الفصل الثاني والثلاثون

تسجيل النقاط

فيما عدا من يعانون من الفقر المدقع، الذين يتلازم الدخل لديهم مع البقاء، ليس بالضرورة أن تكون الدوافع الأساسية للسعي وراء المال دوافع اقتصادية. فالمال بالنسبة للملياردير الذي يبحث عن المليار الإضافي، بل وللمشارك في مشروع اقتصاد تجريبي الذي يبحث عن دولار إضافي، بمثابة مؤشر على مقياس الإنجاز واحترام الذات. فتلك المكافآت والعقوبات، والوعود والتهديدات، كلها قابعة في رءوسنا، ونسجلها بدقة وحرص. إنها تشكل تفضيلاتنا وتدفع تصرفاتنا، مثل المثيرات التي تقدم في البيئة الاجتماعية. ونتيجة لذلك نرفض إيقاف الخسائر حين يكون من شأن القيام بذلك اعتراف بالفشل، ونتحيز ضد الأفعال التي يمكن أن تؤدي إلى الندم، ونضع تفرقة وهمية ولكنها حادة بين أفعال العمد وأفعال السهو، بين الفعل واللافعل؛ لأن حس المسئولية يكون أكبر بالنسبة لأحدهما مقارنة بالآخر. والعملة النهائية التي تكافئ أو تعاقب غالبًا ما تكون انفعالية، عبارة عن شكل من التعامل الذاتي الذهني، والذي يخلق حتمًا تضاربات في المصالح حين يتصرف الفرد كوكيل بالنيابة عن مؤسسة ما.

الحسابات الذهنية

انبهر ريتشارد تالر لسنوات عديدة بالتشابهات الجزئية بين عالم المحاسبة والحسابات الذهنية التي نستخدمها لتنظيم وإدارة حياتنا، وهو ما يؤدي لنتائج أحيانًا ما تكون حمقاء وأحيانًا ما تكون مفيدة للغاية. وتأتي الحسابات الذهنية في أشكال وأنواع متعددة. نحن نحتفظ بأموالنا في حسابات مختلفة، تارة تكون مادية وتارة تكون ذهنية فقط. فلدينا أموال للإنفاق، ومدخرات عامة، ومدخرات مخصصة لتعليم أبنائنا أو للطوارئ الطبية. وهناك تدرج هرمي واضح في استعدادنا للاعتماد على هذه الحسابات لتغطية احتياجاتنا الحالية. فنحن نستخدم الحسابات لأغراض التحكم في الذات، كما في وضع ميزانية للمنزل، أو الحد من الاستهلاك اليومي للقهوة، أو زيادة الوقت الذي نقضيه في ممارسة الرياضة. وغالبًا ما ندفع مقابل هذا التحكم الذاتي، مثل وضع أموال في حساب الادخار والحفاظ على مستوى الدين في بطاقات الائتمان عند حد معين. ولا يلجأ الاقتصاديون في نموذج الفاعل العقلاني إلى الحساب الذهني؛ فهم يمتلكون رؤية شاملة للنتائج وتدفعهم البواعث والدوافع الخارجية. أما بالنسبة لبقية البشر، تعد الحسابات الذهنية نوعًا من التأطير الضيق؛ فهم يبقون الأمور تحت السيطرة ويجعلونها قابلة للتحكم عن طريق عقل محدود ومتناهٍ.

تستخدم الحسابات الذهنية على نحو واسع ومكثف لتسجيل النقاط. تذكر أن لاعبي الجولف المحترفين يحققون نجاحًا في ضرب الكرة حين يعملون على تجنب إحراز ضربة فوق المعدل، أكثر مما يحققونه عندما يعملون على إحراز ضربة تحت المعدل. ولعل من أحد الاستنتاجات التي نستطيع التوصل إليها من ذلك أن أفضل لاعبي الجولف يُنشئون حسابًا منفصلًا لكل حفرة؛ فهم لا يحتفظون فحسب بحساب واحد لنجاحهم الكلي. وهناك مثال ساخر رواه تالر في مقال كتبه في فترة مبكرة، وهو المثال الذي يظل واحدًا من أفضل الأمثلة التوضيحية لكيفية تأثير الحساب الذهني على السلوك:

يخطط اثنان من المشجعين الرياضيين النهمين للسفر مسافة ٤٠ ميلًا لمشاهدة مباراة في كرة السلة. دفع أحدهما مقابل تذكرته، فيما كان الثاني في طريقه لشراء تذكرة لنفسه حين حصل على واحدة مجانًا من صديق له. يتم الإعلان عن هبوب عاصفة ثلجية عنيفة في ليلة المباراة. أيٌّ من حاملي التذاكر أقرب لتحدي العاصفة الثلجية من أجل مشاهدة المباراة؟

الإجابة مباشرة: نحن نعلم أن المشجع الذي دفع مقابل تذكرته هو الأقرب للذهاب. والحساب الذهني يقدم التفسير لذلك. فنحن نفترض أن كلا المشجعين يُنشآن حسابًا للمباراة التي يتمنيان مشاهدتها. وإضاعة المباراة سوف يغلق هذه الحسابات برصيد سلبي. وبغض النظر عن الطريقة التي حصلا بها على تذكرتيهما، فسوف يمنى الاثنان بخيبة الأمل والإحباط؛ ولكن رصيد الإغلاق سيكون أكثر سلبية بشكل واضح بالنسبة للمشجع الذي اشترى التذكرة وخسر المال إلى جانب حرمانه من مشاهدة المباراة. ونظرًا لأن المكوث بالمنزل خيار أسوأ بالنسبة لهذا الشخص، فهو أكثر دافعية لمشاهدة المباراة، ومن ثم أكثر ميلًا لمحاولة القيادة وسط عاصفة ثلجية عنيفة. وتلك حسابات ضمنية للرصيد الانفعالي من النوع الذي يؤديه النظام ١ دون تفكير أو تروٍّ. والمشاعر التي يلحقها الناس بحالة حساباتهم الذهنية غير معترف بها في النظرية الاقتصادية القياسية. فالاقتصادي يدرك أن ثمن التذكرة قد دفع ولا يمكن استرداده؛ إذ إن تكلفتها «غارقة» والاقتصادي لا يكترث بما لو كان قد اشترى تذكرة المباراة أو حصل عليها من صديق (إذا كان للاقتصادي أصدقاء في الأساس). ولتطبيق هذا السلوك العقلاني، يضطر النظام ٢ للوعي بالاحتمالية المغايرة للحقائق: «هل كنت سأظل أقود وسط العاصفة الثلجية لو كنت قد حصلت على التذكرة من صديق؟» فالأمر يتطلب عقلية نشطة ومنضبطة لطرح مثل هذا السؤال العسير.

ثمة خطأ ذو صلة يبتلى به المستثمرون الفرديون عند قيامهم ببيع أسهم من محفظة أوراقهم المالية:

تحتاج للمال لتغطية تكاليف زفاف ابنتك وسوف تضطر لبيع بعض الأسهم، وتتذكر السعر الذي اشتريت به كل سهم، ويمكنك تصنيفه كسهم «رابح»، حيث يساوي الآن أكثر مما اشتريته به، أو كسهم خاسر. من بين الأسهم التي تمتلكها، يصنف سهم بلوبيري تايلز كسهم رابح؛ وإذا بعته اليوم ستكون قد حققت مكسبًا قيمته ٥٠٠٠ دولار. وتمتلك استثمارًا مساويًا في تيفاني موتورز، والذي يساوي حاليًّا ٥٠٠٠ دولار أقل مما دفعته مقابله. لقد كانت قيمة السهمين مستقرة في الأسابيع الأخيرة. فأيهما تميل أكثر لبيعه؟

لنضع هذا الاختيار بطريقة منطقية: «أستطيع أن أغلق حساب سهم بلوبيري تايلز وأحتسب نجاحًا لسجلي كمستثمر. أو بدلًا من ذلك، أستطيع أن أغلق حساب تيفاني موتورز وأضيف فشلًا لسجلي. أيهما أفعل؟» إذا كانت المشكلة مصاغة في إطار اختيار بين منح نفسك المتعة وجلب الألم لنفسك، فبالتأكيد سوف تقوم ببيع سهم بلوبيري تايلز وتستمتع ببراعة استثمارك. وكما قد يكون متوقعًا، فقد وثَّقت الأبحاث في مجال الماليات تفضيلًا واسع النطاق لبيع الأسهم الرابحة وليس الخاسرة؛ وهو تحيز أطلق عليه اسم مُبهَم هو: «تأثير النزعة».

يعد تأثير النزعة مثالًا «للتأطير الضيق». فالمستثمر أنشأ حسابًا لكل سهم اشتراه، ويرغب في إغلاق كل حساب كمكسب. والفاعل العقلاني يكون لديه رؤية شاملة لمحفظة أوراقه المالية، ويبيع السهم المرجح أن يكون الأقل أداء في المستقبل، دون التفكير فيما إذا كان رابحًا أو خاسرًا. وقد أخبرني عاموس عن محادثة له مع مستشار مالي كان قد طلب منه قائمة كاملة بأسماء الأسهم في محفظة أوراقه المالية، بما في ذلك السعر الذي تم شراء كل سهم به. وحين سأل عاموس بلطف: «أليس من المفترض ألا يكون لذلك أهمية؟» نظر إليه المستشار المالي مندهشًا. فلطالما كان يعتقد على ما يبدو أن حالة الحساب الذهني اعتبار فعال وقاطع.

كان تخمين عاموس بشأن معتقدات المستشار المالي صائبًا على الأرجح، ولكنه كان مخطئًا في اعتبار سعر الشراء غير ذي صلة بالأمر. فسعر الشراء له أهمية بالفعل، ولا بد من وضعه في الاعتبار حتى من قبل الاقتصاديين. ويعد تأثير النزعة تحيزًا مكلفًا؛ نظرًا لأن السؤال عما إذا كان عليك بيع الأسهم الرابحة أم الخاسرة له إجابة واضحة، وهو بالفعل أمر يُحدث فرقًا. فإذا كنت تهتم لثروتك وليس لانفعالاتك الحالية، فسوف تقوم ببيع سهم تيفاني موتورز الخاسر وتتمسك بسهم بلوبيري تايلز الرابح. وتقدم الضرائب حافزًا قويًّا في هذا الصدد على الأقل في الولايات المتحدة: فإدراك الخسائر يقلل الضرائب، بينما بيع الأسهم الرابحة يعرضك لفرض ضرائب. وهذه الحقيقة البسيطة من حقائق الحياة المالية معروفة بالفعل لجميع المستثمرين الأمريكيين، وتحدد القرارات التي يتخذونها خلال شهر واحد من السنة؛ إذ يبيع المستثمرون المزيد من الأسهم الخاسرة في شهر ديسمبر، حين يفكرون بالضرائب. إن الميزة الضريبية متاحة طوال العام بالطبع، ولكن الحساب الذهني يطغى على مدى ١١ شهرًا من السنة على المنطق المالي السليم. ثمة حجة أخرى ضد بيع الأسهم الرابحة وتتمثل في تلك الظاهرة السوقية الاستثنائية الموثقة جيدًا، وهي أن الأسهم التي زادت مؤخرًا في قيمتها من المحتمل أن تستمر في تحقيق الربح لفترة قصيرة على الأقل. والمحصلة النهائية لذلك كبيرة؛ إذ يبلغ العائد الإضافي المتوقع لبيع سهم تيفاني موتورز وليس سهم بلوبيري، بعد خصم الضرائب، ٣٫٤٪ على مدار السنة التالية. ويعتبر إغلاق حساب ذهني بمكسب بمثابة متعة، ولكنها متعة تدفع مقابلها. والخطأ هنا ليس بالخطأ الذي يقع فيه اقتصادي على الإطلاق، كما يكون المستثمرون المتمرسون — الذين يستخدمون نظامهم العقلي رقم ٢ — أقل عرضة له من المستجدين.

وصانع القرار العقلاني لا يهتم سوى بالعواقب المستقبلية للاستثمارات الحالية؛ فليس من ضمن اهتمامات الاقتصادي تبرير الأخطاء السابقة. واتخاذ القرار باستثمار موارد إضافية في حساب خاسر، بينما هناك استثمارات أفضل متاحة، يعرف باسم «مغالطة التكلفة الغارقة»، وهو خطأ باهظ التكلفة يلاحظ في القرارات الكبيرة كانت أم الصغيرة. وتعد قيادة السيارة أثناء عاصفة ثلجية عنيفة، لمجرد أن المرء قد دفع مقابل التذاكر؛ خطأً من أخطاء التكلفة الغارقة.

تخيل شركة أنفقت ٥٠ مليون دولار على مشروع ما، ثم تأخر تنفيذ المشروع، وصارت التوقعات الخاصة بعوائده النهائية أقل إيجابية مما كانت عليه في مرحلة التخطيط الأولي، ويحتاج المشروع لاستثمار إضافي بقيمة ٦٠ مليون دولار كي يكون له فرصة للنجاح. وهناك اقتراح بديل وهو استثمار نفس المبلغ في مشروع جديد يبدو من المحتمل في الوقت الحالي أنه سيدر عائدات أعلى. ماذا ستفعل الشركة؟ في معظم الأحيان تسير الشركات التي تبتلى بالتكاليف الغارقة وسط العاصفة الثلجية، حيث تنفق المزيد والمزيد من المال بعد الابتلاء بفشل بدلًا من قبول مذلة إغلاق حساب فشل مكلف. ونجد هذا الموقف في الخانة العلوية إلى اليسار من النمط الرباعي، حيث ينحصر الاختيار بين خسارة مؤكدة ورهان خاسر غير مبشر، وهو الخيار الذي غالبًا ما يفضله الخاسرون على نحو غير متعقل.

إن تصعيد الالتزام بمساعٍ ومحاولات فاشلة يعد خطأ من منظور الشركة، ولكن ليس بالضرورة من منظور المسئول التنفيذي الذي «يملك» مشروعًا متعثرًا. فإلغاء المشروع سوف يترك وصمة عار دائمة في سجل المسئول التنفيذي، وربما يكون أفضل ما يخدم مصالحه الشخصية هو المراهنة أكثر بموارد المؤسسة، على أمل تعويض الاستثمار الأصلي؛ أو في محاولة منه على الأقل لتأجيل يوم الحساب. ففي وجود التكاليف الغارقة، تتعارض دوافع المدير مع أهداف الشركة ومساهميها، وهو ما يعد نوعًا مألوفًا مما يعرف باسم مشكلة الوكالة. ومجالس الإدارات تعي جيدًا هذه التضاربات والصراعات، وغالبًا ما تقوم باستبدال المدير التنفيذي الذي تعوقه قرارات سابقة ويتردد في إيقاف الخسائر. وليس بالضرورة أن يعتقد أعضاء المجلس أن المدير التنفيذي الجديد أكفأ من سابقه. فهم يعرفون أنه لا يحمل نفس الحسابات الذهنية، ومن ثم فهو أكثر قدرة على تجاهل التكاليف الغارقة للاستثمارات الماضية عند تقييم الفرص الحالية.

إن مغالطة التكاليف الغارقة تبقي الأشخاص طويلًا في وظائف هزيلة، وزيجات تعيسة، ومشروعات بحثية لا يرجى منها فائدة. وكثيرًا ما لاحظت علماء شبَّانًا يكافحون من أجل إنقاذ مشروع محكوم عليه بالفشل، بينما يكون من الحكمة أن يتخلوا عنه ويبدءون مشروعًا جديدًا. ولحسن الحظ أن الأبحاث تشير إلى إمكانية التغلب على هذه المغالطة على الأقل في بعض السياقات. ويتم تناول مغالطة التكاليف الغارقة بالتعريف والتدريس في مناهج كل من علم الاقتصاد وإدارة الأعمال، بنتائج جيدة فيما يبدو: فهناك دليل على أن الطلاب الدارسين في هذين المجالين أكثر استعدادًا من الآخرين للتخلي عن مشروع فاشل.

الندم

الندم عاطفة، وهو أيضًا عقاب نفرضه على أنفسنا. ويعد الخوف من الندم عاملًا في العديد من القرارات التي يتخذها الناس، (وعبارة «لا تفعل هذا، ستندم عليه» تعد تحذيرًا شائعًا)، والتجربة الفعلية للندم معروفة ومألوفة. وقد وصفت هذه الحالة العاطفية وصفًا جيدًا على يد عالمي نفس هولنديين، أشارا إلى أن الندم «يصاحبه مشاعر لدى الشخص بأنه كان ينبغي أن يكون أكثر دراية وشعورًا بالغرق، وأفكارًا عن الخطأ الذي ارتكبه الفرد والفرص الضائعة، ونزعةً لتوبيخ الذات وتصحيح الخطأ، ورغبةً في إلغاء الحدث والحصول على فرصة ثانية.» والندم الشديد هو الشعور الذي يخالجك حينما يمكنك بأقصى سهولة تخيل نفسك تفعل شيئًا غير الذي فعلته.

والندم واحد من العواطف المخالفة للواقع التي يثيرها توفر بدائل لهذا الواقع. فعقب كل حادث تحطم طائرة تتواجد قصص خاصة عن ركاب «لم يكن ينبغي» أن يكونوا على متن الطائرة؛ فنجد من حصلوا على مقعد في آخر لحظة، ومن تم نقلهم من شركة خطوط جوية أخرى، ومن كان يفترض بهم أن يطيروا قبل هذا الموعد بيوم ولكنهم اضطروا للتأجيل. والسمة المشتركة بين هذه القصص المؤثرة أنها تتضمن أحداثًا غير مألوفة؛ والأحداث غير المألوفة أسهل من الأحداث العادية في إلغائها في الخيال. فالذاكرة الارتباطية تحوي صورة للعالم الطبيعي وقواعده. والحدث الشاذ يجذب الانتباه، وينشط كذلك فكرة الحدث الذي كان سيصبح عاديًّا تحت نفس الظروف.

ولتقدير الصلة بين الندم والأوضاع الطبيعية، تأمل السيناريو التالي:

السيد براون لا يقوم مطلقًا بتوصيل المسافرين المتطفلين، وبالأمس قام بتوصيل رجل وتعرض للسطو.

السيد سميث كثيرًا ما يقوم بتوصيل المسافرين المتطفلين، وبالأمس قام بتوصيل رجل وتعرض للسطو.

أيٌّ من الاثنين سيراوده شعور أكبر بالندم على هذه الواقعة؟

ليس في النتائج أي مفاجأة: فقد قال ٨٨٪ من المشاركين إنه السيد براون، فيما قال ١٢٪ إنه السيد سميث.

وليس الندم كاللوم. وقد سُئل مشاركون آخرون هذا السؤال عن نفس الواقعة:

أيهما سيواجه نقدًا حادًّا من الآخرين؟

النتائج: السيد براون ٢٣٪، السيد سميث ٧٧٪.

يثار الندم واللوم من خلال مقارنة بما هو معياري، ولكن المعايير ذات الصلة مختلفة. والعواطف التي تخالج السيد براون والسيد سميث يتحكم فيها ما يفعلانه عادة بشأن المسافرين المتطفلين. فتوصيل مسافر متطفل يعد حدثًا غير عادي بالنسبة للسيد براون، ولذلك يتوقع معظم الناس أن يشعر بندم أشد. غير أن مراقبًا للحدث يميل لإصدار الأحكام سوف يقارن كلا الرجلين بالمعايير التقليدية للسلوك المنطقي، وربما يغرينا الموقف بأن نقول أن السيد سميث يستأهل ما حدث له وأن السيد براون كان سيئ الحظ، ولكن السيد براون هو الشخص الذي يرجح أن يوبخ نفسه؛ لأنه تصرف على عكس طبيعته في هذه الواقعة بالذات.

ويعرف صناع القرار أنهم معرضون للندم، وتوقع هذه العاطفة المؤلمة يلعب دورًا في العديد من القرارات. والبداهات بشأن الندم متماثلة وقهرية على نحو لافت للنظر، كما يوضح المثال التالي:

يمتلك بول أسهمًا في الشركة (أ). خلال العام الماضي فكر في التحول للأسهم في الشركة (ب)، ولكنه لم يفعل. والآن يعلم بول أنه كان سيصبح أغنى بمقدار ١٢٠٠ دولار لو كان قد تحول لأسهم الشركة (ب).

كان جورج يمتلك أسهمًا في الشركة (ب)، وخلال العام الماضي قرر التحول لأسهم الشركة (أ).
أيهما يشعر بندم أكبر؟

النتائج واضحة تمامًا: ٨٪ من المشاركين يقولون بول، و٩٢٪ يقولون جورج.

وهذا غريب؛ لأن موقف كلا المستثمرين متشابه من حيث الهدف. فكلاهما يملك الآن سهمًا في الشركة (أ)، وكلاهما كان سيصبح أيسر حالًا بنفس المبلغ لو كان يملك سهم الشركة (ب). الفارق الوحيد أن جورج وصل لما وصل إليه من خلال التحرك الفعلي، بينما وصل بول لنفس الوضع بالإخفاق في التحرك. ويوضح هذا المثال المختصر قصة طويلة؛ ألا وهي أن الناس يتوقعون ردود أفعال انفعالية أقوى (من ضمنها الندم) تجاه نتيجة ما تنتج عن فعل من نظيرتها إزاء نفس النتيجة حين تكون ناتجة عن عدم الفعل. وقد ثبت صحة ذلك في سياق المراهنات: فالناس يتوقعون مزيدًا من السعادة إذا ما راهنوا وربحوا عما إذا أعرضوا عن المراهنة وحصلوا على نفس المبلغ. والتباين هنا قوي على صعيد الخسائر على الأقل، وينطبق على اللوم وكذلك على الندم. والمفتاح هنا لا يكمن في الفارق بين الفعل واللافعل، ولكن في الفارق بين الخيارات الاعتيادية والأفعال والتحركات التي تنحرف عما هو معتاد. فحين تنحرف عما هو معتاد، يمكنك بسهولة تخيل المعيار القياسي؛ وإذا كان المعتاد يرتبط بعواقب سيئة، يمكن للتفاوت بين الاثنين أن يكون مصدر العواطف المؤلمة. فالخيار الاعتيادي حين تملك سهمًا هو عدم البيع، ولكن الخيار الاعتيادي حين تقابل زميلك في الصباح هو توجيه التحية له. أما بيع السهم وعدم تحية زميلك فيعد كلاهما انحرافًا عن الخيار الاعتيادي ومرشحًا منطقيًّا للندم أو اللوم.

في مثال توضيحي رائع لقوة الخيارات الاعتيادية، لعب المشاركون لعبة من ألعاب الورق على الكمبيوتر. سُئل بعض اللاعبين: «هل ترغب في السحب؟» فيما سئل آخرون: «هل ترغب في التوقف عن السحب؟» بغض النظر عن السؤال، فإذا كانت النتيجة سيئة يرتفع مقياس الندم عند الإجابة بنعم عنه في حالة الإجابة بلا! يشير السؤال بشكل واضح إلى إجابة اعتيادية، وهي: «ليس لدي رغبة قوية في القيام بذلك.» والانحراف عن المعتاد هو ما يولد الندم. موقف آخر يكون فيه الفعل هو الوضع الاعتيادي هو ذلك الذي مني فيه فريق أحد المدربين بهزيمة ثقيلة في مباراته الأخيرة. المتوقع من المدرب أن يقوم بتغييرات في اللاعبين أو في خطة اللعب، وعدم القيام بذلك سوف يولد اللوم والندم.

إن التباين في خطر الندم يصب في صالح الاختيارات التقليدية النزَّاعة لتجنب المخاطرة. ويظهر الانحياز في سياقات عدة، فالمستهلكون الذين يتم تذكيرهم بأنهم قد يشعرون بالندم نتيجة لاختياراتهم يظهرون تفضيلًا متزايدًا للخيارات التقليدية، مفضلين العلامات التجارية الشهيرة على المنتجات حديثة العهد الأقل ثمنًا. كذلك يبين سلوك مديري الصناديق المالية مع اقتراب العام من نهايته أحد تأثيرات التقييم المرتقب: فهم يميلون لتطهير محافظ أوراقهم المالية من الأسهم غير التقليدية، أو أي أسهم أخرى قد تكون محل شك. حتى القرارات المصيرية يمكن أن تتأثر. تخيل طبيبًا لديه مريض يعاني مرضًا خطيرًا. هناك علاج يتفق مع المستوى العادي للرعاية الطبية، وآخر غير تقليدي. إن لدى الطبيب سببًا ما للاعتقاد بأن العلاج غير التقليدي سوف يحسن من فرص المريض في الشفاء، ولكن الدليل على ذلك غير قاطع، والطبيب الذي يصف العلاج غير التقليدي يواجه مخاطرة كبيرة بالوقوع في شرك الندم واللوم، وربما المساءلة القانونية. سيكون من الأسهل في الإدراك المتأخر أن تتخيل الاختيار العادي؛ وسيكون من السهل إلغاء الاختيار غير المألوف. صحيح أن إحراز نتيجة جيدة سيساهم في إعلاء سمعة الطبيب الذي تحلى بالجرأة، ولكن الفائدة المحتملة أصغر من التكلفة المحتملة؛ لأن النجاح بشكل عام نتيجة أكثر تقليدية من الفشل.

المسئولية

يقدر حجم الخسائر بضعف المكاسب في سياقات عدة: في الاختيار بين المراهنات، وتأثير المنحة، وردود الأفعال تجاه التغيرات في الأسعار. وفي بعض المواقف يكون معامل تجنب الخسارة أعلى بكثير. وقد تكون أكثر تجنبًا للخسارة، على وجه الخصوص، بالنسبة لجوانب من حياتك ذات أهمية أكبر من المال، مثل الصحة. إلى جانب أن ترددك في «بيع» المنح المهمة يزداد بشكل مثير حين يكون من المرجح أن يجعلك القيام بذلك مسئولًا عن نتيجة بشعة، وقد شملت باكورة كلاسيكيات ريتشارد تالر عن سلوك المستهلك مثالًا رائعًا، يعرضه السؤال التالي مع تعديل بسيط:

تعرضت لمرض إذا أصاب أحدًا أدى لموت سريع وغير مؤلم في غضون أسبوع. إن احتمال إصابتك بالمرض يبلغ ١ / ١٠٠٠. وهناك لقاح لا يؤتي فعالية إلا قبل ظهور أي أعراض للمرض. ما أقصى مبلغ ستكون على استعداد لدفعه مقابل اللقاح؟

معظم الناس على استعداد لدفع مبلغ كبير ولكنه محدد. فمواجهة احتمال الموت شيء غير سار، ولكن نسبة الخطورة ضئيلة، ويبدو من غير المنطقي أن تخسر الكثير لتتجنب المخاطرة. والآن تأمل هذا الاختلاف البسيط:

هناك حاجة لمتطوعين من أجل بحث عن المرض الوارد ذكره أعلاه. كل ما هو مطلوب منك أن تعرض نفسك لاحتمال بنسبة ١ / ١٠٠٠ للإصابة بالمرض. ما هو أدنى مبلغ سوف تطلبه نظير التطوع لهذا البرنامج؟ (علمًا بأنه لن يسمح لك بشراء اللقاح.)

إن الأجر الذي حدده المتطوعون، كما قد تتوقع، أعلى بكثير من السعر الذي كانوا على استعداد لدفعه مقابل اللقاح. وقد أقر تالر بشكل غير رسمي أن النسبة المعتادة بين الاثنين هي ٥٠ : ١. ويعكس سعر البيع بالغ الارتفاع سمتين لهذه المشكلة: أولًا، ليس من المفترض بك أن تبيع صحتك؛ ومن ثم لا تعتبر الصفقة قانونية والعزوف عن المشاركة فيها يعبر عنه من خلال تحديد سعر أعلى. ولعل الأهم هو أنك ستكون مسئولًا عن النتيجة إذا جاءت سيئة. فأنت تعلم أنك إذا استيقظت ذات صباح تعاني من أعراض تشير إلى أنك على وشك الموت، فسوف تشعر بمزيد من الندم في الحالة الثانية عن الحالة الأولى؛ لأنه كان من الممكن أن ترفض فكرة بيع صحتك دون حتى التوقف للتفكير في السعر. لقد كان من الممكن أن تبقى مع الخيار الاعتيادي ولا تفعل شيئًا، والآن سوف يلازمك هذا الاختيار المغاير للواقع لما تبقى من حياتك.

كذلك احتوى استطلاع الرأي عن ردود أفعال الآباء تجاه مبيد حشري يحتمل أن يكون خطيرًا على الصحة، تم ذكره في موضع سابق، على سؤال عن مدى الاستعداد لقبول الخطورة المتزايدة. فقد طُلب من المشاركين أن يتخيلوا أنهم قد استخدموا مبيدًا حشريًّا، حيث نسبة خطورة تسمم الاستنشاق وتسمم الأطفال تساوي ١٥٪ لكل ١٠٠٠٠ زجاجة. كان هناك مبيد آخر متاح أقل سعرًا، ارتفعت نسبة الخطورة بالنسبة له من ١٥ إلى ١٦ لكل ١٠٠٠٠ زجاجة. وسئل الآباء عن الخصم الذي من شأنه أن يدفعهم للتحول إلى المنتج الأقل سعرًا (والأقل أمانًا). فأجاب أكثر من ثلثي الآباء في استطلاع الرأي بأنهم لن يشتروا المنتج الجديد بأي سعر! فقد كانوا مشمئزين بشكل واضح من مجرد فكرة مقايضة سلامة أطفالهم بالمال. أما الأقلية التي وجدت في الخصم ما يجعلهم يقبلونه فقد طالبوا بمبلغ أعلى بكثير من المبلغ الذي كانوا على استعداد لدفعه مقابل تحسين معدل أمان المنتج إلى حد كبير للغاية.

بإمكان أي شخص أن يتفهم ويتعاطف مع تردد الآباء في مقايضة ولو زيادة ضئيلة للغاية في الخطر الذي يواجه أطفالهم بالمال. غير أنه تجدر الإشارة إلى أن هذا التصرف غير مترابط ومن المحتمل أن يكون مدمرًا لسلامة هؤلاء الذين نرغب في حمايتهم. فحتى أكثر الآباء حبًّا لديهم موارد محدودة من الوقت والمال لحماية أبنائهم (الحساب الذهني للحفاظ على سلامة أطفالي له ميزانية محدودة)، ويبدو منطقيًّا أن توزَّع هذه الموارد على أفضل نحو ممكن. والأموال التي يمكن توفيرها بقبول زيادة ضئيلة في خطر الإيذاء بسبب مبيد حشري يمكن بالتأكيد أن تستغل بشكل أفضل في الحد من تعرض الأطفال لأضرار أخرى، ربما بشراء مقعد سيارة أكثر أمانًا أو أغطية لمقابس الكهرباء. و«المبادلة المحظورة» ضد قبول أي زيادة في نسبة الخطورة ليست طريقة فعالة لاستخدام ميزانية السلامة. بل إن المقاومة قد تكون مدفوعة بخوف أناني من الندم، أكثر منها مدفوعة برغبة في الوصول بسلامة الطفل إلى المستوى الأمثل. ففكرة «ماذا لو؟» التي تخطر لأي والد يقوم بمثل هذه المقايضة عن عمد تعد صورة ذهنية للندم والخزي اللذين سيشعر بهما في حالة ما إذا تسبب المبيد في أي ضرر.

ويظهر التجنب الحاد لمقايضة الخطورة المتزايدة مقابل ميزة أخرى على نطاق واسع في القوانين واللوائح التي تحكم المخاطرة. ويتسم هذا الاتجاه بالقوة في أوروبا بوجه خاص، حيث يعد المبدأ الوقائي، الذي يحظر أي تصرف قد يسبب ضررًا، عقيدة مقبولة على نطاق واسع. في السياق التنظيمي، يضع المبدأ الوقائي عبء ضمان السلامة والأمان كاملًا على كاهل أي شخص يضطلع بأفعال قد تلحق أذى بالناس أو على البيئة. وقد نوهت العديد من الهيئات الدولية بأن غياب الدليل العلمي على وجود ضرر محتمل ليس مبررًا كافيًا للمجازفة. وكما يشير أستاذ القانون كاس سنستاين، فإن المبدأ الوقائي له تكلفة باهظة، وحين يُفسَّر بشكل صارم يمكن أن يكون تعجيزيًّا، ويذكر في هذا الصدد قائمة هائلة بالابتكارات التي لم تكن لتجتاز الاختبار، ومن ضمنها: «الطائرات، وأجهزة تكييف الهواء، والمضادات الحيوية، والسيارات، والكلور، ولقاح الحصبة، وجراحة القلب المفتوح، والراديو، والتبريد، ولقاح الجدري، والأشعات السينية». والنسخة القوية من المبدأ الوقائي واهية ويتعذر الدفاع عنها بشكل واضح. ولكن «تجنب الخسارة المحسن» مغروس في حدس أخلاقي قوي ومشترك على نطاق واسع؛ فهو منبثق من النظام ١. والأزمة بين التصرفات الأخلاقية الشديدة التجنب للخسارة، والإدارة الفعالة لمخاطرة؛ ليس لها حل بسيط ومقنع.

•••

نحن نقضي جزءًا كبيرًا من يومنا في ترقب ومحاولة تجنب الآلام العاطفية التي نبلي أنفسنا بها. إلى أي مدى ينبغي أن نأخذ على محمل الجد هذه النتائج غير الملموسة، وتلك العقوبات المفروضة ذاتيًّا، (والمكافآت العارضة) التي نواجهها، بينما نسجل النقاط التي نحرزها في حياتنا؟ ليس من المفترض أن تكون هذه النتائج موجودة لدى الاقتصاديين، وهي مكلفة بالنسبة للبشر. فهي تؤدي إلى أفعال مدمرة لثروة الأفراد، ولسلامة السياسة، ولرخاء وسعادة المجتمع. ولكن عاطفتي الندم والمسئولية الأخلاقية حقيقيتان، وحقيقة أنها غير متوفرة لدى الاقتصاديين قد تكون غير ذات صلة.

هل من المنطقي، بشكل خاص، أن تدع اختياراتك تتأثر بتوقع الندم؟ إن قابلية التعرض للندم، مثل قابلية التعرض لنوبات الإغماء، حقيقة من حقائق الحياة لا بد أن يتأقلم الفرد عليها. فإذا كنت مستثمرًا، لديه ما يكفي من الثراء والحذر في داخله، فقد تكون قادرًا على تحمل تكلفة رفاهية اقتناء محفظة أوراق مالية تقلل من توقع الندم حتى إذا لم تعظم من تراكم الثروة.

يمكنك أيضًا أن تتخذ احترازات من شأنها أن تحصنك ضد الندم. ولعل أفيدها أن تكون صريحًا وواضحًا بشأن توقع الندم. فإذا أمكنك، حين تسوء الأمور، أن تتذكر أنك قد وضعت احتمال الندم نصب عينيك قبل اتخاذ القرار، فمن المرجح أن تواجه قدرًا أقل منه. ينبغي أيضًا أن تعرف أن الندم وتحيز الإدراك المتأخر سوف يأتيان معًا، وعليه فإن أي شيء يمكنك أن تفعله للحيلولة دون الإدراك المتأخر من المحتمل أن يكون مفيدًا. وسياستِي الشخصية لتجنب الإدراك المتأخر تتلخص إما في تحري الاستفاضة الكاملة، أو الاختزال التام عند اتخاذ قرار له عواقب طويلة المدى. ويزداد الإدراك المتأخر سوءًا حين تفكر في الأمر لاحقًا بحيث تقول لنفسك: «لقد كنت على وشك اتخاذ خيارٍ أفضل.»

ويدعي دانيال جيلبرت وزملاؤه بشكل استفزازي أن الناس بشكل عام يتوقعون ندمًا أكبر مما سوف يشعرون به فعليًّا؛ لاستخفافهم بكفاءة الدفاعات السيكولوجية التي سوف ينشرونها؛ والتي يطلقون عليها «الجهاز المناعي السيكولوجي». وهم يوصون بأنك لا ينبغي أن تضفي ثقلًا أكبر من اللازم على الندم؛ فحتى إن كان لديك بعض منه، فسوف يكون ألمه أقل مما تعتقد الآن.

في الحديث عن تسجيل النقاط

«إن لديه حسابات ذهنية منفصلة للنقد ومشتريات بطاقة الائتمان. ودائمًا ما أذكره بأن المال هو المال.»

«نحن نتمسك بهذا السهم فقط لتجنب إغلاق حسابنا الذهني على خسارة؛ إنه تأثير النزعة.»

«لقد اكتشفنا صنفًا ممتازًا في ذلك المطعم، ولا نجرب أي شيء آخر غيره قط لتجنب الندم.»

«لقد أراني البائع أغلى مقعد سيارة وقال إنه الأكثر أمانًا، ولم أستطع أن أدفع نفسي لشراء نوع أرخص. لقد بدا لي الأمر كمبادلة محظورة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤