الفصل الأول

المصلحون – إصلاح الأساتذة – إنقاص ساعات العمل – التربية الإنجليزية

(١) المصلحون

رأينا فيما تقدم أن الذين تكلموا أمام لجنة التحقق قد أظهروا ببلاغة لا حدَّ لها نقصَ التعليم في الجامعة، فلما طُلب إليهم أن يعرضوا طرق الإصلاح لهذا التعليم نضبت ينابيع هذه البلاغة، وظهر أن أكثرهم عاجز عن اقتراح هذا الإصلاح، فأخذ بعضهم يشير بتغيير البرامج، الذي لا خير فيه، وأخذ بعضهم يقدم نصائح عامة غير محدودة، وأخذ بعضهم يقدم اقتراحات في الهواء ليس إلى تحقيقها من سبيل، فمن الحسن مثلًا أن نقول كما قال مسيو جريار رئيس الجامعة في باريس: «يجب أن تختلف البرامج وتمرن صورة التعليم الثانوي»، ولكنك إذا أردت أن تفهم معنى هذه الجملة أو تحققه لم تصل إلى شيء، ولقد يلاحظ أن النقاد الذين كانوا أشد الناس قوة في نقد التعليم والسخط عليه قد ظهروا أشد الناس عجزًا عن إصلاح التعليم.

ومن الصعب أن تتبع «جول لمتر» فيما اقترح من ترك الحرية المطلقة للأستاذ يعلم ما يشاء كما يشاء، ولقد انتهز النقاد فرصة هذا التحقيق فأكثروا من الكلام وأفتوا فيه، ولكن في غير فائدة ولا جدوى، وأحس الأساتذة أنفسهم ذلك فأعلن بعضهم أمام اللجنة أن كل هذه الاقتراحات التي قُدمت والتي تُقدم قد فشل بعضها ولا بد من أن يفشل بعضها الآخر، وأنه سمع بعض الأساتذة يتمنون ألا يقترح عليهم إصلاح ولا تغيير، ومصدر هذا كله ما قلته غير مرة من هذا الخطأ اللاتيني الذي يُخيل إلى الناس القدرة على تغيير ما ليس إلى تغييره سبيل، فنحن لا نستطيع تغيير نظم التعليم إلا بالمقدار الذي نستطيع به تغيير النظم السياسية والاجتماعية، أو تغيير العقائد الدينية أو تغيير الأدب واللغة.

هذا قانون لا نستطيع التخلص منه، وإذن فكل هذه الاقتراحات التي ترمي إلى إصلاح التعليم جملة إنما هي ضرب من الثرثرة، فليس من سبيلٍ إلى إصلاح التعليم إلا إذا أصلحت نفس الأستاذ والتلميذ والأسرة، وإنما الخير في هذا وفي غيره من ضروب الإصلاح إنما هي هذه التغييرات الجزئية التفصيلية التي تقع شيئًا فشيئًا، وكأنها حبات الرمل يضاف بعضها إلى بعض فيتكون منها الجبل على مر الأيام، بل إن نفس هذا التغيير الجزئية المتوالية لا تنتج إلا إذا لوحظت فيها الضرورات وتطورات الرأي العام، فإن إرادة الأسر وعقائدها ذات سلطان قوي على التربية، وسنحاول أن نختصر من هذه الاقتراحات الكثيرة التي قدمت إلى لجنة التحقيق طرقًا للإصلاح ربما كانت مفيدة بعد زمنٍ طويل؛ أي بعد أن يتغير الرأي العام، وإليك أهمها:

(٢) إصلاح الأستاذية

لا أعتقد أن هذا الإصلاح ممكن الآن ولكني أذكره مع ذلك؛ لأنه عظيم الخطر؛ ولأنه إذا تحقق أنتج نتائج كبرى، أهمها اثنتان: الأولى إلغاء شهادة الأستاذية، والثانية اختيار الأساتذة بطريقة غير هذه الطريقة المألوفة. فأما إلغاء شهادة الأستاذية فنافع جدًّا، فقد رأينا أن الاستباق إلى هذه الشهادة يفسد على الأساتذة أمرهم، ويكوِّن منهم اختصاصيين حين لا يحتاج التعليم الثانوي إلى الاختصاصيين في حفظ الكتب وإعادتها، وإنما يحتاج إلى المربين، والخير أن لا تبقى هذه الشهادة إلا بالقياس إلى التعليم العالي، وإن كنت أفضل الطريقة الألمانية التي تختار أساتذة التعليم العالي بمقتضى أعمالهم الشخصية ونجاحهم في التعليم الحر، هذه الطريقة الألمانية تخرِّج أساتذة قادرين على ترقية العلم لا حُفاظًا قادرين على استظهار الكتب، على أننا إنما نعنى هنا بالتعليم العالي دون غيره. الخير إذن في إلغاء شهادة الأستاذية وفي أن يختار الأساتذة بين المعيدين، فقد قلنا إن التعليم الثانوي ليس في حاجةٍ إلى اختصاصيين، وآية ذلك الأساتذة في مدارس رجال الدين فأكثرهم لم يتجاوز الليسانس، وأكثر المعيدين عندنا قد حصلوا على هذه الشهادة فليس ما يمنع من أن يكون العميد مرشحًا لمركز الأستاذ بعد سنين يقضيها في الإعادة والتمرين، على أن يسمح له بالتدريس في غيبة الأستاذ حتى يتم تمرينه، فإذا بلغ من ذلك حظًّا رُقِّي إلى مركز الأستاذ، وفوائد ذلك كثيرة، منها: زوال هذه الفروق بين الأستاذ والمعيد، ومنها أن الأمل يحث المعيد والأستاذ على العناية بعملهما، ومنها أن الأستاذ لا يكون أستاذًا إلا بعد أن يكون قد خبر التلاميذ وأحسن بلاءهم، أي بعد أن يكون قد أصبح مربيًّا حقًّا، فأما مراقبة التلاميذ في النزهة والأكل والنوم وما إلى ذلك فيحسن أن يكلفه صف الضباط الذين اعتادوا النظام والدقة فيه. هذه اقتراحات من وزير من خير وزرائنا الذين أشرفوا على التعليم، وهو المسيو ليون بورجوا، عرضها على استحياء ولم أزد أنا على أن فصلتُها.١

(٣) إنقاص ساعات العمل

هذا الإصلاح نافع جدًّا؛ لأن من المحقق أن التلاميذ يقضون في الدرس اثنتي عشرة ساعة دون أن يشتغلوا كل هذا الوقت؛ لأن من المستحيل أن يشتغل العقل اثنتي عشرة ساعة متصلة، ولكن تحقيق هذا الإصلاح غير ميسور إن لم يكن مستحيلًا؛ لأن السبب الذي يدعو إلى بقاء التلاميذ في غرف الدرس هذه المدة الطويلة إنما هي الحاجة إلى التخلص من مراقبتهم، فالأسرة تريد أن تخلص من طفلها، ومدير المدرسة ومراقبها يريدان أن يخلصا من هذه المراقبة وكذلك الأستاذ، وإذن فليس هناك من سبيلٍ إلا حبس التلاميذ جلوسًا في غرف الدرس، ولقد تقرر قبول هذا الإصلاح فأُنقصت ساعات العمل، ولكني واثق بأن التلاميذ لن يستفيدوا منه شيئًا؛ لأنهم لن ينفقوا أوقات الفراغ في النزهة والتمرين، وإنما هم مضطرون إلى أن ينفقوه جالسين في غرف المذاكرة.

(٤) التربية الإنجليزية

عرض بعض المصلحين — ولكن في ضعفٍ واستحياء — إدخالَ التربية الإنجليزية في مدارسنا، وسكت عن هذا الاقتراح أنصار هذه التربية الذين أكثروا القول فيها والإعجاب بها، ومع أني من أشد الناس إعجابًا بهذه التربية، وقد تكلمت عنها كثيرًا في كتبي قبل أن يقوم بنصرها هؤلاء الأنصار، فأنا أعتقد أنها لا تلائم حالنا؛ لأنها تخالف مزاجنا وطبائعنا وإرادة الأسرة وما ورث التلاميذ عن آبائهم، وتقتضي قبل كل شيء تغيير نفوس الأساتذة والتلاميذ والأسر … والأدلة على ذلك قائمة، فقد فشلت كل المدارس التي حاولت تقليد المدارس الإنجليزية فأقامت مبانيها في الريف، واتخذت للتربية الريفية عدتها، فشلت هذه المدارس سواء أكانت من مدارس الدولة أم من المدارس الحرة أم من مدارس رجال الدين.٢
١  ثم ينقل المؤلف كلام المسيو بورجوا وغيره في هذا المعنى.
٢  ثم يذكر المؤلف أسماء طائفة من هذه المدارس، وينقل آراء بعض الكتَّاب في هذا المعنى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤