الشعر والوجدان الفردي

من المؤكد أن الرومانسيين قد وضعوا للشعر الغنائي فلسفته النهائية عندما أخرجوه عن دائرة المحاكاة، وقالوا إنه تعبير عن الوجدان الفردي للشاعر بحيث نستطيع أن نقول إن جميع المذاهب الأدبية التي تلت الرومانسية لم تستطع أن تُغيِّر جوهر تلك الفلسفة؛ فقد ظل الشعر الغنائي منذ ذلك الحين حتى اليوم شعرًا وجدانيًّا، فالرمزية لم تهاجم الطابع الوجداني للشعر الغنائي، بل أرادت أن تُغيِّر من فلسفة التعبير، فتستعيض بالصور عن التقرير المباشر، ولا تأتي بالتشبيهات والاستعارات والمجازات لجامعٍ شكلي بل لجامعٍ نفسي؛ أي كوسيلة للتعبير عن انطباعات النفس لا عن مظاهر الشكل الخارجي، والسيريالية لا تغفل الوجدان الفردي، بل تحاول أن تغوص إلى أغواره لتكشف عن عالم اللاوعي ومكبوتاته، والمذهب التعبيري يستهدف هو الآخر إبراز انطباعات النفس المتولِّدة عن مشاهد الطبيعة أو عن تجارب الحياة.

أما الواقعية والطبيعية اللتان تُعتبران امتدادًا لنظرية المحاكاة الأرسططالية فقد انحصرتا في فنون الأدب الموضوعية كفن القصة وفن المسرحية، وأما الشعر الغنائي فقد ظل دائمًا وجدانيًّا حتى في الآداب التي يطغى عليها التيار الواقعي، وإذا كان أديبٌ كبير مثل مكسيم جوركي أو كوموجو الصيني يؤكدان أن الأديب الكبير لا بد أن يجمع بين الرومانسية والواقعية، فأكبر الظن أن رأيهما هذا ينصرف قبل كل شيء إلى الشعر الغنائي باعتبار أن الوجدان لا بد أن يكون منبع هذا الشعر، وإن كان يتحوَّل في ظل الاتجاه الواقعي العام من وجدانٍ ذاتي أناني إلى وجدانٍ جماعيٍّ غيري، ولكنه يظل دائمًا وجدانًا فرديًّا منبعثًا عن ذات الشاعر الذي قد يُدرك في ظل الواقعية الاشتراكية أن ذاته غير منفصلة عن مجتمعه وبيئته وطبقته الاجتماعية، وأن معظم هذا الوجدان متأثر بمحيطه ومؤثر فيه، وطبيعة الشعر الغنائي الوجدانية هي أيضًا التي تدفع أديبًا فيلسوفًا كبيرًا صاحب مذهبٍ عالمي كجان بول سارتر زعيم الوجودية إلى أن يؤكد في كتابه «ما هو الأدب» أن الشعر الغنائي لا يمكن أن يخضع لمبدأ الالتزام الذي يريد سارتر أن يأخذ به فنون الأدب الأخرى كلها وبخاصة الموضوعية منها، كفن القصة وفن الأقصوصة وفن المسرحية.

•••

فعندما نادت الرومانسية بأن الشعر تعبير عن الذات الشاعرة وبخاصة عن آلام الشاعر وشكواه من قيود الحياة الاجتماعية ولهفته إلى الانطلاق والتحليق، حتى قالوا إن خير الشعر ما كان أنَّاتٍ خالصة، انتشرت هذه الدعوة، وسط ظروف الحياة القاسية التي انبثقت منها، انتشار النار في الهشيم حتى عمَّت الإنتاج الأدبي كله، وسرعان ما انتهت إلى المبالغة والإسراف؛ فاستحال الشعر عند صغار الرومانسيين المقلِّدين إلى افتعالٍ عاطفي وهلوسةٍ روحية وتهويمات أثيرية وهروب من الحياة أو انطواء قاتل على الذات، ووسط كل هذه الاندفاعات أُهمل التجويد الفني في وسائل التعبير، بل أُهدرت في أحيانٍ كثيرة القيم الفنية والجمالية للأدب كله، حتى انحدر التعبير إلى مستوى التقرير المباشر الضحل القليل الإيحاء، القريب الغور.

وقد أحدث هذا الإسراف في التيار العاطفي من الحياة والمحلِّق في أوهام الخيال دون اهتمام كافٍ بالناحية الفنية الجمالية للشعر، حتى لكأنه قد أصبح مجرَّد وسيلة للتعبير عن الذات الفردية، أحدث ردَّ فعل مزدوج، فإلى جوار الرومانسية ظهر خلال القرن التاسع عشر المذهب الواقعي الذي يطالب بأن يُسلِّط الأديب طاقته الخلَّاقة على واقع الحياة؛ لينتزع منه التجارب البشرية التي يريد أن يصوغها أدبًا، وذلك لينصرف الأديب عن ذاته إلى موضوعه، ولكنه من الواضح أن هذا الاتجاه الواقعي لم يكن من الممكن أن يتسلَّط إلا على فنون الأدب الموضوعية كالقصة والمسرحية، وأما الشعر الغنائي فلم يستطع هذا التيار أن ينفذ إليه؛ ولذلك لا نكاد نجد شعرًا يمكن أن يوصف بالواقعية بمعناها الفلسفي المحدَّد، وإنما نجد قصصًا ينطبق عليها هذا الوصف كقصص «بلزاك وزولا»، كما نجد مسرحيات مثل مسرحيات «هنري بيك» وأقاصيص «جي دي موباسان».

وأما رد الفعل الذي كان له أثره في مجال الشعر الغنائي فقد كان فيما نادى به «تيوفيل جوتييه» وجماعته التي انسلخت عن المعسكر الرومانسي، ونادت بأن الشعر لا يجوز أن ينظر إليه كوسيلة لغايةٍ أخرى حتى ولو كانت تلك الغاية هي التعبير عن ذات الشاعر؛ لأن الشعر في رأيه فنٌّ جميل يعتبر غاية في ذاته، وهذا هو مذهب «الفن للفن» الذي يقول بأن الشعر خُلق لقيمٍ جمالية تُنحَت من اللغة، حتى لنحسُّ في قصيدة «الفن» لجوتييه، وهي القصيدة التي تُعتبر إنجيل هذا المذهب، بأن جوتييه لا يُفرِّق بين الشعر والنحت؛ فهو يطالب الشاعر بأن ينحت من اللغة أبياته، وأن يختار من مادة اللغة أصلبها، كما يختار النحات من الرخام أصلبه، ولا يزال يصارعه حتى يلين بين يديه ويخضع للصورة التي يريد أن ينحتها فيه؛ حيث يقول للشاعر:

انحت وابرد وشكِّل حتى يستقرَّ حلمك الطافي في الصخرة الصلبة.
ولقد أثبتت التجارب الشعرية لأصحاب هذا المذهب أنه لا يستقيم إلا في فن الوصف الشعري الذي يقوم على نحت صورٍ لغوية تُجسِّد المرئيات، وهذا هو الاتجاه الذي استقر عليه الجيل التالي لجوتييه، وهو الجيل المعروف باسم «البارناسيين» نسبة إلى جبل «البارناس» الذي كانت تستقر فوقه آلهة الشعر في بلاد اليونان الأقدمين حسبما تحكي أساطيرهم، وقد تزعَّم هذا الجيل في فرنسا الشاعر «ليكونت ديليل» الذي كان يرى أن الشعر تجسيم بواسطة الصور اللغوية ووصفٌ شعري جمالي للمرئيات، وهذا هو الاتجاه نفسه الذي غلب تلقائيًّا على فن الوصف عند شعراء العرب الأقدمين وبخاصة في عصر الجاهلية وصدر الإسلام وهو الاتجاه الذي يسمِّيه نقادنا ودارسو أدبنا القديم بالوصف الحسِّي، كما أنه الاتجاه الذي بنى على أساسه رواد التجديد في شعرنا العربي المعاصر حملتهم على الشعر التقليدي والشعراء المقلِّدين بزعامة أحمد شوقي؛ حيث نرى الأستاذ عباس محمود العقاد يُوجِّه النقد العنيف إلى أحمد شوقي في كتاب «الديوان» الذي اشترك العقاد في تأليفه مع المازني قائلًا:

اعلم أيها الشاعر العظيم أن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء، لا من يُعدِّدها ويحصي أشكالها وألوانها، وأن ليست مزية الشاعر أن يقول لك عن الشيء ماذا يشبه، وإنما مزيَّته أن يقول ما هو ويكشف عن لبابه وصلته بالحياة، وليس همُّ الناس من القصيد أن يتسابقوا في أشواط البصر والسمع، وإنما همُّهم أن يتعاطفوا، ويودِع أحسُّهم وأطبعُهم في نفس إخوانه زبدة ما رآه وسمعه، وخلاصة ما استطابه أو كرهه، وإذا كان وكدك من التشبيه أن تذكر شيئًا أحمر ثم تذكر شيئين أو أشياء مثله في الاحمرار فما زدت أن ذكرت أربعة أو خمسة أشياء حمراء بدل شيءٍ واحد، ولكن التشبيه أن تطبع في وجدان سامعك وفكره صورةً واضحة مما انطبع في ذات نفسك، وما ابتدع التشبيه لرسم الأشكال والألوان، فإن الناس جميعًا يرون الأشكال والألوان محسوسة بذاتها كما تراها، وإنما ابتدع لنقل الشعور بهذه الأشكال والألوان من نفس إلى نفس، وبقوة الشعور وتيقُّظه وعمقه واتساع مداه ونفاذه إلى صميم الأشياء يمتاز الشاعر على سواه؛ لهذا لا لغيره كان كلامه مطربًا مؤثرًا، وكانت النفوس توَّاقة إلى سماعه واستيعابه؛ لأنه يزيد الحياة كما تزيد المرآة النور نورًا، فالمرآة تعكس على البصر ما يضيء عليها من الشعاع فتُضاعِف سطوعه، والشاعر يعكس على الوجدان ما يصفه فيزيد الموصوف وجودًا إن صح هذا التعبير، ويزيد الوجدان إحساسًا بوجوده.

وصفوة القول أن المحك الذي لا يخطئ في نقد الشعر هو إرجاعه إلى مصدره، فإن كان لا يرجع إلى مصدرٍ أعمق من الحواس فذلك شعر القشور والطلاء، وإن كنت تلمح وراء الحواس شعورًا حيًّا ووجدانًا تعود إليه المحسوسات كما تعود الأغذية إلى الدم ونفحات الزهر إلى عنصر العطر فذلك شعر القشور والطلاء، وهو شعر الحواس الضالة والمدارك الزائفة، وما أخال غيره كلامًا أشرف منه بكم الحيوان الأعجم.

ولسنا ندري هل كان الأستاذ العقاد يهدف إلى وسائل التعبير الرمزي وطرائقه عندما كتب هذه الفقرة وأمثالها أم لا؟ ولكننا نعرف اليوم على ضوء المذاهب الأدبية المعروفة في الغرب أن مثل هذه الفقرة كان من الممكن أن تجري على لسان أي ناقد أو شاعر رمزي ضد جماعة «البارناس» أنصار الوصف والتجسُّم الحسِّيَّين اللذين يغلبان — كما قلنا — على منهج الوصف في الشعر العربي القديم، وعلى فلسفة المجازات والاستعارات والتشبيهات في علم البيان العربي.

والواقع أن الشعراء لم يلبثوا أن أحسُّوا بأن مذهب الفن للفن ومذهب البارناسيين اللذين يستهدفان نحت الصور الجمالية الحسية من اللغة لم يعودا يكفيان حاجات الروح الشاعرة، فإحساساتنا الجمالية هي وحدها التي يمكن أن تطرب لهذا النوع من الشعر، وأما حاجاتنا العاطفية والانفعالية فإنها تظل ظمأى؛ ولذلك لم يلبث أن ظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر المذهب الرمزي، وهو مذهب يُعتبر وجدانيًّا خالصًا، وإن اختلف عن المذهب الرومانسي في أنه يفضل أن يعبر الشاعر عن حالاته الوجدانية وتجارب حياته بواسطة الصور التي ترمز لتلك الحالات، وتوحي بها وتنقل العدوى من نفس الشاعر إلى غيره من النفوس المتلقِّية، وعلى الأساس نفسه نراهم يطلبون إلى التشبيه والمجاز أن يعين على نقل العدوى من نفس إلى نفس بأن يكون الجامع فيه وحدة الأثر النفسي بين المشبه والمشبه به، ولو كان من عالَمَين مختلفَين من عوالم الحسِّ الظاهري.

وإنه لمن الخير أن نشير هنا إلى أن هذا الاتجاه الجمالي المحدد والقائم على أساسٍ فلسفي معيَّنٍ قد وقع عليه أيضًا عدد من شعراء العرب الأقدمين بطريقٍ تلقائي، فنجد شاعرًا قديمًا كذي الرمة يلجأ أحيانًا إلى التعبير عن تجربته العاطفية، وحالته الوجدانية إلى طريق الصورة بدلًا من التعبير المباشر؛ فقد يأتي يومًا إلى ديار الحبيبة، فيجد الأهل قد رحلوا عن الديار وتركوها قاعًا صفصفًا فلا يصرخ ولا يولول ولا يبكي ولا يستبكي، بل يكتفي في التعبير عن وجدانه بصورة ربما تكون قد وقعت له فعلًا، وربما يكون قد استمدَّها من طاقته التصويرية، ولكنها في الحالتين قوية الدلالة شديدة الإيحاء، كما أنها تجمع بين عمق التعبير الفني وبين التصوير الجمالي، وبذلك تشبع حاجتنا العاطفية وإحساسنا الجمالي معًا؛ حيث يقول:

عشية ما لي حيلة غير أنني
بلقط الحصى والخط في الترب مولع
أخط وأمحو الخط ثم أعيده
بكفي والغربان في الدار وقَّع

وليست هذه الصورة فريدة في الشعر العربي القديم الذي نستطيع أن نعثر فيه على الكثير من أمثالها، مثل قول المجنون:

كأن القلب ليلة قيل يُغدى
بليلى العامرية أو يُراح
قطاة عزَّها شرَك فباتت
تعالجه وقد علق الجناح

وقوله:

وداعٍ دعا إذ نحن بالخيف من منى
فهيَّج أحزان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما
أطار بليلى طائرًا كان في صدري

ثم قول كثير عزة:

وأدنيتني حتى إذا ما سبيتني
بدَلٍّ يحل العصم سهل الأباطحِ
تجافيتِ عني حين لا لي حيلة
وخلَّفْتِ ما خلَّفتِ بين الجوانحِ
وقد علق الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في الكتيب الذي كتبه عن الشعر سنة ١٩١٨ كواحد من ثلاثة من رواد التجديد في الشعر العربي الحديث وهم: المازني، والعقاد، وشكري في صفحة ١٨ من ذلك الكتيب بقوله:

هذان بيتان ليس فيهما معنًى رائع ولا فكرٌ دقيق، لكنهما يصفان حال قائلهما أبلغ وصف، ويتغلغلان إلى النفس تغلل الماء إلى كبد الملتاح، وإنما يرجع الفضل في ذلك إلى قوة الخيال. وشرح ذلك أن الشاعر لم يتجاوز الإشارة في بيتَيه إلى التبيين، والتلميح إلى التصريح، فذكر الدَّلَّ ولم يذكر كيف دلُّها، وإن يكن مثَّل لك فعله وتأثيره، وقال «وخلَّفتِ ما خلَّفتِ بين الجوانح» ولم يقل ماذا خلَّفَتْ، فترك بذلك مضطربًا واسعًا من الخيال ليتصوَّر لطف دلِّها وسحره وفتنته وصبابة الشاعر وشغفه وحرقته، وسائر ما ينطوي تحت قوله «وخلفت ما خلفت» فجاءا بيتَين كلما زدتهما نظرًا وترديدًا زاداك جمالًا وحسنًا. ولو أن الشاعر أراد الإحاطة بجميع ما خلفت، لكلَّف نفسه أمرًا شديدًا إذا لانت لها جوانبه كان استيعابه هذا قيدًا للخيال وحملًا ثقيلًا يرزح تحته وينوء به؛ لأن الشعر يلذُّ قارئه إذا كان للمعاني التي يثيرها في ذهن القارئ في كل ساعة تجديد، وفي كل لحظة توليد، فأما ما يأخذ على الخيال مذهبه، ولا يترك له مجالًا فهذا هو الغثُّ الذي لا خير فيه؛ لأن حالات النفس درجات، فإذا أنت صوَّرت أقصى درجاتها لم تُبقِ للخيال من عمل إلا أن يسفَّ إلى ما هو أحطُّ وأدنى، ولذة الخيال في تحليقه، ومن هاهنا قالوا في تعريف الشعر إنه لمحة دالَّة ورمز لحقائق مستترة. يعنون بذلك أن الشاعر ليقذف بالكلمة فتأخذها الأسماع وتعيها النفوس، ويستوعب معانيها الخيال.

وبهذا التعليق وأمثاله تتحقق الفلسفة الشعرية التي نادى بها هؤلاء الرواد، وهي فلسفة أقرب ما تكون إلى فلسفة الرمزية التي لا ترى أن وظيفة الشعر هي استنفاد كل ما في وجدان الشاعر وسكبه في وجدان الآخرين، بل ترى أن وظيفته هي الإيحاء عن طريق الصورة والموسيقى بحالاتٍ نفسية إيحاءً يُنير — عن طريق التأمل — للآخرين نفوسهم، فيستشعرون وقع التجربة التي عاناها الشاعر في واقع حياته أو بطاقته التصويرية التي تخلق التجارب، بل وتستطيع أن تخلق الحياة ذاتها. والواقع أن هذا الاتجاه الرمزي في مدرسة التجديد الشعري في أدبنا المعاصر يكاد يتفق عليه جميع رواد التجديد في تلك الدعوة سواء منهم جماعة الديوان أو شعراء المهجر أو الشاعر المجدِّد الكبير خليل مطران الذي كوَّن وحده مدرسةً قائمة بذاتها امتدَّت خصائصها إلى جماعة التجديد في الجيل التالي، وهي جماعة أبوللو التي ازدادت إيمانًا بطرائق التعبير الرمزي والتصوير البياني أمثال: بودلير، وفيرلين، ومالارميه، وفاليريه، وإدجار ألن بو الذي كان يقول إنه يسمع قدوم الليل، كما كان يقول إنه يرى من كل قنديل صوتًا ناعمًا رتيبًا ينساب إلى أذنيه، ثم رابندرانات طاغور شاعر الهند الأكبر الذي رأينا — كما سبق أن قلنا — الشاعر الأبوللي الشاب محمد عبد المعطي الهمشري يصيح معجبًا في مقال له عن الإبهام الرمزي بمجلة أبوللو بقوله «السكون المشمس».

وفي الحق إن أروع تجديد نلمحه في شعرنا المعاصر ويميزه عن شعرنا التقليدي إنما هو المنهج الرمزي في التعبير؛ أي تفضيل الصورة دائمًا على التعبير المباشر والقصد إلى الإيحاء أكثر من القصد إلى الإبانة والإفصاح، وفي هذا يفترق التعبير الرمزي افتراقًا دقيقًا عن التعبير الكلاسيكي الذي كان يكره الغموض والإبهام، ويرى أن كل ما يدرك بوضوح يسهل التعبير عنه بوضوح، ومن المؤكد أن الرمزية السليمة لا يرجع ما فيها من إبهام إلى غموض في الإدراك أو في الرؤية الشعرية، وإنما يرجع إلى فلسفتها الشعرية التي ترى أن وظيفة الشعر هي الإيحاء بحالات نفسية مركَّبة لا يسهل دائمًا تحليلها إلى عناصرها الأولية، بل إننا حتى لو نجحنا في هذا التحليل لن نستطيع بفضله نقل العدوى بتلك الحالة النفسية المركَّبة من نفسنا إلى نفوس الآخرين؛ وذلك لأن كل مركب توجد فيه خصائص ناتجة عن التركيب نفسه وليست موجودة في العناصر المكوِّنة لهذا المركب، وفي مثل هذه الحالات لا يكون أمام الشاعر وسيلةٌ ناجحة غير وسيلة الإيحاء عن طريق الصورة والرمز، ومن المؤكد أن الذي يطربنا ويُشجينا ويهزُّ وجداننا في قصيدة مثل قصيدة العودة لشاعرنا الكبير المرحوم الدكتور إبراهيم ناجي إنما هو الإيحاء القوي عن طريق الرمز والتصوير البياني؛ حيث يقول:

هذه الكعبة كنا طائفيها
والمصلين صباحًا ومساءْ
كم سجدنا وعبدنا الحسن فيها
كيف بالله رجعنا غرباءْ

•••

دار أحلامي وحبي لقيتنا
في جحود مثلما تلقى الجديدْ
أنكرتنا وهي كانت إن رأتنا
يضحك النور إلينا من بعيدْ

•••

رفرف القلب بجنبي كالذبيح
وأنا أهتف: يا قلبي اتئدْ
فيجيب الدمع والماضي الجريح
لمَ عدنا ليت أنا لم نعدْ

•••

لمَ عدنا أو لم نطوِ الغرام
وفرغنا من حنين وألمْ
ورضينا بسكون وسلام
وانتهينا لفراغ كالعدمْ

•••

أيها الوكر إذا طار الأليف
لا يرى الآخر معنى للسماءْ
ويرى الأيام صفرًا كالخريف
نائحات كرياح الصحراءْ

•••

آه مما صنع الدهر بنا
أو هذا الطلل العابث أنتَ!
والخيال المطرق الرأس أنا
شد ما بتنا على الضنك وبتَّ

•••

أين ناديك وأين السمر؟
أين أهلوك بساطًا وندامى
كلما أرسلت عيني تنظر
وثب الدمع إلى عيني وغاما

•••

موطن الحسن ثوى فيه السأم
وسرت أنفاسه في جوهِ
وأناخ الليل فيه وجثم
وجرت أشباحه في بهوهِ

•••

والبلى أبصرته رأي العيان
ويداه تنسجان العنكبوتْ
صحتُ يا ويحك تبدو في مكان
كل شيء فيه حيٌّ لا يموتْ

•••

كل شيء من سرور وحزن
والليالي من بهيج وشجي
وأنا أسمع أقدام الزمن
وخطى الوحدة فوق الدرجِ

•••

ركني الحاني ومغناي الشفيق
وظلال الخلد للعاني الطليحْ
علم الله لقد طال الطريق
وأنا جئتك كيما أستريحْ

•••

وعلى بابك أُلقي جعبتي
كغريب آب من وادي المحنْ
فيك كف الله عني غربتي
ورسا رحلي على أرض الوطنْ

•••

وطني أنت! ولكني طريد
أبدي النفي في عالم بؤسي
فإذا عدتُ فللنجوى أعود
ثم أمضي بعدما أفرغ كأسي

وبالرغم من روعة هذا المذهب في طرائق التعبير الشعري، فإنه لم يرُقْ بالبداهة لأنصار الشعر التقليدي في أدبنا المعاصر على نحو ما رأيناه لا يروق لأنصار المذهب الكلاسيكي في الغرب، فمنذ عهدٍ قريب كتب الشاعر عزيز أباظة مقدمة لديوان «أصداء الحرية» للأستاذ عبد الله شمس الدين امتدح فيها الصياغة التقليدية لتلك الأصداء، وانتقد في عنف التعبيرات الجديدة في شعرنا المعاصر، وضرب لها الأمثال في قولهم «الأنين المشنوق»، و«الحزن الراقص»، و«الصمت المقمر»، و«الشمس المعربدة»، و«اللانهائية الخرساء» دون أن يبين أساس نقده، مع العلم بأنه إذا كان هذا النقد مبنيًّا على أساس فلسفة الشعر فإنه مردود بما أوضحناه من أن الشاعر قد يجد في نفسه حالاتٍ نفسيةً عميقة مركبة لا سبيل إلى التعبير عنها غير سبيل الرمز والإيحاء، وأما إذا كان النقد مستندًا إلى أساسٍ لغوي فإننا نراه أيضًا مردودًا؛ لأن الرمزية في التشبيهات والمجازات والاستعارات لا تعتبر خرقًا لأصول اللغة، بل ولا لعلم البيان العربي التقليدي ذاته؛ وذلك لأنها تقوم في الرمزية على علاقة بين المشبه والمشبه به، ولكن العلاقة هنا لم تعد في الشكل الخارجي بل في الوقع النفسي لطرفَي التشبيه حتى ولو كان هذان الطرفان ينتميان إلى مجالَين مختلفَين من مجالات الحواس كأن يكون أحدهما من مجال المرئيات والآخر من مجال المسموعات أو من مجال المشموم ما دام كلٌّ منهما ينتمي إلى صفحة النفس ويؤثر فيها تأثيرًا متشابهًا هو أساس المجاز، فالسكون مثلًا من مجال السمع وأشعة الشمس من مجال البصر، ولكن السكون قد يثير اطمئنانًا وبهجة في النفس يشبهان ما يثيره فيها ضوء الشمس، وعندئذٍ يحقُّ للشاعر أن يصف هذا السكون بأنه مشمس بجامع وحدة الوقع النفسي دون أن يكون في عمله هذا خروج على أصول اللغة أو أصول البيان، وإذن فالرمزية من الناحية اللغوية إنما تستند إلى أصلٍ ثابت في لغتنا وفي لغات العالم جميعها، بل إلى الأصل الذي أثرت بفضله جميع اللغات واكتسبت وسائل جديدة للتعبير بدل الاكتفاء بالوسائل القديمة البالية.

وأصدق من نقد الشاعر عزيز أباظة، وأدق حسًّا وأكثر اعتدالًا ذلك النقد الذي وجَّهه الرائد عبد الرحمن شكري إلى الرمزية في إحدى مقالاته بمجلة «أبولو» عندما رأى شعراء تلك الجماعة يُسرفون أحيانًا في الصور الرمزية على نحو يصيب تلك الصور بالتناقض حينًا، وبالتزاحم حينًا آخر مما يضرُّ بالرؤية الشعرية على نحو ما يسيء النبات بعضه إلى بعض إذا ازدحم في بقعة محدودة من الأرض.

وثمت نقدٌ آخر يُوجِّهه معظم النقاد العالميين أحيانًا إلى الرمزية، وهو الغموض المسرف الذي يستحيل معه الرمز إلى لغز وإن كان مثل هذا النقد يخضع للنسبية إلى حد بعيد، فنحن قد نحسُّ بالغموض الكثيف مثلًا في عدد من قصائد «مالارميه» وتلميذه الكبير «بول فاليري»، ولكننا نرى النقاد يختلفون أحيانًا كثيرة اختلافًا بيِّنًا حول بعض القصائد لهذين الشاعرين الكبيرين، ونستطيع أن نضرب مثلًا لذلك بقصيدة شهيرة لمالارميه عنوانها «البعث» حيث يقول:

لقد طرد الربيع الشاحب في حزن
الشتاء الضاحي،
وفي جسمي الذي يسيطر عليه الدم القاتم
يتمطَّى العجز في تثاؤب طويل.

•••

إن شفقًا أبيض يبرد تحت جمجمتي،
التي تعصبها حلقة من حديد وكأنها قبرٌ قديم،
وأهيم حزينًا خلف حلمٍ غامضٍ جميل،
خلال الحقول التي يزدهر فيها عصير لا نهاية له،
ثم آخر منهوك العصب بعطر الأشجار،
وأحفر برأسي قبرًا لحلمي،
وأعضُّ الأرض الساخنة التي تنبت النرجس.

•••

وأغوص منتظرًا أن ينهض عني الملل،
ومع ذلك فزرقة السماء تبتسم فوق سياج الشجر المستيقظ؛
حيث ترفرف العصافير كالزهر في ضوء الشمس.

ففي هذه القصيدة يرى بعض النقاد أن الشاعر قد بلغ في رمزيته حد الغموض الكثيف الذي استحال فيه الرمز لغزًا وبعدت المسافة على الإيحاء القريب المدخل، وذلك بينما يرى نقادٌ آخرون أن القصيدة لا غموض فيها بالرغم مما يبدو من أنه يعكس فيها الأوضاع ويقلب المواضعات؛ إذ بطول التأمل فيها لا نلبث أن نحسَّ بأن الشاعر قد نجح نجاحًا رائعًا في خلق ذلك الجو النفسي الذي يشيع في روحه ويود أن ينقله إلينا أو يوحي به وهو جو الملل المتجانس مع جو الشتاء حتى ليلوح له ذلك الشتاء ضاحيًا، بينما يتمطى العجز بجسمه ويحفر برأسه قبرًا لأحلامه، ويعضُّ الأرض الساخنة التي تنبت النرجس، وعلى الرغم من كل ذلك لا يفقد الشاعر أمله؛ فزرقة السماء تعود إلى الابتسام والعصافير ترفرف في ضوء الشمس، ولعله الربيع الناهض، ولعلها القدرة تثب مكان العجز المتمطي.

وهكذا نخلص إلى أنه وإن تكن قد نهضت مذاهبُ جديدة تعارض الرومانسية، إلا أن هذه المذاهب مجتمعة ومتفرقة لم تستطع أن تنزع عن الشعر الغنائي طابعه الوجداني الذي يعتبر من صميم جوهره؛ فالشعر لا بد أن يظل وجدانيًّا، وإن تكن الرمزية قد نجحت نجاحًا نهائيًّا في أن تغير من طرائق التعبير الشعري وأن تحل الرمز والإيحاء محل التقرير والإفصاح.

وأما الوجدان الذي يصدر عنه الشعر الغنائي فقد نجحت معارك الحياة والتيارات الوطنية والقومية والفلسفات الواقعية الاشتراكية في أن تحوِّله من وجدانٍ ذاتي كما قلنا إلى وجدانٍ جماعي، ولا نريد أن نتعقب هذا التحول في الآداب العالمية بل نكتفي بأن نتعقبه في شعرنا العربي المعاصر الذي أخذ يتأثر منذ مطلع هذا القرن أبلغ التأثر بتيارات الفكر ومذاهب الأدب والفن العالمية من الوجدان الذاتي إلى الوجدان الجماعي.

لقد كان شعراؤنا التقليديون ينظمون بلا ريب عن أحداثنا الوطنية والاجتماعية الكبرى، ولكننا قلَّما كنا نحسُّ في شعرهم بارتباط وجدانهم بتلك الأحداث وانفعاله بها على نحو يميز شاعرًا عن آخر بحكم أن هذا الانفعال يتخذ ألوانًا متباينة بتباين الأمزجة الفردية، بل لا نحسن بموقف خاص يتخذه الشاعر من تلك الأحداث أو رأي يلتزم به إزاءها؛ فكان شعرهم أقرب إلى الصحافة المجرَّدة منه إلى الأدب المنفعل الدائم الحياة، وكانت هذه الحقيقة الغامضة من بين الأسباب الرئيسية التي حملت مدارس التجديد المتعاقبة على نقد الشعر التقليدي الذي لا يحسون فيه بشخصية الشاعر المتميزة ولون روحه وطريقة انفعاله، ومن هنا نشأت الدعوة إلى شعر الوجدان، ولكنه لما كان الوعي السياسي والاجتماعي لم يستيقظ بعدُ اليقظة الكاملة، ويتغلغل في النفوس حتى ينزل منها منزلة الإيمان المحرِّك، وكانت ظروف الحياة العامة لا تسمح بظهور الوجدان الجماعي الذي يربط الفرد بالمجتمع، ويردُّ جانبًا من شقائه إلى فساد هذا المجتمع أو صلاحه، لأن مثل هذا الاتجاه لم يكن يرضى عنه أو يجيزه الحكم وذوو السلطان باعتبارهم مسئولين عن هذا المجتمع؛ فقد اتخذت الدعوة إلى شعر الوجدان وجهة الوجدان الذاتي الذي يتغنى فيه الشاعر بآلامه وآماله أو يهرب منها إلى مباهج الطبيعة مُرجعًا سعادته أو شقاءه إلى ذاته وإلى ظروف حياته الخاصة أو إلى القضاء والقدر الذي يُكنِّي له الشاعر باسم الزمان، غير مدرك أنه لا ينفرد بهذا الشقاء؛ لأنه عام يكاد يشمل المجتمع كله أو على الأقل أن جانبًا كبيرًا من أسبابه يرجع إلى الأوضاع الفاسدة في هذا المجتمع.

وعلى أية حال فقد أحدثت دعوات التجديد أثرها، وغيَّرت الاتجاه العام أو الاتجاه الغالب في شعرنا المعاصر؛ فظهرت شخصية الشاعر في شعره، وظهر لون روحه وطريقة انفعاله المتميزة بأحداث حياته الخاصة، وعلى هذا النحو رأينا شعر الروح المرحة المقبلة على الحياة عند علي محمود طه، والروح النارية المتفجِّرة عند إبراهيم ناجي، والانطوائية المتأمِّلة عند حسن كامل الصيرفي، والثائرة المتمرِّدة عند أبي القاسم الشابي.

ومع ذلك استطاعت بعض الأحداث الكبرى في مصر وفي العالم العربي كله أن تهزَّ الوجدان الجماعي عند بعض الشعراء، وأن تُثير هذا الوجدان؛ فأخذوا يتحدَّثون عن أفراحهم أو أتراحهم الناجمة عن تلك الأحداث الجسام.

ولقد كانت خيبة الأمل التي أصابت العالم العربي في أعقاب الحرب العالمية الأولى عندما رأوا الحلفاء يغدرون بهم بعد أن ضلَّلوهم وحملوهم على الاشتراك معهم في الحرب والاكتواء بنارها؛ على أمل أن يُمنَحوا الاستقلال عند انتهائها. وإذا بالحلفاء يتنكَّرون لكل وعودهم، ويُقرِّرون اقتسام العالم العربي فيما بينهم؛ فكانت خيبة الأمل هذه مصدرًا لقصيدةٍ رائعة عبَّر فيها الشاعر ميخائيل نعيمة عن مبلغ الحزن والأسى الذي أصابه كفرد من أبناء الشعب العربي، وكانت هذه القصيدة من أروع شعر الوجدان الجماعي في أدبنا العربي المعاصر، وهي قصيدة «أخي» التي يقول فيها:

أخي إن ضجَّ بعد الحرب غربيٌّ بأعمالِهْ،
وقدَّس ذكر مَن ماتوا وعظَّم بطش أبطالِهْ،
فلا تهزج لمن سادوا ولا تشمت بمن دانا،
بلِ اركع صامتًا مثلي بقلبٍ خاشعٍ دامي،
لنبكيَ حظَّ موتانا.

•••

أخي إن عاد بعد الحرب جنديٌّ لأوطانِهْ،
وألقى جسمه المنهوك في أحضان خلَّانهْ،
فلا تطلب إذا ما عدت للأوطان خلانا؛
لأن الجوع لم يترك لنا صحبًا نناجيهم،
سوى أشباح موتانا.

•••

أخي إن عاد يحرث أرضه الفلاح أو يزرع،
ويبني بعد طول الهجر كوخًا هَدَّه المدفع،
فقد جفت سواقينا وهدَّ الذل مأوانا،
ولم يترك لنا الأعداء غرسًا في أراضينا،
سوى أجياف موتانا.

•••

أخي قد تمَّ ما لو لم نشأْهُ نحن ما تمَّا،
وقد عمَّ البلاءُ ولو أردنا نحن ما عمَّا،
فلا تندب فأُذْن الغير لا تُصغي لشكوانا،
بل اتبعني لنحفر خندقًا بالرَّفْش والمعول،
نواري فيه موتانا.

•••

أخي من نحن؟ لا وطنٌ ولا أهلٌ ولا جارُ،
إذا نمنا، إذا قمنا، ردانا الخزي والعار،
لقد خُمَّت بنا الدينا كما خُمَّت بموتانا،
فهاتِ الرفش واتبعني لنحفر خندقًا آخَر،
نواري فيه أحيانا.

وكما أن شعر الوجدان الذاتي لم يكن بد من أن يتخذ لون الروح المتميِّزة لكل شاعر، وتتنوع نغماته بتنوُّع المزاج الفردي ونوع الثقافة وظروف الحياة الخاصة والعامة، فإن شعر الوجدان الجماعي لم يكن بدٌّ هو الآخر من أن تتنوع نغماته وتتعدد ألوانه، ونحن هنا إزاء قصيدة نعيمة لا نحسُّ بثورةٍ صاخبة متمردة ولا بنغماتٍ خطابيةٍ مجلجلة، بل نحس بنغماتٍ هامسة يسكبها الشاعر العربي في أذن أخيه العربي، ليعبِّر بها عن حزنه وأساه في روحٍ هادئة تكاد تكون صوفية من شدة الألم، ولكنها مع ذلك روحٌ قويةٌ نافذة تستثير النفس وتهزُّ أعماق الوجدان الجماعي للشعب العربي كله. فالشاعر منفعل بأحداث مجتمعه الكبرى وما نزل به من محن وآلام — لا في محاربة من ناصبهم العداء فعلًا فحسب — بل وفي مجالدة أصدقاء الأمس المُخادِعين، وأعداء اليوم من أولئك الحلفاء الغادرين الذين لم يكادوا يفرغون من حربهم الطاحنة وينتصرون فيها حتى وجهوا نيرانهم إلى العرب الأوفياء؛ ليخمدوا ثوراتهم ويفرضوا عليهم استعمارهم البغيض وسيطرتهم الخانقة.

والظاهر أن هذه القصيدة الرائعة قد استهوت بوزنها ونغماتها الموسيقية، ومضمونها الجماعي أفئدة الأجيال التالية من شعرائنا الشبان، وربما كانت حماستي لها في مطلع حياتي الأدبية ونضالي الحار في سبيل كل ما سمَّيته عندئذٍ بالأدب المهموس، وتفضيلي له على الأدب الخطابي التقليدي؛ لها أثر في لفت أنظار شبابنا الشعراء إليها، فبين أشعار الأستاذ مختار الوكيل نلتقي من الوزن نفسه ومن القافية نفسها التي اختارها نعيمة للمقطوعة الأخيرة من قصيدته، وفيها يُوجِّه الوكيل الخطاب أيضًا بلفظة أخي؛ حيث يقول:

أخي قد شاء رب الكون أن يُجمع قلبانا،
فأسكننا بوادٍ فاض بالخيرات ألوانا،
وأجرى بيننا نهرًا براح الخلد أحيانا،
ووحَّدنا على الأيام وجدانًا وإيمانا،
وأنزل في جوانحنا هدًى يغذو طوايانا.

ومن الواضح أن هذه القصيدة تصدر أيضًا عن الوجدان الجماعي، أو هي على الأصحِّ تحاول أن تجلِّي أسس هذا الوجدان الجماعي، وهي بلا ريب لا توغل في الوجدان كما توغل قصيدة نعيمة الرائعة، فالأستاذ مختار الوكيل غير منفعل فيها بأحداثٍ معينة حتى إننا لا نحس فيها بعاطفيةٍ مُتَّقدة كعاطفية نعيمة، ومع ذلك فالقصيدة تدخل بلا ريب في شعر الوجدان الجماعي بحكم ما نستشعره فيها من بهجة بعناصر الوحدة التي تجمع بيننا وتُوحِّد قلوبنا وتسهم في التقريب بين ألوان روحنا.

ويمضي الزمن ويقوى الوعي الجماعي وتتَّسع آفاقه، فلا يعود وجداننا الجماعي قاصرًا على وطننا المحلي، بل يمتد إلى قوميتنا العربية العامة، ومن جهةٍ أخرى لا يظل هذا الوجدان الجماعي قاصرًا على الناحية السياسية في قضايانا الوطنية أو القومية، بل يمتد أحيانًا إلى حياتنا كلها فيشمل النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبخاصة بعد أن أخذنا نحل قضايانا الوطنية والقومية تباعًا مع الدول الاستعمارية، ونحقق استقلالنا السياسي دولة بعد أخرى، ونُحرِّر سياستنا الخارجية من كل تبعية للغير، ونقف في المجال الدولي هذا الموقف الحيادي المشرِّف الذي ترتضيه الشعوب العربية كلها وتعتزُّ به.

وفي خلال هذا الشوط الطويل الشاقِّ الذي قطعناه كان الوجدان الجماعي يطغى شيئًا فشيئًا على الوجدان الذاتي، وظهر بيننا شعراءُ أقوياء أخذوا يُغَذُّون هذا الوجدان الجديد النامي حينًا، ويهاجمون الوجدان الذاتي المنطوي أو الهارب هجومًا عنيفًا على نحو ما قال شاعرٌّ شابٌّ في قصيدة سمَّاها «إلى الشاعر التائه»:

ما لعينيك تبسمان، وعيناي تموجان ثورة ووميضا!
ما لقلبي وأنت قلبك راضٍ يطلب النور والفضاء العريضا!
ما لروحي تكاد تقتل جسمي فتراه العيون جسمًا مريضا!
ما لمثلي يرى الليالي سودًا ويرى مثلُك الليالي بيضا!
ما لشعري طغى الجنون عليه، أم ترى أنت لا تراه قريضا!

•••

أنت تخلو إلى النجوم، إلى الزهر، إلى الطير حينما يتغنَّى،
ربة الخمر باركتك فغنيتَ هراء ورحت تسأل دنَّا،
في سماء الخيال ضم جناحيك تقع بيننا فتصبح منَّا،
دَعْ جمال الخيال وادخلْ كهوفًا للملايين وارْوِ للكون عنَّا،
إنما الفن دمعة ولهيب، ليس هذا الخيال والتيه فنَّا.

•••

قلِّب الطرف هل ترى غير جهل، وهزال وآهة مكتومهْ،
وعيون قد أغمضت وبخور أطلقوه فراح يذري سمومهْ،
وجيوش من الخداع تمشيها أكفٌّ لغاية مرسومهْ،
وأكفٍّ هي المتابع للمال أضاعت سنينها محرومهْ؛
دع جمال الخيال وادخل كهوفًا للملايين وارْوِ للكون عنَّا،
إنما الفن دمعة ولهيب، ليس هذا الخيال والتيه فنَّا.

وبعد قيام ثورتنا الأخيرة وتحقيق الكثير من أهدافنا الكبرى التي كان شعراؤنا الشبان يستنفرون الشعب حتى ينهض لتحقيقها لم يعد هناك لهذا الاستنفار العنيف نحو الثورة داعٍ، وإن ظل الوجدان الجماعي مع ذلك منبعًا يستقي منه جيلنا الحاضر إلهامه، ومضمونه الشعري وهو مضمونٌ متفاوت قد يكون حديثًا عن أمجاد الماضي وبطولات الجهاد، أو دعوة لمواصلة اليقظة والحرص على مكاسب الثورة.

وقد ينضح الوجدان عن ابتهاج وتفاؤل بما حقق شعبنا من انتصارات على نحو ما نجد في قصيدة أغاني إفريقيا من ديوان محمد مفتاح الفيتوري، وهي التي يستهلها بقوله:

يا أخي في الشرق في كل سكن
يا أخي في الأرض في كل وطن
أنا أدعوك فهل تعرفني
يا أخا أعرفه رغم المحن
إنني مزقت أكفان الدجى
إنني هدمت جدران الوهن
لم أعد مقبرة تحكي البلى
لم أعد ساقية تبكي الدمن
لم أعد عبد قيودي لم أعد
عبد ماضٍ هرم عبد وثن
أنا حيٌّ خالد رغم الردى
أنا حر رغم قضبان الزمن
فاستمع لي استمع لي
إنما الجيفة صماء الأذن

ومنها يقول:

الملايين أفاقت من كراها
ما تراها؟ ملأ الأفق صداها
خرجت تبحث عن تاريخها
بعد أن تاهت على الأرض وتاها
حملت أفؤسها وانحدرت
من روابيها وأغوار قراها
فانظر الإصرار في أعينها
وصياح البعث يجتاح الجباها
يا أخي في كل أرض عريت
من ضياها وتغطَّت بدجاها
يا أخي في كل أرض وجمت
شفتاها واكفهرَّت مقلتاها
قمْ تحرر من توابيت الأسى
لست أعجوبتها أو مومياها
انطلق فوق ضحاها ومساها
يا أخي قد أصبح الشعب إلها

هذا، ولقد اقتضى المضمون الشعري الجديد النابع من الوجدان الجماعي أن يلجأ الشعراء إلى صور وقوالبَ جديدةٍ يصبُّون فيها وجدانهم الجماعي، وبخاصة بعد أن تغيَّرت الظروف بعد الثورة، ولم يعد هناك مجال مستمر للاستنفار الثوري العنيف الذي يلائمه القالب الغنائي التقليدي في شعرنا العربي، فرأينا الكثيرين من شعرائنا الجدد يلجئون إلى قالب القصة الصغيرة الساذجة حينًا، وقال الحوار الدرامي السريع حينًا، ولما كانت مثل هذه القوالب لا تستدعي بالضرورة وحدة البيت الشعري كوحدة للموسيقى الشعرية، بل يقضي الحوار بتجزئة البيت الواحد إلى تفاعيل وفصل بعضها عن بعض لتُوائم القصص أو الحوار، فقد أقدم شعراؤنا على تغيير الصورة مجاراة لتغيير المضمون وتغيير طريقة تصميم القصيدة وبنائها الهندسي.

الصورة الجديدة للشعر

والواقع أن الصورة الجديدة للقصيدة العربية المعاصرة لم تدفع إليها نزوةٌ طارئة أو مجرد الرغبة في التجديد، بل جاءت لتحوُّلٍ عميق في ثقافتنا الفكرية والفنية؛ ذلك لأنه ما من شك في أن فلسفة ثورتنا الجديدة قد وجهت جيلنا الجديد الناهض نحو الواقعية الاشتراكية، وهي واقعية تنفر من الذاتية الرومانسية وتجنح إلى الجماعية؛ أي إلى استقاء التجارب الشعرية من مشكلات المجتمع ومواطن ضعفه وقوَّته وأفراحه وآلامه، لما كان الشعر الغنائي، أي شعر القصائد، لا يمكن أن يكون بطبيعته إلا شعرًا وجدانيًّا؛ أي شعرًا تلوِّنه عاطفة الشاعر المنفعلة بتجارب الشعب، كما قد تشكله أحيانًا فلسفة الشاعر في الحياة ووجهة نظره والمذهب الاجتماعي الذي يدين به، فقد كان حتمًا على هذا الشعر أن يكون لكل قصيدة منه موضوع يتخذ صورة القصة ولكنها قصة لا يمكن أن تصبح واقعية خالصة، بل لا بد أن تمتزج بوجدان الشاعر الذي يعطيها طابع الشاعرية، كما أنها لا تحرص على التفاصيل التي تحرص عليها عادة القصة النثرية ولا على التسلسل المنطقي المحكم أو تحديد أبعاد الشخصيات وملامحها النفسية بقدر ما تحرص على إبراز انفعال الشاعر بهذه القصة وما تثيره في نفسه من شتى العواطف حتى لكأنها تعبير من الشاعر عن الانطباعات التي أحدثتها في نفسه. وإذا كان الشاعر لا بد أن يحيطنا علمًا بأحداث تلك القصة وبالصورة العامة لشخصياتها فإنه يقتصر عادة على الإشارة السريعة واللمحة الخاطفة الموحية، حتى لا يصاب شعره بالنثرية، وحتى لا يطغى عنصر القصص على عنصر الوجدان الذي سيظلُّ أبدًا الطابع المميِّز للشاعرية.

ولعلنا نستطيع أن نلمس هذه الصورة الجديدة للقصيدة العربية المعاصرة في قصيدة كتبتها أخيرًا الشاعرة الوجدانية السيدة ملك عبد العزيز، وهي لم تكتبها مجاراة للتيار الجديد؛ لأنها شاعرة لا تقول الشعر إلا تنفيسًا عن وجدانها الذاتي، وهي أبعد ما تكون عن أن تحترف الشعر أو تنتقل مع تياراته، وإنما تقوله عندما ينفعل وجدانها وتشعر بحاجةٍ مُلحَّة إلى قوله، وقد انفعلت لما أذاعته صحفنا عن قصة البطل الشاب «جواد حسني زين العابدين» أثناء معركة بور سعيد الخالدة، وما كان من سفره إلى ساحة القتال على رأس فريق من زملائه الفدائيين، ثم إحاطة العدو بهم ورفضه أن يتراجع مع زملائه مُؤْثرًا الموت على الهزيمة، ثم وقوعه أسيرًا في يد الجند الفرنسيين، وسجنه في غرفةٍ ضيقة بمعسكرهم عند شاطئ البحر، على الرغم من الدماء التي كانت تنزف من جراحه، وقد اتخذ من هذه الدماء مِدادًا سجَّل به على جدران الغرفة بعض أحداث قصته البطولية الرائعة، وفي النهاية تظاهروا بأنهم قد قرَّروا الإفراج عنه بعد أن أُوقف القتال ولكنه لم يكد يخرج ويسير بضع خطوات على الشاطئ مُتعثِّرًا نازف الدم حتى أطلقوا عليه الرصاص غدرًا من خلف، وألقوا بجثته إلى البحر. وقد انفعلت الشاعرة بهذه القصة أيَّما انفعال، وزادها شجنًا أن رأت فيه صورة لأحد أبنائها، وأنار الانفعال طاقتها التصويرية، فخُيِّل إليها أنها قد دخلت إلى غرفة سجن البطل ورأت الكلمات المسطَّرة على جدرانها بدمه، وجسَّم خيالها هذه الرؤية الشعرية المؤثرة فخُيِّل إليها أن هذه الدماء قد أنبتت شجرةً خضراء رمزًا للحياة المطمئنة التي يرويها دم الشهداء، ثم عاد خيالها إلى قصة البطولة كلها وما تعاقب فيها من أحداث تُصوِّرها بخطوطٍ سريعةٍ عميقة، وتسبغ على اللوحة القصصية كلها فيضًا من مشاعرها كشاعرة وكإنسانة وكأُمٍّ، ولكن دون أن تلتزم في عرض هذه القصة وتسلسلها إلا منطق مشاعرها، فهي تبدأ القصيدة برؤيةٍ شعرية داخل غرفة سجن البطل ثم تنتقل إلى القصة، وتعود في النهاية إلى تصوير شجرة الحياة التي صوَّر لها خيالها أنها قد انبعثت وأينعت وأورقت بفضل ما غذاها به بطلها من دمٍ ذكي (راجع القصيدة في ديوان «أغاني الصبا» للشاعرة، نشر دار المعارف بالقاهرة).

فهذه قصيدةٌ ذات موضوع هو قصة البطل «جواد حسني زين العابدين» في معركة استشهاده، وبفضل وحدة الموضوع حقَّقت القصيدة تلك الوحدة العضوية، التي نادى بها رواد التجديد في شعرنا العربي المعاصر منذ أوائل هذا القرن ولم يستطيعوا تحقيقها في شعر الوجدان الخالص والخواطر المتناثرة، فظلَّ ترتيب الأبيات في القصيدة وتسلسلها قابلًا للتقديم والتأخير دون أن يضطرب بناؤها، أما في هذه القصيدة فنرى وحدة الموضوع تُمكِّن الشاعرة من أن تحقِّق هذه الوحدة العضوية تحقيقًا رائعًا، وإن اختلفت تلك الوحدة في القصيدة عنها في القصة النثرية التي لا بد أن تخضع للمنطق الموضوعي الصارم، بينما القصيدة لا تخضع ولا يمكن أن تخضع إلا لمنطق الشعور، فالشاعرة تبدأ قصيدتها برؤيةٍ شعرية لسجن البطل، وإذا بهذه الرؤية تُطلِق العنان للعاطفة التي تُحرِّك الخيال، فتعود الشاعرة إلى القصة كلها بحلقاتها المتتابعة لا لتفصل تلك الحلقات ولكن لتعبِّر عما تثيره كل حلقة في وجدانها من انفعالٍ عاطفيٍّ إنسانيٍّ زاخر حتى لكأن القصيدة قد استحالت إلى وجدانٍ خالص مع استفادتها من الموضوع في تحقيق الوحدة العضوية التي يتكامل بها العمل الفني، ونجحت الشاعرة في أن تغذِّي نفوسنا بالأحاسيس نفسها التي استشعرها وجدانها بفضل طاقتها التصوُّرية القوية، بل نجحت في أن تغمر أرواحنا بفيض من مشاعر الأسى المتأسي الرفيع، ومن الإنسانية الشجاعة المستبسلة.

وأما من الناحية الموسيقية فالقصيدة مستقيمة النغم المبني على تفعيلة الرجز دون تقيُّد بوحدة البيت الموسيقية؛ تلك الوحدة التي لا تشعر بلزومها إلا في شعر الخطابة والمحافل أو شعر الوجدان الخالص أحيانًا، وأما الوجدان المختلط بموضوعه والمصبوب في تضاعيف القصة فوحدته الموسيقية هي القصيدة كلها، ومع ذلك حرصت الشاعرة على أن تُقسم هذه الوحدة الموسيقية الطويلة إلى وحدات تكاد تحكي الحركات المتتابعة في السيمفونية الموسيقية، وقد جزأت هذه الوحدات الموسيقية وفقًا لأجزاء القصة ومراحلها المتتابعة كما تُجزَّأ السيمفونية سواء بسواء وفقًا للمدلول العاطفي لكل حركة من حركاتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤