خاتمة

بدأتُ هذا الكتاب بتقديم شخصيتين خياليتين، وأمضيت بعض الوقت في مناقشة شخصيتين، وانتهيت بالحديث عن نفسين. كانت الشخصيتان هما النظام الحدسي ١، والذي يضطلع بالتفكير السريع، والنظام ٢ التدبري والأكثر بطئًا، الذي يضطلع بالتفكير البطيء، ويراقب النظام ١، ويحافظ على السيطرة بأفضل ما يمكنه في حدود موارده المحدودة. أما النوعان، فهما الاقتصاديون الخياليون الذين يعيشون في عالم النظريات، والبشر العاملون في عالم الواقع. أما النفسان، فهما النفس المستشعرة، التي تتولى أمور العيش وممارسة الحياة، والنفس المتذكرة التي تسجل النقاط وتتخذ الاختيارات. وفي هذا الفصل الأخير أتأمل بعض تطبيقات الأقسام الثلاثة، متناولًا إياها بترتيب عكسي.

النفسان

لقد تبين لي أن احتمال الصراع بين النفس المتذكرة وبين اهتمامات النفس المستشعرة يعد مشكلة أصعب مما كنت أظن في البداية؛ ففي تجربة سابقة — تحديدًا تجربة اليد الباردة — أدى مزيج تجاهل المدة وقاعدة الذروة-النهاية إلى اختيارات كانت منافية للعقل على نحو جلي. فلماذا يعرِّض الناس أنفسهم طواعية لألم لا داعي له؟ لقد ترك أفراد دراستنا الاختيار لأنفسهم المتذكرة، مفضلين تكرار التجربة التي تركت الذكرى الأفضل، على الرغم من أنها قد انطوت على مزيد من الألم. قد يكون الاختيار بناءً على نوعية الذكرى مبررًا في الحالات الشديدة، كأن يكون هناك احتمال للإصابة بضغوط نفسية بعد الصدمة، ولكن تجربة اليد الباردة لم تكن تنطوي على أي صدمات. ولا شك أنه لو كان هناك مراقب موضوعي يقوم بالاختيار نيابة عن شخص آخر، لاختار — بلا شك — فترة التعرض القصيرة، مفضلًا النفس المستشعرة لدى الشخص الذي يعاني من التجربة. والاختيارات التي اتخذها الأشخاص نيابة عن أنفسهم توصف إلى حد ما بأنها خاطئة. وتجاهل المدة وقاعدة الذروة-النهاية في تقييم القصص، في كلٍّ من الأوبرا والأحكام الخاصة بحياة جين، لا يمكن الدفاع عنهما كذلك، فلا يُعقَل أن نقيِّم حياة كاملة بلحظاتها الأخيرة، أو ألا نعطي وزنًا للمدة في تحديد أي حياة أكثر جاذبية.

إن النفس المتذكرة من صنيعة النظام ٢، غير أن السمات المميزة للأسلوب الذي تقيِّم به الحلقات وحياة الأفراد تعتبر من خصائص ذاكرتنا. ويعد النظام ١ هو منشأ تجاهل المدة وقاعدة الذروة–النهاية، وليس بالضرورة أن يتوافقا مع قيم النظام ٢. فنحن نؤمن بأهمية المدة، ولكن ذاكرتنا تخبرنا أنها ليست مهمة. إن القواعد التي تحكم تقييم الماضي تعتبر أدلة إرشادية سيئة لاتخاذ القرار؛ لأن للوقت أهمية بالفعل. فالحقيقة المحورية لوجودنا هي أن الوقت هو المورد المتناهي الأساسي، ولكن النفس المتذكرة تتجاهل تلك الحقيقة. وعند امتزاج تجاهل المدة مع قاعدة الذروة–النهاية يتكون انحياز يفضِّل فترة قصيرة من البهجة الشديدة على فترة طويلة من السعادة المتوسطة. والصورة المعكوسة لنفس الانحياز تجعلنا نخشى فترة قصيرة من المعاناة الشديدة ولكنها محتملة أكثر من خشيتنا من فترة أطول من الألم المتوسط. كذلك يجعلنا تجاهل المدة عرضةً لقبول فترة طويلة من السوء المعتدل؛ لأن النهاية ستكون أفضل، وهو يفضِّل التخلي عن فرصة للاستمتاع بفترة طويلة من السعادة إذا كان من المحتمل أن تنتهي نهاية سيئة. ولدفع نفس الفكرة إلى الحد الذي يجعلها مزعجة، تأمل التحذير الشائع «لا تفعل ذلك، وإلا فستندم عليه.» تبدو نصيحة حكيمة؛ لأن الندم المتوقع هو الحكم الذي تقضي به النفس المتذكرة، ونحن ننزع لقبول مثل تلك الأحكام باعتبارها أحكامًا نهائية وقاطعة. غير أننا لا ينبغي أن ننسى أن منظور النفس المتذكرة للأمور ليس صحيحًا دائمًا؛ فالمراقب الموضوعي للصورة العامة لمقياس اللذة، والذي يضع في ذهنه اهتمامات النفس المستشعرة، قد يسدي نصيحة مختلفة. فتجاهل النفس المتذكرة للمدة، وتأكيدها المغالى فيه على الذرى والنهايات، وقابلية تأثرها بالإدراك المتأخر يمكن أن تتحد معًا بما يسفر عنه انعكاسات مشوهة لتجربتنا الفعلية.

في المقابل، يتعامل مفهوم السعادة الذي يهتم بالمدة مع جميع لحظات الحياة على حد سواء، بارزة كانت أم غير ذلك. وبعض اللحظات تنتهي وقد اكتسبت قيمة أكبر من الأخرى، إما لكونها لحظات بارزة لا تُنسَى أو لكونها مهمة. وينبغي أن يُحتسَب الوقت الذي يقضيه الناس في التركيز على لحظة بارزة لا تُنسَى ضمن مدتها، مما يضيف إلى قيمتها ووزنها. كذلك يمكن للحظة ما أن تكتسب أهمية عن طريق تغيير تجربة اللحظات اللاحقة لها. فنجد، على سبيل المثال، أن ساعة تُقضَى في ممارسة العزف على الكمان قد تعزز تجربة ساعات عديدة من العزف أو الاستماع للموسيقى بعد ذلك بسنوات. وبالمثل، ينبغي حساب وزن حدث بشع قصير الأمد تسبب في الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة بإجمالي مدة المأساة طويلة المدى التي يتسبب فيها هذا الحدث. فمن المنظور الذي يعتمد على المدة، لا يمكننا أن نحدد ما إذا كانت لحظة معينة مشهودة أو ذات معنى إلا بعد وقوعها الفعلي. ولا بد من النظر إلى عبارات على شاكلة «سوف أتذكر دومًا …» أو «هذه لحظة ذات أهمية» باعتبارها وعودًا أو تكهنات يمكن أن تكون خاطئة — وهي في الغالب كذلك — حتى عندما يتم التعبير عنها بصدق تام. وهناك احتمال كبير أن يدخل العديد من الأشياء التي نقول إننا سنذكرها دائمًا في طي النسيان بعد عشر سنوات.

إن منطق التقدير على أساس المدة مقنع، ولكن لا يمكن اعتباره نظرية متكاملة للسعادة؛ لأن الأفراد يتعاطفون مع أنفسهم المتذكرة ويهتمون بقصتها. وأي نظرية للسعادة تتجاهل ما يريده الناس لا يمكن دعمها. على الجانب الآخر، لا يمكن الدفاع أيضًا عن نظرية تتجاهل ما يحدث فعليًّا في حياة الناس وتركز بشكل حصري على ما يعتقدونه بشأن حياتهم. ومن ثم لا بد من وضع النفس المتذكرة والنفس المستشعرة كلتيهما في الاعتبار؛ لأن اهتماماتهما لا تتلاقى دائمًا. ويمكن للفلاسفة أن يتصارعوا مع هذه الأسئلة لزمن طويل.

إن قضية أي من النفسين أهم لا تهم الفلاسفة فحسب؛ إذ إن لها تداعيات بالنسبة للسياسات المتبعة في العديد من المجالات، أبرزها الطب والرخاء المجتمعي. تأمل الاستثمار الضروري لإيجاد علاج للعديد من الحالات الطبية المختلفة، من ضمنها العمى، أو الصمم، أو الفشل الكلوي. هل يجب أن تتحدد الاستثمارات بمقدار خوف الناس من هذه الحالات؟ هل ينبغي أن يتم توجيه الاستثمارات بقدر المعاناة التي يواجهها المرضى؟ أم هل لا بد أن تتبع رغبة المرضى الشديدة في التعافي من مرضهم وبالتضحيات التي سيكونون على استعداد لبذلها لتحقيق ذلك التعافي؟ إن تصنيف العمى والصمم، أو فغر القولون أو الغسيل الكلوي، قد يختلف اعتمادًا على المقياس المطبَّق لقياس حدة المعاناة. لا يوجد حل سهل في الأفق، ولكن القضية أهم من أن يتم تجاهلها.

وقد جذبت إمكانية استخدام مقاييس السعادة كمؤشرات لتوجيه السياسات الحكومية قدرًا كبيرًا من الاهتمام مؤخرًا في كلٍّ من أوساط الأكاديميين وفي العديد من الحكومات في أوروبا. وصار من المرجح الآن — بما لم يكن حتى منذ بضع سنوات قليلة — أن يتم إدراج مؤشر لحجم المعاناة في المجتمع ضمن الإحصائيات القومية، إلى جانب مقاييس البطالة، والإعاقة الجسدية، والدخل. وقد قطع هذا المشروع شوطًا طويلًا في طريق إنجازه.

الاقتصاديون والبشر

في الحديث اليومي الدارج، نَصِف الناس بأنهم عقلانيون إذا كان بالإمكان إقناعهم بالحجة والمنطق، وإذا كانت معتقداتهم متوافقة بشكل عام مع الواقع، وإذا كانت تفضيلاتهم متناغمة مع اهتماماتهم وقيمهم. وكلمة «عقلاني» تستدعي صورة لمزيد من التروي، والتخطيط، والقليل من الحماس، ولكن الشخص العقلاني في اللغة الدراجة هو شخص حصيف وعاقل بالتأكيد. وتتخذ الصفة معنى مختلفًا كلية بالنسبة للاقتصاديين ومنظري القرار. والاختبار الوحيد للعقلانية لا يكمن في تحديد ما إذا كانت تفضيلات ومعتقدات الشخص منطقية، ولكن في تحديد ما إذا كانت متسقة فيما بينها. فمن الممكن أن يؤمن شخص عقلاني بالأشباح طالما كانت جميع معتقداته الأخرى تتفق مع وجود الأشباح. ويمكن لشخص عقلاني أن يفضل أن يكون مكروهًا على أن يكون محبوبًا، طالما أن جميع تفضيلاته الأخرى متوافقة. فالعقلانية هي تلاحم منطقي؛ سواء أكان الأمر منطقيًّا أم لا. وبمقتضى هذا التعريف، يعتبر الاقتصاديون عقلانيين، ولكنَّ هناك دليلًا ساحقًا على أن البشر لا يمكن أن يكونوا كذلك. فالاقتصادي لن يكون عُرضةً لتوجيه الاهتمام، أو مبدأ «ما تراه هو كل ما هناك»، أو التأطير الضيق، أو المنظور الداخلي، أو التحول العكسي للتفضيلات، التي لا يمكن للبشر تجنبها باستمرار.

إن تعريف العقلانية بوصفها اتساق تام لهو أمر مقيد لحد الاستحالة؛ فهو يتطلب الالتزام بقواعد المنطق التي لا يمكن لعقل محدود أن يطبقها. ولا يمكن للأشخاص العاقلين أن يكونوا عقلانيين بمقتضى هذا التعريف، إلا أنهم لا ينبغي كذلك أن يصنَّفوا كأشخاص لاعقلانيين لهذا السبب. فكلمة «لاعقلاني» كلمة ذات وقع قوي تشير ضمنًا إلى اندفاعية، وانفعالية، ومقاومة عنيدة للجدال المنطقي. وغالبًا ما أنكمش خوفًا حين يُثنى على عملي مع عاموس لإثباته أن الاختيارات البشرية لاعقلانية، في حين أن بحثنا لم يُظهِر في الواقع إلا أن البشر لا يحظون بوصف جيد من خلال نموذج الفاعل العقلاني.

وعلى الرغم من أن البشر ليسوا غير عقلانيين، فإنهم غالبًا ما يحتاجون للمساعدة لإصدار أحكام أدق واتخاذ قرارات أفضل، وفي بعض الحالات يمكن للسياسات والمؤسسات أن توفر تلك المساعدة. قد تبدو هذه المزاعم حميدة لا ضرر منها، ولكنها في الواقع مثيرة للجدل إلى حد كبير، فبحسب ما قدمته مدرسة شيكاجو للاقتصاد — وهي لها ما لها من أهمية — يرتبط الإيمان بالعقلانية البشرية ارتباطًا وثيقًا بأيديولوجية من غير الضروري، بل ومن غير الأخلاقي، فيها أن تحمي الناس من اختياراتهم. فينبغي أن يكون الأشخاص العقلانيون أحرارًا، وينبغي أن يكونوا مسئولين عن العناية بأنفسهم. وقد عبر ميلتون فريدمان — إحدى الشخصيات البارزة في تلك المدرسة — عن هذه الرؤية في عنوان واحد من أشهر كتبه: «حرية الاختيار».

إن افتراض أن الفاعلين عقلانيون يوفر الأساس الفكري لمنهج حرية الإرادة — الليبرتارية — للسياسة العامة: لا تتدخل في حق الفرد في الاختيار، ما لم تضر الاختيارات بالآخرين. وتعزز السياسات الليبرتارية أكثر بما يوجد من إعجاب بكفاءة الأسواق في تخصيص السلع للأشخاص ممن هم على استعداد لدفع أكبر قدر من المال مقابل هذه السلع. من الأمثلة الشهيرة لمنهج مدرسة شيكاجو مقال بعنوان «نظرية الإدمان العقلاني»، يشرح كيف أن فاعلًا عقلانيًّا لديه تفضيل قوي للإشباع الذاتي الشديد والفوري قد يتخذ قرارًا عقلانيًّا بتقبل الإدمان المستقبلي كنتيجة لهذا الإشباع. سمعت ذات مرة جاري بيكر — أحد كاتبي هذا المقال، والحائز على جائزة نوبل من المنتسبين لمدرسة شيكاجو — يجادل بأسلوب أكثر مرحًا، ولكنه ليس مازحًا تمامًا، بأننا ينبغي أن ندرس إمكانية تفسير ما يسمى بوباء السمنة بترسيخ اعتقاد الناس أن علاجًا للسكري سوف يصبح متاحًا في القريب العاجل. وفي ذلك كان يوضح نقطة قيمة؛ هي أننا حين نلاحظ الآخرين يتصرفون بطرق تبدو غريبة، ينبغي أولًا أن نفحص احتمال أن يكون لديهم سبب وجيه للإتيان بما يفعلونه. ولا ينبغي الاستعانة بالتفسيرات السيكولوجية إلا حين تصبح الأسباب غير معقولة؛ وهو ما ينطبق على تفسير بيكر على الأرجح.

في دولة يسودها الاقتصاديون، ينبغي أن تفسح الحكومة الطريق، للسماح للاقتصاديين بالتصرف كيفما يشاءون، طالما أنهم لا يُلحقون بالآخرين ضررًا. فإذا اختار قائد دراجة بخارية أن يقود دون ارتداء خوذة، فإن الليبرتاري سوف يدعم حق هذا الشخص في القيام بذلك. فالمواطنون يعرفون ما يفعلونه، حتى حين يختارون ألا يدخروا من أجل مواجهة شيخوختهم، أو حين يعرِّضون أنفسهم لمواد إدمانية. وأحيانًا ما يشوب هذا الرأي بعض الحدة: فكبار السن الذين لم يدخروا ما يكفي للتقاعد يحظون بتعاطف أكثر قليلًا من شخص يشكو من الفاتورة بعد تناول وجبة ضخمة في أحد المطاعم؛ لذا يكون هناك الكثير من الأمور على المحك في النقاش بين مدرسة شيكاجو وبين علماء الاقتصاد السلوكي، الذين يرفضون الشكل المتطرف لنموذج الفاعل العقلاني. فالحرية ليست قيمة محل نزاع؛ وجميع المشاركين في النقاش ينحازون لها. ولكن الحياة أكثر تعقيدًا بالنسبة لعلماء الاقتصاد السلوكي من المؤمنين بالعقلانية البشرية بحق؛ فما من عالم في الاقتصاد السلوكي يدعم دولة تجبر مواطنيها على اتباع نظام غذائي متوازن ومشاهدة البرامج التليفزيونية المفيدة للروح فحسب. غير أن الحرية من منظور علماء الاقتصاد السلوكي لها ثمن يتحمله أفراد يتخذون اختيارات سيئة، ومجتمع يشعر بأنه ملتزم بمساعدتهم. ومن ثم فإن القرار الخاص بحماية أو عدم حماية الأفراد من أخطائهم يمثل معضلة لعلماء الاقتصاد السلوكي. ولا يواجه علماء الاقتصاد بمدرسة شيكاجو هذه المشكلة؛ لأن الفاعلين العقلانيين لا يرتكبون أخطاء؛ فالحرية في نظر أنصار هذه المدرسة ليس لها مقابل.

في عام ٢٠٠٨ اشترك عالم الاقتصاد ريتشارد تالر وأستاذ القانون كاس سنستاين معًا في تأليف كتاب بعنوان «التنبيه»، وسرعان ما أصبح من أفضل الكتب بيعًا عالميًّا وبمثابة الكتاب المقدس لعلماء الاقتصاد السلوكي. وقد أدخل كتابهما العديد من الكلمات الجديدة للغة، من ضمنها كلمتا «الاقتصاديين Econs» و«البشر Humans». وقدم أيضًا مجموعة من الحلول للمعضلة الخاصة بكيفية مساعدة الناس على اتخاذ قرارات جيدة دون الانتقاص من حريتهم. ويؤيد تالر وسنستاين اتخاذ موقف من الوصاية الليبرتارية، التي يسمح من خلالها للدولة والمؤسسات الأخرى ﺑ «تنبيه» الأفراد لاتخاذ قرارات تخدم مصالحهم على المدى الطويل. ويعد تحديد الانضمام لخطة تقاعد كخيار افتراضي مثالًا لهذا التنبيه؛ فمن الصعب أن تذهب إلى أن حرية أي شخص تتقلص بإدراجه أوتوماتيكيًّا في هذه الخطة، عندما يكون كل ما عليه هو مجرد التأشير على مربع اختيار عدم المشاركة. وكما رأينا من قبل، فإن تأطير أو صياغة قرار الفرد — والذي يُطلِق عليه تالر وسنستاين «هندسة الاختيار» — له تأثير ضخم على النتيجة. ويقوم التنبيه على مبدأ سيكولوجي سليم كنت قد وصفته من قبل. فالخيار الافتراضي يُدرَك بطبيعته بوصفه الاختيار الطبيعي. والانحراف عن الاختيار الطبيعي هو فعل من أفعال السهو يتطلب مزيدًا من الدراسة المرهقة، ويتحمل قدرًا أكبر من المسئولية، وأكثر ميلًا لاستثارة الندم من عدم القيام بشيء. وتلك قوى مؤثرة قد توجه قرار شخص ما ليس واثقًا مما يجب عليه فعله.

يحتاج البشر، أكثر من الاقتصاديين، أيضًا للحماية من الآخرين ممن يستغلون مواطن ضعفهم عن عمد؛ لا سيما التصرفات الغريبة غير المألوفة لنظام ١ وخمول النظام ٢. ومن المفترض أن الفاعلين العقلانيين يتخذون القرارات المهمة بحرص وحذر، ويستخدمون جميع المعلومات التي تُقدَّم لهم. فسوف يقرأ الاقتصادي الطباعة الصغيرة التي يحتويها أي عقد ويستوعبها قبل التوقيع عليه، ولكن البشر عادة ما لا يفعلون ذلك. والشركات عديمة الضمير التي تصمم عقودًا يوقع عليها العملاء دون قراءتها يكون لديها حيز قانوني كبير من الحرية بإخفاء المعلومات المهمة بينما تظل واضحة أمام عينيك. ولعل من المضامين الخبيثة لنموذج الفاعل العقلاني في أكثر صوره تطرفًا افتراض عدم حاجة الفاعلين إلى حماية أكثر من ضمان كشف المعلومات ذات الصلة. ولا يعتبر حجم الخط وتعقد اللغة في عملية الكشف ذا صلة بالأمر؛ فالاقتصادي يعلم جيدًا كيف يتعامل مع الخط الصغير حين يكون له أهمية. في المقابل، تطالب التوصيات الواردة في كتاب «التنبيه» الشركات بأن تقدم عقودًا بها من التبسيط ما يكفي لكي تكون مقروءة ومفهومة بالنسبة للفاعلين المنتمين لمجموعة البشر. ولعلها علامة جيدة أن يتعرض بعض من هذه التوصيات لقدر كبير من المعارضة من قِبَل الشركات التي قد تتأثر أرباحها إذا صار عملاؤها أكثر اطلاعًا ودراية بالأمور. إن عالمًا تتنافس فيه الشركات بتقديم منتجات أفضل لهو أفضل من عالمٍ الفائز فيه هو الشركة الأفضل في التعتيم والتضليل.

لعل من السمات البارزة للوصاية الليبرتارية ما تحظى به من قبول عبر قطاع سياسي عريض. فقد تولى الإشراف على أبرز نماذج سياسة الاقتصاد السلوكي، والذي يسمى بخطة «ادخر أكثر غدًا»، في الكونجرس ائتلاف غير معهود ضم محافظين متشددين إلى جانب ليبراليين. «ادخر أكثر غدًا» هي خطة مالية يمكن للشركات تقديمها لموظفيها ويسمح الاشتراك فيها لصاحب العمل أن يزيد من مساهمات المشاركين فيها في خطة تقاعدهم بنسبة محددة كلما حصلوا على زيادة في الراتب. ويسري تطبيق الزيادة في معدل الادخار تلقائيًّا إلى أن يخطر الموظف برغبته في الخروج منها. وقد أدى هذا الابتكار العبقري، الذي طرحه ريتشارد تالر وشلومو بينارتزي في عام ٢٠٠٣، الآن إلى تحسين معدل المدخرات وازدهار التطلعات المستقبلية لملايين العاملين. ولهذا الابتكار أساس قوي في المبادئ السيكولوجية سوف يدركه قراء هذا الكتاب؛ فهو يتجنب ما قد يحدث من مقاومة لتكبد خسارة مباشرة، وذلك بعدم فرض تغيير مباشر؛ فمن خلال ربط زيادة المدخرات بزيادة الرواتب، فإنه يحول الخسائر إلى مكاسب حتمية، وهو ما يجعلها أسهل كثيرًا في تحملها؛ كما أن خاصية التلقائية تعمل على موازاة خمول النظام ٢ مع مصالح العاملين على المدى الطويل. كل هذا بالطبع دون إجبار أي شخص على القيام بأي شيء لا يرغب في القيام به ودون أي تضليل أو خداع.

وقد لوحظ قبول الوصاية الليبرتارية في العديد من الدول، من ضمنها المملكة المتحدة وكوريا الجنوبية، ومن جانب الساسة من مختلف الاتجاهات، بمن فيهم المحافظون والإدارة الديمقراطية للرئيس أوباما؛ بل إن الحكومة البريطانية قامت بإنشاء وحدة صغيرة جديدة مهمتها تطبيق مبادئ العلم السلوكي لمساعدة الحكومة على تحقيق أهدافها بشكل أفضل، والاسم الرسمي لهذه المجموعة هو «فريق الرؤية السلوكية»، ولكنها معروفة داخل وخارج الحكومة ﺑ «وحدة التنبيه»، ويعمل تالر مستشارًا لهذا الفريق.

وفي استكمال لكتاب «التنبيه»، قام الرئيس أوباما بدعوة سنستاين للعمل كمدير لمكتب المعلومات والشئون التنظيمية، وهو منصب منحه فرصة كبيرة لتشجيع تطبيق دروس علم النفس وعلم الاقتصاد السلوكي في الهيئات الحكومية. وقد ورد وصف هذه المهمة في تقرير مكتب الإدارة والموازنة لعام ٢٠١٠. وسوف يتفهم قراء هذا الكتاب المنطق وراء توصيات بعينها، من ضمنها تشجيع «عمليات مكاشفة واضحة وبسيطة وجلية وذات معنى»، وسوف يدركون أيضًا بعض العبارات الخلفية مثل «أسلوب العرض مهم حقًّا؛ فإذا تمت صياغة نتيجة ما كخسارة، على سبيل المثال، فقد يكون لها تأثير أكبر عما إذا عُرضت كمكسب.»

ذكرتُ من قبل المثال الخاص بوضع لائحة تتعلق بتأطير عمليات المكاشفة فيما يتعلق باستهلاك الوقود. وتشمل التطبيقات الأخرى التي تم تنفيذها التسجيل التلقائي في التأمين الصحي، ونسخة جديدة من الإرشادات الغذائية تستبدل بالهرم الغذائي المتعذر على الفهم صورة ذات تأثير قوي لطبق من الطعام محمل بغذاء متوازن، وقاعدة صاغتها وزارة الزراعة الأمريكية تسمح بتضمين رسائل مثل «خالٍ من الدهون بنسبة ٩٠٪» على ملصق منتجات اللحوم، شريطة وضع عبارة «١٠٪ دهون» أيضًا «ملاصقة للعبارة الموضحة لنسبة الخلو من الدهون، وبكتابة بنفس اللون، والحجم، والطباعة، وعلى نفس الخلفية اللونية.» فالبشر — على عكس الاقتصاديين — بحاجة للمساعدة على اتخاذ قرارات جيدة، وهناك طرق قائمة على المعرفة وغير تطفلية لتقديم تلك المساعدة.

النظامان

وصف هذا الكتاب أعمال العقل كتفاعل غير سلس بين شخصيتين خياليتين هما: النظام ١ الآلي، والنظام ٢ التدبري. لعلك الآن على دراية كبيرة بهويتَي وخصائص النظامين ولديك القدرة على توقع استجاباتهما المحتملة في مختلف المواقف. وبالطبع تتذكر أيضًا أن النظامين لا يوجدان حقًّا في المخ أو في أي مكان آخر؛ فعبارة «النظام ١ يفعل (س)» هي اختصار لعبارة «(س) يحدث أوتوماتيكيًّا»، وعبارة «النظام ٢ مجند للقيام ﺑ (ص)» هي اختصار لعبارة «تزداد الاستثارة، وتتسع الحدقة، ويتركز الانتباه، ومن ثم يتم النشاط (ص)». وأتمنى أن تجد لغة النظامين مفيدة مثلما أراها، وأن تكون قد اكتسبت حسًّا حدسيًّا لكيفيه عملهما دون أن تحيرك مسألة وجودهما من عدمه. وبعد أن أدليت بهذا التحذير الضروري، سوف أواصل استخدام اللغة للنهاية.

يمثل النظام ٢ المنتبه الشخصية التي نعتقد أنها شخصيتنا. يقوم النظام ٢ بصياغة الأحكام واتخاذ الاختيارات، ولكنه غالبًا ما يؤيد أو يبرر الأفكار والمشاعر التي تولدت عن طريق النظام ١. ربما لا تعرف أنك متفائل بشأن مشروع ما؛ لأن شيئًا ما بشأن قائده يذكرك بشقيقتك الحبيبة، أو أنك تكره شخصًا يشبه طبيب الأسنان الخاص بك بشكل لا تفهمه. غير أنه إذا طُلب منك تفسير لذلك، فسوف تبحث في ذاكرتك عن أسباب تصلح لتقديمها، وبالتأكيد سوف تجد بعضًا منها، إلى جانب أنك ستصدق القصة التي تختلقها. ولكن النظام ٢ ليس مجرد أداة تبرير للدفاع عن النظام ١؛ فهو يمنع أيضًا الكثير من الأفكار الحمقاء والدوافع غير الملائمة من الظهور الصريح. ويعمل استثمار الانتباه على تحسين الأداء في العديد من الأنشطة — فكِّر في مخاطر القيادة عبر مساحة ضيقة بينما يكون عقلك شاردًا — ويعد ضروريًّا لبعض المهام، من ضمنها المقارنة، والاختيار، والاستنتاج المنظم. غير أن النظام ٢ ليس مثالًا يُحتذَى للعقلانية؛ فقدراته محدودة، وكذلك الحال بالنسبة للمعرفة التي يحصل عليها. ونحن لا نفكر دائمًا بشكل مستقيم وواضح حين نكون بصدد الاستنتاج، والأخطاء لا ترجع دائمًا للبداهات الدخيلة والخاطئة؛ فنحن غالبًا ما نرتكب أخطاء لأننا (أو بالأحرى نظامنا ٢) لا نحظى بمعرفة أفضل من ذلك.

لقد قضيت وقتًا أكثر في وصف النظام ١، وخصصت صفحات عديدة لأخطاء الحكم والاختيار الحدسي التي نسبتها له. غير أن العدد النسبي للصفحات مؤشر ضعيف للتوازن بين معجزات وأخطاء التفكير الحدسي. فالنظام ١ هو بالفعل مصدر الكثير من أخطائنا، ولكنه أيضًا أصل معظم ما نفعله بشكل صحيح؛ الذي يمثل الغالبية العظمى مما نفعله. فأفكارنا وأفعالنا يوجهها النظام ١ بشكل روتيني، وهي تتخذ مسارًا صحيحًا بشكل عام. ولعل من إحدى روائع هذا النظام النموذج الغني والمفصَّل لعالمنا الكامن داخل الذاكرة الترابطية؛ فهو يميز الأحداث المفاجئة عن الأحداث العادية خلال جزء من الثانية، ويولد في الحال فكرة عما كان متوقعًا بدلًا من وقوع مفاجأة، ويُجرِي بحثًا تلقائيًّا عن تفسير سببي للمفاجآت والأحداث عند وقوعها.

تحمل الذاكرة كذلك المستودع الضخم للمهارات التي اكتسبناها على مدى عمر من الممارسة والتدريب، والتي تقوم تلقائيًّا بتوليد حلول كافية للتحديات لدى ظهورها، بدءًا من الالتفاف حول حجر كبير على الطريق لتفاديه إلى تدارك نوبة الغضب الوشيكة لأحد العملاء. إن اكتساب المهارات يتطلب بيئة مستقرة، وفرصة كافية للممارسة، وتغذية مرتدة سريعة وقاطعة بشأن صحة الأفكار والأفعال. حين تتحقق كل هذه الشروط، تنمو المهارة في النهاية، وسوف تكون الأحكام والاختيارات الحدسية التي تتبادر سريعًا إلى الذهن دقيقة في معظم الأحيان. كل هذا يدخل في نطاق عمل النظام ١، وهو ما يعني أنه يحدث تلقائيًّا وبشكل سريع. ولعل من مؤشرات الأداء المتقن القدرة على التعامل مع كميات ضخمة من المعلومات بسرعة وكفاءة.

عند مواجهة تحدٍّ ما تتوفر له استجابة بارعة، تُستدعَى هذه الاستجابة. ماذا يحدث في غياب المهارة؟ في بعض الأحيان، كما في مسألة ١٧ × ٢٤ = ؟ والتي تتطلب إجابة محددة، يتضح على الفور ضرورة استدعاء النظام ٢. ولكن من النادر أن يُبَاغَت النظام ١؛ فالنظام ١ ليس مقيدًا بقيود السعة، وإنما متوسع في عملياته الحسابية، وحين ينخرط في بحث عن إجابة لسؤال ما، يقوم بتوليد الإجابات للأسئلة ذات الصلة، وقد يستبدل بالإجابة المطلوبة إجابة تتبادر إلى الذهن بسهولة أكبر. وفي ظل هذا المفهوم للاستدلال، ليس بالضرورة أن تكون الإجابة الاستدلالية أبسط أو أكثر اقتصادًا من إجابة السؤال الأصلي؛ إنها فقط أكثر سهولة في الوصول إليها، وتم الوصول إليها بسرعة وسهولة أكبر. فالإجابات الاستدلالية ليست عشوائية، وغالبًا ما تكون أقرب للصواب، وأحيانًا ما تكون خاطئة إلى حد كبير.

يقوم النظام ١ بتسجيل اليسر الإدراكي الذي تُعالَج به المعلومات، ولكنه لا يصدر إشارة تحذيرية حين تصبح غير موثوقة. فالإجابات الحدسية تتبادر إلى الذهن بسرعة وثقة، سواء أكانت نابعة من مهارات أو من استدلال. ولا توجد طريقة بسيطة أمام النظام ٢ للتمييز بين الإجابة النابعة من المهارة والإجابة الاستدلالية، ومن ثم يكون ملاذه الوحيد هو الإبطاء من سرعته ومحاولة تكوين إجابة بمفرده دون مساعدة، وهو الأمر الذي يتردد في القيام به؛ نظرًا لكسله وبلادته. والعديد من اقتراحات النظام ١ يتم تبنيها بأقل قدر من التحري والمراجعة، كما في مسألة المضرب والكرة. وتلك هي الكيفية التي يكتسب بها النظام ١ سمعته السيئة كمصدر الأخطاء والانحيازات. فخصائصه التشغيلية، التي تشمل مبدأ «ما تراه هو كل ما هناك»، ومطابقة الدرجة، والتماسك الارتباطي، من بين خصائص أخرى، تخلق انحيازات يمكن التنبؤ بها، وأوهامًا معرفية مثل الارتساء، والتنبؤات غير الارتدادية، والثقة الزائدة، والكثير والكثير غيرها.

ما الذي يمكن القيام به حيال الانحيازات؟ كيف يمكننا تحسين الأحكام والقرارات الخاصة بنا والخاصة بالمؤسسات التي نخدمها وتلك التي تخدمنا؟ الإجابة المختصرة لهذا السؤال هو أنه لا يمكن تحقيق الكثير دون استثمار قدر كبير من الجهد؛ فالنظام ١ — على حد علمي من واقع الخبرة — يتعذر تدريبه بسهولة، وفيما عدا بعض التأثيرات التي أُرجعها في أغلب الأحيان للسن، فإن تفكيري الحدسي معرض للثقة الزائدة، والتنبؤات المبالغة، ومغالطة التخطيط تمامًا مثلما كان قبل أن أجري الدراسة على هذه المشكلات. إن التحسن لم يطرأ إلا على قدرتي على إدراك المواقف التي تكون فيها الأخطاء محتملة: «هذا العدد سوف يكون بمثابة مرساة تركيز …» «يمكن للقرار أن يتغير إذا أُعيد تأطير المشكلة …» وقد حققت تقدمًا أكبر بكثير في التعرف على أخطاء الآخرين مما حققته في إدراك أخطائي.

والطريق لمنع الأخطاء التي تنشأ داخل النظام ١ بسيط من حيث المبدأ، ويتمثل في: تعرَّفْ على العلامات التي تشير إلى أنك داخل حقل ألغام معرفية، قلِّل من سرعتك، واطلب دعمًا من النظام ٢. وتلك هي الكيفية التي ستمضي بها في مواجهتك القادمة لخداع مولر-لاير. فحين ترى خطوطًا ذات رءوس متنافرة تشير في اتجاهات مختلفة، سوف تدرك الموقف كموقف لا ينبغي فيه أن تثق بانطباعاتك عن الطول. لكن للأسف، فإن هذا الإجراء المتزن الحصيف تقل احتمالات تطبيقه إلى أدنى حد حينما تكون في أمس الحاجة إليه. فنحن جميعًا نود أن يكون لدينا ناقوس تحذير يقرع بصوت عالٍ كلما أوشكنا على ارتكاب خطأ فادح، ولكن مثل هذا الناقوس غير متوفر، والأوهام المعرفية بشكل عام أكثر صعوبة في إدراكها والتعرف عليها من الأوهام الإدراكية. فصوت العقل قد يكون أكثر وهنًا بكثير من الصوت الجهوري الواضح للحدس المخطئ، وتفنيد بداهاتك أمر مقيت حين تواجه التوتر المصاحب لاتخاذ قرار مهم. وآخر شيء تريده حين تكون في مأزق هو مزيد من الشك. وتكون المحصلة النهائية أن يصبح من الأسهل كثيرًا أن تدرك حقل الألغام حين ترى الآخرين يتجولون داخله من أن تدركه حين تكون أنت على وشك الدخول إليه. فالمراقبون يكونون أقل انشغالًا على المستوى الإدراكي، وأكثر انفتاحًا للمعلومات من الفاعلين. وكان هذا هو مبرري لتأليف كتاب موجه إلى النقاد ومروجي الشائعات وليس لصناع القرار.

تعتبر المؤسسات أفضل من الأفراد حين يتعلق الأمر بتجنب الأخطاء؛ لأنها بطبيعتها تفكر بشكل أبطأ ولديها القوة والسلطة لفرض إجراءات منظمة. فبإمكان المؤسسات تأسيس قوائم مراجعة مفيدة وفرض تطبيقها، وكذلك بعض الإجراءات الأكثر تطورًا، مثل التنبؤ بمرجع الفئة المعنية والتشريح الاستباقي للمشروع. ومن خلال توفير مفردات مميزة، تستطيع المؤسسات أيضًا — ولو بشكل جزئي على الأقل — أن تشجع قيام ثقافة ينتبه فيها الأفراد بعضهم لبعض عندما يقتربون من حقول ألغام. فالمؤسسة — أيًّا كانت منتجاتها الأخرى — هي مصنع يقوم بتصنيع الأحكام والقرارات. ولا بد أن يكون لكل مصنع أساليب لضمان جودة منتجاته خلال مرحلة التصميم المبدئي، ومرحلة التصنيع، وفي المعاينات النهائية. والمراحل الموازية في عملية إنتاج القرارات هي تأطير المشكلة التي يتم العمل على حلها، وجمع المعلومات ذات الصلة التي تؤدي إلى قرار، والتأمل، والمراجعة. وأي مؤسسة تسعى لتحسين منتجها من القرارات ينبغي أن تبحث بشكل روتيني عن تحسينات في مستوى الكفاءة في كل مرحلة من هذه المراحل. والمفهوم العام هنا هو الروتين. وتعد مراقبة الجودة المستمرة بديلًا لعمليات المراجعة الشاملة للعمليات التي عادة ما تقوم بها المؤسسات في أعقاب الكوارث. وهناك الكثير مما يمكن عمله لتحسين عملية صنع القرار، ومن ضمن الأمثلة العديدة لذلك الغياب الملحوظ للتدريب المنهجي لتلك المهارة الأساسية المتمثلة في الإدارة الفعالة للاجتماعات.

وأخيرًا، يعد إثراء اللغة أمرًا أساسيًّا لمهارة النقد البنَّاء. فتحديد أخطاء الأحكام، مثل الطب إلى حد كبير، يعد مهمة تشخيصية تتطلب مفردات دقيقة؛ إذ إن اسم المرض بمثابة كُلاب يعلق به كل ما هو معروف عن المرض، بما في ذلك قابلية الإصابة، والعوامل البيئية، والأعراض، وتوقعات سير المرض، والرعاية. بالمثل، تؤدي المصطلحات على شاكلة «تأثيرات الارتساء»، أو «التأطير الضيق»، أو «التماسك المفرط» إلى تجميع كل شيء نعرفه عن تحيز ما، وأسبابه، ونتائجه، وما يمكن القيام به حياله، في الذاكرة.

هناك صلة مباشرة بين النميمة عند مبرد الماء في العمل وتحسن القرارات. فصناع القرار أحيانًا ما يكونون أكثر قدرة على تخيل أصوات مروجي الشائعات الحاليين والنقاد المستقبليين من سماع صوت شكوكهم المتردد. وسوف يتخذون اختيارات أفضل حين يثقون بأن منتقديهم محنكون ومنصفون، وحين يتوقعون أن يكون الحكم على قرارهم على حسب الطريقة التي اتُّخِذ بها، وليس فقط ما ترتب عليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤