زائر من الجنة

مسرحية في أربعة مشاهد

الشخصيات

  • المرأة.
  • زوجها الثاني.
  • الشاب.
  • المعتوه.
  • أصوات نساء وأطفال.

المسرحية مُستوحاة من لوحة شعبية كتبها «معلم» صناع الأحذية — في مدينة نورمبرج — وشاعر عصر النهضة «هانز زاكس» (١٤٩٤–١٥٧٦م)، الذي ترك عددًا كبيرًا من الأشعار واللوحات الدرامية أو بالأحرى «الطُّرَف» التمثيلية التي استمدَّ مادتها وشخصياتها النمطية وحوارها ولغتَها الخشنة من النوادر والحكايات الشعبية في العصور القديمة والوسيطة. واللوحة التي اعتمدتُ عليها هي إحدى تمثيليات عيد الفصح القصيرة التي كتبها «هانز زاكس»، وجعل عنوانها «الطالب المسافر إلى الفردوس» (وتقع في طبعة «ركلام» الصغيرة في حوالي ثلاث عشرة صفحة، شتوتجارت ١٩٥٨م) وغنيٌّ عن الذكر أن هذه الصياغة تتصرف في الحكاية الأصلية تصرفًا كبيرًا، وربما تكون قد جنَت على رُوحها الفلاحية الساذجة، ولو كنتُ من شعراء العامية المصرية أو كتابها لجاءت أكثر توفيقًا.

١

(قاعة كبيرة في بيت ريفي. على اليمين دولاب كبير، وفي الوسط وعلى اليسار أرائك (كنب) مريحة ومنضدة وبضعة كراسي على حصير ملوَّن مفروش على الأرض. في الواجهة نافذة عريضة تُطلُّ منها المرأة البدينة المتسربلة بالسواد. بين الحين والحين تفتح الدولاب وتُخرِج صورة كبيرة لرجل ريفي في أواسط العمر، تتأمَّلها وتبتسم وتمسح دموعها في وقتٍ واحد، ثم تضعها في مكانها وتعود إلى النافذة. البدر يتوسَّط السماء، تنظر إليه وإلى الحارة والمزارع والأشجار البعيدة. تتردَّد أصوات نساء وأطفال يعبرون بالنافذة وهم يغنون ويُثرثرُون، ويُمكن أن ترى أشباحهم أو يُكتفَى بسماع أصواتهم …)

المرأة : آه … البدر اكتمل في السماء، وعدتَني أن تأتي في مثل هذه الليلة. في مثل هذه الليلة وعدتني (تُطل من النافذة).
أصوات نساء وأطفال :
يا جارة نامي يا جارة،
فالسامر ودع سُمَّاره،
والشاعر ألقى أشعاره،
لكن الزائر ما زارا،
والقادم لم يبرح داره،
يا جارة نامي يا جارة …
المرأة (تَبتعد قليلًا عن النافذة) : أنام؟ كيف أنام؟ اذهبوا … اذهبوا، أنتم لا تعرفون … لو كنتُم مثلي تنتظرون.
أصوات النساء والأطفال :
الجارة تنتظر إشارة،
تسأل تتسمَّع أخباره،
يا جارة قولي يا جارة،
هل جاء رسول ببشارة،
أم ترك على الباب حماره؟
يا جارة ردي يا جارة.
المرأة : وماذا أقول؟ يُسمُّونني المجنونة، سكنَتْني رُوح ملعونة، لكن مَن مِنا الملعون؟ ومن المجنون؟
صوت امرأة : المجنونة … المجنونة.
امرأة أخرى : ظهر خيالها وغاب.
صوت طفل : أطلَّت من النافذة.
طفل آخر : ونظرت للبدر.
امرأة : بل كلمته …
امرأة أخرى : وماذا قال؟
أصوات النساء والأطفال :
الطير الغائب قد طارا،
والليل طواه وتوارى،
مذ راح وهاجَرَ أوكاره،
لا تنتظريه يا جارة،
يا جارة نامي يا جارة.
امرأة : انظروا … إنها تُطل على الحارة.
امرأة أخرى : هل جاء رسول ببشارة؟
طفل : اسمعوا …
طفل : إنه قادم هناك.
امرأة : أرى شبحه.
امرأة أخرى : أُبصر جناحيه.
طفل : حمار بجناحين؟
طفل آخر : أليس حمار العمدة؟
امرأة :
وحمار العمدة يا جارة،
يتغزل في ظل حمارة.
امرأة أخرى :
قد جاء من الجنة يسعى،
ويقص عليها أخباره.
امرأة : أرأيت المرحوم عليه؟
امرأة أخرى : وسمعت نهيقًا يا جارة!

(أصوات أطفال تقلد نهيق الحمير، ضحك وتهليل …)

امرأة : مسكينة … جسدُها في الدنيا.
امرأة أخرى : وعقلها في الآخرة.
امرأة : تنتظر القادم من الجنة.
امرأة أخرى : أو من جهةٍ أخرى.
امرأة : حرام عليك … كان رجلًا طيبًا.
امرأة أخرى : ليته أخذها معه.
امرأة : اطمئني … سيعود زوجك أيضًا.
المرأة : يعود؟ فأل الله ولا فألك.
امرأة : ويأخذك معه.
امرأة : ويُدفئك من البرد يا أختي (يتضاحكن).
أصوات النساء والأطفال :
ذهب المرحوم ولم يأتِ،
من خمس سنين أو ست،
هل يرجع أحد يا أختي،
من أرض الوحشة والموت؟
المرأة (تلفُّ وتدور في المكان وهي تضع يديها على أذنيها) : سيرجع … سيرجع، قولوا مجنونة … قولوا ملعونة، ولكنه سيرجع … سيرجع.

(تتَّجه إلى الدولاب وتفتحه، وتمد يدها بداخله.)

أصوات النساء والأطفال :
قد ران الصمت على الصمت،
والفلك الدائر ما دارا!
وانسكب الدمع بلا صوت،
وصبرتِ كأنَّكِ صبَّارة،
الغائب راح ولن يأتي،
لا تنتظريه يا جارة،
لن يرجع أبدًا للبيت،
يا جارة نامي يا جارة.
صوت امرأة : بل نامي أنتِ يا جارة.
امرأة أخرى : تنام … ماذا جرى؟
صوت امرأة : وأنت … وأنت … هيا يا أولاد.
صوت طفل : إنه قادم … هناك.
طفل : من الجنة؟
امرأة : أو من الحانة.
امرأة أخرى : زوجها الثاني … أعوذ بالله.
امرأة : أرى ظل الموت ولا أرى وجهَه … هيا هيا.
امرأة أخرى : يا ويلك يا مسكينة.
امرأة : سيَضربها ككل ليلة.
امرأة : وسيَرتفع عويلُها ولن تنام.
امرأة أخرى : الجبار الظالم … ولا نحن سنَنام.
امرأة : هيا هيا … قبل أن يرانا.
امرأة أخرى : الذئب يا أولاد.
صوت طفل : يفرق القطيع.
المرأة : والشاة يا أولاد.
صوت طفل :
والحمَل الوديع،
يسوقه الجلاد؛
للذبح يا أولاد،
كأنه الرضيع.
صوت أطفال ونساء :
الشاة يا أولاد،
والحمل الوديع،
يسوقه الجلاد؛
للذبح يا أولاد،
هيا البسوا السواد،
وأعلنوا الحداد.

(وهم ينصرفون مولولين صائحين):

هيا البَسُوا السواد،
وأعلنوا الحداد.
المرأة (تسحب الصورة من الدولاب، تتأمَّلها وتعانقها وهي تطوف بأرجاء القاعة) : نعم نعم … صدقتم يا أولاد، سامحكم الله يا أولاد، لبستُ السواد من سنين، أعلنت الحداد من سنين … آه يا زوجي الحبيب، يا زوجي الطيب الحبيب، هل تذكر ليلة احتضارك قلتَ إنك ستعود، وقلت سألبس السواد حتى أراك، قلت يومها ستلبسين البياض، وأزف إليك كما في ليلة عرسنا، ثوب العرس لا يزال في مكانه، لا زال يلف صورتك (تنشر ثوب الزفاف القديم بين يديها، وتحتضنه وتُقبله) يا زوجي الطيب … يا زوجي الحبيب، هل نسيتَني هناك في الجنة؟ عنِّي شغلتْك الحور العين؟ ألستُ ملاكَكَ الطيب الحنون؟ ألست ملاكي الذي سيجيء مع الفجر؟ انظر … ها هو البدر في تمامه … في الليلة التي وعدت، فلماذا تأخرت؟ لماذا تأخرت؟ (تقبل الصورة وتمسح دموعها، تَسمع صوتًا فتُجفل وتتَّجه إلى الدولاب بسرعة) لا بد أنه حضر من القهوة، أو جاء يتخبَّط من الحانة، إنه زوجي الثاني … صدقْتُم يا أولاد، يسوقني الجلاد للذبح يا أولاد، فلأُخفِ الصورة في مكانها، إنه لا يُطيق رؤيتها، والثوب أيضًا، لو رآها في يدي لبرزت السكين في يده، فلأنزل إليك يا ذئبي العجوز … يا ذئبي العزيز.
(تُغلق الدولاب، وتتحرك للنزول بسرعة، بينما يعلو صوت الزوج الثاني من أسفل النافذة): يا امرأة … يا امرأة، أنت أيها العجوز النَّكِدة! هل نمتِ يا ملعونة؟ أأرجع كل ليلة وأنت نائمة كالبقرة؟ ألا تَنتظرين؟ ألم أقل لك انتظريني؟
المرأة (وهي تسرع إلى النافذة) : انتظر … نعم … أنتظره هو (بصوتٍ عال) نعم يا زوجي … نعم يا ثوري العجوز.
صوت الرجل : ثورك … نعم، ولكنَّني لست عجوزًا.
المرأة : البقرة تَنتظرُك ولم تنَم، العشاء جاهز.
صوت الرجل : لا أريد عشاءً، بقرة لا تُفكر إلا في المضغ، وثورها يموت عطشان.
المرأة : هل أُحضر لك كوب الحليب؟
صوت الرجل : تعلمين ما يَروي عطشي، هيا اقذفي الدنانير.
المرأة : الدنانير (لنفسها) وماذا يُهمُّك؟ أرضِي وتعب آبائي وأجدادي … تُذيبها في الكأس كل ليلة (تبحث في جيبها) خذ … سكران لا يفيق، متى تعود؟
صوت الرجل : أعود أو لا أعود، عندما أشاء.
المرأة : لا تتأخَّر، العشاء جاهز ودافئ.
صوت الرجل (وهو ينصرف) : بقرة لا تفكر إلا في المضغ، وثور يبحث في ضوء البدر عن الدنانير … الدنانير … الدنانير.
المرأة (وهي تنصرف حزينة عن النافذة) : سمعتَ يا زوجي الحبيب؟ غزالك الجميل أصبح بعدَكَ بقرة، والثور يحلبها كل ليلة، يمصُّ دمها وعمرها، ولا يشبع ولا يَرتوي، وتنتظر البدر وتنتظرك … ويطلع البدر ولا تأتي … تشكو له ولا تسمع … وأنت لا ترى ولا تسمع.
(تتحرَّك الستارة ويُسمع صوت): بل أرى وأسمع.
المرأة (كأنها في غيبوبة تسمع وترد على الصوت الغامض) : فلماذا لم تأتِ؟
الصوت : كل شيءٍ بأوان.
المرأة : أوَتُرسل من الجنة إشارة؟
الصوت (يغني) : قد جاء رسول ببشارة.
المرأة (تُواصل الغناء كأنها تردد صدى الأغنيات السابقة) :
والجارة تنتظر إشارة،
تسأل … تتسمَّع أخباره،
لكن الزائر ما زارا،
والطير الغائب قد طارا،
يا جارة نامي …
لا لن أنام، لن أنام، سأظلُّ ساهرةً أنتظرك، خمس سنين وأنا أنتظرك، أفتح عيني على وجهك، أُغمض عيني على وجهك، سأنتظرك وستعود، برغم الثور السكِّير، برغم الذئب المخمور، برغم الجارة والجار، برغم صياح الأطفال (تَجري نحو الدولاب، وتخرج الصورة وتُقبِّلها) يقولون مجنونة، يقولون ملعونة (تُغني) لكني في نظرك أنت غزال … وغزالك ينتظرك يا صياد تعال … ينتظرك يا صياد تعال. (تتجه إلى باب في اليسار، تفتحه وتغيب وراءه. يظهر الشاب من خلف الستارة، فقير في أسمال، يبدو عليه تراب التعب والسفر، يَحمل على كتفِه كيسًا كبيرًا يضعه على الأرض وهو يَمسح عرقه ويقول):
الشاب : وها هو الصياد قد جاء، فتعالَ يا صيدي الثمين، تعالَ يا غزال، تنتظر الزائر من الجنة؟ منذ سنين وسنين، ولماذا لا أكونه؟ أم أن منظري لا يوحي بجنة ولا … حقًّا، يوحي بالعائد من نار جهنم (يتجول في القاعة، وينظر حوله يقف أمام مرآة) لا … لا يمكن أن أشبهه. الشعر الأشعث، غبرة السفر الدائم والتراب والمطر والريح، والوجه الضامر كالفأر الجائع، والأسمال البالية كأني في الأكفان … لا لا يمكن أن أكون عائدًا من الجنة، أين أخفت صورته؟ ليتني أراه وأتملى وجهه، لا … لا … لا يصح أن أفتش في الدولاب، لست لصًّا، ولكني صياد، وقد أرسلتْك السماء إليَّ يا غزال (يرفع صوته) فتعال تعال … تعال.
المرأة (تظهر وتنظر فزعة) : من؟ ماذا أرى؟ من أنت؟
الشاب : سيدتي لا تخافي … لا تخافي (يقترب منها).
المرأة (تتراجع) : من أنت؟
الشاب : أنا من تنتظرين.
المرأة : لا أصدق … هل جئت الآن؟
الشاب : نعم الآن اكتمل البدر في السماء، سمعت ورأيت وجئت.
المرأة : ربي! من الجنة؟
الشاب : من الجنة أو من النار … المهم أنني جئت.
المرأة : ولكن صوتك … وجهك.
الشاب : صوتي ليس صوته، وجهي ليس وجهه، وهذه الأسمال … اطمئنِّي لم يقسُ عليه الزمن قسوته عليَّ، زوجُك بخير.
المرأة : زوجي بخير؟ وأين هو؟
الشاب : أين هو؟ في الجنة طبعًا … يَستمتِع بالنعيم … ويأتنس بالملائكة والحور العين، إذا عطش سقته الملائكة من عين سلسبيل في أكوابٍ من عسلٍ أو خمرٍ طهور، وإذا جاع مُدَّت له الموائد بما تشتهي النفس من فاكهة ولحم وطعام، لم تره عين بشر ولم تذقه البطون (يتحسَّس بطنه ويتأوه) أما أنا …
المرأة : من أنت؟ من أنت؟
الشاب : تمنَّيت لو تكون زوجي.
المرأة : لا يمكن أن تكون زوجي.
الشباب : بالطبع … بالطبع لا يُمكن أن يكون ضامر الوجه مثلي، لا يُمكن أن يكون الجوع والعطش قد أهلَكَه مثلي.
المرأة : تكلَّم ولا تَكذب، من أنت إذن؟
الشاب : ومن أكون يا سيدتي؟ رسولٌ من عنده بالطبع.
المرأة : رسول من عنده؟ هو الذي أرسلك؟ (تفرح فرحًا شديدًا).
الشاب : ومن غيره؟ من أين سأعرف عنوانك؟ من أخبرني أنه ذهب من خمس سنين، إنه وعدك عند طلوع الرُّوح أنه سيَزورك أو يبعث برسول.
المرأة : رسول يَحمل البشارة … كنت أعرف هذا، كنت أثق به ولا أشك فيه، كذبتن يا نساء القرية، وأنتم يا أطفالها الملاعين، قد جاء رسول ببشارة … قد جاء رسول ببشارة (تغني).
الشاب (يُنبِّهها متوسلًا) : ولكن الرسول جاء من سفرٍ بعيد … سفر بعيد بعيد و… (يُشير إلى بطنه).
المرأة (تواصل الغناء وهي تدور حول نفسها) : قد جاء رسول ببشارة.
الشاب : سيدتي، لا يُمكن أن تُغنِّي بينما الرسول …
المرأة : اطمئن … أعرف أنك جئتَ من سفرٍ بعيد.
الشاب : ولقيت الأهوال والأهوال …
المرأة : وستحكي لي.
الشاب : طبعًا طبعًا، ولكني … (يشير إلى حلقه وبطنه).
المرأة : ولكنَّك ظامئ وجوعان … طمئني أولًا.
الشاب (متوسلًا) : سيدتي!
المرأة : ستَحكي كل شيء؟
الشاب : كل شيء … ولكن عجِّلي قبل أن يرجع الثور العجوز.
المرأة : حقًّا، كيف غاب هذا عنِّي؟ وتعرفه أيضًا؟ تعرف كيف يسومُني العذاب؟ كيف يمتصُّ دمي ولحمي وعمري ومالي؟ هذا الذئب الجشع (تبكي).
الشاب : الجلاد الجزار المخمور السكِّير … عجلي بالله عليك.

(تَنصرِف وهي تمسح دموعها إلى الباب على اليسار، وتختفي وراءه لحظات في أثنائها يكلم الشاب نفسه.)

الشاب : حقًّا إنها لغزال ثمين، وأنا الصياد الذي يَعرف كيف يأكل لحم كتفيه وفخذَيه، قادم من الجنة؟ لم لا … ورأيته هناك؟ وكيف لا؟ أليس رجلًا صالحًا تزفُّه الملائكة وترعاه الحور العين ويُباركه الأولياء والقديسون؟ يا لهذه الليلة الغريبة! ما أكثر ما طرقتُ على الأبواب فلم يفتح باب. أنا الذي عبرت النار وتلظيت بالجحيم طول حياتي، أسقُطُ رأسًا من الجنة على رأس هذه المسكينة، هي مثلي تعيش في الجحيم، مثلي أيضًا تحلم بالجنة … الجنة! ها ها ها! فلأضعِ الزوج البائس فيها، ولأضعك فيها إن شئت وشاء نصيبك. هل أحتاج لشيءٍ غير الخيال؟ وهل ضيعني شيء كالخيال؟ سأشرب وأحشو بطني الفارغة منذ أيام إلا من كلأ الأرض وأشواك الصبار … آه! رائحة اللحم تفوح، ليتَكِ تأتين معها بشرابٍ دافئ … فالليلة بارِدة على القادم من الجحيم … الخيال! ولماذا لا أطلب منها شيئًا يُدفِّئني، لا بل يدفئه من برد … الجنة … نعم نعم … ولم لا؟

(تدخل المرأة وهي تحمل صينية عليها أطباق تتصاعد منها روائح الطعام، الشاب الذي وضَع كيسَه بجانبه يهرع لحملها وهو يلهث بالدعاء.)

الشاب : بارك الله فيكِ أيتها المرأة الصالحة، لا عجب أن يكون زوجك الطيب في الجنة، وأن تَلحقي به بعد عمرٍ طويل.
المرأة : كل واشرب أيها البشير الأمين، ولكن ماذا قلت؟
الشاب (وهو يُقبل على الطعام بشراهة) : ماذا؟ هل قلت شيئًا؟
المرأة : كيف ألحق به بعد عمرٍ طويل؟ هل يتركُني أنتظره كل هذا الوقت؟ ألم يقل إنه سيَحضُر بنفسه؟
الشاب : يَحضُر بنفسه؟ نعم … نعم بالطبع، ولكن هذا يحتاج لبعض الإجراءات.
المرأة : هل يُعقِّدون الأمور هنا وهناك؟
الشاب : ليست الأمور بهذه البساطة، لا في الدنيا ولا في الآخرة. لا بد من إذن أو تصريح في الدخول والخروج، وزوجك الطيب قد قدم الطلب بالفعل، قدمه للملاك المشرف على الجناح الذي يُقيم فيه، والملاك يُرسله إلى ملاك يتولى شئون المنطقة، وهذا يرفعه إلى الملاك المكلَّف بالدائرة، وهذا يَلتمِس الإذن بقبوله من رئيس ملائكة المحافظة، وهذا يُؤشِّر عليه بالموافقة، ثم يلتمس رفعه إلى رئيسه في السماء الأولى، وحتى يصل إلى السماء السابعة، ثم يرفع أخيرًا.
المرأة (في حزن) : حقًّا … لا بد أن يمر وقت طويل.
الشاب (مُقبلًا على الأكل بشراهة) : لا لا، مسألة روتين، لا تخافي أبدًا، أنا أوصيت عليه بنفسي قبل أن أخرج من هناك.
المرأة : لا بدَّ أنك تعبت حتى وصلت إلى هنا.
الشاب (ضاحكًا) : تعبت؟ قولي هلكت، غرقت، متُّ ثم بُعثت، كم من جبلٍ ومُنحدَر، من أنهارٍ وبحور، من أحراشٍ وصحاري … آه لا تُذكِّريني، وكم دميَت قدماي، وتثلَّج عظمي واحترق، انظري.
المرأة (تنظر إلى قدميه وهيئته) : مسكين … مسكين.
الشاب : كان من الممكن أن يُرسلوني على جناحَي ملاك مخصوص، ولكن الملاك كُلف في آخر لحظة بمهمةٍ علوية، وبقيَ عليَّ أن أسلم الرسائل بنفسي.
المرأة : رسائل؟ هل أحضرتَ معك رسالة؟
الشاب (وهو يتجشَّأ راضيًا) : وهل رأيت رسولًا بدون رسائل؟ بالطبع بالطبع منذ وصلت إلى الدنيا، وأنا أسلِّم رسائل في الشرق والغرب … الهند والسند … رسائل للأهالي والآباء والأبناء من ذويهم الصالحين.

(يفتح الكيس الكبير كأنه يريها الرسائل، يستخرج مظروفًا أصفر عليه أختام كثيرة، يَرفعه في وجهها ثم يرده إلى الكيس.)

وهذه آخر رسالة أُوزِّعها، تعبت حتى عرفت العنوان، قريتكم بعيدة جدًّا، تصوري أنها غير موجودة على الخريطة؟!
المرأة : أرجوك … أرجوك.
الشاب : تُريدين أن تقرئيها … أليس كذلك؟ هذا الشوق أعرفه في كل العيون، طالما لمحته في وجوه الأبناء، ولمستُه في قلوب الزوجات الوفيات.
المرأة : اقرأه لي، أسرع أرجوك.
الشاب : آه! نسيت! قبل أن يعود زوجك الثاني، أقصد ثورك المخمور.
المرأة : لو رآك هنا لقتلني، أسرع! أسرع!
الشاب (يشرب الشاي) : اطمئنِّي، وما الحاجة لقراءته؟ إنني أعلم ما فيه، ثم إنه قاله لي بنفسه.
المرأة : إذن فقد رأيته أيضًا؟
الشاب (ضاحكًا) : رأيته؟! يا له من سؤال! وهل له في الجنة حبيب سواي؟
المرأة : يا زوجي المسكين … وحيدٌ أنت في الدنيا والآخرة؟
الشاب : وحيد؟ لا لا! لا تقولي هذا … أليس الفقراء لبعضِهم؟
المرأة : فقراء؟ وهل هو فقير؟
الشاب : طيبة أنت يا حاجة … اسمحي لي أن أسمِّيَك بهذا الاسم المبارك، إنه أفقر من الفقر نفسه.
المرأة : قلبي عليك يا زوجي، أهكذا تسكُت على نفسك؟
الشاب : وهذا ما كتبه لك … أسعفيني يا زوجتي الصالحة.
المرأة : وكيف يترك نفسه هكذا؟ كيف يتركونه …
الشاب : هذه حكاية طويلة يا حاجة … كان في البداية غارقًا في النعيم … حرير أرق من أجنحة الملائكة … عسل وفاكهة وخمر في أكواب وأطباق ذهبية وفضية … كراسي وأرائك وسجاد وستائر … قصور وحدائق وجنات وأنهار … ثم …
المرأة : ثم ماذا؟ ماذا حدث؟
الشاب : حدث ما يحدث أحيانًا بينكم في هذه الدنيا … اختلف مع بعض الصالحين، تنافَسُوا على بحيرة يَملكُها أحد الأولياء الطاهرين، تطور الأمر إلى عراك بالأيدي وسباب وشتائم … فزعت الملائكة، وأشاحت بوجوهها الحور العين، واضطربت السماء الأولى والثانية والثالثة.
المرأة : زوجي لا يُمكن أن يفعل هذا.
الشاب : هذا ما حدث يا حاجة، هل تَعلمين ماذا فعلوا به؟
المرأة : من هؤلاء؟
الشاب : رئيس الملائكة وأعوانه المباركون … قرَّروا نفيه في كوخٍ صغير، حكموا عليه أن يخلع حرير الجنة وطيلسان النعيم والقصور، ويُفرغ جيبه من الذهب والدنانير … حكموا عليه.
المرأة (تبكي) : مسكين يا زوجي الطيب، ألا يَكفيهم أن يسير كالشحاذ المسكين؟
الشاب : حكموا عليه أن يبقى في الكفن الذي دفن فيه.
المرأة : الكفن الأبيض وحده؟
الشاب : حكمُ السماءِ يا حاجة … عاري الرأس … حافي القدمين … إذا خرج من كوخه ليتريض قليلًا بعد العصر.
المرأة : ويراه الناس حافيًا عاري الرأس؟
الشاب : أشار إليه الملائكة والصالحون، وقالوا: هذا هو الرجل الذي لم يدخل الجنة، ولم يدخل النار.
المرأة : لم يدخل الجنة؟
الشاب (مستدركًا) : ولم يخرج منها أيضًا … أقصد أنه في حالة طوارئ، لا هو في الجنة، ولا هو في النار.
المرأة : يَحفظك الله يا زوجي، ما هكذا يعاملونك.
الشاب : ولهذا أرسل إليك هذه الرسالة الذهبية (يخرجها ويريها لها من بعيد) انظري … هذا هو ختم الحارس الأكبر، وهذا ختم وكيله وكاتم سره، إنه يطلب …
المرأة : أسرع أسرع، ماذا يطلب؟
الشاب : أشياء قليلة … اطمئني.
المرأة : قلت لك أسرع … أخشى أن يأتي …
الشاب : الثور الملعون، لا أخشى شيئًا، سيتخبط في الظلام طويلًا قبل أن يهتدي إلى الباب.

(تسمع خشخشة في الحارة، أصوات نحنحة وسعال شديدَين.)

الشاب : آه … ماذا يطلب صاحبي المسكين؟ عشرة دنانير ذهبية، حتى لا يَمشيَ فارغ الجيب واليد.
المرأة : طبعًا طبعًا، ربما اشتاقت نفسه لشراب أو طعام دافئ، خذ (تضع يدها في صدرها، وتُخرج كيسًا صغيرًا تفرغ منه عشرة دنانير) خذ، وهذا لك أيضًا.
الشاب : دينار ذهبي؟!
المرأة : جزاء المشوار، والله يجازيك.
الشاب : شكرًا شكرًا، وسيدعو لكِ زوجُكِ بالستر وبالعافية، هذا أفضل من التسول والعيش على صدقات الأتقياء الصالحين، ويطلب أيضًا …
المرأة (تنظر من النافذة وترجع) : تكلَّم تكلَّم، الزوج ينادي ويلعن على الباب.
الشاب : إن كان لديك سترة من الصوف أو معطف ثقيل، الدنيا في الآخرة برد كما تعلمين.
المرأة (تهرع للدولاب، تقلب في الملابس وتُخرج معطفًا أسود) : خذ، ها هو ذا … لا بدَّ أن الكفن قد بليَ وتعفَّر بالتراب.
الشاب : لا تنسَي الغيارات الداخلية؛ قميصَين وسروالين. يُستحسَن أن يكونا من الصوف.
المرأة (تُقلِّب في الدولاب وتُعطيه) : خذ … خذ.
الشاب : وجلبابًا … جلبابًا يَسترُه يا حاجة.
المرأة (تُعطيه) : واحدًا من الصوف، وواحدًا من الجوخ، لن تَبرد أبدًا يا زوجي وأنا حية.
الشاب : وطاقية إذا أمكن من الصوف.
المرأة (بسرعة) : خذ طاقيتين، واحدة للمَشْي وأخرى للنوم.
الشاب : نسيت، كيف أنسى هذا؟
المرأة : ماذا … تكلم تكلم.
الشاب : هل نَتركُه يمشي حافيَ القدمين؟
المرأة : آه … كيف غاب هذا عنا؟ ولكن ليس لديَّ إلا هذا، قدم زوجي هذه أكبر من قدمه.
الشاب : لا مانع … لا مانع، الحذاء أفضل من القدم العارية على الأرض.

(يَزداد صياح الزوج على الباب، طرق شديد مصحوب باللعنات: افتحي أيتها البقرة، أين ذهَبتِ المجنونة؟ نامت لتَحلم بالمرحوم! ها ها ها! المرحوم المرحوم! أم عاد إليها فوق جناح ملاك؟ ها ها! ليتَه أخذها وأراحني. ليت إبليس يأخذهم جميعًا … إبليس؟ لا لا … أقصد عزرائيل … عزرا… عز عز عز…)

المرأة (تُطلُّ من النافذة) : يبدو أنه نام على العتبة.
الشاب : وماذا أفعل؟ لا بد من الخروج بسرعة، فالطريق طويل.
المرأة : تعالَ أُريك الباب الثاني، ستخرج من دوار البهائم والحمير.
الشاب : جزاك الله! أهكذا يُعامَل القادم من الجنة؟
المرأة : لو رآك لذبحك وعلَّق رأسك بالباب، هيا هيا … لا تنسَ أن تسلم عليه، قل له …
الشاب : سأقول له كل شيء، اطمئنِّي، سأسعى للعفو عنه. وسيحضر بنفسه.
المرأة : أنا في انتظاره، منذ أن ذهَبَ وأنا في انتظاره، قل له أيضًا … قل له يأخذ باله من نفسه، سلِّم عليه … سلم عليه … سلم عليه.

(تُشيِّعُه إلى الباب وهي تُشير له، يحمل كيسه على ظهره ويقول وهو يخرج.)

الشاب : جزاك الله خيرًا.
المرأة : لا تتباطأ عني، وإذا احتاج لشيءٍ فارجع.
الشاب : وإذا احتجتُ لشيء، بالطبع سأرجع … بالطبع سأرجع.

٢

(نفس المنظر، تدخل المرأة وهي تُسند زوجها.)

المرأة (تُغني) :
يا جارة مرحى يا جارة،
قد عاد رسول ببشارة،
أَفِق يا رجل … أفق واسمع.
الرجل : أفيق؟ لماذا أفيق؟
المرأة (تُواصل الغناء) :
كي تَسمع منِّي أخباره،
وتُسرَّ وتَعرف أسراره.
الرجل : لا أريد أن أسمع … لا أريد أن أعرف، ثم لماذا تغنين؟
المرأة (تغني) :
زوجي في خير يا جارة،
يا جارة غنِّي يا جارة،
إن كانت معك القيثارة،
فلنَشدُ سويًّا يا جارة،
ونُزيح عن القلب مراره.
اصحُ يا زوجي، ألا تُريد أن تفيق؟ أكلَّ ليلة أرشُّ وجهك بالماء؟
الرجل : هيه؟ ولماذا أصحو؟ لأسمعَكِ يا مجنونة؟ ثم لماذا تغنين؟
المرأة (تهزُّه بشدة) : لأن من حقي أن أغني، بعد خمس سنوات معك أغنِّي وأغنِّي وأغنِّي.
الرجل : في عز الليل تُغنِّين؟ ألا يكفي أنهم يُعيِّرونني بك، في الحانة والسوق والطريق، يشيرون إليَّ ويقولون: زوج المجنونة.
المرأة : ويُعيِّرونني بك أيضًا، عند النبع وفي الحارة، في المأتم والفرح، فوق الجبل وعند السفح، يقولون: زوج السكِّير، زوج الثور المخمور.
الرجل : ثور؟ أنا ثور؟ وأنت البقرة (يَصفعُها).
المرأة (تردُّ الصفعة) : وأنت الذي حلبتَها ومصصتَ دمعها ولحمها.
الرجل (يُفيق قليلًا، يجري وراءها ويُخطئها) : أنا؟ أنا؟ أنا الذي رضيت بك يا مجنونة؟ قلت أرملة مسكينة، تَزوجتُكِ لوجه الله.
المرأة : تزوجتَ الحقل والبيت والساقية وثلاثة ثيران وحمارَين وبقرتين.
الرجل (ضاحكًا) : بل بقرة واحدة، بقرة واحدة.
المرأة : يرحمك الله يا زوجي الأول، كنت تُحبُّني وترعاني وتخشى أن تجرحني النسمة، لماذا تركتَني للثور المخمور؟
الرجل (بدأ يُفيق) : احذَري أن يَنطحك ويَذبحك أيضًا، لا تنسَي أنه ثور وجزار، أيتها البقرة المُغنية.
المرأة : ألا تَسأل لماذا أُغنِّي؟
الرجل (يعلو شخيره) : ولماذا تُغنِّين؟
المرأة : لو عرفتَ لغنيت معي، لو عرفت لفرحتَ لزوجتك.

(الرجل يعلو شخيره.)

المرأة (تهزه بشدة) : لقد عاد … عاد.
الرجل : من؟ المرحوم؟!
المرأة : رسول من عنده.
الرجل (يصحُو فجأة) : من الجنة؟
المرأة : وهل يعود مثلك من جهنم؟
الرجل (يُفيق تمامًا، يبحث في كل مكان) : أنا الذي سيُلقيه في جهنم، أين هو؟ أين؟
المرأة : عم تبحث؟ لقد ذهب.
الرجل : جاء وذهب … إلى الجنة أيضًا؟
المرأة : بالطبع … جاءني بالبشارة وأعطيته الأمارة.

(تغني):

قد جاء رسول ببشارة،
يا جارة غني يا جارة.
الرجل : ما هذا؟ أتلعبين برأسي أيتها البقرة؟ (يَهجُم عليها.)
المرأة : وهل تركَتِ الخمرُ فيها شيئًا ألعب به؟ دعني … دعني.
الرجل : ألعب كما أشاء … ما شأنُكِ أنت؟
المرأة : تلعب بمالي، بما تَسرقُه من أرضي وأرض أجدادي.
الرجل (متلطفًا) : دعينا من هذا، قولي من الذي جاء؟ ماذا أعطيته؟
المرأة : وهل تركتَني أقول لك؟ هل سألت عن المعجزة؟
الرجل : معجزة؟
المرأة : أن يحضر شابٌّ من الجنة، ومعه رسالة من المرحوم، ألا تُسمِّي هذا معجزة؟
الرجل : شاب فقير؟ (لنفسه) لا بد أنه لصٌّ خطير، صفيه لي.
المرأة : كيف أصفه؟ ليتك رأيته معي.
الرجل : كنت خنقتُه بيدي، هيا صفيه لي.
المرأة : قلت لك شاب فقير، عبَرَ الجبال والصخور، والصحاري والبحور، فتَّشَ في كل مكان عنِّي، هل تعلم أن قريتنا ليسَت على الخريطة؟
الرجل : ما هذا الهراء، قرية وخريطة، ماذا كان يلبس؟
المرأة : مسكين، أسمالًا سوَّدها التراب والمطر، شَعرُه طويل طويل، وقدماه حافيتان.
الرجل : وماذا يحمل على ظهره؟
المرأة : ماذا يحمل على ظهره؟ نعم نعم … ألم أقل لك؟ الكيس الكبير، فيه رسالة إليَّ، وكلُّه رسائل مختومة من الملائكة.
الرجل : يا إلهي، مختومة أو مبصومة … وأين هي؟
المرأة : تعلَم أنني لا أقرأ.
الرجل : لا تَقرئين ولا تفهمين، أين هي؟
المرأة : قلت لك قرأها عليَّ، رسالة من المرحوم، ألا يسرُّكَ أن يكتب إليَّ …
الرجل : يسرني؟ طبعًا يسرني، وماذا يقول فيها؟ (لنفسه) هؤلاء الملاعين، يستغلُّون السذج المساكين، ويُوزِّعون عليهم المنشورات، يُبشِّرونهم بالجنة ويسرقونهم، ماذا قال فيها؟
المرأة : ماذا قال فيها؟ (تبكي.)
الرجل : أف … ما الذي يُبكيك الآن؟
المرأة : لو سمعتَ لبكَيت معي.
الرجل : سأبكي حتمًا … سأبكي.
المرأة : هل تتصوَّر أنه يعيش وحيدًا في كوخٍ صغير؟ زوجي الطيب الصالح يعيش وحده في كوخ.
الرجل : كوخ … كوخ في الجنة؟
المرأة : أنت لا تعرف الحكاية … دبَّت بينه وبين بعض الصالحين خناقة، ثار زوجي المسكين كعادته وسبَّهم ولعنَ أجدادهم، فجاء رئيس الملائكة …
الرجل : الحمد لله، وقذَفَه في الجحيم.
المرأة : معاذ الله، إنه لا يَزال في الجنة، ولكن على الحدود.
الرجل : على الحدود؟ وماذا يفعل هناك؟
المرأة : بل قل كيف يعيش؟ ماذا يلبس؟
الرجل : قولي أنت …
المرأة : قلبي تقطَّع وأنا أسمع ما قاله الشاب، بكيتُ حتى احمرَّت عيناي … تصور أنه الآن يلبس الكفن الذي دُفن فيه؟
الرجل : بالطبع، وهل يلبس ملابس الزفاف؟
المرأة : زوجي المسكين … زوجي المسكين (تبكي).
الرجل : أنا المسكين … أنا المسكين … وماذا أعطيته؟
المرأة : وهل رأيتُه حتى أعطيَه؟ ليته جاء بنفسه بعد طول الانتظار (تبكي).
الرجل (يُهدئها) : سيجيئ حتمًا، ماذا أعطيت الشاب الملعون؟
المرأة : كل ما يحتاجه، قميصَين وسروالين.
الرجل : آه.
المرأة : والجلباب الجوخ، وجلباب الصوف.
الرجل : الصوف؟
المرأة : الدنيا برد هناك … أقصد الآخرة، وطاقيتَين.
الرجل : يا إلهي، تمت المعجزة، وكيف أنام الليلة؟
المرأة : وعندما قال إنه يعيش على الصدقات أعطيته …
الرجل : تمَّت … تمت، ماذا أعطيته؟
المرأة : هل يُرضيكَ أن يتسول هناك؟
الرجل : بالطبع لا، كم أعطيته؟
المرأة : عشرة دنانير.
الرجل : ذهبية؟!
المرأة : أتريد أن يمد يديه للناس؟ ودينارًا آخر.
الرجل : لمصروف الطريق (لنفسه) يا لعينة! وحين أسألك تبخلين وتَمكُرين.
المرأة : ماذا تقول؟
الرجل : لا شيء.
المرأة : ألست راضيًا عني؟
الرجل : راضٍ؟ كل الرضا.
المرأة : كنتُ أقول هذا لنفسي، أنتَ زوج طيب برغم كل شيء.
الرجل : ولكن يا زوجتي الطيبة.
المرأة : ماذا يا زوجي الطيب؟
الرجل : ألم يخطر ببالك أن هذا المبلغ قليل؟
المرأة : صحيح، أتظن أنه قليل؟
الرجل : أظن؟ بكل تأكيد. وماذا تنفع عشرة دنانير في الجنة؟ هل تكفي للعسل أو الخمر؟
وماذا يفعل المرحوم لو قابله مجذوب من أهل الله، وسأله حسنة تُنقذُه من الجوع وذل السؤال؟
المرأة : حقًّا … ماذا يفعل؟
الرجل : لا لا لا … لا بد من مضاعفة المبلغ … هيا هيا أعطيني عشرة أخرى لألحق به قبل أن يصل إلى هناك، من أين ذهب؟
المرأة : من الباب الآخر عبر الدوار.
الرجل : نعم نعم … في أي طريق؟
المرأة : آه … أظن أنه سيَصل إلى التلَّة، ثم يَنحدِر منها إلى الأرض البور خلف محطة الوابور، ثم يسير مع خط السكة الحديد، حتى يَبلغ سلسلة الجبال، وإذا عبرها سار في خط مستقيم (تناوله الدنانير العشرة).
الرجل : طبعًا … طبعًا هو الطريق المعلوم، وماذا كان يلبس؟
المرأة : قلت لك لا يلبس شيئًا.
الرجل (صارخًا) : تذكَّري … لا بد أنه يلبس شيئًا، حتى ولو كان كفنًا كالمرحوم.
المرأة : آه … أجل على ظهره كيس كبير بُنِّي اللون، فيه رسائل مختومة.
الرجل : بختم الملائكة، وعليه بذلة أم جلباب؟
المرأة : بذلة؟ نعم بذلة زرقاء، ولكنها أسمال … أسمال، وحول رقبته شال أسود.
الرجل : شال أسود … حسن … حسن، وربما يَلبس جلبابي الأسود فأخنقه.
المرأة : ماذا؟ ماذا تقول؟
الرجل : أقصد سأَعرفُه على الفور، وسأُعطيه الدنانير العشرة ليسلمها للمرحوم.
المرأة : جزاك الله كل خير يا زوجي العزيز، هذا ما كنتُ أقوله دائمًا لنفسي.
الرجل : زوج طيب رغم كل شيء، هيا لا تضيعي الوقت.
المرأة : أتريد أن تعطيه شيئًا آخر؟
الرجل (صائحًا) : هيا أسرجي الحمار، هيا بلا إبطاء.
المرأة : جزاك الله الخير يا زوجي، كنت أعرف أنك وفي (تذهب).
الرجل : رغم كل شيء … آه يا ربي، لماذا ابتليتَني بهذه البلية؟
المرأة (تعود) : لو شاء الله ومت سأرسل لك أكثر مما أرسلت إليه.
الرجل : قلت اذهبي، امرأة بلا عقل ولا روح ولا جسد … بقرة عجوز حمقاء، قردة تضحك عليها القرود وتبكي … لماذا يا ربي أعميت عقلها وصممته وأخرسته؟ كيف نفختَ فيها من قبسك المُنير وبقيَ مع ذلك في ظلامٍ بهيم؟ لكي أتعثر فيه وأسقط؟ لكي أرتطم بخفافيش الحُمقِ ليل نهار؟ لكي تفضحني في الشارع والسوق والبيت والطريق؟ آه يا ربي ألأني أشفقتُ عليها ورضيت بها؟ ومن سيُصدق أنها ترسل المال والثياب والحذاء لرجلٍ مات من خمس سنين؟ أهو الحب الذي يُصيب العقل بالعمى والعين بالجنون؟ أف من هذه المصيبة! جعلتني أُخلِّط أيضًا وقريبًا أصبح كالمجنون، وأنت … أنت أيها اللص المتسول أيها الأفاق اللئيم! كيف أوقعتَها في مصيدتك؟ لا بدَّ أنك طالب مُتسكِّع أو فقيه فاسد أو مُحتال مأجور. أكاد أعرفُكَ من كثرة ما سمعتُ عنك. آه لو وقعت في يدي! ستعرف مَن مِنا الأمكر والأدهى، سترى أن الكتب لم تنفعك ولن تُنجيك … سأقتص منك وأجعلك تتوب. سأزفُّك على حمار أعرج في شوارع القرية وأُفرِّج عليك العميان وأُسمِع الصم صياحك ونواحك … أيها الجدي الضال! لن تفلت من الثور المخمور … الثور المخمور، وسأَشرب في صحتي حتى أصبح الثور والجزار والضحية والسكين والكلب المسعور.

(ينصرف وهو يخور ويُكشِّر عن أسنانه وينبح بصوتٍ عالٍ.)

٣

(خلاء وبرد في الصباح والجو غائم، الشاب يجلس على شجرة مقطوعة ويُناجي نفسه … الكيس أو الجراب أمامه، يقلبه ويستخرج منه بعض محتوياته ثم يطويها. يُحدِّث نفسه ويذرع المكان جيئةً وذهابًا، يلمح شبحًا قادمًا فيُحاول أن يخفي الجراب. الشبح يظهر عن قرب … يسبقه أنينه وتأوُّهاته.)

الشاب : ما بك أيها الرجل؟ لماذا تئنُّ وتتأوه؟
الرجل : ولدي يا ولدي. ولدي يُوشِك أن يسبقني إلى الجنة.
الشاب : أنت أيضًا؟ ما الذي جرى؟ هل يَتسابق الجميع هنا إلى الجنة؟
الرجل : منذ شهرين وهو يموت … يُلفظ روحه نفسًا نفسًا أمام عيني.
الشاب : وماذا تفعل هنا في العراء؟ كيف تتركه وتمضي؟
الرجل : أتركه؟ أنا لا أتركه يا بني، إنما جئتُ أبحث عن الشيخ.
الشاب : أي شيخٍ يا رجل؟
الرجل : الشيخ الواعظ أيها الشاب، يقولون عنِّي معتوه، ولكني أعرف الواعظ من الفاسق، هل رأيتَه يا ولدي؟
الشاب : وكيف أراه يا رجل؟ هل ترى شيئًا حولك؟ أتبحث عنه بين الأشواك وشواهد القبور؟
الرجل : قالوا في القرية المُجاورة، وراء التل، سألت عنه هناك فقالوا هو في الخلاء، يصوم ويَعتكف ويدعو ويصلي لله. ألم تره يا ولدي؟
الشاب : لم أر إنسًا ولا جنًّا، في هذه الأرض لا ترى حيًّا ولا حياة.
الرجل : إذن فسأبحث عنه وراء الهضبة، ربما يكون هناك يا ولدي.
الشاب : اذهب إلى ابنك يا رجل، كيف تتركه؟
الرجل : قلتُ لم أتركه … أأنت أيضًا؟
الشاب : لا لا … أنت رجل عاقل، ولكن ارجع لتكون مع ابنك.
الرجل : أنا معه يا ولدي، من أجله أبحث عن الشيخ. أريد أن يكون معه، أن يقرأ آيتين على رأسه. قالوا هذا يجعله من أهل الجنة.
الشاب : اذهب يا رجل، عد إلى ابنك.
الرجل : وإذا رأيتَه تُرسلُه في الحال. أرجوك يا ولدي.
الشاب : قبل أن تصل إلى عتبة بيتك، اذهب … اذهب.
الرجل : قل له بيت المعتوه، ابني يموت يا ولدي، ابني يموت.
الشاب : اطمئنَّ … سأقول له كل شيء.
الرجل : وهو يَعرف أنني لست بمعتوه، يعرف أنهم …
الشاب : بالطبع، أنهم يَظلمونك … أسرع أسرع.
الرجل : قل له لا يتأخر … أرجوك.
الشاب : أسرع يا رجل … أسرع.

(ينصرف الرجل، يعود الشاب إلى جرابه ويقلب في محتوياته، يفرك يديه من البرد.)

الشاب : برد، برد شديد! ماذا كنتُ سأفعل لولا الدنانير؟ الدنانير؟ بل لولا دينار واحد؟ كنت هلكت كالبهيم ونفقت كالحمار. عندما دخلت المطعم بعد طلوع الفجر، حقًّا إنها حكاية! النادل العجوز يَكنس السلم. عبرتُه غير مبال، دخل ورائي مُسرعًا، صعَّد فيَّ بصره وأنزله … لماذا تنظر هكذا! وبصوتٍ مُرتفعٍ كالأعيان وأصحاب الأملاك هيا … أعدَّ الفطور! ولا تنس شرائح اللحم، والبيض والجبن من كل الأنواع. لماذا تنظر إليَّ أيها الأبله؟ ألا أليق بهذا الفطور الملكي؟ لا تُرضيك سترتي البالية وشالي المعفر ووَجهي الذي لطمت الرياح والأمطار والعواصف صخرته الناتئة وجعدتها وملأتْها بالشقوق؟ وهرعت إلى الدنانير … أخرجت الكيس وأسمعته الرنين، فزع المعتوه. ترك المكنسة وربط المداعة، وأقبل على العمل. هل يطلب سيدي شايًا بالحليب؟ قهوة بالحليب يا ثور! هكذا يفعلون في بلاد الله المتحضِّرة. قهوة باللبن، وسكر كثير كثير. فالطريق وعر لا يزال … الطريق وعر على الدوام. ولا تسل عن الانحناءات والاحترامات والتحيات. هذا لك! والدعوات أيضًا والابتهالات (يُخرج الكيس ويرنه) هكذا تفعل أيها السم البراق! تفتح العيون وتُغمضها وتدفع الأبواب بالأقدام. دينار معك فأنت مع نفسك، مع الحق، مع القوة، مع العدل والحقيقة … الحقيقة؟ تتمدَّد كالجثة إن لم ينفخ فيها الدينار الدفء. إن لم تُنعِشها شمس الدينار الذهبية! بوركتِ أيتها المرأة الطيبة! أيتها الحاجة الصغيرة البائسة! الحاجة! ها ها! سميتُها الحاجة، ولم لا؟ صيد ثمين يا غزال! صيد يَكفيني مئونة الشتاء. وماذا كنتُ أفعل الآن بغير دفءٍ ولا شراب؟ ليت الوقت اتَّسَع، ليت الذاكرة لم تكن كالغربال المخروق. إذن لطلبت شايًا وسكرًا وبنًّا وكومة أرغفة تعين على الطريق. الطريق طويل يا امرأة. الطريق وعر يا حاجة! آه لو عرفت أنه يؤدي دائمًا إلى الجحيم! الجنة! أجل أجل، حلمت بها طويلًا، وحرقت عيون الفكر والعزم والخيال. حاولت أن أصنعها للأطفال والجيران والأصحاب وأهل القرية. وفي كل مرة تتهشَّم أجنحة الحلم على صخرة القبح والظلم. في كل مرة تسحقُها أقدام القِرَدة، وتلوكها أنياب الذئاب والكلاب، حتى الحمير الراضية القانعة تُصمِّم أن يكون العلف من الأحلام. فإذا شبعَت تمدَّدت في الشمس ورفعت النهيق آمين آمين! وأنا المطارد والمطرود. أهيم من بلدٍ إلى بلدٍ بلا عدة ولا حذاء، جواب آفاق أم أفَّاق؟ حالم بالجنة أم هارب من الجحيم؟ ودائمًا أعود إلى المركز، وألفُّ حول الدائرة وحيدًا في البرد والليل، في الصحراء والهجير. ابتعدي أيتها الذكريات! بدأت الشمس تُسلِّط على رأسي سياطها فدعيني. وماذا أفعل الآن؟ لا بد من الاحتياط، ربما يكون الثور المخمور في أعقابي. ربما أُفاجأ به يقبض على خناقي، فلْأُسرع أيتها الحيلة أين وصاياك وعُكازك؟ أين نُذورك وبخورك وألاعيبك يا شيخ السوء وحاوي السيرك المغمور؟ ها ها! ها هي ذي! الجبة والشال والعمامة. لو لبستُ الجلباب لعرَفَني. لو بقيتُ بهذه الأسمال لوقعت في القفص كالنسناس المذعور. والشال الأسود … حمدًا لله أنني لم أنسَه على رقبتي! وشكرا لك أيها المعتوه، أنا الشيخ الذي تنتظره … أنا الذي سيُرسل ابنك للجنة … يُرسله؟ ولماذا لا آخذه معي؟ لماذا؟ (ينزع الشال الأسود، ويلقيه في الجراب، يستخرج الجبة والعمامة والشال الأبيض، يتلفت حوله).
أرض بور! أرض خراب! أشواك وبقايا جذوع وشواهد قبور، أما من شجرةٍ أقبع في ظلها أو أستند عليها وأغير ملابسي؟ أدائمًا تُكشَف الرغبات وتُعرى الأحلام؟ وماذا لو رأيته الآن ووقعت في الفخ؟ من أجلك يا سيدتي المسكينة. من أجلك يا حاجَّة أحتمل عذاب الرحلة للجنَّة أو للجحيم. (يبدأ في تغيير ملابسه قِطعة قطعة وهو يُدندن بلحن الأغنية التي سمعها من النساء والأطفال مع بعض التغيير):
يا جارة مرحى يا جارة،
قد جاء رسول ببشارة،
ورآك وحقَّق أوطاره،
واحتال الشاطر بشطارة،
يا جارة مرحى يا جارة.
عظيم! شيخ أخنى عليه الزمان، مُعلِّم لم تعلمه الأيام. من أجلك أيتها المسكينة، وأنت أيها الطفل المسكين، هل بقي شيء؟ نعم نعم. الجراب، لا بد من إخفائه، أين أُخفيه؟ أين أخفيه؟ لعَن الله هذا الخلاء. لم تبق إلا الأرض، أيها الرحم المفتوح على الدوام. أيها الكهف الأمين اللعين. وأين المهرب منك؟ اليوم تلقم الجراب وغدًا صاحب الجراب! (يحفر حفرة يُخفي فيها الجراب. يُرتِّب ملابسه وعمامته ويفتح كتابًا في يده، يتلفت وراءه فيلمح شيئًا يتقدم نحوه).
ها هو ذا! تعالَ يا ثوري المخمور. تعال يا ثوري المسعور.

وهل تُعجزني التعاويذ والبخور؟ (يتقدم الزوج وينزل من على حماره.)
الزوج : سلام أيها الشيخ!
الشاب (يرفع رأسه من على الكتاب) : سلام أيُّهَ العبد المؤمن.
الزوج : معذرة … سؤال بسيط.
الشاب : بارك الله يا ولدي … ولي سؤال بسيط.
الزوج : أجب أولًا عن سؤالي.
الشاب : سأفعل إن شاء الله إذا أجبت عن سؤالي.
الزوج : ولكنَّني مُتعجِّل، إن لم تُجِب هرب الجاني.
الشاب : لا يغرك أنني أقرأ وأنني جالس، إن لم تُجبْني مات المرحوم.
الزوج : المرحوم؟ هل رأيته؟
الشاب : وهل كنت أسألك؟ أنا هنا تائه يا ولدي. غريب عن هذا البلد وعن هؤلاء الناس. لا أرى غير الأشواط ولا أشمُّ غير رائحة الموتى والمستنقعات، هل تدلُّني على …
الزوج : هل تدلني أنت على رجلٍ مر من هنا؟
الشاب : لا أجيب حتى تجيب، أيقَظُوني من عز النوم لأحضر وفاة طفلٍ مسكين. تركوا العنوان وتركوني بغير دليل، هل تعرف كفر البور؟
الزوج : أعرفها … إني آتٍ منها، وماذا تُريد منها يا شيخ؟ من تريد؟
الشاب : فلاح هناك، يبدو أنه رجل طيب موعود. أقصد معتوه من أحباب الله، قالوا بيته بجوار دوار شيخ البلد، وله طفل واحد، والمسكين يموت.
الزوج : لا حول ولا قوة إلا بالله، يكفي أن تتجه وراء التلة.
الشاب : نعم نعم …
الزوج : وتجتاز البِركة الكبيرة.
الشاب : تصوَّر يا ولدي حال المسكين! أب معتوه والابن الوحيد. والابن الوحيد يُصارع القضاء والمقدور، منذ ليالٍ وأسابيع وشهور.
الزوج : الموت حق يا شيخ.
الشاب : بالطبع يا ولدي، توكَّلنا على الحي الذي لا يموت، سأقرأ على رأسه إن شاء الله.
الزوج : يا شيخ … افعل ما قدرك الله، ولكن بالله عليك …
الشاب : ماذا تريد يا ولدي؟
الزوج : هل نسيت؟ سؤالي لم تجب عليه.
الشاب : اسأل يا ولدي وستعرف إن شاء الله.
الزوج : هل مر عليك أحد الآن؟ رجل يلبس بذلة زرقاء، عليه أسمال بالية، وعلى رقبته شال أسود، وفوق ظهره …
الشاب : جراب … جراب بُني منفوخ.
الزوج : تمامًا يا شيخ … أسرع بالله عليك، أين ذهب؟
الشاب : ذهب يا ولدي … لم يتوقَّف حتى أسأله.
الزوج : بالطبع بالطبع كان متعجلًا.
الشاب : جريت وراءه وأنا ألهث، لم يَرحم ضعفي وشيخوختي (يسعل). لم يرد بكلمةٍ واحدة.
الزوج : هو نفسه … هو اللص الملعون.
الشاب : لص … وملعون، القلوب يعلمها علام الغيوب يا ولدي … أين ذهب؟
الزوج : أنا الذي أسألك يا شيخ …
الشاب : كان يسرع كالحصان في الرهان، يا ولدي انتظر … انتظر.
الزوج : ولم يرد عليك.
الشاب : لم يَلتفِت إليَّ … شباب هذه الأيام!
الزوج : ذهب في أي اتجاه؟
الشاب : وكيف أعرف؟ قلت لك لم يَرُد، اختفى وراء هذه الهضبة، عبرها كالمهر الطائر في الريح، أتعرف ماذا فكرتُ حين رأيته وهو يجري؟
الزوج : ماذا يا شيخ؟
الشاب : تخيَّلتُ ما كنت أسمعه في طفولتي … بدا كأنه نعش يطير.
الزوج : نعش؟ أيكون قد مات قبل أن أخنقه بيدي؟
الشاب : لا لا، هذه خرافات يا ولدي … كانوا يقولون إن الرجل الصالح يطير نعشُه في الهواء، وكأنه يسبق المشيعين إلى الجنة.
الزوج : عرفتُه يا شيخ … هو أيضًا يزعم أنه ذاهب إلى الجنة.
الشاب : أرأيته قبل هذا؟
الزوج : لو رأيتُه لفصلت رأسه الملعون عن جسده النجس، ولكنَّني عرفت ما فعل، قال إنه ذاهب إلى الجنة، وترك في البيت نارًا تشتعل.
الشاب : معاذ الله، أحرق البيت؟
الزوج : نهب ما فيه، هل تفعل النار أكثر من هذا؟
الشاب : وماذا نهب يا ولدي؟ اربط الحمار إلى هذا الجذع وتكلم.
الزوج : تُعطِّلني يا شيخ، حتى الحمار يستعجلني للإمساك به، لا تدري كم نهب وخرب.
الشاب : لا بد أنه لص مشهور.
الزوج : يقولون طالب صعلوك، وربما واعظ فاسق أغواه إبليس.
الشاب : أعوذ بالله، إلى هذا الحد يا ولدي؟
الزوج : وأكثر يا شيخ، ضحك على زوجتي البلهاء. قال لها إنه قادمٌ من الجنة، هذه النعجة الحمقاء وقعت في يد الجزار.
الشاب : الجزار، لا أفهم يا ولدي.
الزوج : رجل صالح مثلك لا يفهم أولاد هذا الزمان.
الشاب : هل ذبحها لا سمح الله؟
الزوج : ذبحني أنا يا شيخ، هل تَعرف ماذا فعلت المسكينة؟
الشاب : وماذا فعلت؟
الزوج : لم يكفها ما أخذ، الدنانير وجلبابين من الجوخ والصوف، وحذاءً أدخره للشتاء. أعطته كذلك عشرة دنانير، دنانير من الذهب يا شيخ.
الشاب : من الذهب؟ في أيام لا نعثر فيها حتى على القَشِّ والعلف؟ لماذا يا ولدي؟
الزوج : لكي يسلمها لزوجها الأول. كانت متزوجة قبلي. المعتوهة لا ترضى بي، لا ترضى عني، ولهذا تنتظر أن يرجع الزوج الصالح من الجنة.
الشاب : مسكينة، تريد الجنة وتقع في نار إبليس.
الزوج : أنا الذي وقعتُ يا شيخ، ولكنَّه لن يفرَّ، لن يَهرُب منِّي.
الشاب : وماذا ستفعل يا ولدي؟ استعذ بالله واسترح قليلًا.
الزوج : أستريح؟ لا بد من اللحاق به يا شيخ. لا بد من ضربِه حتى يتوب، ثم خنقه حتى يستريح منه الناس، أفٍّ لقد عطلتني.
الشاب : إذن فعجِّل، هل سيُسعفك هذا الحمار؟
الزوج : الحمار؟ حقًّا لم أفكر في هذا، بالطبع لن يُسعفني، شيطان كسول لا ينفع في شيء، هل ستَبقى هنا قليلًا يا شيخ؟
الشاب : سأبقى يا ولدي حتى تعود، إنَّني مُتعَب ولا بد أن أستريح، ولكن لا تتأخر فالطفل المسكين …
الزوج : الطفل؟ قبل أن أترك القرية، سمعت صواتًا من ناحية الدوار الكبير.
الشاب : يرحمه الله، هكذا تموت الأطفال، وتموت معها الأحلام، أسرع يا ولدي.
الزوج : سامحك الله يا شيخ، تُفكِّر في الأطفال والأحلام، وتُعطِّلني عن الإمساك باللصوص!
الشاب : أنا أُعطِّلك يا ولدي؟ اذهب اذهب في أمان الله.
الزوج : وهذا الحمار الملعون؟
الشاب : خذه أو اتركه في أمان بإذن الله.
الزوج : ستنتظرني إذن؟
الشاب : بالطبع يا ولدي، لكن لا تتأخرَّ … لا تتأخر.
الزوج : إذن إلى اللقاء.
الشاب : إلى اللقاء يا ولدي، وليُعنِّي الله على البلاء.
الزوج : خذ بالك من الحمار (يجري مسرعًا نحو الهضبة).
الشاب : توكل على الله، توكل على الله … في يومٍ واحدٍ كل هذا البلاء، طفل يموت وبيت يخترق وحمار كسول، هيا قف في مكانك، أتريد أن تذهب معه؟ أتريد أن تعرف الطريق إلى الجنة. الجنة هنا تحت قدمَيك، وأنت ستكون تحت قدمي. هذا الثور المخمور يظن أنَّني صيد سهل. ومع ذلك فالمسكينة تعز عليَّ، أيتها الطيبة الصالحة تكفيك نار هذا الثور المسعور، هذا الجزار المخمور. لا بد من الإسراع قبل أن يَرجع إليك ويُفسد الحلم عليَّ وعليك. لا بد من الإسراع (يستخرج الجراب) لستُ لصًّا ولا أفاقًا، إنني شريد مطرود. نعم نعم، شريد مطرود. أنتقم ممَّن يَستحِق الانتقام، أما أنت أيتها المسكينة، أيتها الطيبة العينين، أيتها الحالمة بطيف الجنة، ها هو الحالم يعود إليك من وسط النار يعود. من قلب النار يعود ليَعتذِر إليك، هل تعفين وتنسين؟ سيعود إليك ولن يعفو عن نفسه، لن يَجرُؤ أن يوقظك من الحلم. إنه يحلم مثلك في وسط النار يُقيم خيام الأحلام، من وسط النار يعود إليك (يلقي نفسه على ظهر الحمار) وإليكَ أيها المعتوه، تحلم أن يسبقك إلى الجنة ولم لا؟ وأنت أيها الطفل المسكين، لا بد أنك تنتظرني، هيا … هيا … هيا (يلكز الحمار ويمضي).

٤

(نفس المنظر الأول، المرأة تذهب وتجيء في القاعة. تتجه للنافذة بين حينٍ وحين، تلمحها إحدى الجارات المارة في الشارع فتُكلِّمها وتسمع صوتها من بعيد.)

صوت الجارة : مساء الخير يا جارة.
المرأة : مساء الخير.
الجارة : ما لك يا جارة؟
المرأة : مالت الشمس للغروب ولم يَعُد.
الجارة : ربما يرجع مع الفجر، أو عندما يَكتمِل البدر.
المرأة : لا يمكن أن يتأخَّر، لقد ذهب على الحمار.
الجارة : يا حسرتي عليك، تعيشين حياتك في انتظار، هل جاء وذهب بالحمار؟
المرأة : من تقصدين؟ إنه زوجي.
الجارة : أيهما يا جارة؟ المرحوم أم المخمور؟
المرأة : ألم أقل لك؟ باركي لي يا أختي.
الجارة : وعلام أبارك؟ لأنه ركب الحمارة؟
المرأة : أنت لا تعرفين، جاء رسول ببشارة.
الجارة : أخيرًا جاء؟
المرأة : قلت لك جاء، في الليل وجدته أمامي، على ظهره جراب، وفي الجراب رسالة.
الجارة : رسالة منه؟ من المرحوم؟
المرأة : بالطبع، ألم أقل لك أن قلبي لا يكذب، ذهبية ومختومة بختم الملائكة.
الجارة : وما هي أحواله يا أختي؟ ماذا يقول؟
المرأة : بخير، بخير والحمد لله، ولكن البرد هناك شديد.
الجارة : البرد؟ هناك في الجنة؟
المرأة : طبعًا يا جارة. البرد هنا وهناك. والمرحوم ضعيف كما تَعلمين.
الجارة : أعلم يا أختي، وهو هناك …
المرأة : وحيد وفقير … تركوه في الكفن الذي دفن فيه، هل يمكن أن أتركه بلا مالٍ ولا ثياب؟
الجارة : مسكين، وماذا فعلتِ يا أختي؟
المرأة : ماذا فعلت؟ ما تفعله الزوجة الوفية.
الجارة : أرسلتِ إليه الثياب والمال؟
المرأة : بالطبع يا أختي، أرسلتُها مع البشير، جلبابَين وطاقيتَين وحذاء وعشرة دنانير.
الجارة : وزوجك؟ هل علم بهذا؟
المرأة : وذهب ليُعطيَه الباقي. قال عشرة دنانير لا تكفي، ألم أقل لك إنه زوج طيب رغم كل شيء؟
الجارة : رجل طيب يا أختي، وركب الحمارة.
المرأة : ليَلحق به ويُعطيَه الأمانة، لا بدَّ أنه سيرجع بعد قليل.
الجارة : يا فرحتَه بكِ يا أختي!
المرأة : ويا فرحتي به وبك، غنِّي يا أختي. قد جاء رسول ببشارة، غنِّي ودعي الجارات يغنين.
الجارة : الجارات والأطفال يَبكين يا أختي.
المرأة : يبكين؟ ولماذا يا أختي؟
الجارة : ألم تسمعي النواح منذ قليل؟ إنهن في المأتم.
المرأة : كفى الله الشر، من الذي مات؟
الجارة : ألا تعرفين؟ ابن المعتوه مات اليوم. البلد كلها هناك تُعزِّيه.
المرأة : يرحمه الله، لقد كنتُ نائمةً، لم يبقَ له أحد في الدنيا.
الجارة : والشيخ عنده من الصباح، يقرأ على رأسِه من كتاب الله.
المرأة : الله يُصبِّره يا أختي، الطفل الميت يذهب للجنة.
الجارة : هذا ما يقوله الشيخ، وعندما يموت أبواه يأخذ بأيديهما إلى هناك.

(تسمع أصوات نواحٍ وعويلٍ من بعيد.)

المرأة : يا حسرتي على الصغير، كان يَزُورني ويُغنِّي لي.
الجارة : يا حسرتي عليه وعليك، سيزورك حتمًا فانتظريه.
المرأة : سأنتظره يا أختي، سأنتظره.
الجارة : ها هو زوجك قد عاد، هيا يا أختي لتَستقبليه.
المرأة : أرأيته؟ ألم أقل لك؟
الجارة : يا حسرتي عليه وعليك، يا حسرتي على الجميع … يا حسرتي على الجميع (تنصرف).
المرأة (تفتح الباب) : زوجي؟ هل عُدت؟
الزوج (مُترنِّحًا يتأوَّه) : وهل ظننتِ أنني لن أعود؟
المرأة : يبدو عليكَ التعب يا زوجي الحبيب، يبدو عليك التعب، ولماذا لم تركب الحمار؟
الزوج : الحمار؟ نعم، أين الحمار؟
المرأة : هل نسيتَه يا زوجي؟ لقد وضعت السرج عليه في الصباح.
الزوج : الحمار والسرج، نعم نعم … تذكرت.
المرأة : تكلم يا زوجي (لنفسها) ربِّي، تفوح منه رائحة البراميل، هل شربت يا زوجي؟
الزوج : شربت؟ طبعًا طبعًا. كأسين فقط، في صحة السرج والحمار!
المرأة : ألم تجد الرجل؟ ألم تُعطه الدنانير؟
الزوج : كيف يا امرأة؟ رأيتُه وأعطيته الحمار والدنانير.
المرأة : الحمار أيضًا؟ وماذا تفعل بدونه؟
الزوج : وماذا يفعل مسافر إلى الجنة؟ هل أتركه يمشي على قدمَيه؟ الطريق طويل يا امرأة، الطريق وعر وطويل!
المرأة : الطريق وعر طويل، حقًّا يا زوجي العزيز، حسنًا فعلت، كيف غاب هذا عنِّي؟
الزوج : ألم أقل لكِ أنتِ امرأة طيبة.
المرأة : أنت الطيب يا زوجي، كنتُ أعلم أنكَ لن تغارَ من زوجي الأول المسكين، كنت أعلم أنك لن تبخلَ عليه.
الزوج : أنا أبخلُ عليه؟ المهم ألا تبخلي أنت عليَّ.
المرأة : أبدًا يا زوجي الطيب، لن أبخل أبدًا عليك.
الزوج : ولن تُخفي الدنانير؟
المرأة : جرِّب أن تموت يا زوجي، وسأرسل إليك كل شيء. الثياب والأحذية والدنانير.
الزوج : ولا تنسَي البرميل.
المرأة : أعرف أعرف.
الزوج : ها ها … برميل على ظهر جمل يا امرأة، جمل وبرميل … جمل وبرميل.

(يتجه للانصراف.)

المرأة : إلى أين تذهب؟
الزوج : ولماذا لا أذهب؟ رِجلي وأنا حرٌّ فيها، والحمار ضاع، والدنانير …
المرأة : ألم تُعطِها له؟
الزوج : كيف لم أُعطها له (يربت على ظهرها وخديها) هل نتركه يتسول في الجنة كالشحاذين؟ أخذها يا امرأة، ولكنه أعطاني واحدًا للطريق.
المرأة : رجل طيب.
الزوج : وأنا؟ ألستُ طيبًا يا امرأة؟ ألا أستحقُّ أن أشرب على روحك وروحه؟
المرأة : أتذهب الآن؟
الزوج : إلى الجنة؟ لا ليس الآن، لا تنسَي يا زوجتي الطيبة، جمل وبرميل … البرميل فوق الجمل. والجمل فوق البرميل … البرميل البرميل (يخرج).
المرأة : طيبٌ ووفيٌّ، كنتُ أعرف هذا ولا أصدقه. آه لو يترك الخمر! كان المرحوم صالحًا لا يترك الجامع. وأنت لا تترك الحانة، ولكنَّكما طيبان، ولكنكما طيبان، يرحمنا الله … يرحمنا الله.

(يظهر الشاب فجأة من وراء الستار، هو الآن شيخ مُعمَّم، يضع الجراب على الأرض.)

الشيخ : يَرحمك الله … يرحمك الله. هل نسيتِ يا حاجة؟
المرأة : من؟ أنت؟
الشيخ (يُخلع العمامة والجبة) : عرفت الآن؟
المرأة : اختفِ يا رجل، من أين أتيت؟ ألم تذهب …
الشيخ : ذهبتُ وعدتُ. اطمئني يا حاجة.
المرأة : بهذه السرعة؟
الشيخ : كان الملاك الحارس يَنتظرني. ما كدتُ أعبر التلَّة حتى حملني إلى الجنة.
المرأة : الملاك؟ ألم تركب الحمار؟ ألم يُعطِه لك زوجي؟
الشيخ : الحمار … آه تذكرت، إنه أمام الباب.
المرأة : فهمت، رجعت عليه.
الشيخ : أوصلَني الملاك إلى القرية، ثم ركبت الحمار.
المرأة : كيف حاله؟ هل أعطيته؟
الشيخ : ماذا أقول لك؟
المرأة : تكلَّم … تكلم هل يطلب شيئًا آخر؟
الشيخ : بل يَشكُركِ على هداياك. رفض أن يَقبل شيئًا.
المرأة : رفض؟ كيف رفض هل هو غاضب عليَّ؟
الشيخ : انتظري يا حاجة، سأل عنك، فقلت له: هي على ما يرام. تزوَّجَت بعدك، ولكنها لا تنساك.
المرأة : الله أعلم بحالي، أنا أيضًا لا أنساه.
الشيخ : ولكنه قال: لا حاجة لي بالدنانير، أَعطِها لها فهي أولى بها.

(يعطيها الدنانير.)

المرأة : أنا أولى بها؟ ومن أين ينفق هو؟
الشيخ : لا لا، اطمئني الدنيا بخير، لو كنتِ معي لما صدقت، أنا نفسي لم أُصدِّق عيني، حرير في حرير، ذهب في ذهب، كأنه ملاك منير.
المرأة : هل ترك الكوخ الذي كان فيه؟
الشيخ : وهو الآن في قصر بديع. حدائق وحُراس وأسوار وأعناب ونخيل. ابتهجي يا حاجة، زغردي إن كنتِ تستطيعين … إنه في نعيم أي نعيم.

(تُحاول أن تضع يدها على فمها لتزغرد، يهجم عليها فيمنعها، تجفل إلى الوراء.)

الشيخ : صوِّتي إذا استطعت.
المرأة : أُصوِّت؟ تأتيني بالبشارة ومع ذلك تمنعني.
الشيخ : ألم تَسمعي الصياح والعويل؟ ألم يتأثر قلبك؟
المرأة : الصياح والعويل؟ نعم نعم، الطفل الصغير … كيف عرفت؟
الشيخ : كنتُ هناك، مات على صدري.
المرأة : كنتَ هناك؟
الشيخ : جاءني أبوه وأنا في طريقي إلى الجنة. كان يَبكي وينوح ويمزق الوجه والجلباب. دعاني أن أرجع معه لأقرأ على رأس الصغير، كنت أعرف …
المرأة : كنتَ تعرف أنه سيموت؟
الشيخ : إنه في طريقه إلى الجنة، ملاكي الحارس قال لي: خذه معك إلى هناك.
المرأة : ولكنك …
الشيخ : أفهم سؤالك، لكنَّني لست شيخًا.
المرأة : لم تكن كذلك عندما رأيتك.
الشيخ : اجلسي يا حاجة، اهدئي واجلسي.
المرأة : تُخيفني وتقول اهدئي!
الشيخ : اهدئي وأفيقي، افتحي عينَيكِ وأذنيك.
المرأة : تكلم … هل أسمع ما أخشاه؟
الشيخ : لا تخشَي شيئًا، افتحي عينيك، أتسمعين هذا النواح؟
(تسمع أصوات النواح من بعيد.) أنا أيضًا مثل هذا الطفل المسكين، مت مثله عشر مرات، مائة مرة، في كل مرة كنت أُغمض عيني على حلمٍ يموت، ثم أفتحها وأشقى في الدنيا لأغمضها من جديد.
المرأة : ربي! كلامك عجيب.
الشاب : ليس في الأمر عجيب. مع كل طفلٍ يموتُ يموت كذلك حلم، وأنا مت ألف مرة، لكن الحلم لم يمت. هل تعرفين أباه المعتوه؟ المسكين سيزداد جنونه، لقد مات حلمٌ يدَّخره … حلم للأرض وللقرية وللأب المسكين، أما أنا فكنت ولا زلت أحلم. والحلم في كل مرة يُقتَل في عيني وبين يدي. يُقتَل في البيت والشارع والسوق والقرية والمدينة، حلمتُ فصرتُ معلمًا في كُتَّاب، ثم مات الحلم فتركت الكُتَّاب والكتب، حلمت فصرت واعظًا في جامع، ثم رأيت الأحلام تموت في عيون البؤساء وتركت الوعظ والجامع. جربت أن أنادي في الشارع والسوق، صرت حاويًا وبائع أدوية وبخور وتعاويذ. صرتُ مُنجِّمًا وقارئ كف وفنجال ومهرجًا في سيرك، في كل مرة كان الحلم يموت، وحشٌ ينقضُّ عليه ويخنقه وينزع جناحيه.
المرأة : كلامك غريب … كلامك غريب.
الشاب : وجرَّبت بيع الأحلام وشراء الأحلام، الأحلام تموت على الأرض وبين الناس. فلأجرب أحلامًا أخرى لأناسٍ آخرين، لهذا جئتُ إليك من الجنة بالأحلام.
المرأة : نعم جئت … زوجي أعطاك العنوان.
الشاب : افتحي عينَيكِ يا امرأة، أفيقي وافتحي عينَيك، الناس تقول عنِّي: أفَّاق ومُحتال، وأنا أقول لنفسي: بائع أحلام، هل تَغفِرين لي؟
المرأة : أغفر لك؟ هل اقترفتَ ذنبًا حتى أغفر لك؟
الشاب : بعت لك الحلم، زوجك المخمور سيقول: نصبت عليك.
المرأة : لا لم يقل شيئًا، لقد لحقَ بك ليُعطيَكَ الدنانير وترك لك الحمار، إنه زوج طيب.
الشاب : كلُّهم طيبون، زوجك الأول أيضًا كان طيبًا.
المرأة : أنتَ رأيته بنفسك في الجنة، وقريبًا سترجع إليه.
الشاب : أفيقي يا امرأة، افتحي عينَيكِ وأذنَيك، أنا لم أره ولن أراه … إنها الأحلام ضاقت بها الدنيا، فذهبَت للآخرة أحلام … أحلام.
المرأة : أحلام أو غير أحلام، لقد قابلتَه وطمأنتَني عليه.
الشاب : قابلته؟ أنت أول من صدَّق الحلم.
المرأة : لأني أُصدِّقك أيها الشاب؛ لأنني أثق فيك، ألم يَقُل إنه سيفي بوعده، ألم يَقُل إنه سيَزورني عن قريب.
الشاب (يحمل جرابه على ظهره، ويطيل التأمل في وجهِها العجوز البريء) : سيزورك بالطبع … بالطبع.
المرأة : قل له: سأظل انتظرك كما وعدت.
الشاب : نعم نعم، لا يمكن أن يخيب رجاءك.
المرأة : سأظل أنتظره حتى يأتي في ليلة اكتمل فيها البدر، ليلة تشبه ليلة عرسنا، سأظل أنتظره.
الشاب : كلَّنا ننتظر، كل الأحلام تموت إلا هذا الحلم.
المرأة : هل تذهب اليوم؟
الشاب : نعم نعم، لا بد أن أذهب.
المرأة : وتراه هناك؟
الشاب : أراه؟ بالطبع بالطبع … ألم أقل لك ليس لي صديق سواه؟
المرأة : ألا تريد أن تأخذ شيئًا معك؟
الشاب : قلت لك هو الآن بخير، ملاك ينعم في قصرٍ عظيم. نور يحيا في النور.
المرأة : أعرف … أعرف، ولكن ربما يحتاج لشيء، سكر أو شاي. فطيرة أو دجاجة، لقد ردَّ الثياب والدنانير.
الشاب : لا … لا، كل شيء هناك. هل نسيت ما قلته لك؟
المرأة : لم أنسَ … لم أنس، إنها الجنة أيها الشاب.
الشاب : نعم نعم هي الجنة.
المرأة : المهم ألا ينساني هناك.
الشاب : ينساكِ؟ هل يُمكن أن تشغله الجنة عنك؟ يكفي أن تنتظريه.
المرأة : وسأظل أنتظرُه.
الشاب : وتُصرِّين على الحلم؟
المرأة : سمِّه كما تشاء، ولكنه لن يموت.
الشاب : يَكفيني هذا، يَكفيني حلم واحد لا يموت … الوداع (ينظر إليها في صمت).
المرأة : أتذهب؟ تذكر إن كان في حاجةٍ إلى شيء، إن كنتَ تحتاج شيئًا.
الشاب : لا … ليس في حاجةٍ إلى شيء، لستُ في حاجةٍ إلى شيء.
المرأة : والطفل المسكين؟ ألن تأخذه إلى هناك؟
الشاب : اطمئنِّي، لقد حمله الملاك وسبَقني على الطريق.
المرأة : كل الأطفال تذهب إلى الجنة.
الشاب : لتواصل الأحلام، الوداع.
المرأة : الوداع.
الشاب : إلى أن يجيء …
المرأة : سأواصل الانتظار.

(الشاب يطيل النظر إليها قبل أن يستدير، يمد يده مسلمًا، ولكنها لا تنتبه إليه، يسحبها حين يرى بريق عينَيها الناظرتَين إلى السماء، بعد قليل تكتشف خروجه، تهرع إلى النافذة، يسمع صوت امرأة تتبعه أصوات نساء وأطفال.)

صوت : يا جارة، هل سمعت يا جارة.
صوت : جاء رسول ببشارة (يضحكْن).
صوت ثالث : حرام عليكنَّ، الميت لم يجفَّ دمه في القبر.
صوت : مسكين، الموت رحمه من الموت.
صوت : منذ شهور وهو يَلفظ أنفاسه.
صوت : وأبوه، يا حسرتي عليه، يَهيم في الشوارع كالمجنون.
صوت (يَضحك) : ويقول ابني راح الجنة وسألحق به.
صوت (ضاحكًا) : ولماذا لا يذهب إليه؟
صوت آخر : ولماذا لا ينتظر حتى يأتي إليه، حتى يأتيه رسول ببشارة (ينادي) يا جارة … يا جارة.
المرأة (تنظر من النافذة) : نعم يا جارة.
صوت : هل جاء رسول ببشارة؟
صوت آخر : هل جاء وأعطاك أمارة؟
صوت آخر : بل أخذ أمارة … شالًا وحذاءً وحمارة.
صوت ثالث : انظرن … انظرن، قد ترك على الباب حمارًا.

(ترتفع ضحكاتهن، المرأة تقول في ثبات):

المرأة :
غنِّي يا جارة، غنِّي يا جارة.
قد جاء رسول ببشارة.
صوت :
هل جاء من الجنة يجري،
أم فوق حمار أو مُهرِ؟
هل جاء بعسلٍ أو خمرٍ
من نبع الكوثر كالفجر؟
المرأة :
قد جاء وعاد إلى الجنة.
افرحْن يا جارات، افرحْن معي، وقريبًا يأتي زوجي الحبيب.
سأظلُّ أنتظرُه كما وعد.
صوت :
لا تَنتظريهِ يا جارة.
ها هو يترنَّح في الحارة.
يَحجل كغرابٍ أو فأرة.
غرقت في برميل الخمرة.

(يتضاحكْن ويبتعدن فرارًا.)

الزوج (يدخل بعد قليل وهو يترنَّح) : ما هذا يا امرأة؟ ما هذا الضحك والصياح؟
المرأة : وما هذه الرائحة يا رجل؟
الزوج (يُغني بصوتٍ أجش) :
الجميل ببرميل الخمرة،
قد غرق وأصبح كالفأرة.
المرأة : أفٍّ لكَ، دائمًا تفضحُني أمام الناس.
الزوج : وأنت؟ ألم تَفضحيني أمام البلد كلها؟
المرأة : جاراتي جئنَ يُباركْنَ لي.
الزوج : يُباركن أو يضحكْن عليكِ؟ (يقترب منها ويصفعها على وجهها).
المرأة : وتصفعُني أيها الجمل الأجرب … أيها الثور المخمور؟
الزوج : والثور هو الجزار المخمور، خذي! (يهجم عليها فتردُّه ويسقط على الأرض) لو كان معي السكين، لو كان معي السكين.
المرأة : وتُريد أن تُصبح قاتلًا.
الزوج (لاهثًا) : وأدفنك حية.
المرأة : لن تُخيفني (يختفي وراء الستار، ثم يعود وفي يده السكين).
الزوج : وأسلخُكِ وأُقطِّع لحمَكِ أيتها البقرة.
المرأة (تتحداه) : افعل لو كنت شجاعًا.
الزوج : وأشجع من المرحوم.
المرأة : مخمور وجبان، هو أشرف منك وأطهر.
الزوج : تحملتُكِ خمس سنين.
المرأة : ونهبتني خمس سنين.
الزوج : السكِّين … السكين (تسقط من يده).
المرأة : ملعون … ملعون.
الزوج : هات السكين.
المرأة :
ترتعش يداك من الخمرة،
يا جملًا أجرب يا فأرة.
الزوج :
نادي المرحوم … ها ها ها، نادي المرحوم!
حتى أذبحك وأذبحه بالسكِّين،
آكل لحمكما ثم أصوم.
المرأة : لا تَذكرِ اسمه.
الزوج :
ها ها، هل هو معصوم؟
يا مرحوم! يا مرحوم!
المرأة : اخفض صوتك القبيح.
الزوج : أنا حر … أنادي عليه.
المرأة : أخفض صوتك.
الزوج : حتى لا يسمعنا الجيران؟ ها ها! يا جارة قولي للجارة ننتظر من الزوج زيارة!
المرأة : سأنتظره وحدي.
الزوج : وأنا؟ ألستُ زوجك الطيب؟ زوجكِ الوفي؟
المرأة : زوجي في الجنة.
الزوج : وأنا في البرميل! ها ها ها!
(سمع أصوات النساء والأطفال وهي تغني من بعيد كما في المشهد الأول): تحلم — لا زالت — بمحال.
بالزوج يعود من الجنة،
هل يجري ماء في العالي،
والميت هل يترك كفنه؟
الزوج : سمعت؟ الميت هل يترك كفنه؟

(يُحاول أن ينهض ليتَّجه إلى النافذة، فيسقط على الأرض.)

المرأة : سيعود، رغم أنفك سيعود.
أصوات النساء والأطفال :
ما جدوى الأرق أو السهد،
والدمع على الخد الوردي؟
قد ذهب الحلم بلا عود،
والوردة ذبلت في الخد،
كالطفل الميت في المهد،
قد ذهب الحلم بلا عود.
الزوج : سمعت! ذهب الحلم بلا عود، كالطفل الميت في المهد. مات … مات الحلم.
المرأة : موتوا بغيظكم … الحلم لا يمُوت.
الزوج : غنِّي يا جارة! غني يا جارة.
أصوات نساء وأطفال :
يا جارة عودي يا جارة،
للأرض وإن كانت نارًا.
الزوج : للأرض.
المرأة : للجنة.
أصوات النساء والأطفال : فالأرض هي الأم البارة.
الزوج : الأرض هي الأم البارة.
المرأة : الأرض جحيم.
الزوج : يا جارة …
أصوات النساء والأطفال :
يا جارة عودي يا جارة،
وتعالي نهبط يا جارة،
من برج الحلم إلى الحارة.
الزوج : هيا افتحي الباب.
المرأة : الباب مفتوح.
الزوج : تعالَي إلى الحارة.
المرأة : اذهب أنت.
الزوج : وتأتين معي؟
المرأة : سأنتظره.
الزوج : الميت لا يَترُك كفنَه، هيا معي (يَهجم عليها بعد أن أفاق قليلًا ويضربها).
المرأة : سيعود … يعود من الجنة.
الزوج : وها هو الباب (يغلق الباب).
المرأة (تفتحه) : سيعود … يعود وأنتظرُه.
الزوج : وسأَسلخ جلدك يا بقرة.

(يضربُها، تبكي، ينهار على الأرض وهو يُحاول أن يغلق الباب.)

المرأة (تفتحه رغمًا عنه) : سيظلُّ الباب مفتوحًا، وسأظل أنتظره.
أصوات من بعيد :
ما جدوى الأرق أو السهد،
والدمع على الحلم الوردي؟ … إلخ.
المرأة : سأنتظره … اسمعوني جميعًا، سيعود، يعود وأنتظره.
الأصوات :
قد ذهب الحلم بلا عود.
والورد يموت على الخد،
كالطفل الميت في المهد.
المرأة (تصرخ كالمجنونة، وهي تدور بين الباب والنافذة) :
سيعود، يعود من الجنة،
والميت قد مزق كفنه،
الباب مفتوح … تعالَ … تعال، إنني أنتظرك.

(تبكي وتنهار على الأرض، ثم تنهض بعد قليل وتفتح الأبواب والنوافذ على اتساعها، تتردَّد من بعيد أصوات النساء.)

هل يصعد ماءٌ في العالي؟
والميت هل يترك كفنه؟
تحلم لا زالت بمُحالِ،
بالزوج يعود من الجنة.
المرأة (تتجه إلى النافذة، وتتطلَّع منها في تحدٍّ. تنظر باحتقار إلى الزوج الممدَّد على الأرض. ترجع إلى الباب وتُواجهه في إصرارٍ وهي تُردِّد بصوتها الذي يعلو على أصوات النساء) :
لا بدَّ أن يعود.
لا بدَّ أن يعود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤