براءة إبليس

انغلقت البوابة بعد خروج جنَّات. طقطقت مفاصلها الحديدية بالصرير العتيق. اهتزَّت القضبان السوداء، واهتزَّت معهما جدران السراي اهتزازة ارتجَّت لها الأرض، ورءوس الأشجار، والأسلاك فوق السور، تطايرت من فوقها العصافير.

كان واقفًا بجوار جذع الشجرة. داخل جلبابه الأبيض. شعر رأسه غزير أسود. عيناه متسعتان ثابتتان تطفو فوقهما دمعةٌ حبيسة. كالسحابة الشفافة. تهتزُّ مع اهتزازة البوابة. من تحتها «النني» ثابت لا يهتزُّ، يتوهج بضوء أسود، حلقات السلسلة الحديدية تصطك بعضها ببعض، والقفل الضخم يتأرجح من اليمين إلى اليسار، يهتزُّ في انتفاضة، كالنفَس الأخير قبل أن يكفَّ عن الحركة وتفارقه الروح.

يسقط الضوء الخافت على وجهه. طويل نحيل كوجه أمِّه، أسمر اللون شاحب. يرمق القفل بنظرة طويلة. تهتزُّ فوقها طبقة من الماء. تنحدر من زاوية عينه، ثم تهبط بطيئة فوق عظمة الخد. تلمع تحت الضوء كفصٍّ من اللؤلؤ، قبل أن تسقط.

رفع وجهه ناحية السماء. أنفه من الجانب خطٌّ مستقيم، لا يُشبه أنف أبيه. شفتاه منفرجتان قليلًا، أنفاسُه لها رائحة الأطفال. فوق شفته العليا ينبت شاربٌ خفيف. جلبابه مفتوح حتى الصدر. ممزَّق من الخلف، وجرح قديم غائر تحت لوحة الكتف.

السماء سوداء بلا قمر ولا نجوم. الهواء ثقيل مشبع بالدخان والهزيمة، رائحة نفط وبارود يحترق. رءوس الأشجار ثابتة كالأشباح الميتة.

في المساحات السوداء تمتدُّ نظرته الطويلة، تروح وتجيء، عيناه تبحثان في الظلمة. تفتِّشان في الخضمِّ الأسود عن قطرة ضوء. السحب السوداء كالعباءة الكثيفة. ذرَّات تراب ورمل. عيناه تتيهان في الكون، مفتوح الجفون، منتصب فوق قدمَيه، ينام وهو واقف.

وفجأة يلمحها. يراها تشقُّ السحب، أول ما يُرى منها العينان. تلمعان من بعيد، يزداد اللمعان كلما أمعن النظر، تطلَّان عليه من الأفق، كعينَي أمِّه تطلُّ عليه من النافذة، وهو يمشي في الطريق، تُلقي عليه نظرة أخيرة قبل أن يختفيَ، وصوتها في أذنَيه يسري من بعيد، تقرأ من كرَّاسة المدرسة، قصيدة كتبتْها له في الليل:

أنا أحبُّك؛
لأنك الوحيد من بين العبيد.
رفضت السجود وقلت لا،
رأيتك تمشي
برأسك المرفوع وشعرك الغزير،
تقطع المساحات السوداء.
وسط عاصفة الصحراء،
وتبتسم،
لا أحد يأخذ منك ابتسامتك،
ولا قوامك الممشوق،
ولا جسمك أبدًا ينثني،
ولا جسمك أبدًا ينثني،
أو رأسك ينحني.

صوتها كاللحن القديم وهو يمشي إلى جوارها. يدُه في يدها يجريان إلى المدرسة. الجرس يدقُّ والتلاميذ تهتف. أوراق الشجر تهتزُّ بالإيقاع ذاته. شعاع الشمس يتراقص بين الفروع العالية.

يراها تقفز فوق قدمَيها. تلامس الفروع بأطراف أصابعها. تلامس الشمس، ثم يهبط جسمها إلى الأرض. تنكفئ فوق وجهها. يدخل التراب أنفها وفمها. تنهض واقفةً فوق قدمَيها. تنفض التراب عن ملابسها. تُلقي بشعرها إلى الوراء وتضحك. تحلِّق الضحكة حول رأسها كدوائر من الضوء.

تعاود القفز من جديد، وهو يقفز معها. يلامس معها الفروع العالية وشعاع الشمس، ثم يسقط معها في جوف البحر. تسبح في الماء كالسمكة الفضيَّة وهو إلى جوارها يسبح. يتسابقان تحت الماء. يغوصان حتى القاع. أطراف أصابعهما تلامس عناقيد اللؤلؤ والمرجان، ونباتات خضراء وحمراء وزرقاء، وكل الألوان في قوس قزح. يضحكان بصوت يتراقص مع الموج، والموج يعلو ويلامس وجه القمر.

يمدُّ يده تحت الماء ويُمسك يدها. تهمس في أذنه: إبليس؟

ويهمس في أذنها تحت الماء:

أنا لست يا جنَّات إبليسًا،
أنا لست شيطانًا،
ولا أنا ملاك،
أمي حزينة وأختي نفيسا.
أنا إنسان
مثلك تمامًا،
وقلبي مفتوح.

صوته يسري في أذنَيه وهو يمشي. أنا إنسان وقلبي مفتوح. عيناه تمتلئان بالدموع. قدماه حافيتان. يلامس الأرض بأطراف أصابعه. يخشى أن يدوس على ورق الشجر. يخشى أن يطأ أرض الوطن بحذائه، وهي تخلع حذاءها وتُمسكه في يدها. تُلقيه في البحر وتصفِّق بيدَيها. بطن قدمها يلامس الأرض. تعشق ملمس الأرض لبطن قدمها، تضحك وتجري فوق الماء. ثوبها أبيض من الحرير. فوق الأكمام كرانيش من الدانتيلَّا، تتطاير حولها كالأجنحة. ترفرف في الجو ثم تطير كالفراشة البيضاء. تجتاز الأسلاك فوق السور. تحلِّق تحت السحب. يراها من بعيد كالسهم الأبيض. تشقُّ السحب وتختفي، ثم تظهر من جديد. تطلُّ في الأفق كنجمة الصباح.

كان واقفًا بجوار السور، عيناه شاخصتان نحوها، ذراعاه ترتفعان، أطراف أصابعه تكاد تلمسها. يشبُّ على أطراف أصابعه فوق السور، كالطفل يشبُّ فوق صدر أمِّه. صوتها يسري في أذنَيه من اللامكان.

– فين ولدي يا زهرة يا أم العدل والرحمة.

ذراعاها ممدودتان إليه، وهو يشبُّ فوق السور. يرفع جسمه إلى أعلى ويقفز في الهواء، لكن الأرض تشدُّه إلى أسفل. يسقط فوق ظهره وعيناه مشدودتان إليها. يدخل التراب في فمه وأنفه.

ينهض من جديد. ينفض التراب عن جلبابه. يعاود القفز مرة أخرى قفزة وراء قفزة. يرتفع جسمه ويسقط. يرتفع ويسقط. لا يكفُّ عن المحاولة.

كان السور عاليًا تعلوه الأسلاك، وقِطَع من الزجاج المكسور كالمسامير، نتوءات الحجر بارزة مدبَّبة. تسلَّخت يداه وسقط عنها الجلد. خيوط رفيعة بلون الدم تمشي تتعرَّج فوق الجلد كالعروق الحمراء. يشربها الجلباب الأبيض من القطن.

يتمزَّق الجلباب فوق نتوء بارز. يسقط عن جسده ويتكوَّر فوق الأرض بجوار السور. كالجنين يسقط من بطن أمِّه ميتًا، تعلوه بقعُ الدم.

كان واقفًا عاريًا إلا من السروال. وجهه لضوء القمر. يحملق في الدوائر الحمراء فوق الجلباب، كأنما هو ذلك الجنين الميت، أو ربما مات وهو واقف. أو هي اللحظة الأخيرة قبل الموت.

في القفزة الأخيرة قبل انفصال الروح أصبح جسدُه خفيفًا. أراد الجسد أن يُمسك الروح قبل أن تُفلت. حلَّقت الروح بعيدًا عن الجسم، فامتدَّت نحوها يداه وأمسكتاها. يداه داميتان مسلوختان. بشرتُه بيضاء خالية من الدم. عيناه واسعتان مملوءتان بالضوء.

في هذه اللحظة السابقة للموت ارتفع جسدُه ولامسَ الروح. أمسكها بأصابع يدَيه وقدمَيه. تشبَّث بها وحلَّق معها فوق السور. ذراعاه وساقاه تدور في الهواء كالأجنحة. عظام ظهره بارزة كالهيكل بلا لحم، وجرح عميق غائر تحت لوحة الكتف.

طار يحلِّق في السماء. يلمع في الضوء كالسهم، رأسه أسود يشقُّ السحب. يختفي داخل المساحات السوداء، لا تراه العين، ثم يظهر من بعيد كالنجم، يطلُّ على المدينة، وإلى جواره نجمة الصباح.

ترمقهما العيون من وراء القضبان. عيون نصف مغلقة فيما يُشبه النوم. عيون بشرية من بني آدم وبنات حواء. «النني» يطلُّ من تحت طبقة الماء كالزجاج الشفَّاف. الجلابيب واسعة بيضاء علامة الجنون. حزام رفيع مربوط حول الوسط. ما إن ينظر الواحد منهم في عين الآخر، أو الواحدة في عينَي الأخرى حتى تنتقل العدوى.

الرجال منهم رءوسهم محلوقة نمرة واحد بأمر المدير. وجوههم يغطِّيها شعر ميت يتدلَّى فوق صدورهم، والنساء في عنبر الحريم، رءوسهن ملفوفة بالطُّرَح. أذرعهن حول صدورهن معقودة. أيديهن تحت خدودهن، والشِّفاه مطبقة لا صوت ولا نفَس. ينظرنَ نحو السماء بلا صوت، بلا أمل ولا يأس ولا أي شيء. مجرَّد ضوء أبيض بلون الثلج يغطِّي سطح القمر. ضوء حزين صامت يحملق في الفراغ، بلا عتاب، بلا رجاء، بلا دعاء، ولا أي شيء.

كان واقفًا في عنبر الرجال وراء النافذة. أذناه منتصبتان، مرهفتان تتلهَّفان على الصوت، لا أحد يناديه. حتى الهواء كفَّ عن الحفيف. لا حركة ولا صوت.

عيناه تتَّسعان و«النني» الأسود يدور حول نفسه في الظلمة. واقف داخل جلبابه الواسع الأبيض. طويل عريض. رأسه ملفوف بالشاش، اللفَّة وراء اللفَّة، سبع لفَّات، ومن فوقها تنتصب الريشة السوداء، كعُرف الديك. لحيته طويلة بيضاء تتدلَّى فوق صدره. مربع الوجه أبيض البشرة، علامة الأصل العريق الممتد حتى سلالة الملك، أنفه غضروف كبير علامة الانحدار من صلب أبيه لا من رجل آخر. قلبُه ثقيل والهواء معدوم. صدرُه يعلو ويهبط. أنفاسه تلهث. عيناه مستديرتان و«النني» يدور حول نفسه كالخرزة السوداء.

يرفع أنفه عاليًا ويمشي بين صفوف الأسرَّة كما كان يمشي بين صفوف الجنود. الصف وراء الصف. آلاف الصفوف وآلاف الوجوه الممسوحة. لا يُرى منها إلا وجه واحد، هو وجهه. يراه منعكسًا في عيونهم الساكنة كسطح الماء الراكد. فوق رأسه الريشة تنتصب كالإبرة، وفي يده السيف ورثهُ عن أبيه. صوته يدوي في أذنَيه كصوت جدِّه.

– الطاعة يا عبيد.

– أنا هنا صاحب الأمر.

– ومَن لا يطيع.

– رأسه يطير.

ويرفع الجنود البنادق هاتفين في نفَس واحد: يا يعيش! يا يعيش! إلى الأبد!

ترنُّ كلمة «الأبد» في أذنَيه. ينتفض جسدُه بالنشوة. يهزُّ رأسه علامة اللذة، في أعماقه منذ الطفولة حنين للخلود. يتطلَّع بعينَيه إلى هرم خوفو. يرى نفسه جالسًا فوق القمة. من حوله الكواكب والنجوم، وهو يتألَّق في الوسط، فوق صدره النياشين. يرتدي التاج فوق رأسه. قرنان طويلان يلتويان إلى الأمام. يحمل بينهما قرص الشمس، يصعد فوق أعناق التلاميذ ويصيح: أنا! أنا الأكبر! الأكبر! كر! كر!

يكركر كالديك.

ويدوي صوت الجنود: يا يعيش! يا يعيش!

كالمطر ينهمر الرصاص من السماء، وقنابل تسقط من بطون النسور السوداء، ورياح الخماسين تصفِّر. ذرَّات تراب ورمل. رائحة بارود ونفط. دخان يملأ الكون.

والأجساد تتناثر في الهواء. أجساد بشرية من بني آدم وبنات حواء. يتعرَّف على البشر من أصابع اليد. الإبهام والسبابة. يتعرَّف على المرأة من النهدين.

يرمقها بطرف عينه وهو يمرُّ بين الصفوف. صدرُه يعلو ويهبط تحت الدرع الحديدية. النهدان يهتزَّان تحت بدلة الرقص. يغمز لها على الطريقة الحديثة. يُغمض عينًا ويفتح العين الأخرى. لا أحد من الجنود يلحظه، ولا الرصاص يخترق صدره. يعود إلى بيته سالمًا، وفي الليل يصحو؛ يتسلَّل من الفراش، يرتدي الوجه التنكري، تُغمض زوجته عينًا وتفتح العين الأخرى.

في الصباح يرى سرواله الأبيض محروقًا في الطشت، وفي صدره تحت الدرع يرى الشق، نافذًا من الصدر إلى الظهر، بلا قطرة واحدة من الدم، والملاءة نظيفة بيضاء بلون الموت.

يرتدي الدرع حول صدره. يُخفي الشقَّ في اللحم تحت طبقة من الحديد. حذاؤه له رقبة طويلة من جلد النمر، وكعب مربع سميك، تعلوه حدوة حصان مدقوقة بالمسامير. يدقُّ الأسفلت بحذائه. يدوس على أرض الوطن. يدوس على أوراق الشجر. يخبط الكعب الأيسر في الكعب الأيمن. يرفع قدمه عاليًا في الهواء كالعصا الخشبية. صوتُه يدوي في أذنَيه كصفير الريح.

«أنا أنا! صاحب الأمر! إلى الأبد! الأبد!»

يدبُّ الصمت من حوله. صمت غريب ثقيل. الجنود واقفون. لا أحدَ يهتف. لا صوت يقول يا يعيش! واقفون الصف وراء الصف. ظهورهم ناحيته، وجوههم ناحية الحائط. لا أحد يستدير وينظر إليه.

تتَّسع عيناه و«النني» يجحظ، يتلفَّت حوله. إلى اليمين وإلى اليسار. الناس يسيرون بعيون نصف مغمضة. وجوههم طويلة شاحبة. أنفاسهم تلهث. لا أحد يتعرَّف على وجهه، لا أحد يلتفت إليه، مياه النيل تمشي في طريقها غير مبالية به. الكتل السوداء تسبح فوق الماء لا تنظر إليه. عيونها محملقة في الفراغ، مملوءة باللاشيء.

يجتاز الشارع بخطوة ثقيلة، تكاد إحدى السيارات أن تدوسه. يهتزُّ جسده وتسقط العمامة ومعها الريشة. يلمع رأسه المحلوق نمرة واحد تحت الضوء. يفرمل السائق وتنتفض السيارة واقفة. يطلُّ رأسٌ من النافذة ويصيح: مش شايف يا حمار؟

– مش عارف أنا مين يا حمار؟

– حاتكون مين يعني؟ ربنا؟

– أيوه أنا، لكن من غير اللبس الرسمي.

تحسس رأسه بدون العمامة، رأى الريشة تتطاير بجوار الشط. جرى وراءها يمسكها قبل أن تسقط في مياه النيل. أعاد العمامة إلى رأسه ومن فوقها الريشة.

فوق الرصيف رآها متكورة حول نفسها كالجنين. طفل يرضع من ثديها، وقطٌّ يرضع الثدي الآخر. حملقت في وجهه طويلًا. عيناها واسعتان سوداوان تطفو فوقهما طبقة من الماء. رمقت جلبابه القديم، والشبشب البلاستيك في قدميه. دسَّت يدها في جيب جلبابها وناولته قرشًا.

– مش عارفة أنا مين؟

– أنا … أنا! … كان الكل يضرب لي تعظيم سلام، أنا فوق الكل،

سار في الطريق يوقف المارة واحدًا وراء الآخر.

– عارف أنا مين؟ أنا … أنا … فوق الكل … الكل يضرب لي تعظيم سلام … تعظيم … الكل … يسجد …

عيناه تدوران حوله وهو يمشي في الظلمة. صوته يرن في أذنيه وهو يردد «الكل يسجد» رءوس الأشجار تنحني مع الهواء كأنما تسجد. صفوف الجنود تجثو فوق الأرض ساجدة. يهز رأسه علامة الرضا. يمشي بخطوة بطيئة شامخًا بأنفه في السماء. يصعد السلالم إلى عنبر الرجال. يمشي بين صفوف الأسرَّة. الكل غائب في النوم. عيونهم مغلقة. أجسادهم ممدودة بلا حراك. يهز رأسه مبتسمًا. نظام الكون على ما يُرام، والكل راقد في خشوع.

ثم تصطدم عيناه بالسرير الخالي. تتجمد الابتسامة فوق شفتيه. تتسع عيناه و«النني» يجحظ. يهز رأسه علامة النفي. ينثني بجسده، وينظر تحت السرير.

– فين إبليس؟

ضوء القمر يسقط فوق الملاءة المشدودة علامة الموت، الوسادة خالية يلمع غطاؤها بلون الثلج. جسده ينتفض كأنما من البرد. ريح باردة تدخل من النافذة. شعرة سوداء فوق الوسادة تلمع في ضوء القمر، تتلوَّى بحركة مرئية كأنما فيها الروح. تتطاير في الهواء … يلتقطها بإصبعين اثنتين، الإبهام والسبابة. يقرِّبها من عينَيه. يهزُّ رأسه عدة مرات.

– لا يمكن!

يرفع وجهه إلى أعلى. يسقط الضوء فوق عينَيه. البياض كبير تطفو فوقه سحابةٌ شفَّافة كالماء. «النني» صغير، يتذبذب، يدور حوله، يهتزُّ مع اهتزازة رأسه.

– لا يمكن!

– إبليس لا يموت!

صوته يرن في أذنيه وهو يردد: لا يموت! تنتابه رعشة، يصبح صوت رجل آخر، مشروخ كصوت جده قبل أن يموت. قدماه ثقيلتان وهو يمشي في الظلمة. ظلال الأشجار تهتز كالأشباح. يدوس بقدميه فوق أوراق الشجر. يسمع الأوراق تئنُّ تحت قدمَيه. أنين خافت كمواء قطة تموت. يتوقف لحظة. يرهف السمع. من خلفه يأتي الصوت. وقع أقدام. يستدير بحذر، ويهمس: إبليس؟!

يراه طويلًا أسود منتصبًا وراءه. لا تفصله عنه إلا خطوة أو خطوتان. تنفرج شفتاه عن نفَس عميق. ذراعاه ترتفعان نحوه.

تقبض ذراعاه على اللاشيء، يلامس ظلَّه المرسوم فوق الأرض. كلما اقترب منه يبتعد.

– إبليس! تعالَ! ردَّ عليَّ يا ولد!

الصمت يدبُّ في الكون إلا الصفير الخافت كحفيف الهواء أو صوت الريح من بعيد. أوراق الشجر تهتز بحركة بطيئة. تسقط ورقة فوق الأرض بصوت مسموع. يشرئبُّ عنقه نحوها. يتأملها وهي تطير ثم تهبط شيئًا فشيئًا، تتدحرج فوق الأرض، ثم تكف عن الحركة كأنما تفقد الروح.

يطرق رأسه. يتدلَّى أنفه فوق لحيته، ولحيته تتدلَّى فوق صدره. في أذنَيه يمتدُّ الصفير في الظلمة، ملايين الأصوات التي تصنع صمت الليل. يدوي الصمت في أذنَيه كهدير الشلَّالات، يذوب الهدير في كلمة واحدة كصفير الريح.

– إبليس؟!

يُمسك رأسه بيديه الاثنتين. يرى الشبح إلى جواره ماسكًا رأسه بيديه الاثنتين. يهمس بلا صوت، كأنما الصوت يمكن أن يبدِّده.

– تعال! لا تذهب!

صدى صوته يرتدُّ إليه مع حركة الهواء. عيناه تتسعان تحت الضوء. تمتلئان بالماء.

– أتتركني وحدي؟

– آه يا ولدي!

ترنُّ كلمة «ولدي» في أذنَيه بصوت أبيه وهو يحتضر. يستند بجذعه إلى الشجرة. صدره يعلو ويهبط. أنفاسه تلهث. يلفُّ ذراعَيه حول صدره. يتكوَّر حول نفسه جالسًا القرفصاء.

يرى الشبح الأسود جالسًا إلى جواره متكوِّرًا تحت جذع الشجرة. يقرِّب رأسه منه ويهمس: كنت مالي عليَّ الدنيا يا إبليس.

يرفع عينَيه ويحملق في الفراغ من تحت الماء. تنحدر الدمعة الحبيسة من زاوية عينه. يتركها تسقط. لا يمسحها بكمِّ جلبابه.

– حقَّك عليَّ يا ابني! يا ما صحيتك من عزِّ النوم وقلت لك قوم ثم فزَّ وسوس للناس. كتبت ضدك ثلاثة كتب، وصادرت حقك في الكتابة.

يمسح عينيه بكمِّ جلبابه، ويضع رأسه بين ركبتَيه.

أنا المسئول عن الهزيمة يا ابني!
صاحب الأمر هو المسئول.
لكن الدنيا كانت بالمقلوب.
المسئول يطلع براءة،
والمرءوس يحاكموه.
القائد يأخذ وسامًا،
والجندي يموت.

رفع رأسه وحملق في السماء. سحب كثيفة سوداء، بلا قطرة ضوء، ولا قمر ولا نجوم. رءوس الأشجار ثابتة والهواء صامت. الضوء في غرفة الرئيسة مطفأ والنافذة مغلقة. السراي غارقة في الظلمة. عيناه تبحلقان في الفراغ.

– في المحكمة طلَّعوني براءة، وإنت كبش الفداء.

رنَّت كلمة «كبش الفداء» في الليل بصوت مسموع. مثل قطعة حجر تُلقى في بِركة سوداء راكدة. تحرَّكت الظلمة على شكل دوائر كبيرة داخلها دوائر أصغر. في الوسط ثقب أسود كعين البئر.

– سامحني يا ابني!

– إنت بريء!

انتفض جسده واقفًا فوق قدميه وهو ينطق كلمة «بريء». توقفت المياه السوداء عن الحركة. والكون تجمد في كتلة واحدة من الرخام الأسود، وكلمة «بريء» تسقط فوق الرخام، تلمع في الضوء مثل قرش أبيض، ترن في الصمت بصوتٍ عالٍ، كرنين الفضة.

– بريء!

الرنين في أذنيه يزداد ارتفاعًا، وهو يمشي بجوار السور. السور عالٍ من فوقه الأسلاك، السحب السوداء تنشق عن قرص مستدير. يلمع في الظلمة بضوء أبيض.

تحت الضوء لمحه متكوِّرًا كالجنين في رحم أمه. أبيض بلون القطن، ممزَّقًا من فوق الصدر وتحت لوحة الكتف. تعلوه البقع الحمراء بلون الدم.

دفن وجهه في الجلباب يتشمَّم الرائحة. كالأب يتشمَّم ابنه الميت. صوته كالنشيج المتقطع: بريء! بريء!

صدى الصوت يهز السور والأسلاك. تهبُّ العصافير من النوم وتطير في الجو. البوابة الحديدية تهتز ومعها السلاسل الحديدية والقفل الأسود. تشمل الاهتزازة الأرض وجدران السراي. يتردد الصدى كصوت الريح يهزُّ النوافذ والأبواب. رءوس الأشجار تهتزُّ والعمارات العالية، والأسلاك فوق الأسوار، والأبراج والفنادق ذات الخمس نجوم، والقلاع، والقصور، والسجون، وقباب الكنائس ومنارات الجوامع وأعمدة السواري.

– بريء! بريء!

وانطلقت الصفَّارات تدوي والأجراس. ظهر المدير بملابس النوم يجري والصفارة في فمه. من خلفه التمورجية بالمرايل البيضاء في أيديهم الحبال. من خلفهم رجال البوليس بالطاسات النحاسية فوق الرءوس وكشَّافات الضوء. من خلفهم الكلاب البوليسية، والكلاب الضالة، والقطط، والشحَّاتون، وباعة الصحف، والدبَّابات خرجت من فوقها المدافع، وأجراس الكنائس تدق، وأجراس المدارس، والميكروفونات فوق المآذن وصراخ النسوة كالزغاريد، والزغاريد كالصراخ، ورياح الخماسين تملأ الكون بالتراب والرمل، وصفوف الجنود الصف وراء الصف، يتقدَّمهم الجنرال إلى جواره صاحب السيادة وصاحب الجلالة، وأصحاب الأمر والنهي، وجوههم بيضاء مغسولة من الذنب، يبتسمون في براءة الأطفال، ومن حول أعناقهم تتدلَّى الزهور، زهور ميتة معلَّقة في أسياخ من الحديد على شكل دوائر حول العنق.

وجدوه راقدًا على ظهره بجوار السور. داخل جلبابه الأبيض. رأسه عارٍ محلوق نمرة واحد بأمر المدير. عيناه مفتوحتان شاخصتان نحو السماء. «النني» أسود ثابت. يبحلق في الفراغ. شفتاه منفرجتان قليلًا فيما يُشبه الابتسامة. اعوجاجة خفيفة في الفم. وجهه مربَّع أبيض يغمره الضوء والريشة السوداء تتطاير فوق الأرض كأنما فيها الروح.

(تمت)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤