نزعة الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر

١

هنالك وراء المشاهد التي تتمثل أمامنا في الحوادث الخارجية، والتقلبات التي يكشف لنا التاريخ عنها جلية أمام حواسنا، يقع العالم الخفي، عالم الرغبات والبواعث، ومحركات الفكر، متبوعًا بالانفعالات النفسية وقوى الحياة التي تنتج تلك الظاهرات أو تصحبها.

هنالك وراء مظاهر الحياة، نجد العالم الخفي، عالم الفكر، وما كان للتاريخ — حسب ما يُفهم اليوم من معناه في اللغات الحديثة — أن يكون تاريخًا حقًّا حتى يتناول الحقائق والحوادث متتابعة متلاحقة، متواصلة غير مفصومة الحلقات، فيظهرها لنا مترابطة الأسباب، جماعها عائد إلى قصد أو غرض ما، فيرجع بنا إلى الماضي سعيًا إلى علة جوهرية، أو يسوقنا إلى الأمام ابتغاء غاية محدودة، كذلك الحال في محركات الفكر وبواعثه، والرغبات وقوى الحياة التي تقع وراء الحوادث الظاهرة؛ فإنها تحتاج للاتصال، وأن تظهر على حال من النظام والتتابع حتى نستطيع أن نبلغ منها بفهم، أو نتقصاها بتأريخ ووضع.

على أن ذلك العنصر الخفي، عنصر الفكر، لَهُوَ الذي جمع بين شتاتها، ووصل بين أطرافها، وهو الذي يجب على المؤرخ — إذ يتصدى للكشف عن هذه الحقائق — أن يستوعب شارده ووارده. والفكر وحده، مهما تعددت مظاهره، وتنوعت مشاهده، سواء أكان مبدأ للعمل وبذل الجهد، أو واسطة يتلوها التأمل والاستبصار، في مستطاعه أن ينظم المتفرقات المبددة، ويربط بين فروعها، ويجمع بين شتاتها، وفي طوق استطاعته أن يحرك ما ليس بمتحرك، وأن يدفع بالحركة إلى الأمام ما هو ثابت، لا متقدم له ولا متأخر. ولا جرم أنك إن استطعت أن تذهب إلى الدنيا بعالم الفكر؛ فإنك لا تلبث أن تجد أن اطِّراد النسق، ووحدة الوتيرة، والتجانس التام قد أصبح المبدأ في نظام الطبيعة.

وهذا القول قد يَظهر للسواد الأعظم من الناس غريبًا، وفيه كثير من التطرف والجرأة. أما أولئك فهم الذين يتدبرون ظاهرة الطبيعة العظمى أكثر من تدبرهم تلك الحدود الضيقة التي ينحصر فيها عمل الإنسان ونشاطه ودائرة تبصره، على أن بضعة ملاحظات لتكفي للدلالة على أن ما أوقن به لا ينافي وجهة النظر التي ينظرون؛ فقد يقول البعض: إننا نجد، بعيدًا عن عالم الفكر الإنساني برمته، أن للأرض تاريخًا، وأن للنظام الشمسي تدرجًا ونشوءًا، وأن النشوء على نظريات العلم الحديث هو المبدأ الأوحد الذي يخضع له العالمَان: الحي، وغير الحي، وأن السكون والتجانس لا وجود لهما في الكون، وأنك أينما وليت وجهك باحثًا في نواحي الطبيعة لا تقع إلا على ضروب من التغير، وأوجه من الحركة.

ولكن ألا يعرفون أن التغيير والحركة وحدهما لا يبعثان على وضع التاريخ وتكوينه؟ فإن التغيير والحركة ليصبحان من الاطراد والثبات على نمط معين، بحيث يكون حكمهما في الطبيعة حكم السكون التام، إذا تكرر وقوعهما متعاقبًا على وتيرة واحدة، وشكل غير متناهٍ، أو إذا لم تُحدث الحركة شيئًا زائدًا على ماهيتها، بأن يكون ذلك الشيء الزائد على ماهية الحركة أكبر خطرًا، أو أحسن صفة من نقطة الابتداء، ولكن مصطلحات الكلام إذ نستعملها لَتَدُلُّ على ذلك الشيء الذي نخصه «بعظم الخطر» و«حسن الصفة»، تلك التي تحتاج في المقارنة والقياس إلى كائن مفكر يجعل لِشيء من الخطر والعظم ما ليس لغيره، ويحكم على الأشياء بالقياس على أمثال عُليا يتخذها قاعدة لأحكامه. جماع هذه المعاني ليست بكائنة في تضاعيف الموجودات أو ظاهرات الطبيعة ذاتها، بل إنك لا تجد لها من أثر إلا في ثنيات العقل المفكر وحده. وقد يصح أن يكون في مقدور سلسلة من التغيرات الآلية — الميكانيكية — غير العاقلة، أن تستحدث أعدادًا لا نهاية لها، أو صورًا لا نهاية لتنوعها.

غير أن النهج الطبعي لا يمكن أن يصبح تاريخًا إلا إذا بلغ حدًّا عنده يستطيع عقل مفكر أن يفقه منه طريقة الانتقال من حالة الوحدة إلى حالة التضاعيف والكثرة، أو أن يستوعب منه طريقة إبراز تلك الصور التنوعية الشتى، أو أن يكشف عما إذا كان من شأن تلك الظاهرة الطبعية أن تنتج شيئًا ماديًّا ذا قيمة، أو أن تنتج اتصالًا بفائدة معينة، أو أن يستشف منها ضررًا يسبب خسارة، أو نفعًا يحدث كسبًا.

فالرقاص إذ يمضي في الحركة يمنة ويسرة على نمط واحد غير ذي انتهاء، والسيار إذ يتحرك حول الشمس مكررًا حركته إلى لا آخر ولا قصد، والجوهر الفرد إذ يهتز متراوحًا في مكان معين؛ جماع هذه الأشياء لا تبعث فينا شيئًا من حب العناية بها لأبعد من معرفة القانون الرياضي الذي يضبط حركاتها، ويحملنا دائمًا على أن نستوعبها عقليًّا؛ أي نفكر فيها.

فاتحاد عدد غير متناهٍ من هذه الحركات الأولية لا يبعث فينا شيئًا من العناية به، ما لم نعتقد أن من اتحاد مثل هذا العدد قد يَنتُجُ شيءٌ جديد غير مرئي؛ شيء ينبه فينا الشعور بحس من الجمال أو الفائدة إذا عرفناه وملكناه، شيء ذو قيمة غالية في نظر العقل المفكر، مهما كان المعنى الذي يؤديه لنا اصطلاح «العقل المفكر» كبيرًا أم صغيرًا، عظيمًا أم حقيرًا.

غير أننا إذ ننظر في العالم غير الحي، فنجد أن نهج الطبيعة في التغير وعدم الثبات يبعث فينا شيئًا من اللذة والعناية به، ونلحظ أن لذلك العالم تاريخًا ترجع معرفته كما يعود استكناهه إلى عقل مفكر يدونه ويتفهمه وينميه ويقدره، فإلى أي حد تتضاعف تلك اللذة، وتذهب هذه العناية، إذا ما نظرنا في أعمال العالم الإنساني؛ حيث يصبح الإنسان أول مصدر للعمل، فضلًا عن أنه القوة المفكرة وينبوعها، ما دام ذاك مبلغ لذتنا وعنايتنا من النظر في العالم غير الحي!

فإذا لم يكن في مستطاع السنين وتعاقبها، والعصور وتلاحقها، أن تُحدث تغيرًا ما، وإذا لم يكن في مقدور سنن الوجود ونظام الحياة إلا أن يتكرر وقوعها على نمطٍ واحدٍ غيرِ متناهٍ؛ فلا جرم أن هنالك يتعطل التاريخ، ويمسك عنه أن يبعث فينا من اللذة ما يسوقنا إلى العناية به؛ فإن لقبائل أفريقية المستوحشة تاريخًا، ولكن تاريخها قد يصبح معروفًا بِرُمَّتِهِ إذا وقفنا على نظام حياتهم اليومية أو السنوية على الأقل، أو نظام حياتهم خلال جيل على الأكثر.

كذلك الحال في بلاد الصين، فإن ما في الحياة الصينية من مظاهر السكون وعدم التقدم تجعل تاريخهم مقتضبًا ضئيلًا على الرغم مما فيه من التعقيد والاختلاط؛ فإن ألوفًا من الأعوام تمضي على بلاد الصين لا تسد من فراغ التاريخ أكثر مما تسده أيام معدودة في تاريخ أوروبا الحديث، أو كما يقولون شعرًا:

خمسون عامًا من حياة أوروبا خير من دورة شمسية في غيرها.

لذلك نرى أن الفكر من طريقين اثنين ذو فائدة كبيرة وشأنٍ عظيم للمؤرخين؛ فإننا إذ ننظر في كل تغير يحدث في الطبيعة، أو تبديل يقع في عالم الحياة الإنسانية نتساءل: أي أثر أحدث ذلك التغير في عالم الفكر؟ وأية فائدة أو ضرر أو تقدم قد أحدث في عقول الناس الذين هم كاشفو خباياه وملاحظو آثاره؟ وهل ضاعف من معلوماتنا؟ وهل زاد إلى مجموعة أفكارنا وآرائنا؟ وهل زادنا بعدًا في النظر، وإمعانًا في التغلغل إلى صميم الحقائق؟ وهل أوسعَ من آمالنا وقوَّى من عواطفنا؟ وبالجملة: هل أضاف جديدًا إلى مصالحنا ولذاتنا؟ وهل أوسع من حياتنا الداخلية؛ حياة الفكر، فجعلها أكثر امتلاء وأقل فراغًا؟

أما إذا نظرنا في التغير واقعًا في الأعمال الإنسانية ونتائجها؛ فإنا نتساءل: ماذا كان أثر الفكر، عالم الحياة الداخلي، في إحداث ذلك التغير؟ وفي هذين السؤالين وحدهما ينحصر واجب المؤرخ إذا ما أراد أن يؤرخ في عالم الفكر الخفي.

ولا أظن أن هنالك ضرورةً تقضي عَلَيَّ في هذا المقام أن أُبيِّن عن هذا الاصطلاح — اصطلاح الفكر — محيطًا بمعناه من كل أطرافه، وفضلًا عن بُعد ذلك عن الضرورة، فإني أعتقد أن ذلك خارجٌ عن طوق تجاريبنا. وقد يساق الكثيرون إلى المطالبة بتعريفٍ للفكر، أو بيانٍ أكثر من التعريف دِقَّة في إظهار الصلة الواقعة بين الطبيعة والحياة والفكر، على أن أمثال هذه التعاريف يجب أن تُترك للقارئ ذاته، إذا ما شَعَرَ بأن هناك حاجة تقضي عليه بأن يضع — خلال تفهمه هذا الكتاب١ وما انطوى عليه — نظريات ذاتية يستخلصها من هذه المسائل في مجموعها.

فَوَضْع أي تعريف في مثل هذه الحال قد يحوطنا بكثير من أسباب التناقض غالبًا ما تفضي بنا إلى التهوش والفوضى. وإني لأعتمد في ذلك على ما تؤدي كلمة «الفكر» ذاتها من المعنى عامة غير محدودة بتعريف، على اعتبار أنها تنقل إلى كل من الناس معنى ذاتيًّا يدركه بنفسه، معنًى يُؤَهَّل به إلى فهم هذه القضية العامة التي بدأنا البحث بالنظر فيها، أو يسوقه إلى الاعتقاد بوجود عالم خفي يقع وراء عالم الحوادث والحقائق البارزة، حتى يستيقن من أن لذلك العالم الخفي طبيعة دائمة التغير، مستمرة الحركة، أو يدفع به إلى الإيمان بأن هنالك علاقةً وَصِلَةً بين هذين العالمين، وأن كلًّا منهما يحدث في نظيره أثرًا هو نتيجة عكسية لفعل أحدهما في الآخر.

والعالم الخفي، سواء أكان من ناحية الوجود الزماني، أم من ناحية الخطورة والشأن، هو المقدم على العالم الظاهر، وسواءٌ أكان ما ننسب من المكانة والشأن لحيز الاستدلال والاستنتاج في عالم الفكر، على ما في ذلك الحيز من الجلاء والوضوح، مساويًا أو غير مساوٍ لما ننسبه إلى حيز الإحساس والتصور، مشفوعًا بحيز الانفعالات غير المدرَكة، على ما فيه من الغموض والإبهام، فعامة ذا مسائل ليس من الضروري أن نجيب عليها في هذا الموطن؛ إذ يكفي أن نشير إلى وجود عالمَي الحياة والفكر؛ ليعرف بذلك الباحثون أننا لا نعني بعالم الفكر تلك الآراء ذوات التعاريف المحدودة الجلية المنظومة في سلسلةٍ ما فحسب، بل نشفعها بعالم الرغبات والانفعالات والإحساس والتصور، تلك التي تؤثر في حياتنا الداخلية، حياةِ النفس الخالدة، تأثيرها في العالم الخارجي.

وسوف أسوق البحث متحديًا هذا المعنى في كل ما سوف أُسطِّر في هذه العجالة من الكلام في تاريخ الفكر، مقصورًا على عصر من عصوره وليس في تاريخ الفكر عامة، سأقصر البحث في تاريخ الفكر الإنساني على هذا العصر٢ الذي نعيش فيه، مشفوعًا بلمحة في العصر الذي سبقه مباشرة، وهو العصر الذي يعيش فيه كاتب هذه الكلمات وقُرَّاؤه، عصر لهم به إلمام وعلم مباشر، وذكريات قد تكون صحيحة، وقد تكون غير ذلك. كان هذا الاعتبار أكبر سبب حملني على أن أفرغ قصارى جهدي في بحث تاريخ هذا العصر دون غيره من تاريخ الفكر الإنساني، مقتنعًا بأنني وقرائي أكثر معرفة بهذا العهد على ما يظهر لي من أي عهد آخر، إذا تسنى لي أن أمضي في بحثه على الطريقة المثلى. ولما كان كل شخص هو أقدر الناس على كتابة تاريخ حياته، كذلك يغلب علي الظن أن أبناء كل عصر من العصور — على اعتبارٍ ما — هم أثبت من يحيطون بتاريخ الفكر فيه.

ولقد قام الكثيرون يناهضون هذه النظرية مناهضة كان مقدارها في كل الحالات رهنًا على ما هو واقع بين الحوادث الخارجية من الأثر، تلك الحوادث التي يُلحقها كثير من الكتاب بالتاريخ اعتباطًا وإسرافًا، ويقال: إن المعاصرين من الكتاب إذ يؤرخون في عصورهم لا يتخطون من التاريخ حد تدوين الحوادث ناظرين فيها من ناحية واحدة، فتخرج من بين أيديهم ناقصةً بتراء. والحقيقة أن المؤرخ أحوج ما يكون إلى استيراد أكبر عدد ممكن من المدونات المتنوعة؛ لأن أصح المدونات التاريخية وأقربها إلى الحقيقة هي التي تخرج من فكر أكثر الناس قدرة على الجمع بين شتات هذه المدونات، فيجعلها كمًّا واحدًا، فيستطيع بذلك أن يتجنب مواضع الزلل التي كثيرًا ما تتغلغل إلى صميم الأبحاث من الإكباب على ناحية واحدة من نواحي النظر الفكري يعكف عليها الكاتبون، ويمكنه أن يتنكب بذلك سبيل العماية في استقصاء نواحي الاستبصار، وأن يبعد جهد البعد عن الجهل الشخصي والتخبط، والحكم على الأشياء بمجرد اللذة والهوى.

على الرغم من هذه النقائص وأمثالها، فإن مدونات المعاصرين قد ظلت طوال الأعصر — وستظل — أثمن مصدر، وأوثق منهل يعتل منه مؤرخو العصور المستقبلة، الذين هم من الجائز أن يصلوا إلى تمحيص براهينها، والفحص عن أسانيدها، فيجمعون بين شتاتها، ويُظهرون مواضع النفع فيها، فتتمخض عن صورة من التاريخ أكثر ثباتًا، وأبعد دقة، من صور العصور التي تتقدمها، بَيْدَ أن مدونات اللاحقين إذ تكون قيمتها محدودة بعصر ما، فإن تاريخ المعاصرين، أهل الشهادة لما وقع في عصورهم، على ما يكون فيها من السذاجة والإطناب، بل ومن التناقض، سوف تبزُّ — بعد مضي المئات والألوف من السنين من حيث البقاء والثبات والقيمة — مدونات اللاحقين على ما سيكون فيها من آثار الجد والجهد الفتي؛ لأن مدوناتهم سوف تكون نتاجًا لما يبعثه فيهم وحي عصر غير عصرهم، واقتناع بضروب من الأحكام العامة ليست من نتاج أفكارهم، أو كما لاحظ جوته إذ قال:

إن التاريخ يجب أن يعاد تدوينه من حين إلى حين، لا لأن حقائق كثيرة تكون قد عُرفت على مرِّ الأيام، بل لأن أوجهًا من النظر قد تظهر في أفق البحث العقلي، ولأن المعاصرين الذين هم ذوو ضلع كبير في تقدم عصورهم وارتقائها، يساقون دائمًا إلى غايات ينتهون بها إلى حيث تصبح ذات صبغة يقتدر بها على تدبر الماضي والحكم عليه بصورة لم تكن معروفة من قبل.

إن كثيرًا من كتاب التاريخ، الذين أنبتهم هذا العصر، سوف يظلون قرونًا عديدة موضع الفائدة ومرجع الجاذبية العامة، كمؤرخين أبرزوا للعالم من العدم أساليب جديدة من البحث، وانتحوا من النظر نواحي مبتكرة في السياسة والاجتماع والرقي الأدبي أكثر منهم مقرري حوادث ومدوني وقائع يمكن الاعتماد عليها، والثقة بها، وإن طريقة النظر الموضوعي Objective Method التي يعكف عليها البعض منهم، سوف يُنظر إليها لا كطريقة ابتغوا بها التحرر من آثار التقيد والتقليد، ولكن كطريقة لم يشعروا لدى إكبابهم عليها بما أوحي لهم من قبل تخيلهم ووهمهم الذي يتحكم فيهم التحكم كله.

غير أن الحقائق التاريخية التي يرجع تدوينها ونقدها إلى عقول عاصرت وقوع تلك الحوادث لها فائدة مزدوجة في الكشف عن حقائق العصر الذي وقعت فيه، فإن الحوادث والعقول التي تنصرف إلى التأمل فيها، كلاهما يكمل نقائص الآخر في إخراج صورة أكثر كمالًا، وأقرب إلى التمام رحمًا. وشأن الحوادث والعقول في ذلك كشأن المادة والوجهة التي يُنظر إلى المادة من ناحيتها في تبعيتها لزمان واحد.

من هنا نسلم بأن المؤرخين أمثال «ثيوسيديد» و«تاسيتوس» و«ماكيافيلي» عبارة عن نماذج كاملة في فن كتابة التاريخ، وأن المذكرات التي يخلفها سياسيو العصور الحديثة عادةً أثمن قيمة، وأبعد فائدة، وأطول بقاء من تلك القصص الموصولة الحوادث، المحبوكة الأطراف التي يكتبها مؤرخون لا صلة لهم بالزمان الذي يؤرخون فيه، رغم ما يصرفون فيها من الجهد والعناء.

أما وقد انتهى بنا البحث إلى أن مدونات المعاصرين للحوادث ذات قيمة خاصة بها مهما كان في تلك المدونات في منازع النقص، فلا نخال أن يكون تدوين الأفكار إلا أبلغ من تدوين الحوادث خطرًا، وأبعد نفعًا، وأعمق فائدة، لا سيما إذا أخذ «الفكر» على أنه الحياة الداخلية الكامنة لعصر من العصور، ولم يقتصر معناه على ذلك الجزء الذي يدل على الفكر المحدود القاصر في الدلالة على منتجات الأقلام خلال زمان ما من الأزمان؛ ذلك لأن جزءًا عظيمًا من تلك الحياة الداخلية الكامنة لا يمكن أن يبلغ منه أحد بفهم أو معرفة، إلا شخصًا اشترك في تكوينها ومَثَّلَ فيها من أوجه الحياة دورًا.

الآمال الغامضة المبهمة التي تجيش في صدور الآلاف المؤلفة من أبناء آدم وهم عاجزون عن إقناع شهوتها، أو التعبير عن حقيقتها، والسقطات والهزائم التي تمر في عالم الحياة من غير أن يعرفها أحد، أو يهتم بها إنسان، والرغبات التي تعيش في صدور الناس ممتدة في سلسلة من التواصل والتتابع غير متناهية، أو تتشكل بصورة ما من صور حياتهم، والمحاولات التي يتشبث بها الناس ابتغاء الوصول إلى حل المشكلات العلمية التي يُمْليها الطمع عليهم، أو تبعث بها الحاجة في النفوس، وتلك الساعات الطويلة التي ينفقها محبو العلم سدًى؛ طمعًا في الوقوف على أسرار الطبيعة — جماع هذه المجهودات المخبوءة في نواحي النسيان تُكوِّن ذلك الهيكل الذي نُسميه «فكر الأمة»، ولا يطفو منه على سطح الحياة إلا جزء ضئيل بارز في صورة من الأدب، أو العلم، أو الشعر، أو الفن، أو المنتجات المادية الخاصة بفترة ما من فترات الزمان.

وإن لدينا شيئًا آخر لا يقل عما سبق القول فيه قدرًا، وإن كان أقل منه ظهورًا للناس؛ فإن ذلك القدر العظيم من الفكر «الكامن» لَهُوَ الذي أتم النضج، وهو الذي استجمع مواد الإشعاع الفكري وجعلها على أهبة الإضاءة إن أشعل فتيلها شرارة من الانبعاث في التأمل والعمل. إن «الفكر الكامن» عبارة عن القوة الدافعة العظيمة التي تستخزنها الأزمان، وتظل مستخزنة حتى تفك عقالَها العبقريةُ والكفاءاتُ الفردية، فتنبعث في سبيل الحرية والنشاط.

لقد عرَّفنا الفلاسفة عند مقدار ما في الحياة العضوية من أوجه الإسراف، خبرونا عن الآلاف المؤلفة من الجراثيم التي تولد وتتلاشى عبثًا، وعن مقدار ما ينثر من الحب سدًى. والظاهر أن للمجهود العقلي والأدبي حظًّا من الإسراف والعبث لا يقل عن حظ الحياة العضوية، غير أننا إذا تأملنا في الحياة العقلية هَمَسَ في روعنا اعتقادٌ يقنعنا بأن مبدأ تعاون الأكثرية، لا مبدأ التضحية الفردية، هو السر في نجاح الأقلية، وأن الإتقان وليد الجهد المشترك، وأن الكثيرين لا بد من أن تتبدد حياتهم ليصل واحد إلى الغرض.

أي شعور آخر غير هذا في مكنته أن يصبح سلوى أولئك الأمناء الشجعان، الذين أنفقوا أعمارهم ابتغاء الوصول إلى حل مجموعة المشكلات الاجتماعية، على ما فيها من مظاهر الاستعصاء، وعلى ما يحف بها من المشكلات؟ أي سلوى غير هذه لأولئك الذين يعملون على استئصال جذور الرذائل والتعاسة التي تفيض بها الحياة في المدن العظمى؟ أو للذين يقومون صارخين في وجه المستبدين منادين بحرية الشعوب المستعبدة؟ أو للذين يبشرون بالسلام عاملين على قتل روح الحرب والعسكرية؟ أي شيء في العالم أكثر ترويحًا على نفس مؤلف ينفق نصف عمره في تأليف كتاب يخرج من آلة الطباعة ميتًا منبوذًا، أكثر من اعتقاده بأن كاتبًا آخر غيره قد ينجح في المستقبل فيما أخفق فيه اليوم، وأن إخفاقه ليس إلا جزءًا من الجهد الكامن الذي سوف يكون حجرًا في بناء التعاون في سبيل إبراز غرض نافع؟

غير أنه يحق لنا أن نتساءل في مستطاع مَن مِن الناس أن يكتب تاريخ ذلك الجهد الكامن المخبوء في ثنايا الفكر العام لأمة من الأمم؟ مَن مِن الباحثين قد خُصَّ بقدر من الحساسية النفسية يُمَكِّنُهُ من أن يدرك بشعوره وبصيرته الخفية، في أية ناحية من نواحي الحياة كان ضغط الحوادث أشد أثرًا، وفي أيها كان الجهد الإنساني أطول مدًى، قبل أن ينبثق فجر الحياة الجديدة؟ مَن مِن المفكرين قد يبلغ خياله وتصوره مبلغًا يُمكِّنه من تتبع تلك الخيوط المشعة في عقل الأمم، والتي تتجمع في عقليتها الكامنة حالًا بعد حال، بعد أن تسطع أضواء الحياة بنتائج الجهد المشترك؟

نحن الذين نعيش مترقبين إشعاع الضوء محوطين بما يغشاه من العقبات والمتاعب، نحن الجنود المحاربون في سبيل الحق، المنفقون حياتنا وجهودنا في جوف المعركة، لا بعد انتهائها، نحن الذين يحق لنا أن نفخر بأن في قدرتنا أن نروي من منازع الآمال الجائشة في الصدور، ومن أوجه الجهود التي قام بها كثير من أبطال الحياة الفكرية، ومن تشعب نواحي الفكر، روايةً أقرب إلى الحق رحمًا، وأصدق قولًا، وأثبت تأويلًا.

على أن لدينا مسألة أخرى نجد في بحثها لذة وخطرًا: قد نتساءل إلى أي عصر من العصور الماضية نستطيع نحن — الذين عشنا خلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر — أن نرجع بتاريخ عهدنا الذي نفخر بأننا أوقف الناس على خباياه، وأعلمهم بما فيه؟ لا مرية في أننا نعرف أن آباءنا وأجدادنا الأقربين هم الذين شاهدوا الحملة الإنسانية التي قامت للقضاء على تجارة الرقيق واقتناء العبيد، بل اشتركوا فيها. هم رجال الأجيال الذين قاموا بأكبر قسط من الإصلاح الحديث، هم الذين عركوا ذلك الانقلاب المبين الذي أحدثه استخدام البخار والغاز، كما أنهم من الذين أخذوا بضلع في حركة التعليم ونَشْرِهِ في أنحاء الأرض.

هم الذين شهدوا ثورة ألمانيا ضد الاستبداد البونابارتي، وأدركهم «جوته» في عنفوان رجولته، فهزت عبقريته أعماق نفوسهم، وأخذوا بضلع في إحداث طور الانتقال الذي أدرك الأدب، فأطلقوا من قيود العصور الأولى واحتذاء أمثلة القدماء إلى سلاسة الذوق الحديث، ومسهم من شعر «بيرون» ما يمس القلوب فيصهرها حرُّه، أو يثلجها قرُّه، وأنصتوا لمُفوَّهي الخطباء الذي أنبتتهم الثورة الفرنسوية الثالثة، ورووا لنا ما كان من سحر نابوليون الأول على الملايين الذين مضوا به معجبين، وله خاضعين.

إن الشطر الأعظم من تلك الصور الشتى لا تعيش بيننا اليوم إلا في قالب من القصص يرويه الذين عاصروها، أو في صدور الذين شهدوها وامتد بهم أجلهم ليرووا بأنفسهم أخبارها، ولم يتم إلا لبعض منهم أن يخلدوا بأقلامهم في بطون الأوراق، أو بريشتهم على لوحة التصوير، ذكرها … ليتركوها ذخرًا للأجيال القادمة. لم نسعد بسماع كلماتهم فحسب، بل سعدنا بما استقرأنا في ملامح وجوههم من آثار الشدائد التي عانوها، والصعاب التي شهدوها، ورأينا في البريق الذي تبعثه عيونهم موحيات الحمية، ومطاوعات الأمل، وشهدنا في نظراتهم وفي أصواتهم المرتجة ذكرى ما وقعوا عليه من شهوات الصبا، ومسرات الشباب والفتوة.

على أننا لم نسعد بهذا وحده، فإنهم قد حملوا إلينا شهادةً ناطقةً، وأورثونا تراثًا حيًّا دائمًا، غير أنه يخرج عن طوق مستطاعنا أن نورث أولادنا ذلك التراث كما تسلمناه من يد آبائنا؛ فإنه لن يمر من بين أيدينا غير مدخول بتحوير أو تغيير.

إن هذا التراث لَهُوَ «اللغة» التي علمنا إياها آباؤنا مذ كنا في المهد أطفالًا، على أنهم قد نالوا من اللغة، على غير علم منهم، بالتغيير والتبديل، غيروا اللهجة والكلمات والجمل التي تلقوها عمن سبقهم؛ إذ ركزوا في تلك الكلمات والجمل طرق الكلام التي شاعت خلال سِنِيِّهم، وأدمجوا فيها روح عصرهم، ومزجوها بفكراته وخيالياته. وتلك الجمل الممسوسة بأثر الطرق الكلامية الخاصة بهم قد ورثناها منذ الطفولة، فكانت المادة التي تكوَّنت منها عقولنا، وكأنها صدفة محبوكة الأطراف لا بد من أن تسبك أفكارنا على نموذجها، أو هي الأداة التي نعدم بدونها طرقًا للتعبير عما يخالج أنفسنا من الفكر أو الخيال.

من لغتهم، ومن جملهم المركبة، وأمثالهم الجارية على ألسنتهم، عرفنا كيف نفرق بين ما هو خطير مفيد، وبين ما هو تافه حقير، ومنها استمدت عقولنا مختلف الموضوعات التي تشغل أفكارنا، والآمال التي تجيش في صدورنا، والمبادئ التي نعكف عليها، والوسائل التي نتخذها في الحياة هاديًا ومرشدًا. ولا ريبة في أن مجمل هذه الأشياء قد ورثوها هم عن غيرهم، غير أن ما أمدتهم به قواهم العاقلة من ضروب الفوارق العقلية الدقيقة، ورفاهة إحساساتهم، وعريض آمالهم، جماعها أثَّرَ تأثيرًا عظيمًا في جوهر اللغة؛ إذ إنهم بما أضافوا وما بدَّلوا، قد استغلوا ما في عنصر اللغة من مطاوعات اللين والمرونة، وما زالوا يعالجونها حتى جعلوها أكثر تكافؤًا مع ما تتطلب حاجاتهم، ومقتضيات حياتهم.

لقد ورثنا اللغة مدخولة بما حوَّر فيها آباؤنا، فورثنا معها روح الجيل الماضي؛ تلك الروح التي تسوقنا كرهًا إلى مناحي من التفكير بعينها، وترغمنا على أن نلزمها، وتضع في طريقنا من الصعاب ما يجعل جنوحنا إلى غيرها متعذرًا، اللهم إلا إذا تدرجنا في تنكبها تدرجًا، وابتعدنا عنها متخطين حواجزها خُفية متسللين، حتى نستطيع أن ننبه في كامن نفوسنا نزعةً إلى فكرات لم تكن لتدر في خَلَدِنَا، وأذواق لم نألفها، وإحساسات لم تَعْتدْها مشاعرنا.

يعكف الكثير منا على الأفكار الموروثة، وعلى مناحي التفكير المفطورين عليها، الرسيسة في أخلاقهم منذ الطفولة. وقد يستعين البعض بتعلم اللغات الأجنبية أو بالهجرة ابتغاء العيش في ممالك قاصية عن موطنهم، على بلوغ درجة من الرقي يسهل معها أن يستوعبوا أساليب جديدة للبحث والتفكير، على أن القليل منا هم الذين يفوزون بإبراز شيء من الفكرات المبتكرة المخدرة، فيكسرون بذلك صدفة اللغة المحبوكة أطرافها على التعبيرات المتداولة، فينحتون كلمات جديدة وتعبيرات مستحدثة لأنفسهم، يصوغون فيها فكرات أزمانهم المندفعة في سماء العقول اندفاع السيارات في الفلك المرسوم، ويحددون بها روح زمانهم ليبرزوها في صورةٍ تكاد تتخيلها أمامك تمثالًا منحوتًا.

والمصطلحات اللغوية لا تلبث أن تُستعمل مرة حتى تذيع، حتى إنك لا ترجع النظر كرَّة إلى الماضي جيلًا واحدًا إلا لتَرى مقدار ارتقاء الفكرات والأذواق، ممثَّلًا فيما دخل على اللغة وأساليبها من التغير البين.

من هنا نجد أن كاتب هذه السطور وقارئيها، الذين يرجعون بذاكرتهم إلى أواسط القرن التاسع عشر، والذين أمدهم تعليمهم وتثقيفهم بتلك الفكرات التي ذاعت منذ جيل من الزمان، هم وحدهم الذين في طوقهم أن يفخروا بأن لهم أكبر قسط من العلم بما وقع في الشطر الأعظم من هذا القرن، وبالمستحدثات التي أنتجها، والفكرات التي مهد لها سبيل الذيوع والانتشار.

وما غرضي من كتابي هذا إلا الوصول إلى هذه النتيجة؛ أريد أن أنتشل به من هوة النسيان السحيقة تلك الأشياء التي يلوح لي أنها ميراثنا الخفي، وأن ألقي شعاعًا من النور على تلك الحياة الفكرية التي تكاد تختتم صفحتها باختتام عصر من أزهر عصور الدنيا بالعلم، وأكثرها نصرة له. سوف أبذل جهدي في أن أتعقب خطى تلك الحياة الفكرية، وأن أستعين بكل ضروب المعلومات التي أقع عليها في مدونات غيري من الكُتَّاب والباحثين على إبرازها في صورة أكثر تلاؤمًا، وأشد تكافؤًا، بحيث تعطي الذين يتَّبعون رأيًا ما من الآراء الخاصة بوجهة النظر التي نُظر بها في ذلك العصر إلى عالم المادة والحياة، فكرةً عامة تريهم كيف كان أثر القرن التاسع عشر في تبديلهم عقليًّا وروحيًّا.

كذلك لم يكن من قصدي أن أكتب تاريخًا أُلِمُّ فيه بمختلف التغيرات السياسية الظاهرة، أو تقدم الإنتاجية الصناعية. أما التغيرات السياسية الظاهرة فقد تصبح أطوع قيادًا لأولادنا منا. وأما الإنتاجية الصناعية فتلك أشياء سرعان ما تنسى، وقد تندمج وتنمحي فيما سوف ينتج المستقبل من مخترعات ووسائل، فلا يكون ما نرى منها في زماننا إلا ممهدات لما سوف يعقبها.

كذلك لست أريد أن أكتب تاريخًا للمعرفة والعلم، ولا قصة الأدب والفن؛ فإن هذه الأشياء إن كانت بذاتها نتاج الحياة الكامنة، بل إن كانت تلك الحياة تتضمنها، فإنَّا لن نلجأ إلى بحثها إلا كوسائل لتمحيص النتائج التي قد نصل إليها. أما ما سوف يستغرق أكبر قسط من عنايتي، فتلك الآمال والغايات الحية الشاعرة التي تحدث أية حركة ارتقائية، سواء أفي السياسة أم في الاجتماع، إن وقعت عليها. أما إذا لم أقع عليها فأنصرف إلى الكلام في النتائج التي أبرزتها حياتنا الداخلية الكامنة، والأساليب التي انتشرت بها المعرفة، أو طُبِّق بها العلم، والمبادئ التي تختفي وراء صور الأدب والنقد، أو ذلك الكنز الروحي الدفين الذي يعمد الشعر والفن والحركات الدينية إلى كشف خفياته والإبانة عن أسراره.

وفي الواقع أريد أن أبحث ذلك الدور الذي لعبته حياتنا الداخلية الخفية؛ حياة الفكر، في تاريخ القرن التاسع عشر، مشفوعًا ذلك بأوجه التقدم والارتقاء وضروب الكسب، التي كانت نتاجًا لوقوع الحوادث والتغيرات الظاهرة في عالم الحياة العامة.

أما وقد سلمنا بأن العلم الذاتي والتجربة كليهما ذو خطر كبير في القيام بعبء ما خططت لنفسي، وما دام علمنا قد دلنا على أن عدم الاندماج في الحياة الكامنة لعصر من العصور لن ينتج إلا تاريخًا يقتصر على ذكر الأسماء، أو يتناول بعض الآراء بالنقد، فإنا لا محالة نسلم مع هذا بأن هذه الأمور عامة بواعث تحدد في وجهنا مجال الانبعاث إلى ما وراءها؛ ولذا أشعر بأني مقسور على أن أقصر بحثي على الفكر الأوروبي وحده.

لم تكن فكرة الاقتصار في التأريخ على ناحية بعينها من نواحي الفكر موجودة منذ قرن من الزمان؛ لأن ذلك كان محتومًا علينا. أما وقد أخذت صورة من صور المدنية الحديثة تتكون حول الشاطئ الآخر من المحيط الأطلانطيقي، يزجيها شعب فتيٌّ موفور القوة والنشاط بكل مهيئات النماء والتطور، فلا يسعني مع هذا إلا أن أُسَلِّمَ بأمرين: الأول: أن هنالك عالمًا جديدًا يزداد كل يوم خطره، ويتضاعف شأنه، في حين أني لست على علم بشيء من خصائصه وحياته، ولن أشعر إذا ما أردت أن أُؤَرِّخ في حياته الداخلية الكامنة إلا بالعجز والقصور، والثاني: أن عجزي عن التأريخ فيه لا يضارعه إلا عجزي عن أن أصور لنفسي ما يكون من شبح التثقيف الأوروبي في عين باحث بعيد عنه، مبتوت الصلة به، غير ناظر إليه إلا بعين الدنيا الجديدة.

إن الدنيا الجديدة لتنمو وتتكثر، لا من جهة العدد والثروة الأهلية فحسب، بل من جهة الاستعماق الفكري، كلما زادت إمعانًا في النشوء العقلي والتطور الروحي؛ لذلك لا نشك في أنها سوف تعاني مشقة الرغبة في التأريخ في حياتها الكامنة وعناصر تثقيفها؛ لتعثر في درج ذلك البحث على الخصائص التي تُفرِّق بين مدنيتها ومدنيتنا، غير أن الميول التي يتجه فيها ذلك التثقيف الحديث غامضة علي، بل تكتنفها ظلمة موحشة، وليس لدي ما يحول دون اعترافي بالعجز عن أن أقضي فيها بحكم ثابت محدود.

أراني مقتنعًا تمام الاقتناع بأن الحياة الظاهرة المرئية في حياة البشر رأي العين والحس ليست سوى وعاء يتضمن مادة خفية لا تصل إليها الحواس، أو هي صدفة يتكون في صميمها جنين المستقبل؛ لذلك لا آنس من نفسي قدرة على الإفصاح عن ماهيتها؛ ولهذا لا أريد أن أتناول من حركة التثقيف العام التي وَلَّدها القرن التاسع عشر إلا ما احتك منها بالفكر الأوروبي احتكاكًا مباشرًا، وكان فيه من الحياة الأوروبية أثر بَيِّنٌ.

على أنني سوف أقصر بحثي في الفكر الأوروبي على مرتكزه ومحوره، سأقصره على الآداب الفرنسوية والألمانية والإنكليزية. ولست أنكر أن الآداب الإيطالية والسيكانديناوية والروسية محيطة بذلك المرتكز، بل كثر ما أثرت فيه تأثيرًا ما، غير أني فيها أقع على لغات لم آلفها، ونزعات لم أتبين ماهيتها وحقيقتها، فكنت أشعر بأنه يستحيل علي أن أتميز شيئًا من صبغة الحياة الجديدة الكامنة فيها، وكانت مسئوليتي تزيد في نظريةٍ كلما زدت اقتناعًا بأنني إن تناولت تلك الآداب ببحث اضطررت إلى أن ألزم نفسي عنت السعي وراء الكشف عن أسباب وبواعث لم تتهيأ لي سبل الإبانة عن خفياتها، لأبلغ منها بدرس يرضي الحق والضمير.

يقتصر بحثنا على الفكر الأوروبي — أي على الفكر في فرنسا وألمانيا وإنكلترا — خلال الشطر الأعظم من القرن التاسع عشر. ومهما أحاط بهذا البحث من حدود الزمان والمكان، فإنه لا يزال شاقًّا متشعب الأطراف أشعر منه باستيحاشٍ وخوف. ومع هذا فقد جعلت رائدي في كل مباحثي التي سوف أسوق بنفسي في غمراتها، وفي كل الصور والملخصات التي سوف أبرزها، أن لا أهمل في بحث كل منها فكرة الوحدة التي تجمع بينها.

وما تلك الوحدة في نظري سوى ذلك الشيء الذي ألزمتنا إياه روح التقدم الذي وقع في عصرنا، وهي في ماهيتها نتيجة ما بذل من الجهد خلال القرن التاسع عشر؛ فلقد كان يتعذر عليك منذ قرن واحد، لا بل منذ خمسين عامًا فقط، أن تتكلم في «الفكر الأوروبي» على الوجه الذي أتكلم به الآن، فإن القرنين السابع عشر والثامن عشر، هما القرنان اللذان صُبغ فيهما العلم بصبغة الوطنية؛ لأن فيهما حلت اللغات الوطنية الخاصة بكل أمة من الأمم محل اللغة اللاتينية العامة في تواليف الآداب والعلم، وفيهما بدأت تتميز الآداب بمميزات الشعوب وتصبغ بصبغتها، وفيهما بدأ الفكر يستقل باستقلال الأمم القاطنة في غربي أوروبا استقلالًا معنويًّا.

لهذا تجد أن الناس في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر قد بدءوا بأسفار طويلة قضوها في التأمل والدرس، متنقلين من مملكة إلى أخرى؛ ليخصوا أوطانهم بما ينقلون من فكرات مبتكرة، أو أساليب للبحث غير مألوفة، على أن هذه الأسفار قد عقبها ذيوع الأفكار الحديثة، فوفد إلى إنكلترا «فولتير» Voltaire عام ١٧٢٦؛ حيث نشأت فلسفتا «نيوتن» Newton و«لوك» Locke، ولم يكن قد وصل إلى فرنسا علم بهما، وساح «آدم سميث» Adam Smith في فرنسا عام ١٧٦٥؛ حيث درس طريقة «كوينسي» Quensay الاقتصادية، وأكب على مباحث «الفيزيوقراطيين» Physiocrats يدرسها الدرس الوافر، ومنها كوَّن فكرته التي بنى عليها فلسفته الاقتصادية التي أخرج فيها كتابه «ثروة الأمم» The Wealth Of Nations.
وخلال الربع الأخير من القرن الثامن عشر، أسس «أ. ج. فرنر» A. G. Werner أكاديمية التعدين، التي كانت قد وجدت في صورة معهد قروي عام ١٧٦٦، فأصبحت مركزًا من أعظم مراكز العلم والتنوير العقلي في أوروبا، وإليها اليوم يسعى طلاب العلم من أقطار الأرض قاطبةً ليتلقوا تعاليم أساتذتها العظام، وفي أواخر القرن التاسع عشر هبط «وارد سوورث» Word Sworth و«كوليردج» Coleridge ألمانيا، ولم يعد «كوليردج» إلى إنكلترا إلا مزودًا بفلسفة «كانت» Kant وفلسفة «شيلنج» Schelling.
ولا ننسى مدام «دي ستايل» M. de Stael؛ فإنها لم تكد تسمع أن في ألمانيا حركة أدبية حديثة، تناقل أخبارها بعض مهاجري الثورة الفرنسوية، حتى عمدت إلى دراسة اللغة الألمانية بأقصى ما وصل إليه الجد والنشاط، مقتنعة بأن صورة حديثة من صور الفكر قد أنبتها العقل الألماني، ثم زارت ألمانيا من بعد ذلك مستصحبة«بنيامين كونستان» Benjamin Constant في أواخر عام ١٨٠٣، وكرَّة ثانية عام ١٨٠٧، ومن ثم كان كتابها الذي أسمته «عن ألمانيا» De L’allimagne نتيجة سياحتيها. وبينما كان «كوليردج» ومدام «دي ستايل» يستنزلان وحي تلك الحياة الجديدة التي بعثتها عبقرية «جوته» Goethe، و«شيللر» Schiller في «فيمر» Weimer، كان طلاب العلم في أنحاء القارة الأوروبية يولون وجوههم شطر باريس؛ حيث ظلت تلك المدينة بضعة عشرات من السنين محور البحث العلمي، ومبعث الأساليب الحديثة، وحيث تركزت الفكرات العلمية المبتكرة في نقطة، وأخذت تشع بنور المعرفة.
لقد ظلت باريسُ أكثرَ من نصف قرنٍ مهبطًا لوحي الفكرة العلمية، حتى إن فلاسفة الإنجليز — الذين ظلوا منذ زمان «باكون» Bacon، و«نيوتن» متتبعين تقليد الاستقلال بأساليبهم الخاصة في البحث — قد اقتنعوا في أواخر العقد الثاني من القرن التاسع عشر، بأن اسم «نيوتن» العظيم لا يقوم بذاته كفيلًا بأن طريقته العلمية بالغة أقصى حدٍّ من المتانة والثبات، مستندين في ذلك على ما رأوا من أوجه التبديل والارتقاء التي أحدثها فيها رياضيو القارة الأوروبية.
ولقد وفدت تلك الأساليب المبتكرة إلى إنكلترا بفضل ثلاثة من خريجي جامعة «كامبردج»؛ هم: «هرشل» Herschel، و«بابيج» Babbage، و«بيكوك» Peacock، ترجموا مقالة «لاكروا» Lacroix ففتحوا بذلك ميدانًا للبحث الرياضي كان مغلقًا، وبدءوا للتفكير الرياضي عهدًا جديدًا. وبعد أن مضى على ذلك العهد خمسة عشرة سنة، توافد طلاب العلم من نواحي الدنيا الأربع على بلدة «جيسن» Geissen الألمانية؛ ليتلقوا في كلياتها علم الكيمياء الحديث، وأساليب البحث التي كانت تلقى في معمل «ليبج» Leibig، وكانت تلك الأساليب من قبل طرقًا خاصة مقصورًا نفعها على المعامل التابعة لبضعة أفراد من العلماء.
ولقد يتذكر البعض منا ما أحدث ذيوع فلسفة «أوغست كونت» Auguste conte بين عامي ١٨٣٠ و١٨٤٠، تلك الفلسفة التي ظلت بلا أثر بَيِّنٍ في بلاده فرنسا، ولم تكسب مركزًا ذا شأنٍ في الفكر الإنساني إلا بما كتب فيها «جون ستيوارت ميل» J. S. Mill، ومدرسته وتابعيه، وبما تركز فيها من صور الفكر الخاصة بإنكلترا، ومن ثم عادت إلى فرنسا ثانية بعد مضي جيل تام على وفودها إلى إنكلترا.
حدث مثلُ هذا لمصورٍ إنكليزي صرف همه إلى تصوير المناظر الطبعية، فقد ظل «كونستابل» Constable، مهملًا حتى عرضت صوره في فرنسا عام ١٨٢٤، فأحدثت أثرًا عظيمًا في مصوريها إلى حد أنهم يعتبرون عرضها عهدًا جديدًا تناول تصوير المناظر الطبعية في فرنسا بأعظم تطور وقع في تاريخ هذا الفن.

إن أمثال هذه السياحات الاستكشافية في عالم الفكر والنشاط العقلي، أصبحت مستحيلة في العصر الحاضر؛ لأن العلم خلال القرن التاسع عشر قد لبس ثوب الشعوبية، ومعاهد العلم المستقلة المبتوتة الصلات بغيرها، أخذت تقل وتزداد ندرتها حينًا بعد حين، فإن التراسل، وذيوع المجلات الدورية، والتئام الجماعات العلمية ونشر مقرراتها قد كفل للعالم أن يظل محيطًا بكل ما تُخرج العقول من المستكشفات الحديثة مهما ضؤل شأنها، على أن صبغة العلم الوطنية لا تزال باقية، غير أنه لا يمكن العثور عليها إلا في دفائن الفكر البعيدة القصية: كخطرات النفوس الخفية، والمصطلحات الكلامية التي لا تجد بعض اللغات مُتَّسعًا لنقلها إلى أبنائها.

وللعلم، كما لدورة الليل والنهار، غسق وفجر، وله صبح تختلط به خيوط الفجر، وله ضوء أبلج لم يَشُبْهُ من ظلمة الليل دنس، غير أن ضوءه الأبلج قد نما وانتشر وزاد إشعاعًا خلال القرن التاسع عشر، حتى إننا لنستطيع أن نتكلم في نزعة الفكر الأوروبي في مجموعه اليوم إذا قصرنا الكلام على الفكر في فرنسا وألمانيا وإنكلترا، في حين أننا لم نكن لنبلغ إلى ذلك في الزمان الفارط.

وإني مع احتفاظي بغرضي الأول، سوف أسوق مباحثي في أكثر جهات الفكر الأوروبي اتساعًا وأخصبها إنتاجًا … كيف كانت نشأتها؟ وكيف بلغت إلى ما نراها عليه؟ وماذا كان أثر كل أمة من الأمم في تكوين مجموعة الفكر العامة؟ وما هو حظنا من الجهد في إيتائها بالجديد وتزويدها بالحديث؟ وما هي التغايرات التي انتابتها خلال القرن التاسع عشر؟ ولكن قد نضيف إلى هذا سؤالًا يترتب عليه ما سوف نتبع إزاء هذه المهمة من طرق البحث، قد نسأل: كيف نصل إلى الجمع بين ما تفرق من مجموعة الفكر؟ كيف نستطيع أن نفرق بين ما هو نتاج جهدنا وبين ما هو نتاج جهد غيرنا؟ إن لدينا طريقة واحدة، غير أنها ليست الطريقة التي سوف نتبعها على وجه الإطلاق، وإن كانت طريقة جديرة بإنعام النظر والاعتبار.

لقد أبَنْتُ من قبل كيف أن التغايرات التي تنتاب عالم الفكر تتركز في عنصر اللغة المرن، وفي الأساليب التي يبتكرها العصر. إن دراسة تلك التغايرات التي انتابت الكلمات اللغوية خلال العصر، والأساليب التي تعاقبت على ثلاث اللغات الرئيسة في أوروبا — الفرنسوية والألمانية والإنكليزية — لتدلنا واضح الدلالة كيف ومتى نشأت وشبت الفكرات الحديثة، وكيف ثبتت وتحددت معانيها بكلمات أو مصطلحات لغوية. ولا يساعدنا هذا البحث على اكتناه الكيفية التي نمت وترعرعت بها الفكرة الأوروبية فحسب، بل يعرفنا كيف هاجرت الفكرات الفردية والمذاهب من أمة إلى أمة، وكيف انتقلت من شعب إلى شعب، وفضلًا عن هذا فإن هذه الطريقة لَتُعَرِّفُنا بأية الوسائل وجدت الفكرات الفردية — التي نشأت في عقول تلك الأمم الثلاث — مكانًا حريزًا تنمو فيه وتلقي بذرها.

إن كل من تعمد الترجمة والنقل من إحدى هذه اللغات إلى غيرها، سواء أكان نثرًا، أم غناءً منظومًا، أم فلسفة، أم شعرًا وصفيًّا، لا بد من أن يكون قد عانى ضرورة الإكباب على دراسة طبيعة الفكر، أو المعنى الذي تؤديه الكلمات أو الجمل دراسة تامة، لا بد من أن يكون قد سبق إلى معرفة ما هو شائع بين اللغات جميعًا، وبين ما هو خاص بكل منها، والفكرات التي تعبر عنها المصطلحات.

يُنسب إلى «جوته» عادةً أنه خالق تلك اللغة، وذلك الأسلوب، الذي برز فيهما أجمل ما في الأدب الألماني الحديث. ولن نعثر على كاتب آخر، سواء أفي ألمانيا أم فرنسا أم إنكلترا، أحدَثَ ما أحدث «جوته» من التأثير البين في آداب القرن التاسع عشر، غير أننا مع هذا لا نغفل عن أن عظماء كتاب فرنسا الروائيين، وفلاسفة ألمانيا الميتافيزيين — أصحاب ما وراء الطبيعة الغيبيين — والعقول الشعرية الخيالية التي أنبتتها إنكلترا الحديثة، جماعهم قد أضافوا إلى مجموعة الكلمات، وزادوا إلى لغاتهم عددًا عظيمًا من التعبيرات اللغوية ذوات الفائدة الجُلَّى.

ولقد كان «لكارليل» Carlyle أعظم الأثر في نحت كثير من النعوت والكُنَى التي استمدها من اللغة الألمانية، وأدخلها في تضاعيف اللغة الإنكليزية، كذلك قد صرف «ماتيو أرنولد» Mathew Arnold جهده في مثل هذه السبيل؛ حيث استمد من مؤلفي الفرنسويين، مثل «سانت بوف» Sainte-Beuve وغيره من أعضاء «التحليل النفسي»٣ في الأدب Introspective School، كما استمد من «جوته» و«هين» Heine. ولقد كانت ألمانيا أقل حظًّا في نشر كلماتها اللغوية الخاصة بها؛ فإن استعداد اللغة الألمانية لإدماج الكلمات الأجنبية عنها، واستعمالها من غير تحوير فيها أو تبديل، قد أثَّر تأثيرًا عظيمًا في صبغ الأسلوب الألماني بصبغة التعقيد، حتى فقدت اللغة الألمانية مرونة أسلوبها وجمالها وعنصرها الشعري.
وإني لأرجح أن الباحثين سوف يعرفون عما قريب أن ما طرأ على مفردات اللغات الحديثة من سعة المعنى، لا من جمال اللفظ، راجع إلى تأثير العلوم Sciences على الأدب، وحركة التثقيف العام؛ فإن كثيرًا من الكلمات المتداولة المعروفة قد حازتْ من تلك الطريق معاني جديدة أكثرَ سعة، وأبعدَ ضبطًا.
إن كلمة «نماء» Development الغامضة المبهمة قد رجحتها في الاستعمال كلمة «نشوء» Evolution، كذلك قد أصبح لكلمة «تفريق أو تعضون» Differentiation معنًى فلسفيًّا حديثًا، عدا معناها الرياضي، كذلك إذا نظرت إلى كلمة «إيجابي» Positive أو «يقيني»؛ فإنك تجد أنها قد حازت معنيين جديدين محددين تمام التحديد، لم تكن لتدلَّ عليهما من قبل، عدا معناهما المنطقي، وكلمة «نشاط» Energy قد تضمنت معنًى جديدًا غير معناها العام، وغير معناها الفلسفي الذي خصها به «أرسطوطاليس» Aristotle؛ حيث أخذت في إنكلترا، ومن ثم في بقية الممالك الأوروبية مكان كلمة Force أي قوة، كاصطلاح أكثر ضبطًا للمراد، وأدل على المقصود.
وإليك كلمتا «ارتباط أو تبادل» Correlation — «وحفظ أو بقاء» Conservation، فإنهما على علاقتهما بكلمة Energy — نشاط — اصطلاحان لهما قيمة علمية خاصة، ثم كلمة «الأصلح» Fittest، واستعمال «التناحر على البقاء» Struggle for existence؛ فإنهما لَيَدُلَّانِ على شيئين يختلفان كل الاختلاف عما كانا يدلَّان عليه منذ خمسين سنة خلتْ، ثم لديك اصطلاح «تام» Exact، «وعلم» ScienceScience، فإنهما كذلك يدلان على شيء لم يكونا يدلان عليه من قبل.
ولقد خرجت اللغات من المذاهب الحديثة التي ذاعت في حدود المعرفة الإنسانية والإدراك العقلي باصطلاحات فلسفية حديثة، منها «اللاشاعر» Unconscious، و«المجهول» Unknowable، و«اللاأدري» Agnostic. وهي تدل على مناحي كاملة من الفكر الحديث.

ولا مشاحة في أنه من أبعث الأشياء على تحصيل الفائدة أن يتتبع الباحث أصول تلك الكلمات والجمل، وأن يُرجعها إلى مناشئها الأولى، أو أن يستعمق في بحث تلك المعاني التي كسبتها الكلمات الشائعة المعروفة. إنك إن تتبعت هذا البحث في ثلاث اللغات الرئيسة في أوروبا، كان هذا بعينه أقرب الأشياء إلى البحث المنظوم لمعرفة حقيقة تلك التغايرات التي انتابت الفكر الحديث.

وليس لدينا من ضرورة تلزمنا أن نتذرع في الوصول إلى غرضنا بالعكوف على نظريةٍ ما نتخذها قاعدة لما نرى من العلاقة بين المدنية والفكر واللغة؛ فإن القرن التاسع عشر لم يعدم شيئًا من هذا منذ عصر «دي بونالد» De Bonald،٤ الذي لم يكن ليرى في اللغة إلا تنزيلًا قدسيًّا، إلى أحدث العصور وأكثرها تشبعًا بروح العلم، أي «ماكس موللر» Max Muller الذي مزج الفلسفة بعلم اللغة،٥ متتبعًا نفس الطريقة التي أصبح بها علم الفلك في نظر الكثيرين مسألة تحليل فحسب Une question d’analyse، على أننا نستطيع أن نُوفِّق من ناحيةٍ ما بين «دي بونالد» و«ماكس موللر»، فإننا كأفراد وُلِدْنَا ورُبِّينَا في عصرِ تمدينٍ وتثقيف عقلي، نبدأ عادة بالتقاط الألفاظ والكلمات قبل أن نستوعب الفكرات الواضحة ذوات الضوابط المحدودة؛ لهذا يخيل إلينا أن فكرة «دي بونالد» راجحة، ما لم نستعمق في البحث في أصل اللغة والفكر ونشوئهما.
ثم انظر إلى ذلك السنن الهين الذي ندخل به من طريق استعمالنا للغة آبائنا إلى ذلك التيه الموحش المترامي الأطراف، تيه التفكير العقلي الصرف، فإن هذا الأمر لَيَكَادُ يكون معجزة فيها من أثر الوحي ما فيها، غير أنه ليس من قصدي — كما قلت من قبل — أن أمضي في دراسة الفكر الأوروبي ونشوئه خلال القرن التاسع عشر من طريق التحليل الدقيق لأوجه التغاير والرقي التي طرأت على اللغات الرئيسة؛ لأن ذلك لا يتيسر إلا لأولئك الذين نالوا قسطًا وافرًا من العلم بمفردات اللغة لم يُتحْ إلا لمن كتبوا القواميس والمعجمات الكبرى، مثل: «جريم» Grimm، و«لتيريه» Littré، و«موراي» Murray. وإني وإن كنت أشعر من نفسي بالعجز عن بلوغ هذا القصد، فلدي مسألة واحدة تضطرني إلى الدخول في بحث غراماطيقي Grammatical يتناول كلمة «الفكر» Thought، وكيف تعبر عن المعنى الذي أدركه منها في اللغتين الفرنسوية والإنكليزية، وكيف تترجم تلك الكلمة؛ فإن الموضوع الذي نكتب فيه غير مقصور على الإنكليزية وحدها، بل يتناول الفرنسوية والألمانية؛ لهذا يجب أن يكون له — أي للفكر — كلمة يعبَّر بها عنه في اللسانين الفرنسوي والألماني.
إني أعتقد أن كلمة Pensée تعبر في الفرنسوية على وجه التقريب عن ذلك الشيء، والذي يعبر عنه في الإنكليزية بكلمة Thought أي «فكر»، على أنه من الصعب أن تعثر في الألمانية على كلمة تؤدي هذا المعنى. ولقد ترددت حينًا في الاختيار بين Geist وكلمة Weltanschauung، وهما اصطلاحان كثيرًا ما استُعملا ليدلَّا على الحياة الكامنة لعصر من العصور، غير أني صممت فيما بعد على أن أستعمل كلمة Den Ken؛ لأن في هذه الكلمة ما يناقض المدرك من كلمة الحياة Life، و«الفعل» Action، Leben und handeln، وهي تدل على العالم الداخلي، في حين أن مضاد Geist هي كلمة Stoff؛ أي «مادة» Matter في الإنكليزية، وكذلك كلمة Weltanschauung؛ فإنها فضلًا عما تدل عليه من عمق التعبير، وعلى كونها غير قابلة للترجمة إلى لغة أخرى؛ فإنها تدل على نتاج الفكر وثمراته أكثر من دلالتها على الفكر ذاته.
فإذا انتقلنا من البحث في الكلمات إلى الموضوع ذاته، وجدنا أن ما في الاصطلاح الإنكليزي من دقة التعبير والتحديد قد صحبه انتشار كثير من المؤلفات في الموضوع، على أن الفكرة في فلسفة التاريخ ترجع في الأكثر إلى مفكرين أنبتتهم القارة الأوروبية، وعلى الأخص «هردر» Herder، و«كونت» Conte، و«جيزو» Guizot، و«فولتير» في كتابه «عصر لويس الرابع عشر»؛ فإن مؤلفات هؤلاء سوف تظل مثالًا لما يصور به عصر من عصور المدنية، غير أنني مع هذا مقتنع تمام الاقتناع بأن مؤلفات «كارليل» و«بوكل» Buckle و«درابير» Draper، و«ليكي» Leckcy، و«لسلي ستيفن» Leslie Stephen، وعلى الأخص مقالة «مارك باتيسن» Mark Pattison من حيث السعة وبُعد النظر، هي التي ركزت في عقولنا معنى كلمة «فكر» Thought كأكثر المصطلحات كفاءة على تحديد ما نعني من الحياة الكامنة أو النشاط العقلي خلال عصر من العصور، أو أمة من الأمم؛ لهذا سوف أعكف على استعمال الاصطلاح الإنكليزي؛ لأنه عندي أكثر المصطلحات ملاءمة وقربًا من أذهان القراء، وأمت في الوقت ذاته إلى الذين يعارضون في استعمال الاصطلاح الفرنسوي وما يناظره في الألمانية لغموضهما، أن يبحثوا عن تعريف لما أقصد من الكلمة الإنكليزية Thought؛ أي «فكر».
ولست أعلم أن في الأدب الفرنسوي برمته كتابًا في تاريخ «الفكر» Histoire de pensée تناول بالبحث عصرًا طويلًا أم قصيرًا من عصور النشوء الفكري، على أنني أعرف في الأدب الألماني عددًا من المؤلفات في تاريخ الفكر، غير أن معظمها قد استعمل كلمة Weltanschauung، أو أوسعَ من معنى الفكر فجعله يدل على عصر من عصور المدنية Kulturgeschichte، أو حدد دائرته فأصبح قاصرًا على تاريخ الأدب وحده. وجماع ذلك عائد إلى حاجة اللغة الألمانية إلى اصطلاح محدود المعنى كالاصطلاح الإنكليزي، على أنني مع هذا أعتقد أن تصور «الفكر» على النمط الذي أمضي فيه وليد التقدم الشعوبي العام، وليس خاصًّا بتقدم العقل الإنكليزي وحده، ولم يتمخض عنه الزمان إلا في العصر الذي أؤرخ فيه، وهو عصر كان أخص ما فيه من صور الارتقاء تبادل الفكرات بين الشعوب، بعد أن كسرت الأمم قيود الاستقلال بمنتجاتها العقلية.
لقد تحيز في عقل النابغة «توماس كارليل» ذلك التصور العميق الذي حَدَا به إلى الاعتقاد بأن هنالك كائنًا عقليًّا روحيًّا مختبئًا وراء الحركات العالمية الظاهرة؛ ذلك لأن «كارليل» كان أول من عني من علماء الإنكليز ببحث البواعث العقلية التي أنتجت ذلك التغير البين الذي نشده في أوروبا الحديثة. هو أول من خص كلمة «فكر» بمعنى خاص بها هو نفس المعنى الذي نخصها به في مبحثنا هذا، وجعل «الفكر» Thought موضوع دراسة خاصة للذين أتوا من بعده من الباحثين، هو الذي حدد «الفكر» وأوسع من دائرة البحث فيه، ففتح للعقول أوجهًا من التأمل في حقيقة الفكر، ولكنه مع هذا خلقه خلقًا جديدًا، فأخرج منه قوةً شَعَرَ بها كل إنسان، ووضع له اصطلاحًا لن تبلغ اللغات إلى وضع ما يُدانيه ضبطًا وتحقيقًا.

لا يوجد في كل اللغات الأوروبية اصطلاح كالاصطلاح الإنكليزي، الذي وضعه «كارليل»، يتضمن الفكرة في السبب والنتيجة معًا، ويجمع بين الأجزاء والكل المثالي. وهو مع هذا اصطلاح لا يُلزمنا العكوف على نظرية موضوعة أو مذهب شائع؛ إذ إن ذلك الاصطلاح يفسح للمفكرين الذين تختلف نظراتهم كل الاختلاف مجال النظر في حقيقته، من غير أن يفقد كل منهم شيئًا من استقلال فكرته.

٢

في الحياة الإنسانية باعثان ساعدا على تقدم النوع البشري من الوجهة العقلية، وغالبًا ما ظهر هذان الباعثان بمظهر التضاد في طريقة عملهما وتأثيرهما، غير أن الحقيقة أن أحدهما لن يستطيع أن يُحدِث مِن حدثٍ بالغ الأثر، قبل أن يمده الباعث الآخر بقوته، ويزكيه بعنصره، أما الباعثان: فانتشار المعرفة من جهة، وتكثفها من جهة أخرى. فالحيرة الفكرية، وحاجات الحياة العلمية، والتجاريب اليومية الواقعة بين ساعة وأخرى، كلها عوامل تبعث على اتساع دائرة المعارف الإنسانية، واستجماع موادها وعناصرها.

على أن نماء المعرفة وتشعب أطرافها ليصبح معدوم الجدوى إن لم تتنبه المشاعر لخطورة شأنه، ولا يغيب عنا أن لمطاليب المعرفة وضروراتها من الخطر والشأن ما لاستجماع المعرفة ذاتها، مثلنا في ذلك كمثل من يريد أن يستكشف إقليمًا ما؛ إذ كلما كانت النواحي التي نريد استكشافها أكبر مساحة، وأفرط سعة، زدنا بحثًا عن المواضع التي تساعدنا على أن نبصر أكثر ما نستطيع من مناظر ذلك الإقليم التي تمتد إلى مرمى النظر أمامًا وخلفًا.

غير أننا مهما تذرعنا بالحيطة واهتدينا بالحذر، فغالب ما تكون المناظر التي تقع تحت حِسِّنا خداعة مضلة؛ ذلك لأنها تلزمنا غالبًا أن نرجع بالنظر كرة ما استكشفنا من النواحي آنًا فآنًا؛ إذ تعطينا كلما تقدمنا إلى الأمام صورة أكثر وضوحًا عن متعرجاتها ومفاوزها؛ وعن مواضع ما تحوي من الأشياء والأشباح، في حين أنها لا تلزمنا ذلك وحده، بل تبسط مع هذا لأنظارنا البقاع التي لم نستكشفها بعدُ، ومن ثم توحي إلينا، وتلقي في روعنا، ما يجعلنا نضرب بأقدامنا إلى الأمام، مسوقين برغبة الوصول إلى استكشافات أخرى، بما تزين لنا من أمل، وما تهيئ لنا من بواعث، تحملنا على أن نقدم في مخاطرتنا مأخوذين بمزجيات الرجاء للتحقق مما نبصر أمامنا إبصار غشاوة وكلال، قائسين كل هذا على تجارب الماضي، مدفوعين إليه بما تخلق قوتنا التصورية، وما يبدع الخيال والطبيعة الإنسانية في تلك الحال، حتى إن نجحنا في النزول إلى بسائط الأرض، ومضينا في بحثنا الاستكشافي على أدق نمط، لن تحررنا من الفكرات الثابتة في عقولنا ثبوتًا أوليًّا. تلك الفكرات التي تكون قد طبعتها في عقولنا النظرات السطحية التي ألقيناها على ما وقع تحت حِسِّنَا بادئ ذي بدء، بَيْدَ أنها فكرات كَثُرَ ما تسوقنا إلى طريق الضلال.

أما تكثف المعرفة، وإن شئت فقل تركزها، فجائز أن ينقلب إلى نواحي مثالية من المعرفة، والتاريخ ينفحنا بأمثال كثيرة من خُطى التقدم الإنساني، فطالما مر على الإنسانية قرون استجمع فيها أسوأ ما تستجمع العقول، وأضل ما تنبت الأفكار والأفهام، ولكن لتتبعها عصور للثقيف العقلي لم يلحق بها من أمثال الماضي مثال، أو ليبرز بعدها من موات العقول، وجدب الفكر، استكشاف حديث، أو اختراع رائع.

ولقد صدت المذاهب الخداعة والخيالات البعيدة عن الواقع تقدم المعرفة، وقعدت بِهِمَّةِ العاملين طويلًا، في حين أن هذه الخيالات الخادعة لا تنزح عن عالم الفكر عادة إلا بعد عناء طويل، وجهود معنتة، كذلك فتحت الآمال في وجه الإنسان أبوابًا للبحث، ومهدت له سبيل الدخول إلى نواحٍ من المعرفة لم يألفها من قبل، وقادته إلى سماء من العلم لم يبلغها الإنسان إلا ليجد أن المعرفة الإنسانية قد تكثفت حول حقيقة بعينها، أو مضت ضاربة في المثالية إلى حد الخيال، غير أنه تمر أزمان في التاريخ يلوح لنا فيها أن تلك الثمار اليانعة، والمنتجات الطريفة، قد مضى بها النسيان، وذهب بها الإغفال، وتردت في ناحية من اليأس الناتج عن الجهل، أو غشاها من مغشيات القنوط ما يلقي في روعنا خطأً أنها ذهبت ذهابًا لا عود بعده.

ليس من شأننا في هذا الموطن أن نبحث إن كان الفكر في القرن التاسع عشر قد تعاقبت عليه صور من تلك الطرائق المتباينة، بل نكتفي هنا بالقول بأن جهود الفكر خلال القرن التاسع عشر في كلا الاتجاهين: اتجاه نشر المعرفة واستجماع أسبابها، واتجاه تكثفها في بؤرة مثالية، كانت عظيمة، ظاهرة الأثر، بينة النتائج. أما في الاتجاه الأول فقد فاقت كل مثيلاتها مما ترويه بطون الكتب وصفحات التاريخ، في حين أنها في الاتجاه الثاني إن كانت لم تبلغ حد المثالية الإغريقية في عصر «بركليز» Periclean age، ولم تبز النهضة العلمية في إيطاليا رونقًا وبهاء، ولم تفت من حيث الأثر والقيمة مستكشفات القرنين السادس عشر والسابع عشر في فرنسا وإنكلترا، فإنها قد أبرزت في صورة من المصطلحات اللغوية أوجهًا من النظر، وأساليب من البحث أقرب إلى النفع المباشر للإنسانية رحمًا، وأبعث على نشر المعرفة أثرًا؛ وكونت تصورًا خاصًّا تحيز في العقول والأفهام عما يعني من إمكان وحدة المعرفة العامة.
منذ زمان ليس ببعيد صرفت كلمة «حق» أو «حقيقة» Truth لتدل على الغاية من المعرفة، وعلى ماهيتها، لا على الطريقة المثلى والسبيل القيمة التي تتبع لاستيعاب المعرفة فحسب «الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة»، ذلك هو المبدأ الذي تعلق بأهدابه الرأي السائد كقاعدة لاستيعاب المعرفة؛ إذ كان المعتقد العام أن الحق كله ليس بشيء سوى توحيد المعرفة أينما وجدت، وحيثما اتفق أن تكون.

أما الآن، فإني أعتقد أن الباحثين من العلماء والفلاسفة معًا لقانعون بأن حب الحقيقة إذ يدل دلالة صحيحة على نزعة العقل إلى البحث، إلا أنه غير كافٍ لتحديد الأساليب التي تتبع للوصول إلى المعرفة، أو إلى غاياتها العامة.

«ما هي الحقيقة؟» هذا سؤال لم يعثر له العقل على جواب حتى الآن، يدل ذلك على أن الإنسان لم يعثر بعدُ على دستور محكم يتخذه هاديًا مرشدًا للبحث وراء الحقيقة.

وإنه ليكون من أبعث الأشياء على الحزن والأسى، بل إنه ليكون طامة كبرى، ومصيبة مجتاحة، لو ذهبت الفكرات الأدبية الخاصة بالبحث وراء الحقيقة، وصحة المعتقد من نفوس العمال الناشطين إلى العمل، ومن وجدان المفكرين المتوثبين إلى البحث، غير أن علمنا بمستخزنات طبيعتنا الأدبية: كحب الخير والصلاح، وحس الجمال والشعر، لا يبدأ في الوجود بمجرد تعريفها، ولا ينمو بتحديدها ونحن في سِنِيِّ طفولتنا، حيث نعدم القدرة على التفكير، إن كنا نستوعب معاني تلك الحاسات الأدبية من لغتنا، فإنها مع ذلك لمعانٍ قلما تزداد في نفوسنا غورًا وثباتًا من طريق الفوارق المنطقية التي نستوعبها، والتي تخضع لها عقولنا في مستقبل حياتنا؛ ذلك لأن المنطق لن يتناول الماهية بأثر، في حين أنه كثيرًا ما يهدم من معتقداتنا الرسيسة في نفوسنا.

لقد تبدل العلم الحديث من متجه النظر للبحث وراء الحقيقة، بأسلوب قيم للبحث والتنقيب، وذلك الأسلوب لا يدرس الدرس الوافر إلا بالاختبار والصبر على المشاهدة، كما أنه لا يُستوعب بمجرد الوصف النظري. كان أول ما وُضع ذلك الأسلوب في مؤلفات أولاء من أبطال العلم الحديث منذ عصر «غاليليو» Galileo و«نيوتن» والعصور التالية. أولئك الذين استمدوا من موحيات ذلك الأسلوب فنجحوا كل نجاح، ومن كتاباتهم وتواليفهم استمد الفلاسفة منذ عصر «باكون» Bacon و«كونت» Conte و«ميل» Mill تلك المهيئات التي توصلوا بها إلى انتزاع الأسلوب العلمي الحديث من فوضى الماضي.

إن الكلام في هذه الأساليب سوف يستغرق الشطر الأعظم من عنايتنا، على أننا سنقصر القول الآن على أن الغرض الذي ترمي إليه المباحث العلمية هو إطلاق حرية الباحث في اختيار أي من الأساليب العلمية التي تلذ له؛ فإن الباحث العلمي البحت لا يعرف إلى أية نهاية سوف تقوده خطواته. إنه يكتفي بأن يكون على علم بما بين يديه.

إن العلم الحديث يحدد الأسلوب ويكتشف الوسيلة، ولكنه لا يعين الغرض ولا النهاية. إنه قائم على علم العدد والاستنتاج. وعلى الجملة قائم على الأساليب الرياضية. وتقدم العلم موقوف على إدخال أسلوب التفكير الرياضي في الموضوعات التي تلوح على ظاهرها بعيدة عن علم الرياضة، كما أنه مشروط على انتشار الأساليب الرياضية، وتنمية القوة المصورة، ولديك اصطلاحان: «تام» Exact و«يقيني» Positive، فإنهما يتخذان في لغات القارة واللغة الإنكليزية على الأخص؛ ليدلا على تلك الأساليب وعلى طريقة تطبيقها.

ولقد يظهر لأي من أولئك الذين لم يعنوا أنفسهم بالاشتراك في الإنتاج العلمي، أن الباحث باتِّباعه أسلوبًا محدودًا غير قابل للتحوير إلا في مفصلاته دون طبيعته، أو بالجنوح إلى نواحٍ من البحث تسوق إلى شُعَبٍ من المعرفة، إن كانت محدودة بينة، إلا أنها تذهب في تشعبها إلى لا نهاية ولا آخر، يفقد يومًا بعد يوم تلك الفكرات العليا في العلم، ويعدم صفة التركز والتكثف العلمي، وعلى الجملة يخسر كل النزعات المثالية التي توحد المعرفة: تلك الأشياء التي يلوح أنَّ تفوقَ المعرفة وتقدمَها موقوفان عليها.

هذا أمر محتوم أن يطرأ على فكر كل من عكف على الآراء والأساليب العتيقة،٦ أما اليوم، في عهد الرقي الحديث، فإن وحدة المعرفة، ونظامها وألفتها، وكمالها وتناسق صورها الظاهرة، والحقيقة والجمال، ليست بأشياء تقع في سبيل الباحث العلمي ليتخذها قواعد مباشرة لبحثه، وليس لها في نظره من قيمة أكثر من قيمة تلك الأسرار الخفية السحرية التي كانت تنسبها بعض مدارس الفلسفة للأعداد.٧

على أننا إن كنا لا نزال نعيش مأخوذين بفتنة تلك الأشياء وأمثالها، وعلى أننا نعمل جهد ما نستطيع لنخلص من مؤثراتها النفسية، فإننا مع هذا يجب أن نسلم بأن ما في طبيعة الأشياء من صبغة الشعر والفلسفة والدين قد أخذت تفقد شيئًا فشيئًا تأثيرها في عالم العلم. إنها لا ترسم للبحث العلمي طريقًا، ولا تفرض عليه أسلوبًا من أساليبها. لقد أصبح العلم بلا حاجة لأن يستمد منها العون والمساعدة، ولكنا يجب أن نتساءل: هل خسر الطرفان بانبتات صلتهما شيئًا ما؟ أما العلم ففي مستطاعه أن يفخر بأنه قد بلغ بذلك الانفصال درجة من الكمال الشكلي، ونال قسطًا من التقدم والارتقاء عدمهما طوال القرون الأولى.

ليس ذلك وحده ما وصل إليه العلم من هذه الطريق؛ فإنه قد ربح شيئًا لم يعهده خلال العصور القديمة والقرون الوسطى؛ ذلك الربح ينحصر فيما وقع من وجوه الارتباط بين العلم وبين أوجه الحياة العلمية. إن تلك الروح الرياضية التي حكمت بأمرها في أساليب العلم وقواعده، أصبحت كذلك حاكمة بأمرها في التجارة والتبادل والصناعة، وهي آخذة اليوم في التغلغل إلى المهن: كالطب والقانون والإدارة؛ لأن هذه الوظائف الاجتماعية قد أصبحت في العصر الحديث ذات آصرة وصلة بالأعداد والمقاييس والموازين، وبامتدادات الزمان والمكان، حيث أضحى من مقتضيات وجودها أن تلجأ إلى أساليب من الإحصاء والنسبة، وهي أشياء لن نستطيع بغيرها أن نحقق مخادعات الاقتناع الذاتي، أو نزعات الأفراد الفكرية، من طريق عملي.

كذلك لا يجب علينا أن نغفل عن أن المسائل المطلوب من العلم حلها، قد زادت وتكثرت بنسبة عظيمة، فإن كلَّ تقدم يقع في العلم، إن أعطانا قوة جديدة نتسود بها على ظاهرة من الظاهرات في عالم الحياة؛ فإن كل نبأ يقع في عالم الحياة يخلق لنا أوجهًا جديدة من البحث العلمي تطالبنا الضرورة بفض مشكلاتها، فإن العلاقة بين العلم والحياة قد زادت خلال القرن التاسع عشر ترابطًا واتصالًا. وهذا أمرٌ أبلغُ ما كان أثرًا في الموازنة بين الخطوات التي خطتها الأساليب العلمية الحديثة؛ فإن هذه الأساليب إن تُركت لِتَمضيَ حرة من مؤثرات الحياة فيها، لأدت إلى أوجهٍ من التخصص لا نهاية لها؛ لأن من خصائص المسائل العملية أنها لن تستقل عما يحيط بها، على العكس من الاختبارات العلمية؛ ذلك لأن المسائل العملية في الحقيقة تلزمنا ضرورة الانتباه إلى كثير من الظروف والحالات المحيطة بنا، وأن نلقي بنظرنا دائمًا على الحياة، لا في مفرداتها، بل في مجموعها، وأن ننظر في حاجاتها ومقتضياتها.

إذا فخر القرن التاسع عشر بأنه وضع أساليب إيجابية تامة احتذاها العلم، واتخذت في الحياة منارًا وَهَدْيًا، وأنه ضاعف من قيمة العلم، وزاد من خطر الحياة، فما زال أمامنا سؤالٌ لا نجد لأنفسنا عذرًا في إغفاله، نتساءل: ألم ينتج القرن التاسع عشر من نتاج يحافظ على تلك المثاليات القديمة التي ناء عليها الزمان شيئًا من قيمتها: مثاليات الحقيقة والجمال والحكمة، تلك التي أخذت في القرون الأولى على أنها أساس الوحدة في العلم والحياة، وعلى أنها مبدأ الألفة المنبثة في تضاعيفهما؟ وماذا جرى على الفلسفة والفن والدين؟ وهي التي أمدتها المثالية الفكرية بكل عنايتها، وحمَّلَتْهَا عِبءَ القوامة على كثير في فروع المعرفة والعمليات، أن ينفرط عقد وحدتها، وتتصدع حزمتها، وحصرت فيها كل الأمل؛ لتنجي النوع البشري من خطر التطوح إلى إنكار أوجه الترابط وضروب التعاون الواقعة بين كل الحاجات الإنسانية؟

أما إذا كان قد ثبت في يقيني ومعتقدي، أن القرن التاسع عشر لم يكشف عن تصورٍ أبعد خطرًا من التصور القديم إزاء الوحدة التي تربط بين الحاجات الإنسانية، وإزاء الحياة الكامنة في الإنسان، وفي النوع البشري كله، لَمَا فكرت ساعة واحدة في أن أمضي في إتمام مؤلفي هذا؛ لأن غايتي منه تنحصر في أن أكشف عن أوجه التعاون التي ربطت بين كثير من العوامل والبواعث خلال القرن التاسع عشر، في عالَمَي الفكر والعمل.

أريد أن أُظهر به حقيقةَ ذلك الاعتقاد الحق، الذي يسوقنا إلى التيقن من أن كل المجهودات العقلية لا بد في أن تتحد معًا؛ لتنتج الملكات المثالية التي خُصَّ بها النوع الإنساني، وتقوم حفيظة عليها. أود أن أثبت فيه أن ذلك الكنز المقدس لا يحتفظ بما فيه، ولا يزيد مستخزنه، مجهودُ فردٍ بعينه، أو متجه بذاته يتجه فيه الفكر، بل إن بقاءه ونماءه مقصوران على أن تتعاون الأفراد والأمم في حياتهم الشعوبية العامة المشتركة، على أن يصلوا به إلى تلك الغاية.

لقد دخل على اللغات خلال القرن التاسع عشر عِدَّةٌ من المصطلحات نَحَتَهَا واضعو المذاهب الفلسفية؛ لتدل على تلك الوحدة الكائنة في صميم الحياة الكامنة للنوع البشري. استعمل «هيجل» كلمة Geist؛ أي فكر، واستعمل «كونت» كلمة Humanity؛ أي إنسانية، واستعمل «لودز» كلمة Microcosm؛ أي العالم الأصغر، ويعني به الإنسان، واستعمل «هربرت سبنسر» كلمة Social Organism؛ أي الكائن الاجتماعي. استعمل كلٌّ منهم اصطلاحًا مختلفًا، ولكنها في الحقيقة لم تكن إلا أوجهًا مختلفة لموضوع واحد.

وإنه لمن أخطر مظاهر الفكر أن تلحظ كيف أن مدارس المثالية الكبرى في ألمانيا، ومدرسة العلم اليقيني في فرنسا، ومدرسة النشوء العقلي والطبعي في إنكلترا، على الرغم مما يلوح فيها من روح التحليل، لا من روح التوحيد، قد اشترك جماعها مع الانقلابات الاجتماعية مشفوعة بالثورة الفرنسوية العظمى، وبتخصيص العلم، في الاحتفاظ بوحدة الحياة الإنسانية، والقوامة على حاجاتها ومطالبها.

•••

الراجح عندي أن كلمة «فكر» Thought قابلةٌ لأن تُطَبَّقَ أوسع تطبيق، وفيها من الخصائص ما يجعلها تدل على أية حقيقة أو تقييم عقلي قد تحويه تلك الأغراض المتحدة، وتلك المحاولات التي تنبتها آمالُ العصر الحديث، على أني أعتقد مع هذا أن وضع تاريخٍ لتلك الفكرة يكون بمثابة وضع تعريف جامع مانع للفكر في مجموعه.

ولقد صُرف كثير من الجهد خلال القرن التاسع عشر في سبيل الوصول إلى عرضٍ يشابه عرضي هذا؛ لذلك أرى أن تناوُلَ تلك الناحية الخاصة من الأدب الحديث ببحث موجز لا يخلو من فائدةٍ ونفعٍ.

لست أشك في أننا قد قضينا عصر البحث الأنسيكلوبيذي في تحري المعرفة. لقد غشى العصر الأنسيكلوبيذي الفكر قرنًا كاملًا، من أواسط القرن الثامن عشر إلى أواسط القرن التاسع عشر، أي من عام ١٧٥٠ إلى عام ١٨٥٠.

على أن الفكرة في ترتيب المعرفة على النمط الأنسيكلوبيذي ترجع إلى زمان أبعد من هذا، ترجع إلى الزمان الذي عقب تمخض الفكر عن الأسلوب العلمي الحديث.

إن اللوردَ «باكون» لَأَوَّلُ واضع لذلك الأسلوب، غير أنه عجز — كما عجز أكبر عقل أنسيكلوبيذي أنبته العصر الحديث؛ وهو عقل «ليبنتز» Leibniz — عن أن يبلغ الغاية من تحقيق الغرض الأسمى من تلك الفكرة، وظل تحقيقه مبقيًا لنبوغ «ديدرو» Diderot وعبقرية «دالمبير» D’Alembert في فرنسا، خلال القرن الثامن عشر، فأخرجا ومن تبعهما من العظماء، إلى حيز الواقع، ما رسمه «باكون» في كتابه «النظام الحديث» Novum Organum في حيز النظر، واستجمعا كل المعرفة التي ذاعت لعهدهما منذ أن خلص العلم من مؤثرات اللاهوت، ووضعاها في كتاب واحدٍ محبوكةٍ أطرافه، متواصلة حلقاته.

لقد كان للأنسيكلوبيذيين من عملهم غرضان؛ الأول: نشر المعرفة، والثاني: تحقيق أن المعرفة الإنسانية عبارة عن كلٍّ لا تنفصل أجزاؤه. أما الغرض الأول، وهو الناحية العملية؛ فقد صادف نجاحًا، وأما الغرض الثاني، وهو الناحية الجوهرية من فلسفتهم، فقد اطرح وتنوسي تدرجًا على مر السنين.

لقد أشار «ديدرو» و«دالمبير» إلى وحدة الفكر والمعرفة؛ الأول فيما كتب تصميمًا للأنسيكلوبيذية — موسوعة المعارف Prospectus — والثاني في المقدمة Discours Preliminaire، وأشير إليها في تمهيد موسوعة «إرش» Ersch و«جروبر» Gruber العظمى، وكذلك في مقالة «كوليردج» المشهورة في علم الأسلوب التي كتبها «للأنسيكلوبيذية العالمية» Encyclopedia Metropolitana، غير أن نتيجة كل هذا الجهد قد أظهرت ما خفي على لورد «باكون»، من أن تقسيم المعرفة تقسيمًا تُراعى فيه قاعدةٌ ما من قواعد المنطق، أو يُستهدى فيه بالخصائص التاريخية التي لازمت بدايات كل فرع من فروع المعرفة الإنسانية، لن يحتفظ في النهاية بوحدة المعرفة، ولن يسلم إلى بقائها كمًّا واحدًا.

فإن العمل في سبيل تقدم العلم والمعرفة إن أصبح مفرقًا على عدة علوم مختلفة، ووكل به إلى كثير من الباحثين يستقل كلٌّ منهم بجهةٍ منه، فإنه لن يظل محصورًا في دائرة محبوك طرفاها، بل يخرج إلى سلم حلزوني يزداد اتساعًا كلما ازداد ارتفاعًا، ويفترق عن أصله الذي يرتكز عليه تدرجًا كلما أمعنت حلقاته في التزايد؛ ذلك هو الأثر الذي تتركه في نفوسنا نظرةُ تأملٍ نلقيها على المجلدات التي خلفها «إرش» و«جروبر» غير كاملة، وهو بذاته الأثر الذي تخلفه في يقيننا معرفتنا أن مؤلفات عمرنا بما فيها من الفوائد العظيمة، وقربها من متناول العامة، قد قضت القضاء الأخير على تلك المقامات الفلسفية والمحاورات التمهيدية، التي كانت تصدر بها الكتب في الماضي، لا لشيء إلا ليحتفظ من طريقها المؤلفون بظل من الوحدة والأسلوب، والتي رضي مؤلفوها بأن تكون معاجم للمراجعة لا غير.

ولقد دلت طريقة صوغ المعرفة على النمط الأنسيكلوبيذي، وهي ليست إلا تنفيذًا لنظرية لورد «باكون»، على أن انتشار العلم وتطبيقه عمليًّا شيئان لا بد من أن يسوقانا إلى تحليل المعرفة والفكر، لا إلى توحيدهما، ومما لا مرية فيه أن قيام اعتقاد مشابه لهذا الاعتقاد في يقين علماء ألمانيا كان السبب الذي حدا بالجامعات الألمانية إلى إلقاء المحاضرات التي كانت تُلقى في الأنسيكلوبيذية. ولقد ذاع إلقاء تلك المحاضرات وعم تدريسها في فجر القرن التاسع عشر، عندما خضع التعليم لتأثير «كانت» Kant، و«فيخته» Fichte ، و«شلير ميخر» Schleier macher، فأحدث ذلك عصرًا جديدًا سادت فيه فكرة أن وحدة المعرفة وكمالها وتعميمها أمور يمكن أن يبلغ إليها من طريق توحيد طرق الدرس وتنظيمها على نموذج واحد. ذلك العصر هو آخر عهد الفلسفة بالقبض على خناق كل فروع المعرفة، وبصدها البحث العلمي عن الانبعاث في طريقه القيمة. تسودت الفلسفة هنالك عندما أيدتها الحوادث السياسية، وزكَّتها الأغراض المثالية الخيالية، وعاونتها روح كريمة من التضحية الذاتية، ممسوسة بشعور قيم أوحى إلى أبناء ألمانيا أن عليهم لأمتهم واجبًا واحدًا القيام به مشروط على تعاونهم، وكان أظهر ما في ذلك الشعور انضواء فلاسفة ألمانيا وباحثيها الأعلام تحت لوائه، والإذعان لموحياته.

وكان لانتشار تلك الروح أثر عظيم في خلق صورة من التعاون المتبادل، لا يدانيها خطرًا ومكانة إلا تزكيتها لفكرة وحدة المعرفة، فمهدت لكثير من المذاهب الفلسفية — التي خيل للناس أن فيها من الفوائد أكثر مما في استطاعتها أن تنتج — سبيل الانتشار والذيوع. هنالك ألقي في روع الناس أن أسفار الأنسيكلوبيذية شيء أكبر خطرًا من تلك الصدفة الفارغة، والهيكل الأجوف الذي رآه فيها أبناء العصر التالي، ظن أن في تلك الأسفار قدرة على نشر المعرفة، والاحتفاظ بها كمًّا حيًّا، فائضًا بالوحدة والقوة.

هذه الصورة الفكرية، التي سوف تستغرق قسطًا كبيرًا من انتباهنا، قد محيت الآن؛ فإنك لن تقع في النصف الأخير من القرن التاسع عشر على ماهية للمعرفة تركزت في قاعدة فلسفية، أكثر من وقوعك على وحدة الفكر، وتماسك أطرافه، في مقالات متفرقة مرتبة على حروف الهجاء، وليس فيها من معنى الوحدة إلا ضمها معًا بين دفتي كتاب واحد. لقد كان الغرض من تلك المعجمات الأنسيكلوبيذية غرضًا عمليًّا بحتًا: كان الغرض منها وضع وسيلة قريبة الفائدة لنشر المعرفة، لم يراع فيها تقسيم الفلسفة إلا تقسيمًا شكليًّا، ولم تنتج من فائدة إلا في أضيق دوائر البحث والاسترشاد.

إن عصر الدرس على الطريقة الأنسيكلوبيذية، وذلك العصر القصير الذي نمت فيه «الشكلية الفلسفية» Philosophical Formalism لعصران يلوحان لنا كأنهما تابعان للماضي، غير أن «الرغبة» في توحيد المعرفة وجمعها في بؤرة واحدة، وتحقيق الصلة الكائنة بين الفكر وبين الارتقاء، قد بلغت غاية لم تبلغ إليها خلال العصور الأولى، فلا ضخامة المعاجم الشوهاء، ولا اتخاذ القواعد النظرية الجوفاء على أنها تامة كاملة لَتُرضي اليوم ذلك المعتقد العميق الذي تعمل كل النواتج العقلية على إنمائه ومدِّهِ بمهيئات الحياة؛ اعتقاد أن الإنتاج العقلي كائن حي متحيز الشخصية لا نهاية لتنوع صوره، ولا غاية لاختلاف مظاهره وأشكاله.

ولقد ثبت في روع الباحثين أن بعث الفكرات الفردية من خمودها، واستحداث صور الحياة والتغير ضرورة أولية، كضرورة العكوف على أسلوب ما، أو انتحال مذهب بعينه، أو اتباع نظام بذاته. ولقد سهلت هذه الفكرة خلال الخمسين عامًا الفارطة سبل التبادل العقلي بين الأمم، وهوَّنت على الكاتبين تدوين أوجه النشوء التي وقعت في تاريخ فروع العلم والمعرفة.

ولقد أمدت عوامل كثيرة ذلك الغرض الأولي بمهيئات النماء؛ فالفرنسويون الذين كانوا في أول ذلك العهد أساتذة العلم بدءوا اجتياز السبيل بتأسيس عدة من المجلات الدورية، تُعنى كلٌّ منها بفرع من فروع العلم المختلفة تُنَمِّيه وتتعهده، وتقوم عليه حفيظة، وعلى بقائه كفيلة، ومن ثم تبعهم الألمانيون، ومن بعدهم الإنكليز، ولقد زاد تبادل الفكرات العلمية بين الناس ذيوعًا منذ أن تأسست «جماعة تقدم العلوم البريطانية» سنة ١٨٣١، وكان «أوكن» Oken قد أسس جماعات شبيهة بالجماعة البريطانية قبل ذلك بعشر سنوات في ألمانيا، غير أنه كان لألمانيا أكبر الأثر في إصدار الموسوعات السنوية الخاصة بتقدم العلوم؛ حيث كانت تنتقد المباحث العلمية، من غير اعتبار لمصادرها الوطنية، ثم تقسم وتبوب على قاعدة وضع فروع العلم المختلفة كل منها في حيزه الخليق به في كفاءات العقل الإنساني.

ولقد قام في النصف الأول من القرن التاسع عشر في ألمانيا حركة انتقاض ضد الطريقة التي كانت تعالج بها الموضوعات العلمية على قاعدة ميتافيزية — غيبية — تلك الطريقة التي بالغ في اتباعها مدرستا «شيلنج» و«هيجل». ولقد ساعد اقتباس أساليب الاختبار والمشاهدة على الأسس التي دعمها الفرنسيون والإنكليز، كما عاون تأسيس المعامل الكيمية، والمراصد الفلكية، والسياحات الطويلة التي أنفقها الباحثون في سبيل الاستكشاف، وتطبيق القواعد العلمية في الإنتاج الصناعي، على استجماع كثير من مواد المعرفة العامة.

ولقد أخذ الباحثون منذ زمان مضى يفقدون الثقة بكل المحاولات التي أريد بها تركيز المعرفة وتوحيدها، حتى في مجال الاستنتاج العقلي التام، المحرر عن نزعات الغيب وما وراء الطبيعة، فكانت نتيجة ذلك، وعلى الأخص في ألمانيا، أن منتجات كثير من العلوم أصبحت تُدفن بين صفحات المجلات الدورية، وفي المذكرات التي اعتادت الجماعات العلمية حفظها في مكاتبها. أما المتون العلمية، فأخذ يكتبها مؤلفون من الطبقة الثانية، أو ينقلها عن الإنكليزية والفرنسوية مترجمون احتذوا في نقلها طرقًا عتيقة بالية.

ولقد اختصت بضعة عقول فياضة كبيرة ببث تلك الروح التي خمرت البحث العلمي في أواسط القرن التاسع عشر، وتلك عقول كبيرة ظلت غير معروفة خلال ذلك العصر، شأن العقول التي تظهر في أزمان لا تلائمها، على أن ثلاثة العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر قد كفلت تغيير ذلك كله؛ فإن وسائل الاتصال بين الباحثين التي أدلينا بالكلام فيها من قبل، جعلت انبتات أسباب التواصل في العلم أمرًا مستحيلًا، فدعت الضرورة إذ ذاك إلى التبدل من النظام القديم الذي ظل متبعًا في برامج التعليم الأدبي في معاهد العلم، بآخر أكثر انطباقًا على الأساليب الحديثة.

وتطوع كثير من أصحاب العقول الفذة لكتابة متون صحيحة في العلوم التي كانوا يعالجونها؛ فأدى ذلك الأمر إلى إصلاح كثير من وجوه الخلل الذي ساد تلقين العلم في المعاهد العليا، وفي الوقت ذاته، وبعد مضي خمسين عامًا أنفقها الباحثون في البحث الاختباري، واستجماع مواد المعرفة الأولية، شعر العلماء بضرورة النظر في المبادئ الأولية التي بُني عليها التفكير العلمي، نظرة نقد وتحليل، عثر الباحثون إذ ذاك على روح خاصة من الفلسفة، لا من الغيبيات وما وراء الطبيعة، ممزوجة بحدود العلم الصحيح مندمجة فيها، فإنك في العلوم المجردة الصحيحة، وعلى الأخص في الرياضيات، تجد أن التقدم الحقيقي مرهون على استكشاف أساليب بسيطة أولية، وطرق لمعالجة تلك العلوم تامة النفع، قريبة التناول، كما أنه موقوف على الكشف عن المبادئ التي تحقق وحدتها، والمشاهد التي تضمن تعميمها.

كل هذا ليس بشيءٍ سوى علائم الحياة الحديثة، ودلائل التقدم والارتقاء النشوئي. أما السبب الكامن ونتيجته، وتغير أساليب التفكير التي ظلت مختفية وراء تلك المشاهد الظاهرة المحسوسة، فسوف تكون موضع عنايتنا من البحث فيما بعدُ، فإن تلك الأساليب والكشف عنها وبحثها هي في الواقع الغرض من كتابي هذا.

إن الرغبة الصحيحة في البحث عن البواعث الخفية الكامنة في عالم الفكر، كانت أكثر ظهورًا في تلك الأمة التي أخذت في العصر الحديث قياد التفكير الفلسفي في أوروبا، وأعني بها ألمانيا، يدلك على ذلك المؤلفاتُ التاريخية الضخمة التي خصها كبار المؤلفين في ألمانيا بتتبع درجات الرقي والنماء اللذين مضى فيهما العلم الحديث. والظاهر أن البحث التاريخي قد حل في ألمانيا — في أواخر القرن التاسع عشر — محل الإكباب على التأمل الغيبي — الميتافيزي.

وقد تقع على شيء من الانتقال من الأسلوب المنطقي إلى الأسلوب التاريخي في منتجات العقل الإنكليزي خلال القرن التاسع عشر. كان «دافيد هيوم» David Hume قوام ذلك التغير؛ إذ بدأ بدراسة المسائل الغيبية — الميتافيزية — التي وقع عليها في كتابات «لوك» Locke و«بركلي» Berkeley، ومنها تطرق إلى درس معضلات الأخلاق والسياسة والاقتصاد، وانتهى من ذلك بأن وهب نفسه إلى دراسة التاريخ، ولم يكد يختتم «هيوم» صفحته حتى ذاعت المباحث التاريخية في إنكلترا ذيوع المؤلفات الغيبية واللاهوتية في فجر حياته. أما العوامل التي أدت إلى الانتقال من الإكباب على المباحث الغيبية إلى الأساليب التاريخية في ألمانيا، فمشابِهَةٌ لتلك التي أدت إلى ذلك في إنكلترا خلال القرن التاسع عشر.
وبينما كانت المباحث التاريخية آخذةٌ بزمام العقول في ألمانيا، بل قضت القضاء كله على «الفلسفة النظامية» Systematic Philosophy؛ أي الفلسفة ذات القواعد المرسومة، أنتجت إنكلترا لأول عهدها في تاريخ التفكير العقلي مذهبًا فلسفيًّا؛ ذلك المذهب الذي أبرزه العلامة الكبير «هربرت سبنسر» H. Spencer، وحاول أن يُثبت فيه أن الغرض من الفلسفة «توحيد المعرفة»، على أن من الحقائق الخطيرة في تاريخ الفكر تلك الحقيقة التي سوف نصرف في سبيلها شطرًا عظيمًا من عنايتنا.
إن مبدأ «توحيد المعرفة» الذي بثه «سبنسر» في ذلك المذهب مبدأ تاريخي، وهو في قوامه عبارة عن طريقة من النماء التدرجي تُعرف الآن باسم    «النشوء» Evolution، يُكوِّنُ هذا المذهب في مجموعه فكرة مناقضة للفكرة التي بثها «هرمان لودز» Hermann Lotze في آخر مذهب فلسفي من المذاهب العظمى التي ظهرت في ألمانيا، فكل المذاهب النشوئية إذ تقضي بأن وحدة الأشياء تاريخية صرفة، وأن هذه الوحدة يجب أن يعود الإنسان في بحثها إلى أصلٍ أوليٍّ عنه نشأت، إذا بك تجد أن «لودز» قد حاول أن يثبت أن الحقيقة تنحصر في الاعتقاد بأن لوحدة الأشياء وجود ثابت، وأنها مبدأ موجود في كل الأشياء المفردة، وليست — كما يقول النشوء — عبارة عن حلقة تربط بين الموجودات بمقتضى الزمان والمكان.

كان الغرض من مذهب «لودز» الوصول إلى جواب إذا تساءلت: كيف يستحضر العقل الإنساني لنفسه وحدة كائنة حية كوحدة الموجودات؟ ومن طريق أية من الفكرات التي ينبتها الفكر الإنساني نستطيع أن نصل إلى تلك الوحدة؟ وبأية من الكلمات التي تتضمنها اللغات الإنسانية يمكننا أن نعبر عنها؟

إن كلًّا من مذهب «سبنسر» في النشوء، ومذهب «لودز» في «العالم الأصغر» Microcosmus، ويعني به الإنسان، يرمي إلى إثبات «وحدة الفكر»، وإحداث ذلك التصور الذي يسوق إلى الاعتقاد بأن الأشياء تحتفظ ببقائها، وأن الحوادث الكونية تقع خضوعًا لعلاقة واقعة بينها يمكن إدراكها، ولكنك تلفى أن «سبنسر» إذ يمضي مقتنعًا بأن الوحدة الكائنة وراء عالم الظواهر لا يمكن معرفتها، وينصرف إلى دراسة الطريقة التي تحدث بها ظاهرات الكون، وتنشأ بها الموجودات، والإفصاح عن حقائقها، تجد أن «لودز» يعتبر أن ذلك القسم، الذي صرف إليه «سبنسر» كل همه، ليس من مجموع الفلسفة إلا مقدمة وتمهيدًا يسلم إلى حل «المعضلة الحقيقية».

يرى «لودز» أن أية طريقة من طرائق النشوء والنماء ليست سوى الثوب الظاهري التي تلبسه المادة الحقيقية؛ أي عبارة عن أسلوب ميكانيكي «آلي» ينتج به شيء آخر أثمن قيمة، وأبعد خطرًا.

ويعتقد «لودز» في تأثير تلك الآلية — الميكانيكية — تأثيرًا عامًّا شاملًا، غير أنه يُحَتِّم في الوقت ذاته ضرورة العثور على المادة ذاتها، والحصول على فكرة في الغاية أو الحد الذي يمكن أن يبلغ إليه الإنسان من هذه النظامات المتتابعة المتواصلة، أو تلك الوسائل الآلية المنظومة التسلسل، كما أنه يحض على العثور على النتيجة التي قد يتسنى البلوغ إليها.

ويقول «لودز»: إننا إذا عرفنا الوسيلة الآلية التي يتم بتأثيرها غرض من الأغراض، أو فعل من الأفعال، استطعنا أن نقدر الظاهرات الطبيعية ونَزِنها رياضيًّا، غير أننا لكي نستوعبها ونتفهم طبيعتها، نحتاج إلى ضروبٍ أُخَر من المعرفة تنصرف إلى تقدير قيمة الفعل أو الغرض الذي تنتهي إليه، والنتيجة التي نجنيها من تقديرنا للظاهرات. يقصد بذلك «لودز» أن مقدرتنا على تتبع الحالات الميكانيكية التي تُبنى عليها دقة سير الساعة شيءٌ، وأن تحديد الوقت الذي تعنيه لنا وضبطه شيءٌ آخر، على أن حب الاستطلاع قد يقود طفلًا إلى الإيناس بالشيء الأول، في حين أن الشيء الآخر يتوقف على تقديرنا لحاجات الحياة وأغراضها، وعلى عظم ما تحمل من مسئوليات الواجب.

عندما شرع «لودز» في كتابة مؤلفه «العالم الأصغر» Microcosmus نبَّه الأذهان إلى كتابين آخرين يَمُتُّ موضوعهما لموضوعه بآصرة ونسب. عمد الكتابان كلاهما، على اختلافٍ في النهج والطريقة، إلى إيجاد فكرةٍ تامةٍ يدركها العقل عن عالم عظيم من الظاهرات المبددة، يُسْلم لك إذا ما نظرت فيه إلى عالم من الحقائق. أما الكتاب الأول فمن نواتج القرن الثامن عشر قصر البحث فيه على التاريخ، وعلى نواة الترابط الكائن بين أوجه النشوء الإنساني.
لقد أعطى«هردر» Herder، إن لم يكن قد ابتكر، نوعًا من الخطورة والشأن خص به اصطلاح «الإنسانية» Humanity، قصد به وحدةً تربط بين كل الحاجات الإنسانية، سواء أفي نشوئها الاجتماعي أم التاريخي، وتلك فكرةٌ مضت مستبدة بنواتج العقل الألماني منذ عصر «ليبنتز» Leibnitz، وأما الكتاب الثاني فكان مؤلفه «إسكندر فون همبولد» A. von-Humboldt، الذي لم تغادره فكرة الوحدة الحاكمة في كل الموجودات خلال كل أدوار حياته التي ملئت بمختلف صور الجهد، فأنفقها حينًا مكبًّا على درس الطبيعة درسًا عميقًا، وحينًا آخر مستغرقًا في تقييم النتائج التي تترتب على أساليب البحث العلمي الحديثة، وحاز في كلتا الناحيتين مكانةً وشأنًا. ولقد استعان «فون همبولد» بمتانة من الأسلوب وسلاسة من التعبير، امتزج فيهما الشِّعرُ بالعلم؛ ليخرج من قلمه في صورة كتاب أَلَّفَهُ في أصيل حياته، كشف به لأنظار قارئيه ودارسيه عن صورةٍ من صور الطبيعة العظمى، كما تخيلها عقله الكبير من قمم العلم المشرفة على اللانهاية، وكما رأتها عيناه من مرتفعات «شمبورازو».
في وسط تلك الصورة التي صُوِّرَتْ بها الطبيعة، وفي جوف التغيرات التي تنتاب الكون، أين يوجد «الكون الأصغر» Microcosmus؟ طرأ هذا السؤال بالضرورة على عقل «لودز»، فهو لذلك يقول: ليس هو ذلك الكون الأعظم الذي نريد أن نصفه مرة أخرى على النموذج الذي عرفناه من قبل في ألمانيا؛ فإن صور هذه الدنيا العظيمة إذ تنزل إلى أعماق سحيقة من الإدراك العام، فهي لذلك ترجعنا إلى نفوسنا تارة أخرى لنعاود التساؤل: أية قيمة لحياة الإنسان والإنسانية، بما فيها من الخصائص الخالدة، وبما في تاريخهما من أوجه التغاير وسط هذه الطبيعة في مجموعها؟ على أن «لودز» بعد أن جمع كل ما يمكن أن يكون جوابًا لهذا السؤال، عاد إلى الاعتراف بأنه لم يصل إلى شيء إلا إلى تجديد الفكرة التي بدأها «هردر» في كتابه «فلسفة التاريخ»، على أن كلًّا من كتاب «هردر» وكتاب «لودز» لَتَابِعٌ لذلك العصر الذي أثرت فيه الفلسفة والشعر على العلم والتاريخ أبين الأثر.

وقد يظن الكثيرون أنه من المستحيل، أو على الأقل من المتعذر بحكم الزمان، أن يجمع الإنسان بين منتجات العلم والتاريخ الحديث؛ ليخرج منهما بذلك الغرض الذي ندب إليه الفلاسفة وامتدحه الشعراء، أو أن يدلف بقدمه في مجاهل ذلك التيه الذي تمثله الظاهرات الطبعية المحسوسة والحوادث الكونية؛ ليصل إلى ما يختفي وراءها من الوحدة والعظمة؛ ذلك لأنهم بينما يسلمون بوجود قوة شاملة تامة تختفي وراء عالم الظواهر تسليمًا مطلقًا، إذا بهم يُقصونها كما فعل «سبنسر» إلى العالم «المجهول».

لا أراني في هذا الموطن محتاجًا لأن أمضي في نقد تلك الاعتبارات التي ساقتهم إلى وجهةٍ من النظر بالغة أقصى حد من الاعتدال والإذعان للغيب؛ ولهذا أريد أن أقصر بحثي فيهم على طريقة محدودة، وقد أكون غير مسبوق بها، تتناول النظر في صحة معتقدهم الذي يلقي في روعهم أن استيعاب الظاهرات وحادثات الكون استيعابًا صحيحًا، لن يأتي إلا من طريق النظر فيها من جهة تواصل أسبابها، ومن طريق نتائجها الكلية.

وإذا كان ثمة في عالم الطبيعة والحياة العقلية من شيء يحق لنا أن نسلم بأن فيه وحدة، وأنه مجهول غير مرئي، فهو بلا ريبة الفكر الإنساني: بما فيه من شعب ومفاوز، وبما له من منتجات ومظاهر، فإن محاولة يراد بها تتبع أصله الذي عنه نشأ في متروكات المدنيات التي قامت خلال العصور الأولى، أو محاولة يقصد بها صده عن الغاية التي يسير نحوها درجة بعد درجة، كلتاهما محاولةٌ بالغةٌ أقصى حدود الاستعصاء، وغاية ما نستطيع أن نقول: إننا أكثر علمًا، وأعمق معرفة بعصرنا الذي نعيش فيه، وبمختلف صور الأدب وضروب الإنتاج العقلي التي شهدنا نشوءها خلاله، فقد استطاع الفلكيون أن يصلوا إلى معرفة مقدار أكثر المدارات اتساعًا، وأبعدها مسافة، بجزء ضئيل من مدارٍ سيارٍ وقع تحت حسهم وتناولوه بالدرس والاستقصاء.

وأقرب مثال على ذلك استكشاف «بيازي» Piazzi للسيار «سيريز» Ceres في «باليرمو» في أول ليلة من عام ١٨٠١، كذلك تجد أن «تشريح المقارنة» Comparative Anatomy قد علَّمَنَا كيف نستطيع أن نقف من بضعة بقايا مستحجرة على تركيب كائن عضوي، وعلى مفصلات تكوينه بِرُمَّتِهَا، على أن غايتي من ضرب هذه الأمثال، أن أطبق قاعدتها الأولية على جزء صغير من نواحي الارتقاء العقلي، هُيِّئَ لي أن أكون على علم بها، وشعرت بما كان لها من أثر في نفسي؛ فإن تتبعنا، على وجهٍ من الدقة والضبط، ذلك الشطر الصغير من الفكر الأوروبي، قد يكون بابًا نَلِجُ منه إلى حيث نستكشف صورًا أبعد دقة، وأكثر صحة، في حين أن هذه تصبح وسائل نتخذها سبيلًا للحصول على فكراتٍ أثمن من سابقتها قيمة، وأتم نفعًا، وأشد ضبطًا، في الكشف عن خفيات الحدود القصية المشبعة الخاصة بالحياة العقلية للنوع الإنساني.

لا تنحصر هذه الحياة في استجماع ضروب المعرفة التي استجمعت خلال القرن التاسع عشر، ولا في نتائج البحث العلمي التي تضمها جدران المكاتب والمتاحف العامة، ولا في مدارس التلقين الأولى، ولا معاهد العلم العليا، ولا في الإصلاحات الاجتماعية، ولا ترقية أساليب التربية. وهي أقل ما تكون ظهورًا في النظامات السياسية والاقتصادية. إن هذه جماعها إلا أشياء خارجية يمكن أن توصف أو تصور، شأنها في ذلك كشأن ظاهرات الطبيعة المحسوسة.

أما حياة النوع الإنساني العقلية، فمحصورةٌ في أساليب التأمل الخفية التي أمكن بها استيعاب تلك الأشياء الظاهرة، والتي استطاع بها الإنسان أن يضيف إلى مبدعات الطبيعة خلقًا جديدًا خاصًّا به، وبها تسنَّى له أن يُغيِّر من وجه الأرض، ويُبدِّل من نظامها، وأن يخص كائنات الطبيعة بمعانٍ مثاليةٍ لا تُتَاح لغيره. وفي سبيل هذه الغاية يعنت الإنسان نفسه لكي يستكشف أساليب لا يلبث أن يطبقها حتى يعمد إلى تغييرها، وفي سبيلها يحدس وراء نتائج وأغراض سرعان ما يرفضها ويقصيها، ومن أجلها يخترع نظرياتٍ قصيرةَ العمر وشيكةَ البقاء. وفي الواقع، يبني ويهدم، يُشيِّد ويُقوِّض؛ ليستعين بالبناء والهدم، وبالتشييد والتقويض، على إبراز مختلف نظم الاجتماع، وصور الفن، ومنتجات العلم.

وتلك النظم والصور والمنتجات يخلفها الإنسان لا كشيءٍ إلا كآثار تدل على ما بذل من جهد، وما أنفق من نشاط، والأنقاض التي يخلفها وراءه لا تلبث أن تُتركَ وتُهملَ كأشياء لا قيمة لها، إلا قيمة محدودة بالزمان، مقرونة بصفة الانتقال والتغير، بَيْدَ أن هذه الأنقاض ليست إلا جسرًا يصل بين الماضي والمستقبل، وهي بذاتها المادة التي يتكون منها هيكل الحياة العقلية، التي نصرف في سبيلها عناية البحث والاستقصاء، وبقدر ما يكون لنا من حظٍّ في بناء ذلك الجسر، أي في تقويض القائم والإشادة على أنقاضه، وبقدر ما يكون لنا من علم بالوسائل التي عمد إليها الفكر لبلوغ هذه الغاية، وبقدر ما رأينا وعلمنا من أوجه نشوء العظائم من البدايات والصغائر، يكون مقدار علمنا بشيء من الحياة العقلية التي تظل مختفية، وتمضي مستورة وراء هذه الظواهر المشاهدة.

لهذا أعتقد أن دراسة ما وقع تحت حِسِّنَا ومشاهداتنا هي الطريق الوحيدة التي تمهد لنا أن نبلغ بنظرة عميقة فيما أبدع العقل من منتجات؛ أي في حياة البشر الروحية، وسوف نرى عما قريب كيف أن كل عصرٍ، سواء أَمِن عصور العلم أم من عصور الفلسفة، لا يبدأ إلا بفروض وخيالات، ولا يمضي في البقاء إلا جريًا على أساليب معينة، وكيف أن بعض الأساليب الفكرية الخاصة قد تصبح عامةً مأخوذًا بها، وكيف أن وجهاتٍ من النظر الفردي قد يتقبلها الفكر فتنتشر وتذيع، غير أننا نُلفي عادة أن تك الفروض النظرية لا يمضي عليها جيل أو جيلان، على الأكثر، حتى تأخذ العقول في وزنها وتقييمها، والفحص عن نصيبها في الصحة ومطابقة الواقع.

ونجد أن نصيب الأساليب الفكرية من النقد لا يقل عن نصيب النظريات منه، فيطرأ على عالم الفكر عقيب ذلك أساليب حديثة تملك زمامه، وتكتسح أمامها طرق التفكير العتيقة، التي خيل للعقول زمانًا أنها أكثر الأشياء ملاءمة للطبيعة، وأبعدها انطباقًا على مطالب الحياة. هنالك تجد أن نظام الجمعية الإنسانية، وهيكل العلم، وصور المعرفة، وطرق تطبيق الفنون على الضرورات البشرية قد انتابها التغير خضوعًا لمبادئ مستحدثة تكفل حاجات النوع بمقتضى الارتقاء والنشوء.

ولا ريبة في أنه لا يقوى على البقاء من المبدعات القديمة إلا النزر اليسير، فتجد أنه لا يبقى من تلك الأشياء التي ندعوها قوانين العلم، إلا قانون واحد أو اثنين، ولا يعود إلى آلة الطباعة إلا بضعة كتب ليعاد نشرها، ولا يبقى إلا عدد ضئيل من نواتج الفن، مع قصيدة أو اثنتين من قصائد الشعر. مثل هذا سوف يخلف القرن التاسع عشر، كميراثنا الحي الذي جنيناه من سنيه الأولى، في حين أن بقية المنتجات سوف تضم إلى مجموعة ما يدونه التاريخ من وقائع العصر، ولن يصبح لها في الحياة من خطر أكثر من خطر الذكرى؛ إذ تمسك عن أن ترسم لنا طريقًا قيمًا، أو تنير لنا سبيل الحياة في عهدها الجديد.

ولن تمضي بضعة قرون على تلك المنتجات، إلا لينظر إليها أعقابنا كما ننظر نحن إلى آثار المدنيات الشرقية القديمة، كما ننظر إلى أبي الهول القابع في الصحراء التي تكتنف أهرامات مصر، متأملين في تلك الوسائل التي تم تشييدها، وفي مقدار ما أنفق في سبيلها من جهود ومشقات، وفي الفكرة التي قامت في رءوس الذين وضعوا تصميمها وأقاموها حيث هي عنوانًا على العصور، ومثالًا للدهور.

٣

إن أكبر مزايا الفن أنه يقيم في ذهن الإنسان بنظرةٍ واحدةٍ صورةً كاملةً عن الغرض الذي يرمي إليه، وبذلك يُحدث تأثيرًا تامًّا في العقل دفعة واحدة، على أن التأمل العميق إن كشف لنا عن الكيفية التي يتألف بها الكل بالتئام مجموع أجزائه، وعرفنا كيف يعبر كل عنصر من العناصر المؤلفة للمجموع عن الفكرة الأصلية التي توحد بين الأجزاء؛ فإن الأثر الذي يتركه المجموع يظل السبيل الأوحد الذي نستطيع أن نفهم به كل جزء من الأجزاء قائمًا بمفرده.

ولقد نكر على الأدب، وعلى العلم، وعلى التاريخ، أن في مستطاع كل منها أن يصور الغرض الذي يرمي إليه في مجموعه، بحيث يُحدث في ذهن الباحث منذ البدء تصورًا تامًّا؛ أو يزوده بفكرة كاملة الأجزاء، على أننا نمتُّ إلى الباحث أن يُماشينا متتبعًا خطواتنا إلى القمة العليا التي لا بد من أن نبلغ إليها بتصعيدنا في ذلك المرتقى الوعر. إن كثيرًا من الطرق تسلم إلى تلك القمة، على أننا غالبًا ما نخطئ في اختيار السبيل المثلى والصراط المستقيم، وقد نبلغ بالقارئ حد الإنهاك والكلال قبل أن نقطع نصف الطريق، وربما نُحدث في نفسه إحساسات قد تصده عن التأمل في مجموع ما يترامى تحت قدميه من المناظر وهو في مرتقاه. أما ما ندرك نحن في معنى «المجموع»، فليس إلا جملةُ ما تكونه أجزاؤه، في حين أن الفنان لا يدرك المجموع إلا بفكرة أن الأجزاء ليست إلا كسورًا يتكون منها كل مؤتلف النواحي.

طالما اعترض سبيلي كثير من أمثال هذه الصعاب وأنا مكب على التدبر في أمر الفكر خلال القرن التاسع عشر، على الرغم مما حَوَّطتُ به بحثي من الحدود؛ وما ألزمت نفسي من العكوف على دائرة من البحث لا أَعْدُوهَا.

لقد اعتقدت اعتقادًا تامًّا بعدما بلوت من البحث والتجاريب، أن عالم الفكر أشبه بدائرة يحدها محيط يترامى في اتساعه ترامي اللانهاية، ولشدَّ ما عانيت من تعب ومشاق حتى وقعت على نقطة أبدأ منها السير، وأختط منها طريقًا يقودني إلى تلك القمة، على أمل أن أشرف منها على منظر للمجموع يمكنني من اكتناهه، والوقوف على ماهيته.

•••

خُصَّتْ بعضُ عصور التاريخ بقيام حركات فاصلة، وحوادث عظيمة امتصت كل القوى العاملة النشيطة، واندمجت فيها كل العناصر العقلية والتخيلية، فتجد أن تلك الحركات قد مضت مستبدة بأمرها، إما لتخضع كل القوى المنبعثة في عصرٍ ما للعمل في سبيل إبراز غرضٍ معين، أو تثبيت فكرةٍ بذاتها، وإما أن تلفيها وقد جرفت أمامها كل شيء إلى جوٍّ من التنازع والجِلاد، يوجه بكل ما فيه من مختلف الصور والقوى إلى تزكية الحادث الرئيسي الذي تلتف من حوله قوة الفكر والعناصر.

والأمثال التي يرويها التاريخ كثيرة: منها تلك القرون الطويلة التي يقص أخبارها تاريخ اليهودية، والعصور الأولى التي أينعت فيها الكنيسة النصرانية، والزمان الذي تقشعت فيه عن المدنية سلطةُ البابوات، وزمان الإصلاح البروتستانتي، وعهد الثورة الفرنسوية.

فإذا عدنا إلى دراسة «الفكر» في مثل هذه العصور، لما أعوزنا البحث عن مرتكز نرتكز عليه، أو نقطةٍ نبدأ منها؛ لأنَّ من الهيِّن أن نعثر على سيارها الذريري٨   Vortex-Atom، الذي يحرك بحركته كلَّ القوى الكائنة، ويبعث العبقرية في مكمنها، ويوقظ الكفاءات والمواهب العقلية من رقدتها؛ ففي عصرٍ كعصر الإصلاح البروتستانتي مثلًا، يمكننا أن نتكلم في السياسات الخاصة به، وصور الدين التي أنبتها، والفلسفة والأدب والفن، وكل المنتجات العقلية التي أنتجتها، وأن نمضي في بحثنا موقنين بأننا لا بد من أن نقع على كل وجهٍ من وجوهِ التقدم العام، وعلى كل الخطى الارتقائية التي خطاها العصر، وأن نقف على كل الفكرات التي ذاعت فيه، سواء أَأَرْضَتْ معتقدنا أم ناقضته. وإنه لمن الظاهر الجلي أن العصر الذي أؤرخ فيه لا يتضمن حادثًا من تلك الحوادث التي تمتص القوى، وتبسط سلطانها المطلق على عالم الفكر.

على أنه إن كان في القرن التاسع عشر من قوةٍ وَحَّدَتْ بين المؤثرات التي انبثت فيه، فإنها لم تظهر طافيةً على وجه الحياة، بل ظلت دفينةً في أعماق الطبيعة البشرية، والمعضلة التي أخذنا على عاتقنا أن نبلغ إلى حلها، والغرض الذي قضينا مجاهدين في سبيل الوصول إليه لن يظهر سافرًا غير مقنع؛ إذن نعتقد أنه غرض يمكن أن يدرك من طريق الاستنتاج وحده، فلا نستطيع له تحديدًا ولا حصرًا؛ لهذا نوقن بأن الغرض الذي من أجله عشنا وشقينا وجاهدنا لم يظهر لمشاعرنا تامًّا بينًا، كما ظهر للذين عاشوا خلال عصر الإصلاح البروتستانتي، أو عصر الثورة الفرنسوية، وإلا لما سُقنا بأنفسنا، لولا هذا الأمر، إلى فلسفة «اللاشاعرية» و«المجهول»، ولما انتهى القرن التاسع عشر مختتمًا بالتساؤل: «أمن قيمة لهذه الحياة؟»

وأنت تعثر من جهة أخرى، إذا ما قلبت صفحات التاريخ، على عصورٍ سادت فيها روح الهدوء، فانصرف فيها الناس إلى متابعة بعضهم بعضًا في السير في سبيلٍ بعينها، واطمأنوا إلى ميول عامة أحدثتها فكرات واحدة، وأخلدوا إلى الأخذ بعاداتٍ خاصةٍ في التفكير، وانتحوا في البحث أساليبَ فيها من الفطرةِ الأولى أثرُ السذاجة، وتطريات البساطة والاعتدال، وعمدوا إلى تطبيق بضعة سنن لم يعدوها إلى غيرها، فظلوا عليها عاكفين، ومضوا بها قانعين.

كان هذا طابع الزمان الذي تقدم الثورة الفرنسوية، أي الشطر الأعظم من القرن الثامن عشر، حتى لقد أصبح من الهين علينا أن نصف طابع ذلك القرن، فصرفنا عليه اسم القرن الفلسفي؛ قرن التنوير العقلي Aufklarung٩ وإن شئت فقل «قرن فولتير»، ذلك في حين أننا لا نستطيع أن نصرف على عصرنا اسمًا مشابهًا لهذا الاسم، ولا أن نخصه بنعت كهذا النعت؛ فإنك لن تقع فيه على «اسم علم» يحمل معه شهادة بالأثر الذي ترك صاحبه مطبوعًا في جبين كل ما احتك به من حاجات الحياة العديدة التي وقعت تحت سلطانه.

لقد ادعى بعضُ الباحثين أنَّ تاريخَ الفكر هو بذاته تاريخُ الفلسفة، على اعتبار أن مذاهب الفلسفة ونظرياتها المختلفة تتضمن في مجملها الإبانة عن السبيل التي تمشت فيها الفكرات خلال عصرٍ ما من العصور، وعلى ذلك يكون الكلام في تاريخ الفكر في القرن التاسع عشر هو بذاته الكلام في تاريخ الفلسفة خلاله.

لقد أنتج القرن التاسع عشر كثيرًا من صور الفلسفة ومذاهبها المختلفة، غير أنك تجد أن تلك المذاهب، على الرغم من اختلافها وتباينها، من مثالية «فيخته» المتطرفة، إلى مادية «بخنر» Buchner الأحادية، لن تجعلنا نشعر بأنها محيطة بعالم الفكر كل الإحاطة. إن أكبر دليل على هذا أن العصر الذي أجدب فيه العقل الإنكليزي من الفلسفة — وهو أربعة العقود الأولى من القرن التاسع عشر — قد أخصب هنالك في إنتاج نزعة أدبية حديثة، وفي إبراز تصورٍ خاصٍّ في الفن، وفتح في كلا الاتجاهين: اتجاه الأدب واتجاه الفن، ينبوعًا فائضًا بمنتجات الحياة العقلية، في حين أنك لن تقع في المذاهب الفلسفية على أثر تناولها بالوصف والتقدير.
كذلك تجد أن فرنسا قد أجدبت في «التأمل الفلسفي» خلال عصر «العودة إلى الملكية» Restoration، غير أنها أحدثت إذ ذاك عصرًا ذهبيًّا من عصور الأدب، وأمدت كل أوروبا بأضواء العلم التي أشعت من «باريس» خلال الثلث الأول من القرن التاسع عشر. وقَلَّمَا عني تاريخ الفلسفة بذكر «جوته»، ومع هذا فإن مؤلفاته تتضمن على الأرجح أعمق صور الفكر التي أنبتتها العصور الحديثة، ثم عُد إلى فرنسا ثانية تجد أن المذهب الفلسفي الوحيد الذي أبرزه العقل الفرنسوي طوال القرن التاسع عشر، هو مذهب «كونت» في «الفلسفة اليقينية»، غير أنه لم يترك إلا أثرًا ضئيلًا فيها.

ومن ذا الذي يجرؤ على القول بأن هذا المذهب يعكس على العالم من صور الفكر الفرنسوي ما يعكس عصر «فولتير»، أو عصر «مونتسيكو» مثلًا؟ وإليك «هيجل» نفسه، فإنه لَذَلك الباحث الذي عمد إلى تتبع آثار العقل الإنساني في مذاهب الفلسفة، على أنه قد جهر بعد الجهد والعناء بأن الفلسفة آخر ثمار المدنية، وأن أية فكرة من الفكرات التي تمضي متحكمة في العقول خلال أي عصر من العصور لا تظهر لابسة الثوب المذهبي، إلا وكان هذا عنوانًا على زوالها، ودليلًا على انقضاء حياتها.

يدلك هذا على أن الفلسفة لا تنظر إلا إلى الماضي، إنها تحمل ما فصلته الأزمان، ومن ثم تناقش وتنتقد، ولكنها لن تضع للمستقبل صورةً مرسومةً، على أن ما في هذه النظرية من حقٍّ قد يتناوله الشك، وتحف به الريب، غير أننا لا نود أن نمضي في الكلام فيها الآن؛ لأننا سوف نعود إليها بعدُ، بل نكتفي هنا بأن نقول: بأن ما نعني من اصطلاح «الفكر» لا يمكن أن يتفق وما يعني من اصطلاح الفلسفة؛ ولذا نقضي بأن تاريخ الفلسفة خلال القرن التاسع عشر، أمرٌ يختلف تمام الاختلاف عن تاريخ الفكر فيه، على أن هنالك موضعًا قد تحل فيه كلمة «الفلسفة» مَحَلَّ كلمةِ الفكر، غير أنه موضع يقربُ فيه معنى «الفلسفة» من المعنى المدرَك من «الفكر»، ولا يقرب فيه معنى «الفكر» من المعنى المدرك من «الفلسفة»، وعلى هذه القاعدة كتب «هيويل» Whewell  «فلسفة العلوم الاستقرائية» Philosophy of the Inductive Sciences، وجعل الغاية مما كتب أن يبحث عن أساليب الفكر التي تُتَّخَذ، عن قصد أو عن غير قصد، سبيلًا إلى التفكير أو البحث العلمي فتؤدي إلى تقدم العلم وارتقائه.

على أننا قد نقع على محاولاتٍ شبيهة بهذه في التجارة والسياسة والحكومات والدين والأدب على وجه عام، على أن الفلسفة في كل هذه الحالات لا تدلُّ على معنًى أكثرَ من أنها طريقة خاصة للتفكير والاستنتاج يستعان بها على حاجات الحياة، عملية كانت أم عقلية، وليس هذا هو المعنى الذي يدرك من الفلسفة في الاستعمال المتفق عليه. إنها لتدل على شيءٍ أعمق من ذلك، فلا هي أُخذت على أنها أسلوب مرسوم، ولا على أنها طريقة عقلية حرة تبرز بها الفكرات والتأملات، بل أخذت للدلالة على نظريات محددة تفسر بها ظاهرات الكون بالغة من حقارة الشأن أو عظم الخطر ما بلغت.

ومن هنا لا نشك في أن الفلسفة تكون شطرًا عظيمًا من أشطر الفكر خلال القرن التاسع عشر، وقد تكون أشد ما أنتج الفكر أخذًا بالروع، وصرفًا للذهن في سبيل التأمل والاستبصار، على أنها في الحين ذاته أكثر ما أنتج الفكر خضوعًا لبواعث التغيير، وأوسعها للمناقشة والنقد مجالًا. ومع هذا، فإنَّا لا نشك في أن الفكرات الخفية، والاستنتاجات العميقة الغور البعيدة المتناول، لهي الأساس الذي قام عليه هيكل النواتج العقلية والفنية، والمستحدثات العلمية التي شيد نواحيها القرن التاسع عشر.

وعلى هذا، يظهر لكل باحثٍ استعمق في البحث في نزعة الفكر الأوروبي خلال القرن التاسع عشر، أن مباحثه لا بد من أن تنقسم إلى شطرين عظيمين كلاهما يتناول ناحية خاصة، ففي الشطر الأول يجب عليه أن يعتبر الفكر عبارة عن مجرد وسيلة تسلم إلى غاية ما، أو كأسلوبٍ يُتَّخَذُ ذريعة للوصول إلى غرض معين، سواء أكان نظريًّا أم عمليًّا، ولا يؤدي الفكر في هذه الحال من معنًى أكثر من أنه نوع من الاستنتاج العقلي استُخدِمَ في سبيل البحث عن المعرفة، أو عن طريقةٍ تطبق بها المعارف الإنسانية.

ولما كانت كل الاستنتاجات العقلية لا تبدأ إلا بفروضٍ أو أوجه من النظر ندعوها المقدمات أو المبادئ أو القضايا الضرورية، ومن هذه الأوليات تولد أساليب معينة؛ فإن هذا الشطر من البحث ينقسم بدوره إلى قسمين: يتناول القسم الأول تقرير المبادئ، ويختص القسم الثاني بالبحث في الأساليب التي يمضي الاستنتاج العقلي، نظريًّا كان أم عمليًّا، خاضعًا لمؤثراتها.

غير أن الفكر ليس يقتصر أثره في الوجود على زيادة معرفتنا بالأشياء الكائنة، وتطبيق المعرفة على الأغراض العملية؛ فإنه إن اقتصر على هذا وحده لتفرق بددًا ومضى ناقصًا غير تام، بل غالب ما أوحى إلينا بوجوهٍ من التناقض تغشى عقولنا حينًا بعد حين. دليلك على هذا أن الذين يهبون أنفسهم للمباحث العميقة المستفيضة، أو إلى العمليات، غالبًا ما يأنسون من أنفسهم نزعة إلى التغلغل في أوجهٍ من النظر في حقيقةِ الأشياء تتسع أمامهم دائرتها كلما أمعنوا في البحث، في حين أن حاجتهم من البحث لم تكن لتبلغ بهم إلى تلك الحدود القصية التي يسوقون بأنفسهم في غمراتها بلا حاجة إليها؛ فقد يظهر للباحث مثلًا أن الأساليب التي يتخذها لبحثه سبيلًا قد أصبحت معدومة الجدوى والنفع، إن أراد الوصول بها إلى غرض عملي يضعه نصب عينيه، فيساق إلى الشك في تلك المبادئ التي مضى عليها عاكفًا نصف عمره، من غير أن يُداخله الرَّيْبُ يومًا واحدًا في صحة ما تقوم عليه من الحقائق، وفيما ينتظر أن تنتج من الفوائد. وقد يصادف باحثٌ آخر نجاحًا باحتذائه أسلوبًا خاصًّا في البحث، وبذلك تتجدد رغبته في تطبيق ذلك الأسلوب على موضوعاتٍ كانت تعالج من قبله على طريقةٍ مخالفةٍ لطريقته؛ وربما ينهض بذلك الأسلوب إلى درجةٍ يصبح معها قاعدةً عامةً من قواعد الفكر.

وقد يتفقُ لباحثٍ ثالثٍ أن يأخذ به الشغف بتتبع المعرفة في فرعين أو ثلاثة من فروعها تلوح على ظاهرها غير مرتبطة برباط ما، غير أن هذه الفروع إذ تتقارب في ذهن الباحث لا يلبث أن يأنس من نفسه؛ لتقاربها في ذهنه وضعًا، رغبةً في أن يُوَحِّد بينها، ويؤلِّف بين ما تعارض من وجوهها. وقد يبلغ باحثٌ رابعٌ بعد زمانٍ ما إلى حدٍّ من الملل مما عكف عليه من مباحث لم تُؤَدِّ به إلا إلى نواحٍ من العلم محدودة الفائدة، فيسعى إلى التخلص ممَّا عكف عليه طوال عمره؛ ليفوز بناحية أخرى من البحث العلمي أوسع مدى، وأكثر فائدة، وأبعث على الأمل والرجاء.

على أننا إن سلمنا بأن الجهل أو التفريط قد يعوق السواد الأعظم من الناس، الذين لم ينفقوا قواهم حتى في سبيل التنازع للبقاء، عن أن يُكوِّنوا وِجَهًا من النظر تتعدى الدائرة الضيقة التي يلزمونها، وإذا سلمنا بأن الكثيرين منا إنما يعيشون كالأطفال قانعين، موقنين بأن حاجات النوع الإنساني العظمى تدبرها إرادة عُلْوِيَّةٌ لن تبلغ إليها عقولنا، ولن تدركها أفهامنا، فإن في بني الإنسان لَعَدَدًا عظيمًا من أولئك الذين لا يهدأ لهم روع إلا إذا تطلعوا إلى شيء أكرم مما بين أيديهم طبيعة، وأوسع مدى، وأحسن صفة؛ أولئك الذين يعيشون متعطشين للوصول إلى مستكن الحكمة الصحيحة، أو تسوقهم طبيعتهم الثائرة المتوثبة إلى البحث وراء القواعد والأغراض الغائية التي يُشَيَّدُ عليها هيكل الكون والحياة.

•••

لقد أفلحت اللغة في نحت كلمة تعبر عن هذه المحاولات على تعدد مظاهرها، وعلى اختلاف أوجه تطبيقها، وَضَعَتْ لها كلمةَ — «التأمل» Speculation، وهي كلمةٌ تدل على ما تتطلب هذه الأشياء من جرأة وإقدام، وما تبعث عليه من التغرير بالنفس. وُجِدَت تلك الأشياء في كل العصور، وفي كل الأمم، وفي كل اللغات، وعلى الجملة حيثما كان الأدب بارزًا في صورة من العقل أو التخيل، مصبوبًا في قالبٍ من النثر أو الشعر أو الرموز، معبَّرًا عنه في بعضِ الأحيان بمصطلحاتٍ محدودةٍ، وفي البعض الآخر بمجازاتٍ غامضةٍ مبهمةٍ؛ فقد نتصور أن الفلسفة لم تنشأ إلا من طريق تلك الأوليات الغامضة، حيث شرعت العقول تسلكها في نسقٍ يُراعَى فيه أسلوبٌ ما، أو توحدها فتجعل منها كلًّا متماسك الأطراف، مؤتلف النواحي. وعلى هذا نستطيع أن نُعرِّفَ الفلسفة بأنها «الانصراف إلى التأمل على أسلوبٍ مبينٍ محدود؛ للوصول إلى وحدة نظامية»، وقد نقول: بأن العلم والفلسفة هما «التفكير الأسلوبي» Methodical Thought، في حين أنَّ كلمةَ «نظامي» لا تنصرف إلا إلى صور التفكير الفلسفي العميق الذي يرمي إلى بلوغ الوحدة والكمال.

•••

لقد مضينا حتى الآن في تدبر الفكر على قاعدةِ أنَّهُ وسيلةٌ تؤدي إلى غاية، أو بالأحرى نستطيع أن نقول: إننا مضينا نبحث الفكر في نزعته العلمية. والآن نريد أن نتدرج من ذلك إلى بحث الفكر إذ يتخذ الفكر موضوعًا لتأمله؛ أي كقوة تنعكس على نفسها، وتنصرف إلى معرفة ماهيتها وأصلها ونشأتها ونواميسها، وقوة ثباتها، والفحص عن قواها، مع الانصراف في كل ذلك إلى الوصول إلى حدٍّ يتحقق عنده كمالها ووحدتها وبقاؤها، وكل ما في هذا الشطر العظيم من أشطر الفكر سوف نطويه تحت عنوان «الفلسفة»، فكما أننا سنخص القسم الأول من كتابنا: «تاريخ الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر» ببحث الفكرة العلمية، كذلك سنخص القسم الثاني منه ببحث الفكرة الفلسفية.

•••

لقد نشأ العلم تدرجًا من مجمل ما استجمع من ضروب المعارف المدخولة بالخطأ الممسوسة بالفوضى، وما زال الفكر يعالجها برغبته في الوصول إلى الكمال، ونزعته إلى ترتيب المعارف حسب الكفاءات العقلية، واستخلاص أوجه النفع منها، حتى وصل إلى ما نعرف منه في العصر الحاضر. كذلك شَبَّتِ الفلسفة بطريقةٍ مشابهةٍ لهذه، غير أنها شبت من ناحية الفكرة التأملية، برغبة وضع تلك الفكرة على نظامٍ يُتَّبَعُ فيه أسلوبٌ ما؛ ابتغاء الوصول إلى غرض محدد أو غاية بعينها.

ومع كل هذا فلن يسع العلم ولا الفلسفة، ولا كلاهما إن اجتمعا وتمازجا، معنى «الفكر»، ولن يشمل معنى العلم ولا معنى الفلسفة ما يقصد من اصطلاح «الفكر»؛ فإن كلًّا من العلم والفلسفة ينطوي تحت ما يُعنى من اصطلاح «الفكرة الأسلوبية» المنظومة على قواعد معينة، غير أنه لدينا ناحية الفكر المعدومة الروابط والنظم؛ ناحية الفكر المطلقة من الحدود والتعاريف، تلك التي تستتر وراء صور الأدب والشعر والخيال والفن. ولن يظهر لتلك الناحية من أثرٍ في عصرنا إلا في الحياة الفنية أو الأدبية أو الدينية.

وهذه الصور إن كانت من الواقع شعاعًا في الحياة الفنية أو الأدبية أو الدينية، وهذه الصور إن كانت من الواقع شعاعًا منعكسًا على الحياة من أشعة العلم أو نور الفلسفة، إلا أنها، ككل الأشعة المنعكسة، لا تتبع مصدر الضوء الذي ينبعث عنه وجودها فقط، بل تتقدمه في الظهور عادة. إنها ليست العتمة التي تعقب النهار، بل هي فجر المعرفة الذي يتقدم بزوغ الشمس. إنها الشفق الذي ترامت خيوطه المشعة في ظلمه الفكر. إنها الصدفة التي كمنت فيها جرثومة الفكر التي تمخض عنها جنين المستقبل، فيها نشأت بدايات الفن، وأوليات الفلسفة والعلم، التي لم يقف العقل على أسرارها، ولم يحلم بما سوف يكون من نتائجها. إنها لتحيط بأبعد أغوار العقل، حيث هنالك تجد مبعث الفكر وأصله كامنًا في تضاعيف الفطرة، وحيث ترجع بين حين وآخر إلى تلك الأغوار السحيقة لتستمد الحياة كلما أعوزتها الحياة، وتستنزل الوحي كلما أعوزها الوحي، فيزجيها بكل طارف وتليد.

لن يكمل بحث يعنى بتاريخ الفكر في القرن التاسع عشر، أو يبلغ حدًّا يرضي الحق، من غير أن يصرف عناية الاستبصار إلى ذلك العالَمِ الكبير، عالَمِ الفكر المطلق من الأساليب الموضوعة والأنظمة المفروضة، ذلك العالم الذي تُمَثِّلُهُ الآداب والفنون التي تبرز في عصر ما من العصور.

لقد خُصَّ الأدب والفن في القرن التاسع عشر بقسطٍ من الحياة، ونصيب من قوة الابتكار، وسرعة التغاير والانقلاب التابعين لنزعة الفكر. لم ترو عصور التاريخ ما يبزها شأنًا وخطرًا، إلا عصورٌ ثلاث: عصر سعدت به أثينا في عهد «بركليز»، وعصر نعمت به إيطاليا إبان «النهضة العلمية»، وعصر أزهرت فيه إنكلترا تحت حكم «اليصابات»، على أن القرن التاسع عشر قد خُصَّ بقسط من الابتكار الموسيقي لم تبلغ إليه العقول في كل عصور التاريخ، ففي ذلك الفن وحده، على ما يقول الثِّقَاتُ وجهابذة أهل النظر، يبز عصرنا بقية العصور، قوة ابتكار، ووفرة إنتاج، كذلك تجد في الشعر أن «جوته» و«واردسوورث» قد نهضا بالأذواق إلى مستوى أرقى من مستواها الذي ورثته عن القرون الأولى، وأبدع الفكر الفرنسوي والإنكليزي نوعًا مبتكرًا من القصص الخيالي، في حين أن تصوير المناظر الطبيعية، ذلك الفن الذي خلقه الإنكليز، لم يكن معروفًا خلال القرون الأولى.

كل هذه الأشياء، على الرغم من نشوئها مطلقة غير مقيدة بقانون علمي ولا قاعدة فلسفية، وفي الغالب خارجة عن سلطان المدارس والمعاهد، فإنها تشير، بل تدل، على طرق جديدة من طرق التصور العقلي، وتشف عن مجموعة من الفكرات لم يتم نشوؤها، أو هي أتمت من النشوء الفكري قسطًا جزئيًّا. إنَّ كلَّ هذه النواتج لَتَنُم عن مجهود عقلي عميق، وإن لم يمتصه العلم ولم تسغه الفلسفة بعد، إلا أنه ينطوي، جريًا على ما حددنا من ذلك التصور الجوهري، تحت عالم الفكر، أن المعنى المُدرَك منه قد يكون غامضًا ملغزًا، والتعبير الواضح الجلي الذي سوف ينتج ذلك المجهود في الفلسفة والاستنتاج العقلي، قد يكون بعيدًا غير بَيِّنٍ لنا في زماننا هذا، غير أننا مع ذلك لا نستطيع أن ننكر أنه كائنٌ موجود، وما هو إلا مجموع الفكر غير المحدود. هو تلك الأقباس المنيرة المتناثرة المبددة، التي لم نستشف بعد بؤرتها، ولم نعرف بعدُ نقطة ارتكازها، هو تلك الأشياء التي لن نستطيع أن نمرَّ بها ونحن نؤرخ في تاريخ الفكر في القرن التاسع، من غير أن نلقي عليها بنظرةٍ، أو نخصها بعناية البحث، على غموضها.

ليس من الهين أن نعثر على اصطلاح نصرفه على مجموعة الفكر غير الأسلوبي Unmethodical Thought، على تشعبها وتجزُّئها وتفاصُم حلقاتها. لن تعثر لها على اصطلاح مكون من كلمة واحدة كاصطلاح العلم أو الفلسفة، يمكن أن يعبر عن كل ما فيها من معنى، وما تحوي من نزعة.

إلى هنا استطعنا أن نُبين عما لا يمكن أن يصبح من الفكر الأسلوبي يومًا من الأيام، غير أننا مع هذا نشعر بأن ذلك الحيز من الفكر لهو الذي يتضمن أعظم شطر من مصالحنا، وأخص ما يحتك بحياتنا العامة، وأنبل ما نتطلع إليه في الآمال، وما نشرئب إليه بأعناقنا في الأماني. إن العلم ليتمشى في طريقٍ تسلم به شيئًا فشيئًا ليصبح مسألة إحصاء ونسبة، فيكون مهنة لا تُعنى بغير المعمل، وحانوت البيع والمصنع والسوق، وكذلك الفلسفة؛ فإننا نستشم فيها كثيرًا من رائحة المدرسة وقاعة المحاضرة.

وهي فضلًا عن ذلك لَتُمعن في سبيل التكون على صورة مَذْهَبٍ أو قضايا عامة، وكثيرًا ما تعنتنا بالتعاريف، وبالنظر في المجردات، غير أنك تجد أن النسبة والإحصاء والمقاييس والتعاريف، وتجريد الفكر الصرف؛ لتعجز برمتها عن أن ترضي، في ساعة هدوءٍ أو فترة نحسُّ فيها بحاجة ماسة من حاجات الدنيا، مطالب الحياة التي نقع عليها في الدين. وإني لأصرف هنا كلمة الدين كما هي في أصلها وجوهرها، وهي تدل عندي على ذلك الشطر من الفكر الذي يبرز في مجموعة مؤلفات الأدب الخارجة عن مباحث العلم والفلسفة.

هنالك كلمات يكثر أو يقل استعمالها في الأدب الحديث قد تساعدنا على وضع قاعدة نفرق بها بين ما نريد أن نفرق بين بعضه وبعضٍ من نواتج العقل الإنساني، بحيث تؤهل بنا إلى تكوين نظرة أولية تنير لنا السبيل الذي يجب أن نسلكه في بحثنا هذا.

يقال: إن العلم ذو صفات ثلاثٍ، يقال: إنه تام، إيجابي، موضوعي، وإن الفرق بينه وبين صور الفكر الأخرى أن هذه غير تامة، مبهمة، ذاتية subjective. إن العلم ليؤدي للعقل نواتجه أو فكراته في اصطلاحات محدودة بالتعريف، مباشرة المعنى، بينما تجد أن هنالك عالمًا من الأدب والنواتج العقلية غيرَ محدود بالتعاريف، رمزيًّا في قوامه، غيرَ مباشر المعنى والتعبير. إن العلم ليُسلِّم بأن ليس له من دعامة إلا دعامة المعرفة، على أن تكون بيِّنة جليَّة تامَّة الوضع؛ لهذا تجده معاندًا في طبيعته لنواحي الفكر المرتكزة على الآراء والاعتقاد والإيمان.

ولا يغيب عنا أن هذه المصطلحات إما أن تشير إلى الأسلوب الذي يُنتحى في البحث، وإما أن تشير إلى موضوع البحث ذاته. أما العلم فيعترف بأن له أسلوبًا ثابتًا لا يحتمل الجدل، ولا يسع التورط في المسائل الخلافية النظرية. وأما بقية فروع الفكر، فإما أن تستعير أساليبها من الأسلوب العلمي! وإما أن تطبق أساليب متغايرة لم يجمع عليها الإجماع كله، أو تأبى الخضوع لأسلوب ما على وجه عام.

إذا بلغنا هذا المبلغ أمكننا أن نقول بأن وضع حد للتفريق بين موضوعات بحثنا أصبح مستطاعًا؛ فالعلم يتناول كل الأشياء أو الموضوعات التي تطرأ على أذهان السواد الأعظم من الناس، أو تمس مصالحهم. وهي موضوعات قد يبلغ إلى الإحاطةِ بها كثيرٌ من الناس؛ ولهذا يفخر العلم بأن مشاهداته واستنتاجاته خاضعةٌ دائمًا للتحقيق والبحث آنًا بعد آن، لذلك تجد أن شطرًا عظيمًا من المشاهدات والاستنتاجات العلمية قد تؤخذ في أكثر الأحيان على أنها حقائق تامة أُجمع على صحتها وثباتها، فيمضي الذين لا يأنسون من أنفسهم القدرة على تمحيصها وبحثها، أو الذين تقعد بهم الهمة دون فحص براهينها قانعين بأنها أشياء بدهية لا مبدل لها.

غير أن هنالك أشياء كثيرة تقوم في عقل كل فرد من الأفراد، شخصية في طبيعتها، ذاتية في مبعثها؛ ولهذه الأشياء في أنفسنا من الشأن والخطر ما لغيرها من مطالب الحياة وحاجاتها. إن هذه الأشياء لَتُكَوِّنُ المادة الحقيقية التي يتركب منها الفكر الخارج عن ميدان العلم، وهي في جوهرها ومظهرها مناظرة للعلم اليقيني. وفي هذا الشطر من الفكر لا يستطيع شخصٌ بذاته أن يقوم بعملٍ ينتفع به الكثيرون، على نفس الطريقة التي تُحْتَذَى في العلم، فالأخذ بالبرهان في ذلك الشطر مستحيل، والإجماع على شيءٍ فيه لا يضم تحت لوائه إلا عددًا قليلًا من الناس، فالأقوال والنظريات لا يمكن أن تؤخذ في هذا الشطر على أنها حقائق ضرورية لا تحتمل الجدل كما هي الحال في العلم، بل إن كل شخص لا بد في أن يجتاز فيها السبيل الذي اجتازه الذين تقدموه، قبل أن يأنس من نفسه القدرة، أو يجد لنفسه حقًّا، في قبول ما ألقي إليه، أو الانتفاع بثمراته.

إن الصفةَ الوحيدةَ التي تلازم ذلك الشطر من الفكر أنه فردي ذاتي، في حين أن العلم، مهما كانت صبغته، ومهما كان أصله، عامٌّ موضوعي؛ أي غير ذاتي، يرجع إلى الموضوع لا إلى الذات التي تفكر في الموضوع وتفحص عنه، فإذا تمثلت الفكر بشيء ذي طرفين متناظرين، ألفيت أن العلم الرياضي في أحد طرفي الفكر، وأن الدين في الطرف الآخر. وإنك لتجد أن الاتفاق في الطرف الأول صفة متلازمة كالاختلاف في الطرف الثاني.

تلحظ أن وحدة الفكر صفةٌ ثابتة في الطرف الأول، في حين أنك لن تقع لها على ظلٍّ في الطرف الثاني. إنها لم تعرف في الدين ولن تعرف، وإنك إذا أردت أن تُعبِّر عن ذلك بالكلام الدارج لاستطعت أن تقول: إن المعرفة والتحقيق لزامُ الطرف الأول، وإن الإيمان والاعتقاد لزام الطرف الثاني، على أنك فيما بين الطرفين تقع على مسافةٍ كبيرةٍ من الخُلْفِ تفصل بينهما. إن هذه المسافة ليغشاها من الفكر صورٌ تصل بين الطرفين، تبرز حينًا في هيكل من المعرفة، وآخر في مثال من الإيمان؛ فيختلط فيها قليل من الأشياء المحققة، بكثير من الإيمان والاعتقاد المبهم.

تلك المسافة الكبيرة، وهذه المفازة المترامية الأطراف، والتي تتوارد عليها صور التغاير والاختلاف سريعة متعاقبة، هي سكن الفلسفة الحقيقي، ومنبتها الأصلي؛ الفلسفة التي تتناول الحقائق، ولا تأنف من الإيمان، الفلسفة أصل المعرفة، ومنبع الاعتقاد واليقين، الفلسفة حلقة الوصل الواقعة بين الطرفين: طرف العلم اليقيني، وطرف الدين.

ولو كانت كل فكراتنا قائمة على الرياضة الصرفة، راجعةٌ إلى العدد والقياس والتقدير الحسابي، أو كانت دينية صرفة، لا تنظر إلا في مصالحنا الذاتية، ومعتقداتنا الخاصة، لما كان لنا من حاجة إلى وسط يقوم بعبء التفاهم بين الطرفين، ويصل بين المتناظرين، ولما قام في عقولنا خلاف بين الأشياء المحققة، وبين المعتقد الذاتي، غير أننا لا نلبث أن نعكف على القواعد الرياضية، أو نعمل على إبراز معتقداتنا إلى حيز العمل، حتى تدركنا صورتا الفكر الآخريين، وتلزم الاحتكاك بمصالحنا؛ فنشعر إذ ذاك بضرورة الكشف عن نظريةٍ أو مذهبٍ يمنع التصادم بين الأطراف المتباينة، وَيُسَيِّرُ كلَّ الأطراف في طريقٍ يمتنع فيه احتكاك بعضها ببعض. على أن الظروف التي تُنتج مثلَ هذا الاحتكاك إذ تختلف باختلاف حاجات الحياة العملية ومطالبها، وتتباين بتقدم العلم العلمي، كان تغير تلك النظريات والمذاهب ومضيها ممعنة في التطور والتباين أمرًا محتومًا بحكم ذلك.

قد يقال هنا — جريًا على ما تقدم: إن مهمة الفلسفة تنحصر في تدبر تلك الطرق المختلفة التي تطبق بها الأساليب العلمية الصرفة وينتفع بها، أو ملاحظة تلك السبل المتباينة التي تصبح من طريقها المعتقدات الذاتية ذات أثر في المسائل العملية. وهي مسائل تشترك فيها الصبغة الذاتية الخاصة بالصبغة الموضوعية العامة، ولن يستتبع ذلك أن الفلسفة يجب أن تُشَيِّدَ مذاهبَ تامة، غير أنه من الطبيعي، بل من الضروري، أن يُحدثَ استجماعُ عدد كبير من النظريات ومظاهر الفكر العامة نزعةً في النفس إلى التأليف بين ما تخالف منها، والتوحيدِ بين ما تبدد من مجموعها؛ لتصبح كلًّا متماسك الأطراف. بذلك تجد أن التصميم الذي لم يكن في مبدئه سوى شيء انتقادي تمهيدي صرف، والذي لم يكن إلا مجرد وسيلة يُتَذَرَّعُ بها إلى غاية، قد ساق المفكرَ فيه إلى تكوين نظرةٍ شاملةٍ في حقيقة الأشياء؛ أي إلى مذهب فلسفي.

وأنت في أية من الجهات نظرت في الموضوع، فلا بد من أن تقودك خطواتك إلى اعتبارات ثلاثة يتشكل فيها الفكر: الاعتبار العلمي، والاعتبار الذاتي، والاعتبار الفلسفي. فإذا أهمل باحث من الباحثين النظر في اعتبار من هذه الاعتبارات في تاريخ يضعه في تطور الفكر في القرن التاسع عشر؛ فإنه لا محالة فاقد قسطًا من قيمة عمله على قدر ما يكون إهماله.

ولا ريبة في أن هنالك مدارس تصدت لبحث الفكر دمجت العلم في الفلسفة، وأخرى ظلت معتقدة أن لا استقلال بين الفكر في صورته الدينية، وصورته الذاتية، وصورته الفردية، وأن هذه الصور ليست سوى صفات منتحلة لا صفات حقيقية. وهذه النظريات وأمثالها إن حازت قسطًا من الأثر في العقول كبير، إلا أنها لم يكن لها من نصيب في النهاية إلا السقوط والفناء.

وها نحن نجد أنفسنا في نهاية عصر من أطول عصور النقد وأخصبها إنتاجًا، فلا نستطيع أن نحكم بأن عالمًا من عوالم الفكر الثلاثة قد فاز بنصر فاصل على العالمين الآخرين، فلا يزال كل من العلم والفلسفة والدين شرعًا في حكم العقل من حيث الأثر الخاص بكل منها؛ فالعلم لا يزال — كما كان — تلك الصورة الفكرية التي تزودنا بأوجه المعرفة المحققة، والدين لا يزال منبع المعتقدات التي تنزل إلى أبعد أغوار المصالح الذاتية، ولا نزال نجد أن أنفسنا أشد مما كانت شعورًا بالحاجة إلى التوفيق بين ذينك الطرفين بوضع نظريات تُحْتَذَى في الحياة، وتبعد عن العلم بمقدار بعدها عن الاقتناع الذاتي الصرف. وهذا يدلك على أن الحاجة إلى الفلسفة أشد مما كانت في كل العصور الأخرى. لقد شهد القرن التاسع عشر تطورًا عظيمًا وقع في الفكرة العلمية، ونهضة خصت بها الصوالح الدينية، وحياة جديدة بعثها الشعور والنشاط الديني، وهو على الظن الغالب أغنى من كل العصور التي تقدمته بالنظريات الفلسفية وبمذاهب الفلسفة.

لشدَّ ما كان أسفي إذا ألفيت نفسي مضطرًّا لأن أَقْسِمَ الموضوع الذي عكفتُ على الكتابة فيه، وأن أَفصِل بين أجزائه؛ لأن الفكر في مظاهره الثلاثة ليس إلا وحدة، الاضطرار إلى تفضيل بعض مظاهرها على بعض، واختيار نقطة نبدأ منها السير أمرٌ أشعرُ معه بكثير من الأسف. رأيتني مضطرًّا، بحكم الضرورة، لدى أول عهدي بالتأمل في أمرِ الفكر خلال القرن التاسع عشر، أن أُجزِّئ ما هو في الواقع مُتَّحِدُ الأجزاء، مؤتلف النواحي، ولحظت فوق ذلك أني ملزم، كلما أمعنت في بحث مظاهر الفكر، بأن أنتخب من بينها ما هو أكبر خطرًا، وأثمن قيمة؛ لأجعل منه نقطة الابتداء.

على أن الحقيقة أن فكرة التفضيل بين بعض مظاهر الفكر وبعض لم تقع قط في سبيل عملي كقاعدة ثابتة؛ فإني أُسلِّم موقنًا بأن كل مظاهر الفكر تتساوى من حيث الأثر والقيمة، ولا أبتئس إن أنا بدأت بالنظر في مظهر من مظاهره بغير تفضيل ولا اختيار، تاركًا الرجوع إلى المظهرين الآخرين رهن الظروف التي تحيط ببحثي؛ ذلك لأن مظاهر الفكر إن نظرت إليها من ناحية التاريخ والواقع ألفيتها نسيجًا واحدًا مُتلازِمة أجزاؤه كل التلازم، بحيث يتعذر عليك أن تفصل بين خيوطه إلا لتذهب بالصورة الطبيعية للمنسوج في مجموعه.

ذلك في حين أنه ليس من المتعذر أن تضع نفسك في مواضع متباينة إذ أنت مُكبٌّ على التأمل من مظاهر الفكر الثلاثة في القرن التاسع عشر؛ لتتخذ في موضع منها مظهرًا تضعه في قمة البحث، والآخرين في القاعدة؛ فإنك لن تستطيع أن تنكر مثلًا أن المظهر الذي التأم من حوله الفكر الألماني خلال الثلث الأول من القرن التاسع عشر كان المظهر الفلسفي، فإن ذلك العديد الوافر من المذاهب الفلسفية التي تعاقب ذيوعها في ألمانيا لأمر باعث على أشد العجب.

كذلك كان تأثير تلك المذاهب على الأدب والعلم والحياة العملية مقطوع النظير في تاريخ الإنسان، والرغبة في استيعاب المعرفة التي أهابت بطلاب العلم في نواحي الدنيا الأربع ليتوافدوا إلى ألمانيا، فتكتظ بهم قاعات الدرس؛ ليتلقوا عن كبار الفلاسفة الغيبيين، لن تقع على ما يماثلها اللهم إلا في مدارس أثينا في العصور القديمة، أو في قاعة الفيلسوف «أبيلار» Abelard في القرون الوسطى.

فإذا بدأنا البحث بالنظر في هذه النهضة الكبيرة، وكيف نشأت ونمت، وكيف ضعفت وبادت، كان لنا من ذلك تَقْدِمَة حسنة نتطرق منها إلى الكلام في تاريخ الفكر في القرن التاسع عشر، وإذا مضينا بعد ذلك ناظرين في حالة فرنسا الفكرية، وأردنا أن نستخلص منها أشد مظاهر الفكر فيها أخذًا بألبابنا خلال القرن التاسع عشر، وقعنا على مجموعة أسماء أولئك العلماء الأعلام الذين ينزلون في الصف الأول من بين العقول التي أقلتها الأرض في كل عصورها؛ ففي الشطر الأول من القرن التاسع عشر أُلقيت بذور كل فروع العلوم الحديثة في فرنسا على وجه الإجمال، وخضع كثير منها للقوانين والأساليب الرياضية البحتة. وفي فرنسا، عُمِّمَتْ موضوعات العلم تعميمًا ألبسها ثوبًا طليًّا من الأسلوب اللغوي، فبدأت تتغلغل في الإدراك العام، وأنشأت في الأدب والفن مدرسةً حديثةً هي مدرسة الطبعيين.

وإذا قارنت بين الروح الرياضية الطبيعية التي نمت في فرنسا خلال القرن التاسع عشر وبين الفلسفة، وجدت أن هذه لم تسعد بحظ من النشوء كبير؛ فإن النزعة التشييدية التي أنتجتها الفلسفة الخيالية في فرنسا إذ ذاك لم تُستَمَدَّ إلا من المذاهب القديمة: كمذهب «ديكارت» Descartes، و«أفلاطون» Plato، و«أرسطوطاليس» Aristotle، أو من المذاهب الأجنبية عن فرنسا: كمذهب «هيجل» وغيره من فلاسفة ألمانيا الغيبيين. فإذا رجعنا إلى إنكلترا وقارَنَّا بينها وبين فرنسا من ناحية العلم، وألمانيا من ناحية الفلسفة؛ وجدنا أنها قد أصيبت بالعقم العلمي في أوائل القرن التاسع عشر، فإن العلم والفلسفة لم تينع ثمارهما في إنكلترا إلا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وبزَّت في الناحيتين كلَّ شعوبِ أوروبا، ولكن نجدها في أوائل القرن التاسع عشر قد أجدبت كل الإجداب في تكوين مدارس كبرى، سواء أفي العلم أم الفلسفة، فتجد أن مستكشفات العلم العظمى لم تُقْرَن بسوى أسماء مفردة ظلت في عزلةٍ عما حولها غالبًا.
وتلك النظم المدرسية الكبيرة التي يحق للعلم أن يفخر بها في فرنسا، لم يكن لها وجود في إنكلترا، كذلك لم يكن لإنكلترا أقل ضلع في نشر المعرفة العامة في أوروبا إبان القرن التاسع عشر. والفلسفة الغيبية لم تنهض هنالك مطلقًا بعد تلك الضربة التي سدَّدها إليها «دافيد هيوم»، واقتصر التأمل الفلسفي على عِلْمَي الاجتماع والاقتصاد المبتكرين في ذلك العهد، غير أنك تلقاء ذلك تقع في إنكلترا على فكرات أخذت تتكون وتنمو في الأدب الشعري؛ فإن ما كان من قوة الابتكار الذاتي موشاة بلغة «شيلي» Shelley «ووارد سوورث» الشعرية، وما أبرز نبوغ «تنسيون» Tennyson، «وبروننج» Browning من المعاني الناضجة العميقة، هي الأشياء التي تقع في طريقنا كأخص ما فاض به الفكر الإنكليزي خلال القرن التاسع عشر، سواء أَحصرنا وجهة المقارنة بين إنكلترا وبين بقية شعوب القارة، أم بينها في عصرنا مُقاسةً بالعصور التي أينع فيها الفكر الإنكليزي من قبل ذلك.
ولقد نرجع في النهاية إلى ما أنتج أكبر عقل جاد به الشطر الأول من القرن التاسع عشر لِنَسْتَمِدَّ منه نقطةَ ابتداءٍ نرتكز عليها، قد نرجع إلى كتاب «فوست» Faust الذي أخرجه نابغة النوابغ «جوته»، قد نرجع إليه لنتخذه مثالًا لأعمق ما جاد به القرن التاسع عشر من صور الفكر، بما فيها من الشكوك والآمال؛ إذ ينتقل بك كاتبه من تيه الفلسفة الموحش إلى ميدان العلم الطبعي الفائض بالنور، المحفوف بالإيناس والطمأنينة، أو يأخذ بيدك إلى أقصى أغوار الحياة الفردية المستورة وراء ظواهر هذا العالم؛ ليقذف بك إلى مطمأن المعتقد الديني والإيمان وما فيه من الأسرار الخفية المحيطة بطبيعة الخطيئات، والرجوع عنها إلى التوبة والاستغفار.

على أننا من أية من تلك النقط نبدأ سفرنا الطويل، وعلى أية من بؤرات الارتكاز، تقع أبصارنا لدى أول نظرةٍ نلقيها على ما بين يدينا من ذلك الميدان الفسيح الذي نريد أن نستكشف نواحيه، نجد أن هنالك مظهرًا واحدًا يتحيز في عقولنا منذ البدء، سرعان ما يلقي في روعك أن ذلك الميدان الفسيح ليس بالجنة التي تطمع فيها بالسكينة والهدوء، وليس هو بالمكان الذي تؤمل أن تزود فيه بمهيئات العمل الهادئ الذي تبذر بذره، وتجمع حصاده بِدِعةٍ ولين، وليس هو مَنْبَتًا للتعاون واقتسام العمل الذي تظفر فيه بالسلام البعيد عن خشونة الصراع والجلاد.

إنه لميدان أشبه ما يكون بأرضٍ تناولتها القواتُ العنصرية بالتخريب، وانتابتها الزلازل العتية بعواصف التدمير، فتركتها شوهاء لا تُفرِّق بين صعيدها والأخدود. وإنك لتعثر فيه فوق ذلك على بضعة أناس أخذوا على عواتقهم أن يسدوا منه فجوات أحدثها الماضي، ونقائض خلفها السلف، وآخرين آخذين في تشييد أسس جديدة على قواعد جديدة، وتقع على غير أولاء وهؤلاء فتجدهم متنابذين متصارعين على حيازة الملك أو اقتسام التراث، حتى أولئك العمال الوادعون في مصانعهم لن تتركهم طبيعة المجتمع الحافِّ بهم آمنين، بل تدعوهم الظروف إلى الاشتراك في تلك المعارك، أو تهزهم شكاوى الذين يجاورونهم من مظالم أهل السطوة والجاه فَيَهُبُّونَ من مراقدهم عطشى صراع، ويرتدون كَلْمَى هزيمة وانكسار.

أما إذا أردنا أن نتدبر السبب في ذلك القلق السائد في المجتمع، والذي ظل بَيِّنَ الأثر في الحياة طوال القرن التاسع عشر، فالواجب يدعونا إلى أن نرجع النظر كرة إلى العصر الذي تقدمه؛ لنجد أن عاصف تلك الثورة الهوجاء الذي عصف على أوروبا فَدَكَّ كلَّ النظامات السياسية والاجتماعية، هو الذي ترك ذلك الأثر الظاهر في آرائنا وأفكارنا، من أية ناحية نظرت فيها، وعلى أي الوجوه قبلتها. إن ذلك العصر الذي نشير إليه قد دعي بحق عصر الثورة. أما إذا لم أعتبر أن الفكرة في القرن التاسع عشر مع كل هذا فكرة ثورة وانقلاب؛ فذلك لأن التقويض والهدم تابعان لعصرٍ فرط وانقضى، وأن فجر القرن التاسع عشر قد تُوِّجَ بالرغبة في البناء؛ إما بتشييد الأسس الحديثة، وإما بالرجوع إلى صور الفكر القديمة، ومظاهر الحياة التي خلفتها القرون الأولى؛ لتُزكى ببراهين ودلائل مستحدثة، أو لتبرز في ثوب يسدل على معنى جديد، أو منفعة محققة.

كان الفكر في القرن التاسع عشر من الناحية العلمية أساسي طبعي من جهة، ورجعي من جهة أخرى. ولست أقصد بأنه أساسي طبعي، إلا لما كان فيه من نزعة البناء والتشييد، التي تغلغلت إلى صميم الأشياء لتتخذ مما تعثر عليه من المواد وسيلةً لإقامة هيكل العلم على أرضٍ بِكْر، كما أني لا أقصد بأنه كان رجعيًّا إلا لِمَا آنست فيه من شتى المحاولات الميئسة التي اعتمدت على النظم التاريخية والعقائد، ومضت في تلك السبيل عاملةً للعثور على ما فيهما من حقيقةٍ، وما لهما من قيمةٍ في الحياة الإنسانية، وما يتضمنان من خطر وشأن في علاقتهما بالقرن التاسع عشر.

إن عوامل الهدم والتقويض لا تزال قائمة بفئوسها ومعاولها، فإننا لا نزال نرى الروح الثورية قائمة فَتِيَّةً في عصر التأسيس والبناء، فإن الحياة الجديدة المملوءة بكل بواعث القوة التي بثها «برنز» Burns، و«واردسوورث» و«كوليردج» في الشعر الإنكليزي إبان القرن التاسع عشر، قد عاقتها الروح الثورية التي خصت بها مدرسة «بيرون» The School of Byron عن الانبعاث في سبيل النشوء، بل سممتها، كذلك تجد أن الفكرة الحديثة التي شبت وترعرعت في فلسفة «كانت» والمدرسة المثالية Idealistic قد انحطت خلال تعاقب الصور التي توالت عليها إلى «مادية» جوفاء، «ولا أدرية» لا تترقب وراءها من أمل ولا رجاء.

إنك لن تجد عاملًا من تلك العوامل المهدمة المقوضة — على ما بعثت في الأنفس خلال تعاقبها من لذة وفتنة — قد أنبتت متجهًا حديثًا اتجه فيه الفكر، وكل من أراد أن يدرس أوجه التدليل التي تهدمت بها النظامات الاجتماعية، أو نقضت بها المعتقدات التي طالما أعزها الناس، فلا بد من أن يرجع إلى ما كتب مؤلفو القرن الثامن عشر، الذين صبُّوا براهينهم وأدلتهم في قالب من القوة والسلاسة، ظل المنهل الفائض الذي اعتل منه فوضويو القرن التاسع عشر زمانًا طويلًا. ولقد نسج على منوالهم من كُتَّابِ زماننا فئةٌ خُصَّت بأوسع شهرة وأعظم منزلة.

كذلك ليس من قصدي أن أصف تلك الطرق التي تذرعت بها الحكومات والسياسيون ابتغاء صد الأمم عن مطالبها الشرعية، تلك الطرق التي انتهت في أمريكا بإعلان الاستقلال، وفي فرنسا بصيحة الثورة الكبرى، فإنه لم يتحقق من مجموع الأمثال العليا التي أبرزتها تلك الحركة الكبيرة إلا جزءًا ضئيلًا في إنكلترا. ولقد صد الانصراف إلى تحقيق الوحدة القومية، أو الصراع ابتغاء الاستقلال السياسي كثيرًا من أمم أوروبا عن الانبعاث في سبيل الإصلاح الداخلي.

ولم يتفق النظريون على أيٍّ من النظامات الاجتماعية تستطيع الحرية والمساواة أن تقوما لتعيشا في جو واحد، على أن تعاليمهم لا بد من أن تسترعي شطرًا من انتباهنا وعنايتنا باعتبارها صورةً من صور الفلسفة العديدة التي أنتجها الفكر في القرن التاسع عشر، غير أن هنالك فجوة سحيقة تفصل بين النظريات الاجتماعية والسياسة العملية، سدت فراغها الحروب والمداهنات السياسية، أو قنعت بأن يملأ خلاءها الكائنَ بَيْنَ النظر والعمل ضروبٌ من التوفيق مضت عاملة على التأليف بين النظامات التي خلفتها القرون الأولى، وبين مهاترات العصر الحاضر من جهة، وبين هذه وبين صيحة الأمم المطالبة بحقها المشروع في الحرية من جهة أخرى.

وعلى الرغم من أن جزءًا كبيرًا من الفكر العملي مصحوبًا بكثير من الجهد قد أُنفق في سبيل الوصول إلى تلك النتائج؛ فإني أعتقد أنها خارجة عن موضوعي الذي رسمته لنفسي، فحيثما خرجت الفلسفة أو العلم عن ذلك الجو الهادئ؛ جو الدرس الجدي، أو تخطيا جدران قاعات المحاضرة ومعامل البحث، إلى خلافات العوام وجدلهم، وحيثما خرج الدين عن أغوار النفس المعتقدة المؤمنة المخلدة لأسرار الغيب؛ ليكون وسيلة لحل معضلات الحياة البشرية، أو آلة لأداء الواجبات اليومية؛ فهنالك أمسك عن النظر فيها، لأنها بذلك تكون قد خرجت عن الحدود التي ألزمت نفسي السكون إليها، والوقوف عند حدودها.

وليس من معنى هذا أني لا أسلم بوجود ذلك الحيز الذي تُخضع فيه الروحُ المادةَ وتتغلب عليها، والذي يكون الفكر فيه ذا نفع مادي، والذي قد تنقلب فيه الفكرات إلى حقائق ثابتة: حيز الجلاد والجهاد؛ حيز الصبر على العمل والانتصار التدرجي الذي تتم أسبابه حالًا بعد حال في هدوء وتسلسل؛ فإنه لحيز أعتقد أنه من أخطر ما يتناوله التاريخ بالإثبات، وأنه الحيز الذي أنبت فيه القرن التاسع عشر ما لم يسعد به عصر من العصور الماضية. لست أقصد شيئًا من هذا، بل أقصد أن النظر في هذا الحيز من حياة القرن التاسع عشر لا يأتي تامًّا مع قصرنا البحث على ثلاثة الأمم الرئيسة التي أخذت من عالم الفكر بضلع وافر.

•••

إن ذلك العالم الداخلي ليس بعالم الوداعة والسلام والنشوء الهادئ؛ فإنك لن تقع على عصر أخصبت فيه العقول في إنتاج كثير من النظريات المتناقضة؛ أو كان أكثر تحطيمًا للآراء والفكرات العتيقة، أو أشد تقويضًا للمبادئ التي ظلت قائمة ثابتة دهورًا طويلة، من القرن التاسع عشر، على أنني سأظل أمينًا على المبدأ الذي اعتنقته، مبدأ أن أنظر في الفكر من ناحية أنه قوة تشييدية، لا كعامل تقويضي.

أريد أن أنظر في عالم الفكرات كشطرٍ مما كسب العقل من قوة اليقين، وليس كظل متحول من ظلال الوجود المادي، وإني لأعتقد اعتقادًا حقًّا بأن العقل الإنساني مهما استعان بالمنبهات الخارجة عن حيزه لينمو وينشأ، ومهما عجز عن التقدم بغير أن يستمد من مصححات القوى الخارجية، فإنه في حياته الفردية والاجتماعية يتضمن نبعًا مستقلًّا عن كل الوجود الخارجي يفيض دائمًا بالحقائق ذات الآصرة بالأشياء المحسوسة، وبالفكرات على اختلاف ضروبها، وتباين ألوانها.

لذلك سوف أعمل وأجاهد لكي أجعل روايتي في الفكر خلال القرن التاسع عشر دائرة حول النظر في الفكرات التشييدية التي أبرزها العقل خلاله، غير غافل عن الكلام في الأساليب التي احتذاها البحث، ولا صور الفكر التي أدت إليه، ولست أقصد بالفكرات التشييدية إلا أمثال الفكرة في «نشاط» المادة أو «بقاء القوة» وتوزعها، وقانون المتوسطات والإحصاء والتغليب، وفكرات «دروين» Darwin و«سبنسر» في النشوء علميًّا وفلسفيًّا، ومذاهب «الفردية» و«الذاتية»، ونظرة «لودز» الخاصة في عالم «القيم»، على أن حول هذه الأشياء تتراكم صور النقد التي تحاول نقضها، والمسائل الخلافية التي تنبتها عقول المُغالين في المحافظة على القديم.

غير أنني سوف لا أتناول بالبحث من مجمل ما نبذت به أقلام المحافظين الثابتين على مغالاتهم في التمسك بالآراء العتيقة إلا ما كشف لنا منها عن أصول الخطأ المتغلغلة في تضاعيف الفكرات الحديثة، أو ما نزل منها إلى أبعد أغوار المبادئ والفكرات المبتكرة ليزيدها ثباتًا وحقًّا، أو ما يكشف منها عن أساليب جديدة تساعدنا على تحقيق القواعد التي نعكف عليها. إن هذه لهي الروح التي بثها الفيسلوف «كانت» في الفكر الحديث. أما ما يناقض تلك الروح من نزعات المتطرفين المغالين الذي يهدمون ولا يشيدون، الذين قعدت بهم الهمة عن بلوغ مرتكز ثابت يرتكزون عليه، على اعتقاد أن الفكر الإنساني وقوة المشاهدة المنبثة في العقل ليست سوى خيال ووهم؛ فأولئك سوف أمرُّ عليهم مرًّا لا أُعيرهم فيه شأنًا ولا انتباهًا. ذلك خير ما تفعل إزاء فلسفة جوفاء عدمت كل معنى من معاني الحياة.

ولا يفضلهم في نظري أولئك المحافظون على القديم الذين ينتقصون كل تقدم، مُحاوِلين إخفاء ضوء النهار وراء الظلمة التي تنبعث من أقلامهم، ويبشرون بمذهب «الاستمرار» في الفلسفة؛ ذلك المذهب الذي ينكر كل تقدم صحيح في العالم الإنساني، غير أن هذا كله لن يعوقني عن الاعتراف بما كان لبعض الحركات الرجعية من نفع وفائدة؛ فإن «الفلسفة التخيلية» Romanticism بما كان فيها من حب الماضي، وما أبرزته مثالياتها من تلك الصورة الفنية المحكمة التي صورت بها الإنسانية في طفولتها وغرارتها، ومظاهر الحياة في فطرتها الأولى، وإكبابها على دراسة حالات القرون الوسطى، وما كونت من كفاءات القياس التاريخي، كل هذه الأشياء كانت لها فوائدها، رغم طبيعتها الرجعية. سوف أبذل جهدي لكي أجيب دائمًا على مَن يُسائِلُني: أي شيء أضاف القرن التاسع عشر إلى مجموعة ما أنتج العقل من فكرات؟ وأي كسب نالنا من ذلك الجهد العظيم؟ مقتنعًا بأن كل شيء فيه صفة الحياة لابد من أن ينمو ويزيد ويتضاعف. وأي شيء فيه من صفات الحياة الحقيقية ما في الفكر؟
على أن مدرسة «النقد الفكري» التي وضع أساسها الفيلسوف «كانت»، والمدرسة «التخيُّلية» التي تركزت حول عقل «وولتر سكوت» Walter Scott والتخيليين الألمان، إن كانتا أخص ما أنتج الفكر في القرن التاسع عشر؛ فإني لأعتقد أنهما لا تصلحان أن تتخذا قاعدة أولية يبتدئ منها باحث يريد أن يؤرخ في عالم الفكر خلال القرن التاسع عشر. إن أخص ما يجب أن ينصرف إليه كل من تصدى للبحث في ذلك العهد: أن يسوق بحثه متخذًا من مذهب «هيجل» في «نشوء الفكر بالقوة الذاتية» مرصدًا يرصد منه الفكر؛ ليخلص من بحثه بنتيجة تحقق لدى المفكرين مقدار ما في هذا المذهب من حق، وما ينطوي عليه من صواب.
١  كتاب تاريخ الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر.
٢  القرن التاسع عشر.
٣  سانت بوف (١٨٠٤–١٨٩٦) لم يكتفِ بفهم الأدب من البيئة، أو من العوامل الأخرى، بل أراد أن تكون صلة الأدب بين الكتاب أنفسهم وبين أمزجتهم وخواصهم النفسية والعقلية.
٤  دي بونالد ١٧٥٤–١٨٤٠.
٥  كتاب موللر «علم الفكر» عام ١٨٨٧.
٦  في الأصل: القتيعة، والصواب ما ورد في المتن كما يقتضي السياق «المحرر».
٧  فيثاغورس ومدرسته أول من نسب للعدد خواص سرية في عصور الفلسفة اليونانية.
٨  السيار الذريري في الطبيعيات هو الجوهر الفرد السابح في الأثير. ويقصد بذلك المُؤلِّفُ أنَّ الحوادث العظمى في عالمِ الفكر أشبه الأشياء بالسيار الذريري الذي يهزُّ بحركته كل القوى المتصلة به «معرب».
٩  هذا المصطلح في الألمانية يقابله في الإنكليزية enlightment بمعنى تنوير — حلقة التنوير الفلسفية «في القرن الثامن عشر» «المحرر».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤