدينة». إلا أنه من حينٍ لآخر كان ثَمَّةَ أخبار ملائمة لعصرها لكنها غير ملائمة لعصرنا بالتأكيد؛ من أبرزها ذلك الخبر الذي ورد في مجلة «ذا سيرشلايت» في مدينة باتنا، الذي ادَّعى وجود «آمال في تصويت سِلمي في بيهار».

في مواجهة المعارضة الواسعة النطاق من الخارج — وبعض الخلاف داخل الحزب نفسه — قرَّر جواهر لال القيام بجولات انتخابية سافر فيها بالسيارة، وأحيانًا بالطائرة والقطار أيضًا؛ فبدأ في أول أكتوبر جولة وصفها فيما بعدُ موظف من الحزب أُنهك بسبب مشاركته فيها بأنها تُشبه «حملات الأباطرة سامودرا جوبتا وأشوكا وأكبر» إضافةً إلى «أسفار فا-هيان وتشيونتسانج». ففي غضون تسعة أسابيع طاف نهرو البلاد من أولها لآخرها؛ فقطع ٢٥ ألف ميل إجمالًا؛ منها ١٨ ألف ميل جوًّا، و٥٢٠٠ ميل بالسيارة، و١٦٠٠ ميل بالقطار، وحتى ٩٠ ميلًا بالقارب.34

بدأ نهرو الحملة الانتخابية لحزبه بخطابٍ ألقاه في مدينة لوديانا بالبنجاب يوم الأحد ٣٠ سبتمبر. كان لاختيار المكان دلالته، وكذلك المنحى العام لحديثه؛ إذ أعلن شَنَّ «حرب شاملة على الطائفية»، وإدانته «التنظيمات الطائفية التي تنشر فيروس الطائفية تحت اسم الثقافة الهندوسية والثقافة السيخية، مثلما فعلت العصبة الإسلامية من قبل». فتلك «العناصر الطائفية الخبيثة» إن نالت السلطة، فسوف «تجلب الموت والدمار على البلاد». وطلب إلى جمهوره البالغ قوامه نصف مليون فرد الآتي: «أبقُوا نوافذ عقولكم مفتوحة ودعوا النسيم العليل يَهُب عليها من جميع أنحاء العالم.»

كان الشعور السائد يُذكِّر بغاندي، وبالفعل فقد ألقى نهرو خطابه الكبير التالي في دلهي عصر يوم ٢ أكتوبر، في ذكرى مولد المهاتما. وفيه تحدَّث باللغة الهندوستانية إلى حشد هائل من الناس عن عزم الحكومة القضاء على ممارستَي النَّبْذ والإقطاع. ومرةً أخرى أشار إلى أنصار الطائفية باعتبارهم العدوَّ الأكبر، الذي «لن نتهاون معه» و«سنقهره بكل قوتنا». وقد تخلل خطابَه الذي استمرَّ خمسًا وتسعين دقيقة تهليلٌ صاخبٌ من الجمهور، لا سيما عندما أصدر إعلانه الرنان: «إذا رفع أحد يده على آخر استنادًا إلى الدين، فسوف أحاربه حتى آخر نَفَسٍ يتردد في صدري، من منصبي كرئيسٍ للحكومة وكذلك من خارجها.»

أينما ذهب نهرو كان ينتقد النزعة الطائفية بشدة؛ ففي البنغال موطن إس بي موكرجي سخر من حزب جانا سانج ناعتًا إياه «بالابن غير الشرعي لمنظمتَي راشتريا سوايامسيفاك سانج وهندو ماهاسابها». وبالتأكيد تطرَّق إلى موضوعاتٍ أخرى أيضًا؛ ففي بيهار أدان «وحش الطبقية». وفي بومباي ذكَّر جمهوره بأن التصويت لحزب المؤتمر يعني أيضًا التصويت لسياسته الخارجية المتمثلة في الحيادية القائمة على المبادئ. وفي بهاراتبور وبيلاسبور أعرب عن أسفه لقلة صبر نُقاده اليساريين، الذين يتفق معهم في الغاية وإن اختلفت الوسيلة؛ فعلى حد تعبيره: «لا يمكننا بناء صرح الاشتراكية إلا بالتدريج.» وفي أمبالا طلب إلى النساء خلع نقابهن و«التقدُّم لبناء الوطن». وفي مناطق عدة أعرب عن إعجابه بأفضل معارضيه؛ رجال مثل أمبيدكار وكريبالاني وجايا براكاش نارايان، الذين كانوا زملاءه في الحزب أو الحكومة يومًا. وقال: «نريد عددًا من الرجال من هذا القبيل ذوي المقدرة والنزاهة. هؤلاء رجال مُرَحَّب بهم، لكنهم جميعًا مختلفون فيما بينهم ولا يحققون شيئًا في النهاية.» وأعرب عن بالغ أسفه للمعارضة التي لاقاها من الحزب الاشتراكي، الذي — حسب قوله — «يضم بعض أصدقائي الحميمين القدامى الذين أكنُّ لهم كل إجلال واحترام». أما ابنته — إنديرا غاندي — فلم تشاركه شعوره، إذ زعمت في خُطَبها أن الاشتراكيين يعملون بتمويلٍ أمريكي.35
أثناء جولة نهرو، «كان وقتُ ترحاله أطولَ من وقت نومه، ووقتُ حديثه أطولَ من وقت ترحاله». فقد خطَب في ٣٠٠ مؤتمر جماهيري وعدد لا حصر له من اللقاءات الجانبية. وخطب في ٢٠ مليون فرد شخصيًّا، فيما ظفر عدد مكافئ لهم بإطلالةٍ منه؛ إذ تزاحموا في الشوارع ليُلقوا نظرة عليه بينما تمرق سيارته بسرعةٍ إلى جوارهم. كان ممن استمعوا إلى نهرو ورأَوْه عمال مناجم وفلاحون ورعاة ماشية وعمال مصانع وعمال زراعيون. كذلك حضرت النساء من الطبقات كافةَ اجتماعاته. وفي بعض الأحيان كان ثَمَّةَ عناصر عدائية متفرِّقة بين الحشود؛ ففي مناطق من شمال الهند، صاح بعض أنصار حزب جانا سانج في اجتماعات نهرو الترويجية أنه غير جديرٍ بالثقة لأنه يأكل لحم البقر. وحين مرَّ نهرو بمجموعةٍ من الشيوعيين مُلوِّحين بشعار المطرقة والمنجل (عَلَم الحزب الشيوعي السوفييتي)، قال لهم: «اذهبوا للعيش في البلد الذي تحملون عَلَمه.» فردُّوا عليه في حنق: «لمَ لا تذهب أنت إلى نيويورك وتعيش إلى جوار إمبرياليي وول ستريت؟»36
ولكن في أغلب الأوقات كان الناس الذين يحضرون للاستماع إلى نهرو من المتعاطفين معه، بل من المتملِّقين في كثيرٍ من الأحيان. وقد أورد كُتيِّب نشره حزب المؤتمر المحصِّلة الآتية، التي كانت مبالغًا فيها ولكن ليس بدرجةٍ كبيرة:
تقريبًا في كل بقعةٍ أو مدينةٍ أو بلدةٍ أو قريةٍ أو موقِفٍ على جانب الطريق، كان الناس ينتظرون ساعات طويلة للترحيب بزعيم الأمة. وأغلقت المدارس والمتاجر أبوابها، وأخذ بائعو اللبن ورعاة البقر اليوم عطلة، والفلاح ومُعاونه استقطعا راحة مؤقتة من برنامج عملهما الشاق من الفجر إلى الغروب في البيت والحقل. وبفضل نهرو، نفد مخزون المحالِّ من المياه الغازية وعصير الليمون، وحتى المياه أصبحت نادرة … وأتت قطارات مخصوصة من المناطق النائية لنقل الناس إلى مؤتمرات نهرو؛ حيث لم يكتفِ الركاب المتحمسون بالجلوس على مساند الأقدام بالأبواب، وإنما جلسوا فوق العربات أيضًا. وكانت حالات الإغماء بالعشرات بين الحشود المتوافدة.37

وقد قدَّمت الصحافة المستقلة أمثلة متعددة على المزاج الشعبي؛ فعندما ألقى نهرو خطبة في بومباي، تقدَّمت مسيرة — معظمها من المسلمين — إلى تشوباتي في صحبة المزامير والصنوج. وتقدَّم المسيرة عجلان ومحراث (رمز حزب المؤتمر). وفي جميع الأنحاء، أخذت الحشود تتجمَّع منذ الصباح الباكر لحضور خُطَبٍ مُقَرَّرٍ إلقاؤها في فترة بعد الظهيرة، وفي كل مكانٍ تقريبًا كُسِرت الحواجز في خِضَمِّ «اللهفة إلى إلقاء نظرةٍ على السيد نهرو». وعقب خطابٍ ألقاه نهرو في دلهي، التقاه عند نزوله من على المنصة مصارِع شهير — ماسو بهَلوان — قدَّم إليه سلسلة ذهبية وقال معلِّقًا: «هذه مجرد هدية رمزية. وأنا على استعدادٍ لأن أهَب حياتي فداءً لك وللوطن.» وانجذبت وسائل الإعلام بشدةٍ إلى سيدة تتحدث التيلوجوية ذهبت للاستماع إلى حديث نهرو في بلدة كَراجبور القائمة على خط السكة الحديدية. وأثناء خطاب رئيس الوزراء فاجأتها آلام المخاض. وعلى الفور، حوَّطتها جماعة من مواطنيها من الأندريين، وجاء المولود إلى النور بسلام، بينما حاولت القابلات استراق السمع بالتأكيد لحديث بطلهن.

وقد جاء أفضل سردٍ للشعبية الاستثنائية التي تمتع بها نهرو عن طريق شهادة دي إف كارَكا، رئيس تحرير صحيفة بومباي الأسبوعية الذائعة الصيت «كارنت»، المعروف بوقوفه لنهرو بالمرصاد. كان كارَكا واحدًا ضمن الحشد الهائل المتجمِّع على شاطئ تشوباتي، واحدًا من ٢٠٠ ألف شخصٍ تجمَّعوا هناك، وكثير منهم واقفون في البحر. وقد أشار كارَكا — آسفًا بالتأكيد — إلى «الأُلفة الفورية التي نشأت بين المتحدث وجمهوره». وقد وصف خطاب نهرو كالآتي:

قال لهم إنه جاء إلى بومباي بعد طول غياب، بعد سنينَ طوال.

ثم سكت قليلًا ونظر إليهم بتلك النظرة التوَّاقة التي يتميز بها. وفي تلك الوقفة — التي يتشاءم بها خصومه السياسيون — لا بد أن ألف صوت انحاز إلى صفه.

نعم، إنه يشعر بصلةٍ شخصية بهذه المدينة.

وقفة.

ألفا صوت.

إنه كشعور العودة إلى الديار.

وقفة.

خمسة آلاف صوت.

لقد قضى بعض أسعد لحظات حياته في بومباي. نعم، أسعد لحظات حياته.

خمسة آلاف صوت …

تذكر تلك اللحظات الرائعة بوضوح. وبعض أتعس لحظات حياته أيضًا؛ الأيام التعيسة العصيبة لمعركة الحرية.

عشرة آلاف صوت لحزب المؤتمر.

وقفة. ثم قال: «إنني إذ أنظر إلى رفاقي في الكفاح في سبيل الحرية، أستمدُّ منهم مشاعر الحرية والقوة.»

الألفة اكتملت أواصرها.

عشرون ألف صوت!

وقفة.

نظرة آسفة عميقة نابعة من الروح تحت شمس الأصيل الآيلة للزوال، والهواء مشبَّع بالانفعالات … خاطب الجَمع الحاضر قائلًا إنه قد أخذ على عاتقه دور السائل المستجدي. وقال وسط الهتافات: «إن كنتُ سائلًا، فأنا أسأل محبتكم، وودَّكم، وتعاونكم المستنير في حل المشكلات التي يواجهها الوطن.»

ثلاثون ألف صوت مضمون لنهرو.

وقفة.

ضجة بين الحضور. دمعة على وجه رجلٍ أو امرأةٍ جالسة على الرمال أو واقفةٍ على الشاطئ. دمعتان، تُمسَحان برفقٍ بطرف الساري عن وجه امرأة. سوف تعطي صوتها لنهرو بصرف النظر عما يقوله أيُّ شخصٍ كائنًا من كان. عادت ذكريات غاندي إلى الأذهان، إلى أيام كان نهرو يقف فيها إلى جوار المهاتما. نهرو … إنه الرجل الذي تركه لنا ليكون وريثه السياسي.

خمسون ألف صوت! مائة ألف! مائتا ألف!38
تأثَّرت الحشود بنهرو، وهو بدوره تأثَّر بها. ونجد أفضل وصفٍ لمشاعره في رسالةٍ كتبها إلى إدوينا ماونتباتن التي يمكن وصفها — بمزيجٍ من اللباقة والصدق — بأنها كانت صديقته المقرَّبة:

في أي مكان أذهب إليه، تتجمع حشود ضخمة في المؤتمرات التي أعقدها، ولَكَم يروق لي المقارنة بينهم، بين وجوههم، وملابسهم، وردود أفعالهم تجاهي وتجاه ما أقول. حينها تثب إلى مخيِّلتي مشاهد من ماضِيَّ في هذه البقعة ذاتها من الهند، ويتحوَّل ذهني إلى معرضٍ لصور الأحداث الماضية. ولكن الحاضر يملأ مخيِّلتي أكثر من الماضي، وإنني لأحاول أن أسبر أغوار عقول تلك الحشود وقلوبها؛ فبعد طول المدة التي قضيتها محبوسًا في الحكومة بدلهي، صرت أجد متعةً كبيرةً في تلك التعاملات الجديدة مع الشعب الهندي … وإن الجهد المبذول لشرح ما نواجهه من مشكلاتٍ وصعوباتٍ بلغةٍ بسيطة، وبلوغ عقول هؤلاء البسطاء لمُنهِك ومُمتع في الآنِ ذاته.

وإذ أتجول في الأنحاء، يندمج الماضي والحاضر معًا، وهذا الاندماج يقودني إلى التفكير في المستقبل؛ فيتحوَّل الزمان إلى ما يُشبه نهرًا جاريًا في حركةٍ مستمرةٍ ترتبط فيها الأحداث أحدها بالآخر.39

٦

المكان الوحيد الذي لم يصل إليه حتى نهرو كان تحصيل تشيني في هيماجَّل براديش، حيث أقام أول هنود يُدلون بأصواتهم في انتخاباتٍ عامة، وهم جماعة من البوذيين. لقد أدلَوْا بأصواتهم يوم ٢٥ أكتوبر من عام ١٩٥١، قبل أيامٍ من إغلاق ثلوج الشتاء للأودية التي يعيشون فيها وعزلها عن العالم. كان أهالي تشيني يَدينون بالولاء للبانشن لاما في التِّبِت، وتحكمهم طقوس يُديرها الكهنة المحليون. تضمَّنت تلك الطقوس طقس «جوراسَنج»؛ شعيرة دينية تُجرَى احتفالًا بإتمام بناء بيت جديد، و«كَنجور زَلمو»؛ زيارة رسمية إلى المكتبة البوذية في كَنَم، و«منتاكو»؛ «حيث يتسلق الرجال والنساء والأطفال الجبال، ويغنون ويرقصون»، و«جوخِيا تشوج سيميج»؛ وهو تزاور الأقارب. ومنذ هذه اللحظة — وإن لم يعلموا بذلك بعد — أُضيف طقس جديد إلى المجموعة القائمة، يُمارَس كل خمسة أعوام، وهو: التصويت في الانتخابات العامة.40
بدأ الاقتراع في المملكة المتحدة في اليوم ذاته، ولم يكن أول الناخبين هناك فلاحين بوذيين في وادٍ من أودية الهيمالايا، وإنما «بائعو اللبن، والخادمات، والعمال الليليون في طريق عودتهم إلى المنزل».41 إلا أنه في تلك الجزر الصغيرة عُرِفَت نتائج الانتخابات في اليوم التالي: الإطاحة بحزب العمال وعودة ونستون تشرشل رئيسًا للوزراء. أما في الهند، فكان على أول الناخبين الانتظار شهورًا حتى يعلموا النتائج؛ إذ إن بقية البلد لم تذهب للاقتراع حتى شهرَي يناير وفبراير من عام ١٩٥٢.
سُجِّلت أعلى نسبة حضور — ٨٠٫٥٪ — في دائرة كوتايام البرلمانية، في كيرالا الحالية. وسُجِّلت أدنى نسبة حضور — ١٨٪ — في شهدول فيما صار الآن ولاية ماديا براديش. وعلى مستوى البلد ككلٍّ، مارَس نحو ٦٠٪ من الناخبين المسجَّلين حقهم في الانتخاب، وهذا على الرغم من ارتفاع مستوى الأُمِّيَّة. وقد وصف باحث من كلية لندن للاقتصاد حال شابة في هيماجل قطعت عدة أميالٍ سيرًا على الأقدام برفقة أمها الواهنة للإدلاء بصوتيهما، قائلًا: «ليومٍ واحد — على الأقل — كانت تشعر بأهميتها.»42 وتعجَّبت إحدى الصحف الأسبوعية في بومباي من ارتفاع نسبة الحضور في مقاطعات الغابات بأوريسَّا؛ حيث جاء أعضاء القبائل إلى اللجان الانتخابية بأقواسهم وسِهامهم. وقد سجَّلت إحدى اللجان الانتخابية القائمة وسط الأدغال نسبة تصويت أعلى من ٧٠٪، ولكن من الواضح أن سوكومار سين أخطأ في بعض الأمور على الأقل؛ إذ إن اللجنة الانتخابية المجاورة لم يأتِها سوى فيل واثنين من النمور.43 وقد سلَّطت الصحف الضوء على الأشخاص الطاعنين في السِّن؛ مثل رجل عمره ١١٠ أعوام في مادوراي جاء مستندًا إلى اثنين من أحفاد أبنائه، وامرأة في أمبالا تبلغ من العمر ٩٥ عامًا، صماء حدباء، ورغم ذلك جاءت للإدلاء بصوتها. كان ثَمَّةَ رجل مسلم أيضًا في التسعين من عمره في ريف آسام اضْطُرَّ إلى العودة خائبًا بعد أن أخبره الموظف المسئول أنه «لا يمكنه التصويت لنهرو»، ورجل مُسِنٌّ آخر في العقد العاشر من العمر في ريف مهاراشترا أدلى بصوته في انتخابات المجلس المحلي، ولكنه سقط ميتًا قبل أن يتسنَّى له الإدلاء بصوته في انتخابات البرلمان. وقد توطَّدت دعائم الديمقراطية الهندية في قائمة الناخبين لولاية حيدر أباد؛ حيث كان النظام شخصيًّا من أوائل الأشخاص الذين أدلوا بصوتهم.

إحدى المناطق التي اتسمت عملية الاقتراع فيها بنشاطٍ واضحٍ كانت بومباي؛ فدلهي كانت مقر الحكام، إلا أنَّ تلك المدينة الكبيرة المتألِّفة من جُزُر كانت العاصمة المالية للهند. كما أن مستوى الوعي السياسي بتلك المدينة كان مرتفعًا جدًّا. فإجمالًا مارَس ٩٠٠ ألف من سكان بومباي — أو ٧٠٪ من جمهور الناخبين بالمدينة — حقهم الديمقراطي يوم الانتخابات. وجاء العمال بأعدادٍ أكبر بكثيرٍ من الطبقة الوسطى. وهذا ما سردته صحيفة «تايمز أوف إنديا» فيما يلي: «في المناطق الصناعية، اصطفَّ الناخبون في طوابير طويلة قبل فتح مراكز الاقتراع أبوابَها بفترةٍ طويلة، على الرغم من البرودة والنداوة الواضحة في ذلك الصباح. وعلى النقيض، في نادي هضبة مالابار — الذي ضمَّ مركزَي اقتراع — بدا أن الناس يَرِدُون أشتاتًا للعب التنس أو البريدج ولا يأتون للتصويت إلا عَرَضًا.»

في اليوم التالي على انتخابات بومباي، جاء الدور على منطقة تلال ميزو. من حيث الثقافة والتضاريس الجغرافية لا يمكن أن يكون ثَمَّةَ منطقتان أكثر تناقضًا؛ فبومباي تمتعت بكثافةٍ هائلةٍ من مراكز الاقتراع — ١٣٤٩ مركزًا إجمالًا، محشورة في اثنين وتسعين ميلًا مربعًا فحسب. أما منطقة تلال ميزو — المنطقة القبلية المتاخمة لباكستان الشرقية وبورما — فلم تحوِ سوى ١١٣ لجنة انتخابية موزَّعة على أرض مساحتها ٨ آلاف ميل مربع. وقد قال أحد الكَتَبَة إن سكان هذه التلال «لم يرَوُا اصطفاف الطوابير من قبلُ إلا في صفوف المعارك». لكن رغم ذلك فقد لاقت تلك الممارسة «إعجابًا قويًّا» من جانبهم؛ إذ كانوا يصلون إلى لجانهم الانتخابية بعد السير أيامًا في «طرق محفوفة بالمخاطر عبر الغابات البرية، حيث ينصبون خيامهم ليلًا على الطريق وسط الغناء والرقصات الشعبية حول النار». ومن ثَمَّ فإن ٩٢ ألفًا من سكان تلك التلال الذين «كانوا يحسمون قضاياهم لقرونٍ من الزمان بواسطة أقواسهم وسِهامهم، أتَوْا للتعبير عن قرارهم لأول مرةٍ بواسطة أوراق الاقتراع».

وقد أعربت مصوِّرة أمريكية مكلَّفة بتغطية الحدث في هيماجَّل براديش عن إعجابها الشديد بمدى التفاني الذي أبداه موظفو اللجان الانتخابية؛ فقد مشى أحدهم ستة أيامٍ لحضور ورشة العمل التحضيرية التي نظَّمها قاضي المقاطعة، بينما سافر آخر أربعة أيامٍ على ظهر بغل، ثم عادا إلى مركزَي الاقتراع النائيَين حيث يعملان حاملَين أكياسًا مُحاكَةً من الخيش تحوي صناديقَ اقتراعٍ وأوراقَ اقتراعٍ ورموزَ أحزابٍ وقوائمَ انتخابيةً. وفي يوم الانتخاب قررت المصوِّرة مراقبة فعاليات الحدث من قريةٍ مغمورةٍ بين التلال، هي قرية بوتي. كان مركز الاقتراع هناك مدرسة لها باب واحد. وبما أن القواعد كانت تنصُّ على وجود باب للدخول وآخر للخروج، حُوِّلَت نافذة إلى باب، مع تزويدها بدرجاتٍ مرتجَلَةٍ على جانبيها للسماح لكبار السن والمرضى باعتلائها للخروج بعد الإدلاء بأصواتهم.44
في الانتخابات الأولى هذه على الأقل، كان الساسة وعامة الشعب على حدٍّ سواء (على حد تعبير رئيس اللجنة الانتخابية) «ملتزمين بالقانون ومسالمين إلى حدٍّ بعيد»؛ فلم تُسَجَّل سوى ١٢٥٠ مخالفة انتخابية، تضمنت ٨١٧ حالة «انتحال شخصية ناخبين»، و١٠٦ محاولة لإخراج أوراق اقتراعٍ من مركز الاقتراع، و١٠٠ حالة «دعاية انتخابية على بُعد مائة ياردة من مركز الاقتراع»، وهي المخالفة التي شاركت فيها الأبقار التي كُتب على ظهورها دعاية للأحزاب بلا شكٍّ دون علمها.45

٧

انتهى الاقتراع للانتخابات العامة في الأسبوع الأخير من فبراير. وعند ظهور النتائج، اتَّضح أن حزب المؤتمر قد فاز بفارقٍ كبير؛ فقد حصل على ٣٦٤ مقعدًا في البرلمان من أصل ٤٨٩ مقعدًا، و٢٢٤٧ مقعدًا من أصل ٣٢٨٠ مقعدًا في مجالس الولايات. إلا أنه — مثلما سارع نقاد حزب المؤتمر بالإشارة — قد كان ثَمَّةَ فجوة خطيرة بين نسبة المقاعد التي حصل عليها المرشحون ونسبة الأصوات التي حصدوها. وذلك يُعزَى إلى أنه في معظم الدوائر الانتخابية كان ثَمَّةَ ستة مرشحين أو أكثر؛ فكان الشخص الذي يحصد أكبر عددٍ من الأصوات يربح، حتى لو كان أكثر من ٥٠٪ من الناخبين قد صوَّتوا لمرشحين آخرين أو أحزاب أخرى. ومن ثَمَّ فإنه على مستوى البرلمان ككلٍّ، حصد حزب المؤتمر ٤٥٪ من الأصوات إلا أنه حصل على ٧٤٫٤٪ من المقاعد، وعلى مستوى الولايات حصد ٤٢٫٤٪ من الأصوات فيما حصل على ٦٨٫٦٪ من المقاعد. على الرغم من ذلك، فقد خَسِرَ ما يصل إلى ثمانيةٍ وعشرين وزيرًا من حزب المؤتمر في الانتخابات، منهم رجال أقوياء النفوذ من قبيل جاي نارايان فياس في راجستان، ومورارجي ديساي في بومباي. وكان الأكثر إثارةً للدهشة أن شيوعيًّا ذاق الويسكي لأول مرةٍ في حياته أثناء الحملة الانتخابية — هو رافي نارايان ريدي — فاز بأكبر هامش ربح، بما يفوق جواهر لال نهرو نفسه.

ومن الهزائم الأبرز تلك التي باء بها بي آر أمبيدكار زعيم حزب الطوائف الْمُجَدْوَلَة. كان منافسه في دائرته الانتخابية ببومباي بائع لبن مغمورًا يُدْعَى كاجرولكار. وفي هذا الإطار، ذاع صِيت شعارٍ صاغه الصحفي الماراثي الموهوب بي كيه أتري ترجمتُه مفادُها:
أين صائغ الدستور العظيم أمبيدكار؟
وأين بائع الزبد المغمور كاجرولكار؟46
ولكن في نهاية المطاف، قادت مكانة حزب المؤتمر وسيطرته — وحقيقة أن نهرو ألقى خُطَبًا عدةً في بومباي — كاجرولكار إلى النصر. وقد قال أحدهم مازحًا إنه حتى لو ترشَّح عمود إنارةٍ على قائمة حزب المؤتمر لانتُخِب. أو حسب تعبيرٍ أكثرَ موضوعيةً لأحد علماء السياسة: رَبِحَ الحزب الانتخابات بِناءً على «شعبية نهرو الشخصية وقدرته على التعبير عن طموحات الهند الحديثة الاستقلال بفصاحةٍ وقوة».47
قُبيل بدء الانتخابات، أشار سوكومار سين إلى أنها تُمثِّل «أكبر «تجرِبة» في الديمقراطية في تاريخ البشرية». إلا أن محررًا صحفيًّا من مدراس كان أقل حيادية؛ إذ شكا من أن «أغلبيةً كبيرةً جدًّا سوف تُدلي بصوتها لأول مرة؛ وقليلون هم من يعرفون ماهية الصوت الانتخابي، ولماذا ينبغي أن يُصوِّتوا، ولِمَن. لا عجب أن تُعَدَّ المغامرة بأكملها أكبر «مقامرة» في التاريخ».48 وقال مهراجا انتُزِعَت منه ممتلكاته حديثًا لزوجين أمريكيين زائرين إن أي دستورٍ يُجيز منح حق الانتخاب للجميع في بلدٍ أُمِّيٍّ يُعَدُّ ضربًا من «الجنون». وأضاف: «لكما أن تتخيَّلا كَمَّ الغوغائية والتضليل والخِداع المحتمَل حدوثه.» ثم أردف قائلًا: «إن وضع العالم أقلُّ اتِّزانًا بكثيرٍ من أن نسمح بمثل تلك التجربة.»49
شاركه تشكُّكه بِندريل مون، زميل كلية أول سولز والموظف السابق في دائرة الخدمة المدنية الهندية الذي اختار البقاء في الهند بعد انتهاء خدمته. عام ١٩٤١، كان مون قد تحدَّث إلى الطلاب الخرِّيجين من جامعة البنجاب عن عدم ملاءمة الديمقراطية الغربية الطراز للسياق الاجتماعي الذي يعيشون فيه. والآن — بعد مرور أحد عشر عامًا — صار رئيس اللجنة الانتخابية لولاية مانيبور الجبلية، ومسئولًا عن انتداب موظفين للِّجان الانتخابية والإشراف على عملية الاقتراع وعَدِّ الأصوات. وعندما ذهب أهالي مانيبور للانتخاب يوم ٢٩ يناير، كتب مون لوالده أن «سوف ينظر عصرٌ مستقبليٌّ أكثر تنوُّرًا بعينٍ ذاهلةٍ إلى المسرحية الهزلية السخيفة المتمثلة في تسجيل أصوات ملايين الأُمِّيين».50
وقد شاركته تشكُّكه صحيفة «أورجانَيزر» الأسبوعية التي تُصدرها الجماعة الهندوسية ذات النزعة الانتقامية: راشتريا سوايامسيفاك سانج. كانت تلك المجلة تأمل في أن «يعيش جواهر لال نهرو حتى يُقرَّ بفشل خطوة منح حق الانتخاب لجميع البالغين في الهند». وزعمت الصحيفة أن المهاتما غاندي قد حذَّر من «هذه الجرعة المتهوِّرة من الديمقراطية»، وأن رئيس الجمهورية — راجندرا براساد — كان «متشكِّكًا إزاء هذه المغامرة غير المأمونة العواقب». إلا أن نهرو «الذي طالما اتخذ الشعارات والبادرات الاستعراضية نهجًا لحياته، رفض أن يستمع» إلى أحد.51
في بعض الأحيان كان نهرو نفسه تُراوده بعض الظنون إزاء فكرة إعطاء حق الانتخاب للجميع؛ ففي ٢٠ ديسمبر من عام ١٩٥١ تغيَّب فترة قصيرة عن الحملة الانتخابية لكي يُلقيَ خطابًا في ندوةٍ أقامتها منظمة اليونسكو في دلهي. وفي خطابه أقرَّ نهرو بأن الديمقراطية أفضل شكلٍ للحكم — أو الحكم الذاتي — لكنه رغم ذلك تساءل عما إذا كان:

مستوى الرجال المختارين بواسطة هذه الأساليب الديمقراطية الحديثة القائمة على منح حق الانتخاب للبالغين يتدهور تدريجيًّا بسبب قلة التفكير والضجة الدعائية … فالناخب يستجيب إلى الضوضاء والصخب، إنه يستجيب للتكرار ويصنع إما دكتاتورًا أو سياسيًّا أحمق يُعوزه الإحساس. مِثل ذلك السياسي يمكنه أن يحتمل صخب العالم كله ويظل واقفًا على قدميه؛ ولذا يختاره الناخبون في النهاية لأن الآخرين يكونون قد انهاروا من فرط الصخب.

كان ذاك اعترافًا نادر الحدوث، يستند بلا شكٍّ إلى الخبرات التي اكتسبها نهرو مؤخَّرًا في جولته. وبعد أسبوعٍ اقترح نهرو أنه قد يكون من الأفضل إقامة انتخاباتٍ مباشرةٍ في المستويات الدنيا — على مستوى القرى والمقاطعات مثلًا — وانتخابات غير مباشرةٍ في المستويات العليا؛ فعلى حد تعبيره: «الانتخابات المباشرة لتلك الأعداد الهائلة تُمثِّل مشكلة معقَّدة وقد لا يتمكَّن المرشحون من التواصل مع جمهور الناخبين أبدًا وتتسع المسافة الفاصلة بين المرشحين والناخبين.»52
كان نهرو يمتلك قدرةً غير عادية — في أوساط الساسة على الأقل — على رؤية جانبَي المسألة؛ ففي تلك الحالة، كان بإمكانه رؤية أوجه القصور التي تعتري العملية رغم التزامه بها. إلا أنه بحلول وقت ظهور النتائج النهائية — وخروج حزب المؤتمر من الانتخابات حزبًا حاكمًا بلا منازع — كانت الشكوك التي انتابت نهرو قد تبدَّدت. وقال: «لقد زاد احترامي للناخب الذي يُوصَف بالأُمِّي. وأيًّا ما كانت الشكوك التي اعترتني بشأن منح حق الانتخاب للبالغين في الهند، فقد زالت تمامًا.»53
إضافةً إلى ذلك، فالانتخابات نفسها هدَّأت كُلِيًّا الظنونَ التي انتابت السفير الأمريكي الجديد في الهند — تشستر بولز — الذي تولَّى مهام منصبه في دلهي في خريف عام ١٩٥١. وقد أقرَّ بشعوره ﺑ «الصدمة من فكرة انتخابات تتضمن ٢٠٠ مليون ناخب، معظمهم من القرويين الأُمِّيين … أخشى أن تبوء بفشل ذريع». بل ربما تكون — حسب وصف صحيفة «مَدراس ميل» — «أكبر مسرحية هزلية مُثِّلَت تحت اسم الديمقراطية في أي مكانٍ في العالم». إلا أنه غيَّر رأيه إثر قيامه بجولةٍ ريفية؛ فقد كان يظن يومًا أن البلدان الفقيرة تحتاج إلى الخضوع لحكم دكتاتورٍ خيِّرٍ حتى تتهيَّأ للديمقراطية. لكن مشهد تنافس أحزاب متعددة بحُرِّية — ووقوف المَنْبوذين والبراهمة في صفٍّ واحد — أقنعه بغير ذلك؛ فلم يَعُد يرى الإلمام بالقراءة والكتابة مقياسًا للذكاء، ولم يَعُد يظن أن آسيا بحاجةٍ إلى «سلسلة من القادة من قبيل أتاتورك» قبل أن تصير مستعدةً للديمقراطية. وقد كتب بولز ملخِّصًا تقريره عن الانتخابات: «في آسيا — كما في أمريكا — لا أعرف رؤية أعظم من هذه: الحكم برضاء المحكومين.»54
وقد سلَّط صحفي تركي زائر اهتمامَه على مضمون الانتخابات لا شكلها؛ فأبدى إعجابه بالقرار الذي اتَّخذه نهرو بعدم السير على خُطى البلدان الآسيوية الأخرى بسلوك «الطريق الأسهل» وإقامة «حكم دكتاتوري قائم على مركزية السلطة وعدم تقبُّل المعارضة والنقد». فقد كان رئيس الوزراء «حكيمًا إذ نأى بنفسه عن تلك الإغراءات». إلا أن «الفضل الأساسي … يرجع إلى الأمة نفسها؛ إذ تُرِك ١٧٦ مليون هندي لضميرهم في مواجهة صندوق الاقتراع؛ فقد كان التصويت مباشرًا وسِرِّيًّا. وكان أمامهم خيار ما بين الحكم الديني والشوفينية والانفصالية الطائفية والانعزالية من ناحية، والعلمانية والوحدة الوطنية والاستقرار والاعتدال والتعامل الوُدِّي مع بقية العالم من ناحيةٍ أخرى؛ فأثبتوا نُضجهم باختيار الاعتدال والتقدُّم ونبذ الرجعية والقلاقل». وقد بلغ انبهار ذلك المراقب مبلغًا جعله يأخذ وفدًا من مواطنيه للقاء سوكومار سين؛ فأراهم رئيس اللجنة الانتخابية نماذج من صناديق الاقتراع وأوراق الاقتراع ورموز الأحزاب، فضلًا عن مخطط مركز الاقتراع، وذلك حتى يتمكَّنوا من استئناف مجرى الديمقراطية المُعَطَّل في بلادهم.55
كان الصحفي التركي مصيبًا من ناحية؛ فقد كان ثمة ١٧٦ مليون بطل بالفعل، أو ١٠٧ على الأقل — وهم من ذهبوا للتصويت فعلًا من بين الناخبين الذين يحق لهم الانتخاب. إلا أن بعض الأبطال كانوا أكثر تميُّزًا من غيرهم؛ فمثلما أشار عالم الاجتماع الجليل ابن لكنو، دي بي موكرجي: «يُعزَى قدر كبير من الفضل إلى المسئولين عن تلك التجربة العظيمة الأولى من نوعها في تاريخ الهند؛ فقد أظهر الجهاز البيروقراطي معدنه الأصيل بالتأكيد باضطلاعه بإخلاصٍ بالمهام التي وُكِّلَت إليه من رئيس وزراء مخلِص.»56
ينطوي الجمع بين نهرو والجهاز البيروقراطي على أهمية، ومفارقة أيضًا؛ فذات حينٍ كان نهرو لا يُكِنُّ لذلك الجهاز سوى الازدراء. وعلى حد تعبيره في سيرته الذاتية، فإنه «لا يوجد الكثير مما يستدعي الدهشة في الهند في يومنا هذا أكثر من التدهور المستمر — أخلاقيًّا وفكريًّا — لدوائر الخدمة العليا، ولا سيما دوائر الخدمة المدنية الهندية. يتجلَّى ذلك الوضع في أوضح صوره في الموظفين الكبار، لكنه يسري عبر الدوائر الخدمِيَّة كافة».57 كتب نهرو ذلك الكلام عام ١٩٣٥، حين كان في إمكان الجهات موضع سخريته أن تسجنه هو وأمثاله. ولكن بعد مرور خمسة عشر عامًا، اضْطُرَّ نهرو إلى تسليم الانتخابات إلى الرجال الذين كان من الممكن أن ينعتهم فيما مضى بعملاء الإمبريالية.

في هذا الصدد، كانت انتخابات عام ١٩٥٢ قصةً اشتركت في تأليفها قوتان تاريخيتان متعارضتان منذ زمنٍ بعيد: الاستعمارية البريطانية والقومية الهندية. وفيما بينهما قدَّمت هاتان القوتان إلى هذه الأمة الوليدة ما يمكن وصفه دون مبالغةٍ بوثبةٍ إلى الديمقراطية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤