الفصل الثامن عشر

ترويض التوقعات الحدسية

تهيئ لنا الحياة فرصًا كثيرة للتنبؤ؛ فيتوقع الاقتصاديون معدلات التضخم والبطالة، والمحللون الماليون المكاسبَ، والخبراء العسكريون الخسائر في الأرواح، ورواد الأعمال الربحيةَ، والناشرون والمنتجون حجم الجمهور، والمقاولون الوقت اللازم لإتمام المشروعات، والطهاة معدل الطلب على أطباقهم التي يقدمونها، والمهندسون كمية الخرسانة اللازمة لبناية، ورؤساء إدارات مكافحة الحرائق عدد الشاحنات اللازمة لإخماد حريق. وفي حياتنا الخاصة، نتوقع ردة فعل شريك حياتنا تجاه خطوة ما مقترحة أو تكيفنا المستقبلي مع وظيفة جديدة.

تعتمد بعض الأحكام التوقعية — مثل تلك التي تصدر عن مهندسين — بدرجة كبيرة على مصفوفات جداول بحث، وحسابات دقيقة، وتحليلات مباشرة لنتائج ظهرت من خلال حالات مشابهة. تتضمَّن بعض الأحكام الأخرى الحدس والنظام ١، في تنويعتين مختلفتين. فبعض الأحكام الحدسية تعتمد بصورة رئيسية على المهارة والخبرة التي تُكتسب من خلال التجربة المتكررة. تبيِّن الأحكام والخيارات السريعة والآلية لأساتذة الشطرنج، ورؤساء إدارات مكافحة الحرائق، والأطباء، التي وصفها جاري كلاين في كتابه «مصادر القوة» وفي مواضع أخرى، هذه الأحكام الحدسية المهارية، التي يرد فيها حل لمشكلة قائمة بسرعة؛ نظرًا لإدراك إشارات مألوفة.

في المقابل، تنشأ بعض الأحكام الحدسية الأخرى، التي لا يمكن تمييزها في بعض الأحيان عن النوع الأول، من خلال عمل الطرق الاستدلالية التي تستبدل عادةً سؤالًا سهلًا بسؤال أصعب جرى توجيهه. يمكن أن تصدر الأحكام الحدسية بدرجة عالية من الثقة حتى لو كانت تعتمد على عمليات تقييم غير ارتدادية للأدلة الضعيفة. بالطبع، تتأثر الكثير من الأحكام، خاصةً في المجال المهني، بمزيج من التحليل والحدس.

الأحكام الحدسية غير الارتدادية

لنعد مرة أخرى إلى شخص قابلناه قبل ذلك:

جولي حاليًّا طالبة في السنة النهائية في جامعة حكومية. كانت جولي تقرأ بطلاقة عندما كانت تبلغ أربعة أعوام. ما متوسط الدرجات التراكمي الخاص بها؟

يذكر الأشخاص الذين لديهم فكرة عن النظام التعليمي الأمريكي رقمًا سريعًا، وهو عادةً ٣٫٧ أو ٣٫٨. كيف يحدث هذا؟ تجري عدة عمليات في النظام ١ للقيام بذلك:
  • يجري السعي وراء علاقة سببية بين الدليل (قدرة جولي على القراءة) والهدف من عملية التوقع (متوسط درجاتها التراكمي). ربما تكون العلاقة غير مباشرة. في هذا المثال، تعتبر القدرة على القراءة في سن مبكرة ومتوسط الدرجات التراكمي المرتفع دليلًا على التميُّز الأكاديمي. يعتبر وجود صلة ما ضروريًّا. ربما سترفض (أو بالأحرى النظام ٢ الخاص بك) باعتباره أمرًا غير وارد أن تفوز جولي في مسابقة صيد أسماك عن طريق ذبابة الصيد الصناعية، أو أن تبرَع في مسابقة لحمل الأثقال أثناء دراستها في المدرسة الثانوية. العملية هنا عملية ثنائية. فبينما نستطيع رفض معلومات معينة باعتبارها غير ذات صلة أو خاطئة، لا تُعد عملية التكيُّف مع مكامن الضعف الصغيرة في الأدلة المتوفرة مسألةً يستطيع النظام ١ تنفيذها؛ بناءً عليه، لا تتأثر التوقعات الحدسية على الإطلاق تقريبًا مع الطابع التنبُّئي الفعلي للأدلة المتوفرة. عند العثور على علاقة ما — مثلما هو في حالة قدرة جولي على القراءة في عمر مبكر — يطبَّق مبدأ «ما تراه هو كل ما هناك». فتُنشئ ذاكرتك الترابطية سريعًا وآليًّا أفضل قصة ممكنة بالاعتماد على المعلومات المتوفرة.

  • بعد ذلك، يجري تقييم الأدلة بالنسبة إلى معيار ذي صلة. إلى أي درجة يعتبر الطفل الذي يقرأ بطلاقة عند عمر أربع سنوات مبكرًا في قراءته؟ ما التصنيف النسبي أو النتيجة بالنسبة المئوية التي تقابل هذا الإنجاز؟ بينما لا يجري تحديد المجموعة التي يُقارَن الطفل بالنسبة إليها (نُطلق عليها مجموعة مرجعية) بالكامل، تعتبر هذه أيضًا القاعدة في الحديث العادي. فإذا وصف أحد الأشخاص ممن تخرَّجوا في إحدى الجامعات باعتباره «ماهرًا جدًّا»، فمن النادر أن تحتاج إلى أن تسأل قائلًا: «حين تقول «ماهر جدًّا»، فأي مجموعة مرجعية ترد إلى عقلك؟»

  • تتضمن الخطوة التالية إجراء عملية استبدال ومطابقة درجة. يستبدل تقييم الدلائل الواهية للقدرة الإدراكية في الطفولة باعتباره إجابة على السؤال عن متوسط الدرجات التراكمي لها. ستحظى جولي بالنسبة نفسها لمتوسط درجاتها التراكمي ولإنجازاتها كطفلة توفرت لديها القدرة على القراءة المبكرة.

  • أشار السؤال إلى أن الإجابة يجب أن تكون على مقياس متوسط الدرجات التراكمي، وهو ما يتطلب إجراء عملية مطابقة درجة أخرى، من الانطباع العام حول الإنجازات الأكاديمية لجولي إلى متوسط الدرجات التراكمي الذي يطابق الدلائل على موهبتها. تعتبر الخطوة الأخيرة عملية ترجمة، من انطباع حول المكانة الأكاديمية النسبية لجولي إلى متوسط الدرجات التراكمي الذي يقابل تلك المكانة.

تفضي عملية مطابقة الدرجة إلى توقعات متطرفة مثل الدلائل التي تعتمد عليها، وهو ما يؤدي إلى أن يقدِّم الأشخاص الإجابة نفسها على سؤالين غاية في الاختلاف:
ما النتيجة بالنسبة المئوية لقدرة جولي على القراءة المبكرة؟
ما النتيجة بالنسبة المئوية لمتوسط الدرجات التراكمي لجولي؟

لعلك تدرك الآن بسهولة أن جميع هذه العمليات من سمات النظام ١. فبينما أُدرجت هذه العمليات هنا في صورة خطوات مرتبة، لا تعمل عملية انتشار التنشيط في الذاكرة الترابطية — بالطبع — على هذا النحو. يجب أن تتصور وجود عملية نشر تنشيط تبدأ في الأساس من خلال الدلائل والأسئلة الموجهة، ثم تجري عملية تقديم تقييم ذاتي، وأخيرًا يجري الاستقرار على أكثر الحلول المتماسكة الممكنة.

•••

طلبنا — عاموس وأنا — من المشاركين في إحدى التجارب الإدلاء بأحكامهم حول أوصاف ثمانية طلاب في السنة الأولى الجامعية، وهي أوصاف — كما قيل للمشاركين — كتبها مستشار أكاديمي بناءً على المقابلات التي أجراها في صف القبول. تألَّف كل وصف من خمس صفات، مثلما في المثال التالي:

ذكي، واثق من نفسه، واسع الاطلاع، مجتهد، شغوف بالمعرفة.

طلبنا من بعض المشاركين الإجابة على السؤالين التاليين:
إلى أي درجة يبهرك هذا الوصف فيما يتعلق بالقدرة الأكاديمية؟
ما نسبة أوصاف طلاب السنة الأولى الجامعية التي تعتقد أنها ستبهرك أكثر؟

تتطلب الإجابة تقييم الدلائل من خلال مقارنة الأوصاف بمعيار أوصاف الطلاب الذي يضعه المستشارون الأكاديميون. يعتبر وجود معيار كهذا أمرًا لافتًا في حد ذاته. وعلى الرغم من عدم معرفتك يقينًا بطريقة اكتسابك هذا المعيار، فيتوفر لديك شعور واضح إلى حدٍّ ما بقدر الحماس الذي يصل من خلال الأوصاف: يعتقد المستشار الأكاديمي أن هذا الطالب يتمتَّع بمستوى جيد وإن لم يكن مستواه مرتفعًا جدًّا. هناك مجال لاستخدام صفات أكثر قوة من «ذكي» («ألمعيٍّ»، «خلاق»)، «واسع الاطلاع» («علامة»، «غزير المعرفة»، «مطلع بصورة مدهشة»)، و«مجتهد» («شغوف جدًّا»، «يسعى للكمال»). النتيجة النهائية: بينما قد يكون من المحتمل جدًّا أن يكون طالب كهذا ضمن نسبة ١٥٪ الأعلى، لا يُحتمل أن يكون ضمن نسبة ٣٪ الأعلى. هناك إجماع مدهش في الإدلاء بأحكام كهذه، على الأقل في إطار ثقافة واحدة.

وُجهت أسئلة مختلفة إلى المشاركين الآخرين في تجربتنا:
ما تقديرك لمتوسط الدرجات التراكمي الذي سيحصل عليه الطالب؟
ما نسبة الطلاب الجدد الذين سيحصلون على متوسط درجات تراكمي أعلى؟

يحتاج المشارك إلى إلقاء نظرة أخرى لإدراك الفرق الدقيق بين مجموعتَي الأسئلة. بينما يجب أن يكون الفرق واضحًا، فهو ليس كذلك. على خلاف الأسئلة الأولى — التي كانت تتطلب من المشاركين تقييم الدلائل فقط — تنطوي المجموعة الثانية من الأسئلة على قدر كبير من عدم اليقين. يشير السؤال إلى الأداء الفعلي في نهاية السنة الأولى الجامعية. ماذا حدث أثناء العام الدراسي منذ إجراء المقابلة؟ بأي قدر من الدقة يمكن توقع إنجازات الطلاب الحقيقية في السنة الأولى في الجامعة عن طريق خمس صفات؟ هل سيكون رأي المستشار الأكاديمي دقيقًا تمامًا إذا توقَّع متوسط الدرجات التراكمي من خلال إجراء مقابلة؟

كانت غاية هذه الدراسة مقارنة نسبة الأحكام التي أصدرها المشاركون عند تقييم الدلائل في حالة واحدة وعند توقُّع النتيجة النهائية في حالة أخرى. يسهُل تلخيص النتائج: كانت الأحكام متطابقة. فعلى الرغم من اختلاف مجموعتَي الأسئلة (إذ تدور إحداها حول أوصاف الطلاب، فيما تدور الأخرى حول الأداء الأكاديمي للطلاب مستقبلًا)، تعامل المشاركون معهما كما لو كانتا متطابقتين. ومثلما في حالة جولي، لا يفترق توقُّع المستقبل عن تقييم الأدلة الحالية؛ إذ يتطابق التوقع مع التقييم، وهو ما يُعد ربما أفضل دليل نملكه على دور عملية الاستبدال. فبينما يُطلب من الأشخاص تقديم توقعاتهم، يستبدلون بذلك تقييم الدلائل، دون ملاحظة أن السؤال الذي يجيبون عليه ليس هو السؤال الذي وُجِّه إليهم. تضمن هذه العملية تقديم توقعات تتسم بأنها منحازة منهجيًّا؛ فهي توقعات تتجاهل تمامًا الارتداد إلى المتوسط.

خلال فترة خدمتي العسكرية في قوات الدفاع الإسرائيلية، قضيت بعض الوقت باعتباري جزءًا من وحدة كانت تختار المرشحين للحصول على تدريب للحصول على رتبة ضابط بناءً على سلسلة من المقابلات والاختبارات الميدانية. كان المعيار المحدد لعملية التوقع الناجحة يتمثل في الدرجة النهائية التي يحصل عليها المرشح في مدرسة تدريب الضباط. كان معروفًا أن صحة هذه التقييمات لا تتمتع بالمصداقية الكافية (سأتحدث عن ذلك تفصيلًا في فصل لاحق). كانت الوحدة لا تزال موجودة بعدها بسنوات، عندما كنت أستاذًا وأتعاون مع عاموس في دراسة عن الأحكام الحدسية. كنت على اتصال بالأفراد في الوحدة، فطلبت منهم إسداء خدمة إليَّ. بالإضافة إلى نظام التقييم الاعتيادي الذي كانوا يستخدمونه لتقييم المرشحين، طلبت منهم تقديم أفضل تخميناتهم حول الدرجة التي سيحصل عليها كل مرشح في مدرسة تدريب الضباط. جرى جمع عينات شملت بضع مئات من هذه التوقعات. كان الضباط الذين قدَّموا توقعاتهم على معرفة وثيقة بنظام التقييم المعتمد على الأحرف، الذي كانت المدرسة تطبقه على المرشحين للانضمام إليها والنسب التقريبية لتقديرات أ، ب … إلخ. كانت النتائج مدهشة؛ فكان معدل التكرار النسبي لتقييم أ وتقييم ب في التوقعات، مطابقًا تقريبًا لمعدلات التكرار في الدرجات النهائية التي أعلنت عنها المدرسة.

تقدِّم هذه النتائج مثالًا عظيمًا على عميلتَي الاستبدال ومطابقة الدرجة. عجز الضباط الذين قدموا توقعاتهم تمامًا عن التمييز بين مهمتين:
  • مهمتهم المعتادة؛ التي كانت تتمثل في تقييم أداء المرشحين أثناء وجودهم في الوحدة.

  • المهمة التي طلب منهم أداؤها، والتي كانت تتمثل في تقديم توقع حول الدرجات المستقبلية لهم.

ترجم الضباط الدرجات التي وضعوها للمرشحين في المقياس المستخدم في مدرسة تدريب الضباط، مستعينين بعملية مطابقة الدرجة. مرة أخرى؛ أفضى الفشل في التعامل مع عدم اليقين (الكبير) حيال توقُّعاتهم إلى توقعات غير ارتدادية على الإطلاق.

تصحيح التوقعات الحدسية

نعود مرة أخرى إلى جولي — الفتاة التي كانت تحظى بقدرة مبكرة على القراءة. جرى عرض الطريقة الصحيحة لتوقع متوسط الدرجات التراكمي لجولي في الفصل السابق. مثلما تعاملت مع لعبة الجولف خلال عدد من الأيام المتتالية، ومع الوزن وعزف البيانو، أصيغ هنا معادلة تمثيلية للعوامل التي تحدد عمر القراءة ومجموع الدرجات في الجامعة:

عمر القراءة = العوامل المشتركة + عوامل محددة متعلقة بمتوسط الدرجات التراكمي = ١٠٠٪

متوسط الدرجات التراكمي = العوامل المشتركة + عوامل محددة متعلقة بمتوسط الدرجات التراكمي = ١٠٠٪

تتضمَّن العوامل المشتركة القدرة المحددة جينيًّا، ودرجة دعم الأسرة للاهتمامات الأكاديمية، وأي شيء آخر يجعل الأشخاص أنفسهم يقرءون في سن مبكرة في عمر الطفولة وناجحين أكاديميًّا كشباب بالغين. بالطبع، هناك عوامل عديدة ستؤثر على إحدى هذه النتائج ولا تؤثر على نتيجة أخرى. ربما كانت جولي مدفوعة للقراءة في سن مبكرة من قبل والدين طموحين للغاية، وربما مرت بتجربة عاطفية غير سعيدة؛ ما أدى إلى انخفاض درجاتها في الجامعة، وربما وقع لها حادث تزلج خلال فترة المراهقة جعل بعض قدراتها الذهنية تتأثر قليلًا، وهكذا.

تذكَّر أن العلاقة الترابطية بين مقياسين — في المثال الحالي: عمر القراءة ومتوسط الدرجات التراكمي — تساوي نسبة العوامل المشتركة بين العوامل المحددة لهذين المقياسين. ما أفضل تخميناتك بالنسبة إلى تلك النسبة؟ يبلغ التخمين الأكثر تفاؤلًا الذي أتوقعه ٣٠٪. بافتراض هذا التقدير، يتوفر لدينا كل ما نحتاج إليه لتقديم توقع غير منحاز. ها هي طريقة تحقيق ذلك من خلال أربع خطوات بسيطة:
  • (١)

    ابدأ بوضع قيمة تقديرية لمتوسط الدرجات التراكمي.

  • (٢)

    حدد متوسط الدرجات التراكمي الذي يطابق انطباعك حول الدلائل.

  • (٣)

    حدد العلاقة الترابطية بين الدلائل المتوفرة ومتوسط الدرجات التراكمي.

  • (٤)

    إذا كان معامل الترابط يبلغ ٠٫٣٠، تحرَّك بنسبة ٣٠٪ بعيدًا عن المتوسط في اتجاه متوسط الدرجات التراكمي المقابل.

الخطوة ١ هي الخط المرجعي؛ ألا وهي متوسط الدرجات التراكمي الذي كنت ستتوقعه إذا لم يُقَلْ لك شيء عن جولي بخلاف أنها طالبة في السنة النهائية. في غياب المعلومات، ربما كنت ستتوقع القيمة المتوسطة. (وهو ما يشبه الاستعانة باحتمال المعدل الأساسي لخريجي قسم إدارة الأعمال عندما لا يُقال لك شيء عن توم دبليو.) تمثل خطوة ٢ توقعك الحدسي، الذي يطابق تقييمك للدلائل المتوفرة. أما خطوة ٣، فتتحرك من خلالها من الخط المرجعي تجاه حدسك، بينما تعتمد المسافة التي يُسمح لك بقطعها على تقييمك للعلاقة الترابطية. ينتهي بك المطاف — في خطوة ٤ — بتوقع يتأثر بحدسك، لكنه توقع أكثر اعتدالًا بكثير.

يعتبر أسلوب التعامل مع التوقعات هذا عامًّا؛ ويمكن تطبيق هذا الأسلوب متى كنت في حاجة إلى توقع قيمة متغير كمي؛ مثل متوسط الدرجات التراكمي، والأرباح الناشئة عن الاستثمارات، ومعدل نمو إحدى الشركات. بينما يعتمد هذا الأسلوب على حدسك، فهو يروضه، ويجعله يرتد إلى قيمة متوسطة. عندما تتوفر لديك أسباب وجيهة للثقة في دقة توقعك الحدسي — علاقة ترابطية قوية بين الدلائل والتوقع — ستكون عملية ضبط القيمة بسيطة.

يجب تصحيح التوقعات الحدسية؛ نظرًا لأنها غير ارتدادية، ومن ثم تتسم بالانحياز. هَب أنني توقعت بالنسبة إلى كل لاعب جولف في مسابقة أن تتطابق نتيجته في اليوم الثاني مع نتيجته في اليوم الأول. لا يفسح توقع كهذا المجالَ أمام الارتداد إلى المتوسط. فسيُبلِي لاعبو الجولف الذين أبلوا بلاءً حسنًا في اليوم الأول بلاءً أقل في اليوم الثاني، كما سيتحسن في اليوم الثاني أداء الذين أبلوا بلاءً سيئًا في اليوم الأول. وعندما تجري مقارنة ذلك بالنتائج الفعلية، فسيُكتشف أن التوقعات غير الارتدادية تتسم بالانحياز؛ حيث تعتبر توقعات متفائلة بصورة مبالغ فيها في المتوسط بالنسبة إلى أولئك الذين كان أداؤهم جيدًا في اليوم الأول، ومتشائمة بصورة مبالغ فيها لأولئك الذين كان أداؤهم سيئًا في اليوم الأول. تعتبر التوقعات متطرفة قدر ما أن الدلائل المتوفرة تعتبر كذلك أيضًا. بالمثل، إذا استعنت بإنجازات مرحلة الطفولة لتوقع الدرجات في المرحلة الجامعية دون إجراء عملية ارتداد للتوقعات إلى المتوسط، ففي الغالب ستصيبك النتائج الدراسية لمن يقرءون في سن مبكرة بخيبة أمل كثيرًا، كما ستفاجئك لسعادتك بنتائج أولئك الذين تعلموا القراءة في عمر متأخر نسبيًّا. تتخلص التوقعات الحدسية المُصححة من هذه الانحيازات، بحيث تؤدي التوقعات (المرتفعة والمنخفضة) بدرجة متساوية على الأرجح إلى المبالغة في — والتقليل من — القيمة الحقيقية. بينما لا تزال ترتكب الأخطاء عندما تكون توقعاتك غير منحازة، ستكون الأخطاء أصغر ولا تميل تجاه نتائج مرتفعة أو منخفضة.

هل يمكن الدفاع عن التوقعات المتطرفة؟

قدَّمتُ شخصية توم دبليو سابقًا للإشارة إلى توقعات النتائج المنفصلة مثل مجال التخصص أو النجاح في أحد الاختبارات، التي يجري التعبير عنها من خلال وضع احتمال لأحد الأحداث المحددة (أو في تلك الحالة من خلال تقييم النتائج من الأكثر إلى الأقل احتمالًا). أشرتُ أيضًا إلى إجراء يواجه الانحيازات الشائعة في مجال توقعات النتائج المنفصلة؛ ألا وهو: إهمال المعدلات الأساسية وعدم التأثر بطبيعة المعلومات.

تتشابه الانحيازات التي وجدناها في التوقعات التي جرى التعبير عنها من خلال أحد المقاييس؛ مثل متوسط الدرجات التراكمي أو دخل إحدى الشركات، مع الانحيازات التي لوحظت عند الحكم على احتمالات وقوع النتائج.

تعتبر الإجراءات التصحيحية متشابهة أيضًا:
  • يحتوي كلاهما على توقع أساسي، وهو توقع يُقدَّم إذا لم يكن ثمة شيء معلوم على الإطلاق عن الحالة قيد النظر. في الحالة التصنيفية، كان هذا التوقع يتمثَّل في المعدل الأساسي. في الحالة العددية، كان هذا التوقع يتمثَّل في النتيجة المتوسطة في التصنيف ذي الصلة.

  • يتضمَّن كلاهما توقعًا حدسيًّا، يعبِّر عن الرقم الذي يرد إلى الذهن، سواءٌ أكان ذلك احتمالًا أو متوسط درجات تراكميًّا.

  • في كلتا الحالتين، تهدف إلى تقديم توقُّع يقع وسطًا بين التوقع الأساسي وتوقعك الحدسي.

  • في الحالة التي لا تتوفر فيها دلائل مفيدة، تلتزم بتقديم التوقع الأساسي.

  • على النقيض الآخر، تظل تقدِّم توقعك الحدسي، وهو ما يحدث — بالطبع — فقط عندما تظل واثقًا بشكل كامل في توقعك الحدسي بعد إجراء مراجعة نقدية للدلائل التي تدعمه.

  • في معظم الحالات، ستجد سببًا للشك في أن العلاقة الترابطية بين حكمك الحدسي والحقيقة علاقة كاملة، وسينتهي بك المطاف في موضع ما بين الحالتين.

يمثِّل هذا الإجراء عملية تقريبية للنتائج المحتملة لتحليل إحصائي مناسب. وإذا كان الإجراء صحيحًا، فستنتقل صوب وضع توقعات غير منحازة، وعمليات تقييم عقلانية للاحتمالية، وعمليات تقييم معتدلة للنتائج الرقمية. يهدف الإجراءان إلى معالجة الانحياز نفسه؛ ألا وهو: ميل التوقعات الحدسية إلى الثقة المفرطة والتطرف الشديد في النتائج.

•••

يعتبر تصحيح التوقعات الحدسية أحد مهام النظام ٢. يلزم جهد كبير للعثور على التصنيف المرجعي المناسب، ووضع قيمة للتوقع الأساسي، وتقييم جودة الدلائل. يعتبر هذا الجهد مبررًا فقط عندما تكون المخاطر مرتفعة وعندما تكون حريصًا على ألا ترتكب أخطاءً. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تدرك أن تصحيح أحكامك الحدسية ربما يزيد حياتك تعقيدًا. تتمثل إحدى خصائص التوقعات غير المنحازة في أنها تسمح بإجراء توقعات لأحداث نادرة أو متطرفة، فقط عندما تتوفر معلومات جيدة. إذا كنت تتوقع أن تتميز توقعاتك بمستوى متواضع من الصحة، فلن تخمِّن أبدًا نتيجة نادرة الحدوث أو تبعد كثيرًا عن المتوسط. إذا كانت توقعاتك غير منحازة، فلن تمر أبدًا بالخبرة المُرضية المتعلقة باستدعاء حالة نادرة بصورة صحيحة؛ ومن ثَمَّ فلن تتمكن أبدًا من أن تقول: «كنت أظن ذلك!» عندما يصبح أفضل طلابك في كلية الحقوق قاضيًا في المحكمة الدستورية العليا، أو عندما تصبح شركة صغيرة ناشئة كنت تراها واعدة شركة تجارية كبرى ناجحة. بالنظر إلى محدودية الدلائل، لن تتوقع أبدًا أن طالبًا ثانويًّا بارزًا سيحقق أعلى الدرجات طوال سنوات دراسته في جامعة برينستون. للسبب نفسه، لا يقول أحد أبدًا لأحد المستثمرين في الشركات الصغيرة ذات الاستثمارات الخطرة: إن احتمالية نجاح شركة صغيرة ناشئة في مراحلها المبكرة «مرتفعة جدًّا».

يجب أخذ الاعتراضات على مبدأ ترشيد التوقعات الحدسية على محمل الجد؛ نظرًا لأن غياب الانحياز لا يعتبر دومًا أهم شيء. يُبرَّر تفضيل تقديم توقعات غير منحازة إذا كان يجري التعامل مع جميع أخطاء التوقع على قدم المساواة، بغض النظر عن اتجاهها. لكن في بعض المواقف يكون أحد أنواع الخطأ أكثر سوءًا من خطأ آخر. فعندما يبحث أحد المستثمرين في الشركات الصغيرة ذات الاستثمارات الخطرة عن «الخطوة الكبيرة التالية»، يعتبر الخطر في عدم إدراك فرصة وجود شركة كبرى في المستقبل مثل جوجل أو فيسبوك أكثر أهمية من خطر تمويل استثمار متواضع في شركة صغيرة ناشئة لا تحقق نجاحًا في نهاية المطاف. يتمثل هدف هؤلاء المستثمرين في انتقاء الحالات المتطرفة بصورة صحيحة، حتى وإن كان ذلك على حساب المبالغة في تقدير احتمالات التقدم لشركات أخرى كثيرة. بالنسبة إلى مصرفي محافظ يمنح قروضًا ضخمة، ربما تتجاوز مخاطرةُ إفلاس مقترض واحد مخاطرةَ رفض طلبات اقتراض عملاء محتملين كثيرين سيَفُون بالتزاماتهم. في هذه الحالات، ربما يقدِّم استخدام اللغة المتطرفة («احتمالات تقدم جيدة جدًّا»، «مخاطرة كبيرة في عدم الوفاء بالدين») بعضَ التبرير في الراحة التي توفِّرها، حتى إذا كانت المعلومات التي تعتمد عليها هذه الأحكام تتسم بقدر متواضع من الصحة.

بالنسبة إلى شخص عقلاني، لا يجب أن تشكِّل التوقعات غير المنحازة والمعتدلة مشكلة. فعلى كل حال، يعلم المستثمر في الشركات الصغيرة ذات الاستثمارات الخطرة أنه حتى أكثر الشركات الصغيرة الناشئة الواعدة لا تحظى إلا بفرصة متوسطة في النجاح. يرى مثل هذا المستثمر أن عمله يتمثل في انتقاء أفضل الشركات الناشئة الواعدة من بين الشركات الأخرى المتوفرة، ولا يشعر بحاجة إلى خداع نفسه حيال احتمالات تقدم إحدى الشركات الصغيرة الناشئة التي ينوي الاستثمار فيها. بالمثل، لن يتقيَّد الأشخاص العقلانيون الذين يتوقعون دخل إحدى الشركات برقم واحد، بل يجب أن يأخذوا في الاعتبار نطاق عدم اليقين الذي يتراوح حوله أكثر النتائج احتمالًا. سيستثمر الشخص العقلاني قدرًا كبيرًا من الأموال في شركة لا تحقق نجاحًا على الأرجح إذا كانت عوائد النجاح كبيرة بما يكفي، دون أن يخدع نفسه حيال فرص النجاح. في المقابل، لسنا جميعًا عقلانيين، وربما يحتاج بعضنا إلى الركون إلى أمان التقديرات غير السليمة لتجنب حالة عدم القدرة على اتخاذ القرار. في المقابل، إذا اخترت أن تخدع نفسك من خلال القبول بالتوقعات المتطرفة، فعليك أن تظل منتبهًا إلى أنك تفعل ذلك.

ربما تتمثَّل أكثر الإسهامات قيمة للإجراءات التصحيحية التي أقترحها في أنها تتطلب منك التفكير في مقدار ما تعرف. سأقدِّم مثالًا مألوفًا في العالم الأكاديمي، وإن كانت الأمثلة المماثلة في مجالات أخرى في الحياة لها النتائج نفسها. هناك قسم على وشك استقدام أستاذ شاب، ويرغب في أن يختار أحد الأساتذة ممن يُتوقع أن يكون إنتاجهم العلمي هو الأفضل. حصرت لجنة البحث خيارها في مرشحين اثنين:

انتهت كيم مؤخرًا من دراساتها العليا. كانت خطابات تزكيتها مبهرة، وكانت تتحدث في ألمعية، وبهرت كل من كان يعقد معها مقابلات. لا تمتلك كيم سجلًّا كبيرًا في الإنتاج العلمي.

كانت جين تشغل منصبًا أكاديميًّا تطلَّب دراسات ما بعد الدكتوراه خلال السنوات الثلاثة الأخيرة. تميزت جين بغزارة إنتاجها، وكان سجلُّها البحثي ممتازًا. في المقابل، كان حديث جين ومقابلاتها أقل بريقًا من كيم.

يفضِّل الخيار الحدسي كيم؛ نظرًا لأنها تركت انطباعًا أقوى، فضلًا عن تحقق مبدأ «ما تراه هو كل ما هناك». في المقابل، لا يتوفر من المعلومات عن كيم قدر ما يتوفر عن جين. نعود مجددًا إلى قانون الأرقام الصغيرة. في حقيقة الأمر، توجد عينة معلومات أصغر بالنسبة إلى كيم مما في حالة جين، وتعتبر النتائج المتطرفة أكثر احتمالًا في وقوعها في العينات الصغيرة. هناك عامل حظ أكبر في نتائج العينات الصغيرة، ومن هنا يجب إجراء عملية ارتداد للتوقعات تجاه المتوسط في توقعك حيال أداء كيم المستقبلي. عندما تفسح المجال أمام حقيقة أن كيم من المحتمل أكثر أن ترتد للمتوسط أكثر من جين، ربما ينتهي بك المطاف باختيار جين على الرغم من عدم انبهارك بها. في سياق الاختيارات الأكاديمية، بينما سأصوِّت لصالح جين، سيكون الأمر بمثابة صراع للتغلب على انطباعي الحدسي بأن كيم تبدو واعدة أكثر. يعتبر اتباع أحكامنا الحدسية مسألة أكثر طبيعية، وبدرجة ما أكثر سرورًا، من اتخاذ إجراء في عكس اتجاهها.

يمكنك أن تتصوَّر في الحال مشكلات مشابهة في سياقات مختلفة؛ مثل حالة مستثمر في شركات صغيرة ذات استثمارات خطرة يختار بين شركتين صغيرتين ناشئتين تعمل كل منهما في سوق مختلفة. تمتلك إحدى هاتين الشركتين منتجًا يمكن تقدير الطلب عليه بقدر كبير من الدقة. أما الشركة الأخرى، بينما تعتبر أكثر إثارة وواعدة من الناحية الحدسية، تُعد احتمالات نجاحها المستقبلية أقل يقينًا. في هذه الحالة تستحق مسألة ما إذا كانت التوقعات بشأن مستقبل الشركة الثانية ستبدو أفضل عند أخذ عامل عدم اليقين في الاعتبار؛ أن توضع في الاعتبار.

رؤية قائمة على نظامين للارتداد

التوقعات المتطرفة والرغبة في توقع أحداث نادرة من خلال دلائل ضعيفة جميعها من تجلياتٍ للنظام ١. من الطبيعي بمكان بالنسبة إلى آلية التداعي أن تُطابق بين درجة تطرف التوقعات ودرجة التطرف المدركة للدلائل التي تعتمد عليها، وهو ما يمثِّل طريقة عمل آلية الاستبدال. ومن الطبيعي بمكان بالنسبة إلى النظام ١ اقتراح أحكام تتميز بالثقة المفرطة؛ نظرًا لأن الثقة — مثلما رأينا — يحددها تماسك أفضل قصة يمكن روايتها من خلال الدلائل المتوفرة. لكن احذر: فأحكامك الحدسية ستفضي إلى توقعات متطرفة أكثر مما ينبغي وستميل إلى تصديقها بشكل كبير.

يمثِّل الارتداد أيضًا مشكلة بالنسبة للنظام ٢. تعتبر فكرة الارتداد إلى المتوسط في حد ذاتها فكرة غريبة وصعبة في إيصالها واستيعابها. بذل جالتون وقتًا وجهدًا كبيرًا قبل أن يتمكن من فهمها. يرتعد كثير من أستاذة الإحصاء عندما تثار ظاهرة الارتداد إلى المتوسط في قاعات الدراسة، وينتهي المطاف بطلابهم عادةً بفكرة غير واضحة عن هذا المفهوم المهم. وهذه من الحالات التي يتطلب النظام ٢ فيها تدريبًا خاصًّا. لا تُعد مطابقة التوقعات بالدلائل المتوفرة عملية نؤديها حدسيًّا فقط، بل تبدو أيضًا شيئًا عقلانيًّا نقوم به. لن نتعلم فهم الارتداد من خلال التجربة. وحتى في حال تحديد حالة الارتداد إلى المتوسط — مثلما رأينا في قصة مدربي الطيران — سيُقدَّم تفسير سببي، والذي سيكون دومًا تفسيرًا خاطئًا.

في الحديث عن التوقعات الحدسية

«حقَّقت تلك الشركة الصغيرة الناشئة نجاحًا بارزًا، لكننا يجب ألا نتوقع منها أن تستمر على هذا النحو في المستقبل؛ فلا تزال الشركة بعيدة تمامًا عن السوق، وهناك مجال متسع للارتداد.»

«بينما يعتبر توقعنا الحدسي مفضلًا جدًّا، من المحتمل أيضًا أن يكون مفرطًا في درجته. لنأخذ في الاعتبار قوة دلائلنا ونجري عملية ارتداد للتوقع إلى المتوسط.»

«ربما يكون الاستثمار في هذه الشركة فكرة جيدة جدًّا، حتى إذا كان أفضل التوقعات يشير إلى أنها ستفشل لاحقًا. دعنا لا نقل إننا نعتقد أن الشركة ستصبح شركة كبرى على غرار شركة جوجل.»

«قرأت تقييمًا حول هذا المنتج وكان رائعًا. لكن ربما لم يكن ذلك أكثر من مجرد مصادفة. دعنا نراجع المنتجات التي يوجد أكبر عدد ممكن من التقييمات عنها، ونختار المنتج الذي يبدو الأفضل من بينها.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤