الفصل الحادي عشر

أثر الارتساء

أعددنا أنا وعاموس عجلة حظ كتلك المستخدمة في ألعاب بالقمار ذات مرة. بينما كانت الأرقام فيها تبدأ من صفر وتنتهي بمائة، بنينا العجلة بحيث تقف عند رقمي ١٠ أو ٦٥ فقط. طلبنا مشاركة طلاب من جامعة أوريجون في تجربتنا. كان من المفترض أن يقف أحدنا أمام مجموعة صغيرة، ويدير العجلة، ويطلب من أفراد المجموعة كتابة الرقم الذي تقف العجلة عنده، وهو ما كان ١٠ أو ٦٥ بالطبع. سألنا الطلاب بعد ذلك سؤالين:

هل نسبة الدول الأفريقية بين أعضاء الأمم المتحدة أكبر أم أصغر من العدد الذي كتبتموه توًّا؟
ما تخمينكم لنسبة الدول الأفريقية في الأمم المتحدة؟

لا يؤدي تحريك عجلة الحظ — حتى تلك التي لم يتم العبث فيها مثلما فعلنا — إلى تقديم معلومات مفيدة عن أي شيء، وكان يجب على المشاركين في تجربتنا تجاهلها ببساطة، لكنهم لم يفعلوا. كان متوسط تقديرات من رأوا رقمي ١٠ و٦٥ هو ٢٥٪ و٤٥٪ على الترتيب.

الظاهرة التي كنا ندرسها شائعة للغاية وشديدة الأهمية في الحياة اليومية، بحيث يجب أن تعرف اسمها: «تأثير الارتساء». تحدث هذه الظاهرة عندما يخمِّن الأشخاص قيمة محددة لكمية غير معروفة قبل حسابها. يمثِّل ما يحدث أحد أكثر نتائج علم النفس التجريبي بعثًا على الثقة والحيوية: تظل التقديرات قريبة من العدد الذي خمنه الأشخاص، ومن ثم استخدام مجاز المرساة. إذا سئلت عما إذا كان غاندي كان يبلغ من العمر أكثر من ١١٤ عامًا عندما توفي، فسينتهي بك المطاف بتقدير عمر أعلى بكثير من عمره مما لو كان سؤال الارتساء أشار إلى الوفاة عند عمر ٣٥ عامًا. إذا كنت تقدر كم من المال ستدفع مقابل شراء منزل، فستتأثر بالسعر المطروح من جانب صاحب المنزل. سيبدو المنزل نفسه أكثر قيمة إذا كان سعره المطروح أكثر ارتفاعًا مما لو كان سعره منخفضًا، حتى لو كنت عازمًا على مقاومة إغراء تأثير هذا الرقم، وهكذا، تبقى قائمة أثر الارتساء لانهائية. سيؤدي أي رقم يُطلب منك التفكير فيه باعتباره حلًّا ممكنًا لمشكلة تقدير قيمة شيء إلى أثر الارتساء.

لم نكن أول من يلاحظ آثار الارتساء، بل كانت تجربتنا أول بيان عملي على عبثيته: كانت أحكام الناس تتأثر برقم مضلل تمامًا. لم يكن ثمة طريقة لوصف أثر الارتساء لعجلة الحظ باعتباره أمرًا منطقيًّا. نشرت أنا وعاموس التجربة في ورقة بحثية في مجلة «ساينس»، وهي أكثر النتائج البحثية التي نشرناها في المجلة شهرةً.

كانت هناك مشكلة واحدة؛ لم نتفق أنا وعاموس تمامًا على الجانب النفسي لأثر الارتساء. كان عاموس يدعم أحد التفسيرات، فيما كنت أرى تفسيرًا آخر، ولم نستطع أبدًا تسوية الخلاف. حُلت المشكلة لاحقًا بعد عدة عقود من خلال جهود كثير من الباحثين. اتضح الآن أنني وعاموس كنا مصيبين. تفضي آليتان مختلفتان إلى آثار الارتساء، آلية لكل نظام. هناك صورة من صور أثر الارتساء تحدث من خلال عملية الضبط الواعية، وهي إحدى عمليات النظام ٢. وهناك صورة أخرى تحدث من خلال أثر الاستباق، وهو أحد التجليات الآلية للنظام ١.

الارتساء والضبط

أُعجب عاموس بفكرة الاستدلال من خلال الضبط والارتساء باعتبارها تمثل استراتيجية لتقدير الكميات غير المحددة. تتمثل الاستراتيجية في البدء برقم مرجعي، وتقييم ما إذا كان رقمًا مرتفعًا أو منخفضًا للغاية، وضبط تقديرك من خلال «التحرك» العقلي بعيدًا عن القيمة المرساة (أو القيمة المرجعية). تنتهي عملية الضبط عادةً قبل أوانها؛ نظرًا لأن الناس تتوقف عندما لا يكونون على يقين بما إذا كان يجب عليهم المضي قدمًا أم لا. ظهرت دلائل مقنعة على هذه العملية بصورة مستقلة، بعد عقود من اختلافنا، وبعد سنوات من وفاة عاموس، عبْر عالِمَيْ نفسٍ كانا يعملان عن قرب مع عاموس في بداية مسيرتهما المهنية، وهما إلدار شافير وتوم جيلوفيتش فضلًا عن طلابهما، أحفاد عاموس الفكريين!

للتعرف على الفكرة، خذ ورقة وارسم خطًّا طوله بوصتان ونصف البوصة، اتجاهه إلى أعلى، بدءًا من أسفل الصفحة، دون استخدام مسطرة. خذ الآن ورقة أخرى، وابدأ برسم خط من أعلى إلى أسفل وتوقف قبل نهاية الصفحة ببوصتين ونصف البوصة. قارن بين الخطين. هناك احتمال كبير أن يكون تقديرك لطول الخط بمقدار بوصتين ونصف البوصة في الورقة الأولى أقل من تقديرك في الورقة الثانية؛ يرجع ذلك إلى أنك لا تعرف تمامًا شكل هذا الخط. فهناك نطاق من عدم اليقين. إنك تقف قرب أسفل منطقة عدم اليقين عندما تبدأ برسم الخط من أسفل، وقرب أعلى تلك المنطقة عندما تبدأ برسم الخط من أعلى. اكتشف روبن لو باف وشافير العديد من الأمثلة على هذه الآلية في الحياة اليومية. تفسِّر عملية الضبط غير الكافية بجلاء لماذا قد تقود بسرعة فائقة عندما تأتي من الطريق السريع متجهًا إلى شوارع المدينة، خاصةً إذا كنت تتحدث مع أحد أثناء القيادة. تعتبر عملية الضبط غير الكافية أيضًا مصدرًا للتوتر بين الآباء الغاضبين والأبناء المراهقين الذين يستمعون للموسيقى مرتفعة الصوت في حجراتهم. أشار لو باف وشافير إلى أن «طفلًا حسن النية يخفِّض صوت الموسيقى المرتفع للغاية لتلبية رغبة أبيه في سماع الموسيقى بصوت «معقول» ربما يفشل في ضبط القيمة على نحو كافٍ مقارنة بالقيمة المرجعية عالية للصوت، وربما يشعر بتجاهل محاولاته الحقيقية في الوصول لحل وسط.» يضبط السائق والطفل كلاهما أفعالهما إلى القيمة الأقل عن وعي، لكنهما يفشلان في تحقيق ضبط كافٍ.

فكِّر الآن في هذين السؤالين:
متى صار جورج واشنطن رئيسًا؟
ما درجة غليان المياه عند قمة جبل إيفرست؟

لعل أول شيء يحدث عندما تفكر في كل سؤال من هذين السؤالين هو أن قيمة مرجعية ترد إلى ذهنك، وتعرف أن كلتا الإجابتين خاطئة مثلما تعلم اتجاه الإجابة الصحيحة. تعرف على الفور أن جورج واشنطن صار رئيسًا بعد عام ١٧٧٦، مثلما تعرف أيضًا أن درجة غليان المياه عند قمة جبل إيفرست أقل من ١٠٠ درجة مئوية. يجب أن تضبط الإجابة في الاتجاه المناسب من خلال اكتشاف الأمور التي تجعلك تتحرك بعيدًا عن القيمة المرجعية. مثلما في حالة الخطوط، من المحتمل أن تقف عندما لا تكون متأكدًا ما إذا كان ينبغي عليك المضي قدمًا، عند الحافة القريبة من منطقة عدم اليقين.

•••

اكتشف نيك إبلي وتوم جيلوفيتش دلائل على أن عملية الضبط تمثِّل محاولة واعية للبحث عن أسباب للتحرك بعيدًا عن القيمة المرجعية: يتحرك الأشخاص الذين يُطلب منهم هز رءوسهم عندما يسمعون القيمة المرجعية، كما لو كانوا يرفضونها، بعيدًا عنها، بينما يُظهر الأشخاص الذين يومئون برءوسهم، كما لو كانوا يقبلونها، ميلًا إلى قبول القيمة المرجعية. أكد إبلي وجيلوفيتش أيضًا على أن عملية الضبط تعتبر عملية مُجهِدة. يُجري الأشخاص عمليات ضبط أقل (يبقون قريبين من القيمة المرجعية) عندما تُستنفد مواردهم العقلية، سواء أكان ذلك يرجع إلى امتلاء ذاكرتهم بالأرقام أو أنهم مخمورون قليلًا. تمثِّل عملية الضبط غير الكافية فشلًا للنظام ٢ الضعيف أو الكسول.

لذا، نعرف الآن أن عاموس كان صائبًا على الأقل في بعض حالات الارتساء، التي تتضمن ضبطًا واعيًا للنظام ٢ في اتجاه محدد بعيدًا عن القيمة المرجعية.

الارتساء وأثر الاستباق

عندما كنت أنا وعاموس نناقش القيم التقريبية، اتفقت معه على أن عملية الضبط تحدث أحيانًا، إلا أنني كنت أشعر بعدم الراحة. بينما تُعتبر عملية الضبط نشاطًا واعيًا وعمديًّا، في معظم حالات القيم التقريبية لا توجد خبرة ذاتية مقابلة. فكِّر في هذين السؤالين على سبيل المثال:
هل كان غاندي يبلغ من العمر أكثر أم أقل من ١٤٤ عامًا عندما توفي؟
كم كان عمر غاندي عندما توفي؟

هل وضعت تقديرك لعمر غاندي عن طريق ضبط رقم ١٤٤ إلى قيمة أقل؟ ربما لا، لكن لا تزال القيمة المبالغ فيها لعمر غاندي تؤثر على القيمة التي تضعها. كان حدسي يشير إلى أن الارتساء يمثِّل عملية اقتراح، وهي الكلمة التي نستخدمها عندما يتسبب أحد الأشخاص في أن نرى، أو نسمع، أو نشعر بشيء عن طريق استحضاره في العقل فقط. على سبيل المثال، يجعل سؤال «هل تشعر الآن بتنميل بسيط في قدمك اليسرى؟» دومًا عددًا قليلًا من الأشخاص يشعرون بشعور غريب حقيقةً في أقدامهم.

كان عاموس أكثر تحفظًا مني حول مسألة الحدس، وكان يشير عن حق إلى أن اللجوء إلى الاقتراحات لا يساعدنا في فهم عملية الارتساء؛ نظرًا لأننا لم نكن نعرف كيف نفسِّر عملية تقديم الاقتراحات. وبينما كان عليَّ أن أتفق معه في صحة ما ذهب إليه، فإنني لم أكن أبدًا متحمسًا لفكرة الضبط غير الكافي باعتبارها السبب الأوحد في آثار الارتساء. أجرينا عددًا من التجارب غير الحاسمة في سعينا إلى فهم عملية الارتساء، لكننا فشلنا، وفي النهاية تخلينا عن فكرة كتابة المزيد عنها.

تم حل اللغز الذي لم نصمد أمامه الآن؛ إذ لم يعد مفهوم الاقتراح غامضًا. يعد الاقتراح أثرًا استباقيًّا، أثرًا يثير بصورة انتقائية دلائل متوافقة معه. بينما لم تصدق للحظة أن غاندي عاش مدة ١٤٤ عامًا، ولَّدت آلية التداعي الخاصة بك لا شك انطباعًا لشخص طاعن جدًّا في السن. يفهم النظام ١ الجمل من خلال محاولة جعلها صحيحة، كما تُنتج عملية التنشيط الانتقائي للأفكار المتوافقة سلسلة من الأخطاء المنهجية، التي تجعلنا نميل إلى السذاجة وإلى تصديق أكثر مما ينبغي أيما كان ما نصدقه. نستطيع الآن أن نفهم لماذا لم ندرك أنا وعاموس أن هناك نوعين من الارتساء؛ فأساليب البحث والأفكار النظرية التي كنا نحتاجها لم تكن قد وُجدت بعد، بل طُورت بعد ذلك بكثير عبْر أشخاص آخرين. تؤدي العملية التي تشبه عملية الاقتراح دورًا في واقع الأمر في الكثير من المواقف. فيبذل النظام ١ قصارى جهده في بناء عالم تمثل القيمة المرجعية الرقم الصحيح فيه، وهو ما يعد أحد تجليات التماسك الترابطي الذي أشرت إليه في الجزء الأول من الكتاب.

أجرى عالما النفس الألمانيان توماس موسفيلر وفرتز شتراك تجارب عملية شديدة الإثارة حول دور التماسك الترابطي في عملية الارتساء. في إحدى التجارب، سألا سؤالًا يتعلق بالارتساء حول درجة الحرارة: «هل متوسط درجة الحرارة السنوية في ألمانيا أعلى أم أقل من ٢٠ درجة مئوية (٦٨ درجة فهرنهايت)؟» أو «هل يبلغ متوسط درجة الحرارة السنوية في ألمانيا أعلى أم أقل من ٥ درجات مئوية (٤٠ درجة فهرنهايت)؟»

بعد ذلك، عُرضت مجموعة كلمات على جميع المشاركين وقتًا قصيرًا وطُلب منهم تحديدها. وجد الباحثان أن درجة حرارة ٦٨ فهرنهايت جعلت من الأسهل بالنسبة إلى المشاركين إدراك كلمات الصيف (مثل «شمس» و«شاطئ»)، بينما سهَّلت درجة ٤٠ فهرنهايت إدراك كلمات الشتاء (مثل «صقيع» و«تزحلق»). تفسِّر عملية التنشيط الانتقائية للذكريات المتوافقة أثر الارتساء. فتنشِّط الأرقام المرتفعة والمنخفضة مجموعتين مختلفتين من الأفكار في الذاكرة. تعتمد تقديرات درجة الحرارة السنوية على هذه العينات المنحازة من الأفكار، ومن ثم تعتبر منحازة بدورها. في دراسة أخرى في نفس السياق، سُئل المشاركون عن متوسط سعر السيارات الألمانية. استبقت قيمة مرجعية مرتفعة بشكل انتقائي أسماء الموديلات الفارهة (مرسيدس، أودي)، بينما استبقت قيمة مرجعية منخفضة الموديلات المرتبطة بالسيارات الشعبية (فولكس فاجن). رأينا سابقًا أن أي عملية استباق تميل إلى استدعاء معلومات متوافقة معها. تفسَّر عمليتا الاقتراح والارتساء من خلال العملية الآلية نفسها للنظام ١. على الرغم من عدم معرفتي طريقة إثبات ذلك في وقتها، اتضح أن حدسي حيال الصلة بين عمليتي الاقتراح والارتساء كان صحيحًا.

معامل الارتساء

بينما يمكن إثبات الكثير من الظواهر النفسية تجريبيًّا، لا يمكن قياس سوى القليل منها. يُعتبر أثر الارتساء استثناءً في هذا الشأن. يمكن قياس أثر الارتساء، وهو أثر كبير بصورة مدهشة. سُئل بعض زوار متحف الإكسبلوراتوريوم بسان فرانسيسكو السؤالين التاليين:
هل يبلغ ارتفاع أطول شجرة خشب أحمر أكثر أم أقل من ١٢٠٠ قدم؟
ما أفضل تخميناتك حول ارتفاع أطول شجرة خشب أحمر؟

كانت «القيمة المرجعية المرتفعة» في هذه التجربة هي ١٢٠٠ قدم. بالنسبة إلى المشاركين الآخرين، أشار السؤال الأول إلى «قيمة مرجعية منخفضة» بلغت ١٨٠ قدمًا. بلغ الفرق بين القيمتين ١٠٢٠ قدمًا.

مثلما كان متوقعًا، وضعت المجموعتان متوسط تقديرات مختلفًا للغاية، ٨٤٤ و٢٨٢ قدمًا، وهو ما يساوي ٥٦٢ قدمًا فرقًا. يشير معامل الارتساء ببساطة إلى النسبة بين الفرقين (٥٦٢ / ١٠٢٠) التي يعبَّر عنها بنسبة مئوية تساوي هنا ٥٥٪. يبلغ مقياس الارتساء ١٠٠٪ بالنسبة إلى الأشخاص الذين يلتزمون التزامًا أعمى بالقيمة المرجعية باعتبارها قيمة تقديرية لهم، بينما يبلغ ذلك المقياس صفرًا بالنسبة إلى الأشخاص الذين يستطيعون تجاهل القيمة المرجعية كليةً. تعتبر نسبة ٥٥٪ التي رُصدت في هذا المثال معتادة. وقد لوحظت قيم مشابهة في مسائل أخرى عديدة.

ليس أثر الارتساء مسألة مثيرة للفضول معمليًّا فقط، بل ربما تعتبر مسألة مهمة أيضًا في العالم الواقعي. ففي تجربة أُجريت منذ بضع سنوات، مُنح وكلاء عقاريون فرصة تحديد قيمة منزلٍ كان مطروحًا أصلًا في السوق. زار الوكلاء المنزل ودرسوا كتيبًا شاملًا يتضمن معلومات حول المنزل بما في ذلك السعر المطلوب لبيع المنزل. بينما رأى نصف الوكلاء السعر المطلوب لبيع المنزل أعلى بكثير من السعر المعلن عنه، رأى النصف الآخر السعر المطلوب أقل بكثير. أدلى كل وكيل برأيه حول سعر الشراء المعقول للمنزل وأقل سعر يوافق على بيع المنزل به إذا كان مالكًا له. سُئل الوكلاء بعد ذلك عن العوامل التي أثرت في حكمهم. بصورة لافتة، لم يكن السعر المطلوب من بينها. كان الوكلاء يفاخرون بقدرتهم على تجاهله. بينما أصر الوكلاء على أن السعر المعلن لم يؤثر على إجاباتهم، إلا أنهم كانوا مخطئين؛ فقد كان معامل الارتساء يساوي ٤١٪. في حقيقة الأمر، كان المهنيون عرضة لأثر الارتساء مثلهم مثل طلاب كليات التجارة الذين لا خبرة لهم في المجال العقاري، الذين بلغ معامل الارتساء لديهم ٤٨٪. كان الفرق الوحيد بين المجموعتين هو أن الطلاب أقروا بتأثرهم بالقيمة المرجعية، فيما أنكر المهنيون وجود هذا التأثر.

توجد آثار الارتساء القوية في القرارات التي يتخذها الأشخاص حول المال، مثلما يحدث عندما يحددون قدر المال الذي سيتبرعون به لصالح قضية ما. للتدليل على هذا الأثر، أخبرنا المشاركين في دراسة متحف الإكسبلوراتوريوم عن الضرر البيئي الذي تسببت فيه ناقلات النفط في المحيط الهادئ، وسألناهم عن مدى رغبتهم في تقديم تبرع سنوي «لإنقاذ ٥٠٠٠٠ طائر على سواحل المحيط الهادئ من أضرار بقع الزيت الصغيرة، حتى يتسنى العثور على طرق لمنع تسرب الزيت، أو إلزام مالكي الناقلات بدفع مقابل ذلك.» تطلبت الإجابة عن هذا السؤال إجراء عملية مطابقة درجة. فيُطلب من المشاركين تحديد القيمة الدولارية لمساهماتهم التي تماثل درجة مشاعرهم حيال مأساة الطيور. سُئل بعض الزائرين أولًا سؤالًا يتعلق بالارتساء، مثل: «هل ترغب في دفع خمسة دولارات …؟» قبل توجيه السؤال المباشر حول مقدار مساهمة المشاركين.

عندما لم يجر ذكر أي قيمة مرجعية، قال زائرو المتحف — وهم عادةً أشخاص حساسون تجاه قضايا البيئة — إنهم مستعدون لدفع ٦٤ دولارًا، في المتوسط. عندما بلغت القيمة المرجعية خمسة دولارات فقط، بلغ متوسط المساهمات ٢٠ دولارًا. عندما بلغت القيمة المرجعية قيمةً مبالغًا فيها وصلت إلى ٤٠٠ دولار، زادت الرغبة في دفع المزيد إلى ما بلغ متوسطه ١٤٣ دولارًا.

كان الفرق بين مجموعتي القيمة المرجعية المرتفعة والقيمة المرجعية المنخفضة ١٢٣ دولارًا. تخطى معامل أثر الارتساء ٣٠٪، وهو ما يشير إلى أن زيادة الطلب المبدئي بمقدار ١٠٠ دولار أدى إلى زيادة مقدارها ٣٠ دولارًا في الاستعداد لدفع المساهمات.

لوحظت آثار ارتساء مشابهة أو أكبر من خلال دراسات عديدة للتقديرات والرغبة في تقديم مساهمات مالية. على سبيل المثال، سُئل السكان الفرنسيون في مدينة مارسيليا الكثيفة التلوث عن الزيادة في تكاليف المعيشة التي يقبلون بها إذا استطاعوا العيش في مدينة أقل تلوثًا. بلغ أثر الارتساء أكثر من ٥٠٪ في تلك الدراسة. تُلاحَظ آثار الارتساء بسهولة في المعاملات التجارية عبر الإنترنت، حيث يُعرض المنتج نفسه بأكثر من سعر تحت عنوان «اشتر الآن». تعتبر «القيمة التقديرية» في مزادات الأعمال الفنية مثالًا على قيمة مرجعية تؤثر على السعر الأول المقترح.

هناك مواقف يبدو فيها الارتساء معقولًا. ليس مستغربًا على أي حال أن من توجَّه إليهم أسئلة صعبة يتعلقون بأوهى الإجابات، والقيمة المرجعية تعد إحدى الإجابات المعقولة في هذا السياق. فإذا لم تكن تعرف شيئًا على الإطلاق عن أشجار كاليفورنيا وسئلت عما إذا كانت أشجار الخشب الأحمر يمكن أن تكون أطول من ١٢٠٠ قدم، فربما تستنتج أن هذا الرقم لا يبعد كثيرًا عن الرقم الحقيقي. ابتدع أحد الأشخاص ممن يعرفون الطول الحقيقي لهذه الأشجار ذلك السؤال؛ لذا ربما تمثل القيمة المرجعية إشارة قيمة في سبيل الوصول إلى الإجابة الصحيحة. في المقابل، تتمثل إحدى النتائج الرئيسية في مجال بحوث الارتساء في أن القيم المرجعية التي تُعد عشوائية قد تعتبر فعالة بنفس قدر القيم المرجعية التي توفِّر لنا معلومات. فعندما استخدمنا عجلة الحظ لتحديد القيم المرجعية لنسبة الدول الأفريقية في الأمم المتحدة، بلغ معامل الارتساء ٤٤٪، وهو ما يقع في إطار نطاق الآثار التي لوحظت مع القيم المرجعية التي كان من الممكن أن تؤخذ باعتبارها إشارات. جرى ملاحظة آثار ارتساء مشابهة في الحجم في تجارب كانت الأرقام القليلة الأخيرة في رقم الضمان الاجتماعي للمشاركين في التجربة تُستخدم باعتبارها قيمة مرجعية (مثلًا، لوضع تقدير حول عدد الأطباء في مدينتهم). النتيجة واضحة. فلا تفضي القيم المرجعية إلى آثارها؛ لأن الناس تعتقد أنها تعطي معلومات.

جرى إيضاح قوة القيم المرجعية العشوائية بصور مزعجة. فقد قرأ قضاة ألمان، قضوا في المتوسط أكثر من خمسة عشر عامًا على المنصة، وصْفَ قضية حول امرأة اعتُقلت لسرقتها بضائع من أحد المحال التجارية خلسة، ثم ألقوا زوجًا من النرد تم ضبط كل منه بحيث يسفر عن ظهور أحد رقمين، ٣ أو ٩. فور توقف زوجي النرد عن الحركة، سئل القضاة عما إذا كانوا سيحكمون على المرأة بالسجن عددًا أكثر أم أقل، من الشهور، من العدد الذي يظهر عند رمي النرد. أخيرًا، طُلب من القضاة تحديد عدد سنوات السجن على وجه التحديد التي سيحكمون بها على المرأة السارقة. في المتوسط، قال من ظهر لهم رقم ٩ عند رمي النرد إنهم سيحكمون على المرأة بالسجن ٨ أشهر، بينما قال من ظهر لهم رقم ٣ إنهم سيحكمون عليها بالسجن ٥ أشهر. بلغت نسبة أثر الارتساء ٥٠٪.

استخدامات وحالات إساءة استخدام القيم المرجعية

ربما تكون قد اقتنعت الآن أن آثار الارتساء — التي ترجع في بعض الأحيان إلى الاستباق، وفي أحيان أخرى إلى عملية ضبط غير كافية — توجد في كل مكان. تجعلنا الآليات النفسية التي تفضي إلى الارتساء أكثر ميلًا للخضوع لها مما يرغب أي منا في ذلك. وبطبيعة الحال، هناك عدد من الناس يرغبون في استغلال سذاجتنا ويقدرون على ذلك.

تفسِّر آثار الارتساء، على سبيل المثال، لماذا تعتبر عملية التقنين الإجباري حيلة تسويقية فعَّالة. قبل سنوات قليلة، صادف المتسوقون في مدينة سو، بولاية آيوا أحد عروض التخفيضات على شوربة كامبل بسعر يقل بنسبة ١٠٪ عن السعر العادي. في بعض الأيام، كانت هناك لافتة على الرف تشير إلى ١٢ كحد أقصى للشراء لكل شخص. وفي بعض الأيام الأخرى، لم تضع اللافتة أي حد. ابتاع المتسوقون في المتوسط ٧ علب عندما كانت اللافتة تشير إلى وجود حد أقصى للشراء، وهو ما يساوي ضعف ما كانوا يشترونه عندما لم يكن هناك حد. ليس الارتساء هو التفسير الوحيد في هذه الحالة. يشير التقنين ضمنًا أيضًا إلى أن البضائع تختفي سريعًا من الأرفف، وإلى أن المتسوقين يجب أن يشعروا بشيء من العجلة حيال شراء المنتجات. في المقابل، نعلم أيضًا أن ذكر رقم ١٢ باعتباره عددًا ممكنًا للشراء لكل شخص سيؤدي إلى أثر الارتساء حتى لو جاء هذا الرقم عن طريق عجلة الحظ الخاصة بالقمار.

نرى الاستراتيجية نفسها في التفاوض حول سعر أحد المنازل، عندما يتخذ البائع الخطوة الأولى من خلال وضع قيمة معلنة للمنزل. مثلما في كثير من الألعاب الأخرى، يعتبر التحرك أولًا ميزة في مفاوضات الموضوع الواحد، كما هو الحال عندما يكون السعر هو الموضوع الوحيد الذي يجري التفاوض بشأنه بين المشتري والبائع. مثلما قد تكون مررت بتجربة تفاوض للمرة الأولى في أحد البازارات، تحظى القيمة المرجعية الأولى بأثر قوي. كانت نصيحتي إلى الطلاب عند تدريسي لموضوع المفاوضات هي أنك عندما تعتقد أن الطرف الآخر قدَّم عرضًا متطرفًا، يجب عليك ألا تتقدم بعرض متطرف في المقابل، وهو ما يخلق فجوة سيصعب تجاوزها في المفاوضات التالية. بدلًا من ذلك، عليك مغادرة مكان التفاوض غاضبًا أو التهديد بذلك، والتأكيد — لنفسك وللطرف الآخر — أنك لن تستمر في المفاوضات مع بقاء هذا العرض من جانبه على مائدة المفاوضات.

اقترح عالما النفس آدم جالنسكي وتوماس موسفيلر طرقًا أكثر دقة لمقاومة أثر الارتساء في المفاوضات. طُلب من المفاوضين تركيز انتباههم والبحث في ذاكرتهم على أساليب لمقاومة القيمة المرجعية المطروحة. كان طلب تنشيط النظام ٢ ناجحًا. على سبيل المثال، كان أثر الارتساء يُختزل أو ينمحي عندما كان من يتخذ الخطوة الثانية في المفاوضات يركِّز انتباهه على أقل عرض يمكن أن يتقبله الطرف الآخر، أو على التكاليف التي يتكبدها هذا الطرف عند فشله في الوصول إلى اتفاق. عمومًا، ربما تكون استراتيجية «التفكير في عرض عكسي» عمدًا استراتيجية دفاعية جيدة ضد آثار الارتساء؛ نظرًا لأنها تقطع الطريق على الشحذ الانحيازي للأفكار التي تفضي إلى هذه الآثار.

أخيرًا، جرِّب تحديد آثار الارتساء على إحدى مسائل السياسة العامة، مثل حجم التعويضات في قضايا الإصابة الشخصية. تعتبر التعويضات في بعض الأحيان كبيرة جدًّا. تتكاتف الجهات التي تعتبر هدفًا مستمرًّا لمثل هذه القضايا، مثل المستشفيات وشركات المنتجات الكيماوية، لوضع سقف لهذه التعويضات. قبل أن تقرأ هذا الفصل، بينما ربما كنت تظن أن وضع حد أقصى للتعويضات يعتبر أمرًا جيدًا بالنسبة إلى المدعى عليهم المحتملين، لا يجب أن تكون متأكدًا تمامًا الآن. فكِّر على سبيل المثال في أثر وضع حد أقصى للتعويضات عند قيمة مليون دولار. بينما قد تؤدي هذه القاعدة إلى الحد من التعويضات الأعلى، ستظل القيمة المرجعية تزيد من حجم تعويضات كثيرة أقل قيمة بكثير. لا شك في أن قاعدة كهذه ستفيد من يرتكبون مخالفات كبرى وتفيد الشركات الكبيرة أكثر مما تفيد الشركات الصغيرة.

الارتساء والنظامان

إن لدى آثار القيم المرجعية العشوائية الكثير والكثير مما يمكن أن تخبرنا به عن العلاقة بين النظام ١ والنظام ٢. كانت آثار الارتساء ولا تزال تُدرس دومًا من خلال مهام إصدار الأحكام واتخاذ الخيارات، وهي المهام التي يقوم بها في نهاية المطاف النظام ٢. في المقابل، يعمل النظام ٢ على البيانات التي يجري استرجاعها من الذاكرة، من خلال إحدى عمليات النظام ١ الآلية غير الطوعية. من هنا، يتأثر النظام ٢ بالأثر الانحيازي للقيم المرجعية التي تجعل بعض المعلومات أسهل في استرجاعها. بالإضافة إلى ذلك، لا يتحكم النظام ٢ في هذا الأثر كما لا تتوفر لديه أي دراية به. ينفي المشاركون الذين عُرضت عليهم قيم مرجعية عشوائية أو عبثية (مثل وفاة غاندي عند عمر يناهز ١٤٤ عامًا) في ثقة أن هذه المعلومات غير المفيدة ربما قد أثرت على تقديراتهم، وأنهم كانوا مخطئين.

رأينا في مناقشة قانون الأرقام الصغيرة أن أي رسالة، ما لم تُرفَض بشكل مباشرة باعتبارها كذبة، سيكون لها نفس الأثر على النظام الترابطي بغض النظر عن مصداقيتها. يتمثل جوهر الرسالة في القصة، التي تعتمد على أي معلومات متوفرة، حتى إذا كان حجم المعلومات المتوفرة قليلًا وكانت فقيرة في جودتها. هنا يظهر مبدأ «ما تراه هو كل ما هناك» عندما تقرأ عن عملية الإنقاذ البطولية لأحد متسلقي الجبال المجروحين، يساوي أثر القصة على الذاكرة الترابطية أثر تقرير إخباري أو ملخص قصة فيلم. يتولد الارتساء من عملية التنشيط الترابطية هذه. لا يهم كثيرًا ما إذا كانت القصة صحيحة أو قابلة للتصديق، إن كان لهذا أية أهمية من الأساس. يمثل الأثر القوي للقيم المرجعية العشوائية حالة متطرفة لهذه الظاهرة؛ نظرًا لأن أي قيمة مرجعية عشوائية لا توفِّر بداهةً أي معلومات على الإطلاق.

ناقشت سابقًا التنوع المحير لآثار الاستباق، وهي الحالات التي ربما تتأثر فيها الأفكار والسلوك بالمثيرات التي لا نعيرها أي اهتمام على الإطلاق، بل حتى بالمثيرات التي ليست لنا بها أي دراية على الإطلاق. تتمثل النتيجة الرئيسية لبحوث الاستباق في أن أفكارنا وسلوكنا تتأثر، أكثر بكثير مما نعرف أو نريد، ببيئة اللحظة الراهنة. يرى كثير من الناس نتائج بحوث الاستباق غير قابلة للتصديق؛ نظرًا لأنها لا تماثل شيئًا في خبرتك الذاتية. ويرى آخرون أن النتائج مزعجة؛ نظرًا لأنها تهدد الشعور الذاتي بالفاعلية والاستقلالية. إذا كان محتوى إحدى شاشات التوقف على جهاز كمبيوتر لا صلة له بالموضوع يؤثر على رغبتك في مساعدة الغرباء دون وعيك بذلك، فإلى أي مدى أنت حر؟ تعتبر آثار الارتساء خطرة بصورة مشابهة. فبينما تدري دومًا القيمة المرجعية بل تنتبه لها، لا تدري كيف توجه وتقيِّد هذه القيمة تفكيرك؛ نظرًا لأنك لا تستطيع تصوُّر كيف كنت ستفكِّر إذا كانت القيمة المرجعية مختلفة (أو غير موجودة). في المقابل، يجب أن تفترض أن أي عدد مطروح يخضعك لأثر الارتساء، وإذا كانت معدلات المخاطرة مرتفعة، فيجب أن تشحذ قدراتك (النظام ٢ الخاص بك) لمقاومة هذا الأثر.

في الحديث عن أثر الارتساء

«أرسلت الشركة التي نريد الاستحواذ عليها خطة عملها، فضلًا عن العوائد التي يتوقعونها. يجب ألا ندع هذا الرقم يؤثر على طريقة تفكيرنا، فلنُنَحِّهِ جانبًا.»

«تمثِّل الخطط أفضل السيناريوهات. دعونا نتجنب وضع قيم مرجعية للخطط عند توقع النتائج الحقيقية. يمثِّل التفكير في طرق قد تسير الخطة من خلالها في الطريق الخاطئ أحد طرق تنفيذ ذلك.»

«إن هدفنا في المفاوضات هو جعلهم يضعون هذا الرقم قيمة مرجعية.»

«دعنا نوضح لهم أنه إذا كان هذا هو عرضهم، فستتوقف المفاوضات. فنحن لا نريد أن نبدأ من هذا الرقم.»

«قدَّم محامو المدعى عليه مرجعًا واهيًا أشاروا من خلاله إلى مبلغ تعويضات بالغ الصغر، ما جعل القاضي يعتبره قيمة مرجعية!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤