التطور الموسيقي

في وُسعِنا أن نلخِّص التطور الذي مرت به الموسيقى من حيث قدرتُها التعبيرية ووظيفتُها وأسلوبها في عبارة واحدة؛ هي أنها قد سارت تدريجيًّا في طريق طويل، تحولَت فيه من فن ذي نطاق ضيق في تعبيره ووظيفته وأسلوبه، إلى فن شامل ذي صبغة إنسانية عامة، وثيق الصلة بالحياة وبالمجتمع الإنساني الكبير.

ولسنا بحاجة إلى أن نُعيد هنا ما ذكَرناه في الفصل السابق عن تطوُّر القدرة التعبيرية للموسيقى، وكيف أصبحَت هي وحدَها قادرةً على نقل كل المعاني التي تَدخل في نطاق قدرتها هذه، دون حاجة إلى أن تستعين بالشعر أو بأي فن آخر يُضْفي على هذه المعاني مَزيدًا من التحديد. والذي نوَد أن نشير إليه في هذا المجال، هو أن هذا التطور — الذي أكَّد للموسيقى استقلالها بوصفها فنًّا له كِيانٌ بذاته — قد أكسبها في نفس الوقت صبغة الفن الإنساني العام، الذي يعلو على كل الحدود والفواصل التي تُفرق بين البشر؛ ذلك لأن الموسيقى لو كانت قد ظلَّت على تقيُّدِها بالشعر، لأدَّى ذلك إلى صبغتها بصبغة محلية، ترتبط باللغة الخاصة لذلك الشعرِ في بيئاته المختلفة، وبالحوادث أو المعاني المتباينة التي يُعبِّر عنها، والتي قد لا تُفهَم من حيث هي أعمالٌ فنية إلا في هذه البيئات وحدها. ولا شك أنَّ أمرًا كهذا كان كفيلًا بأن يَقضي على طابَعِ الشُّمول الذي ينفرد به الفن الموسيقي. أما استقلال الموسيقى، فقد أدى بها إلى أن تصبح أكثرَ الفنون عمومية، وأبعدَها عن التقيُّد بالفواصل والحدود المحلية التي تُميِّز جماعة بشرية عن الأخرى. والحق أن أيَّ فن آخرَ لا يمكن أن يَبلُغ ما بلَغَته الموسيقى في هذا المضمار؛ ففي كل الفنون الأخرى نوع من التعبير العيني الملموس، الذي يرتبط — قطعًا — بتجارِبَ معيَّنة قد لا تُفهَم أحيانًا إلا في نطاق سياقها المحلي. أما الموسيقى، فإن الصبغة العامة التي لاحَظْناها عليها تجعلها أعمَّ اللغات الفنية وأشملَها. وإذا كان هذا الرأي ينطبق — إلى حدٍّ غير قليل، ولا أقول: إلى حد تام — على «المعاني» التي تعبر عنها الموسيقى، من حيث إن عموميتها أوسعُ من أن تنحصر في مجال أو نطاق خاص، فإنه ينطبق بمزيد من الدقة على «وسائل» التعبير الموسيقي، أعني الأصواتَ وتفاعلاتها، التي تكون لغةً تستجيب إليها الحساسية البشرية بطريق مباشر، دون حاجة إلى أية وساطة. وعلى أية حال فسوف نَزيد هذا الموضوع بحثًّا وتحليلًا عند الكلام عن الموسيقى والطابَع القومي؛ لنختبر حُججَ أنصار «المحلية» أو «القومية» في الموسيقى.

أما التطور في وظيفة الموسيقى، فقد سار في نفس الاتجاه؛ أعني أنه أدى إلى تحويل الموسيقى من فن يخدم أغراضًا خاصة، إلى فن إنساني يفي بالمقتضيات البشرية عامة؛ فقديمًا كانت الموسيقى وثيقةَ الارتباط بالسحر، فلا يَستخدمها سوى تلك الفئة القليلة التي تقوم بالأعمال السحرية الغامضة، وتلك بلا شك هي أضيق المراحل نطاقًا بالنسبة إلى أداء الموسيقى لوظيفتها؛ إذ إنها كانت عندئذٍ عملًا سريًّا غامضًا، يُستعان به في تحقيق أغراض جماعة محدودة من الناس، ويَحرُم على الآخرين الاطلاعُ على أسراره، أو حتى تذوقه إلا فيما يخدم الأغراض السحرية. ولما كانت أعمال السحر في كثير من المجتمعات محرَّمة أو غير مشروعة، تهدف إلى أغراض خارجة عما يُقرُّه المجتمع، فمن الجائز أن ارتباط الموسيقى به في العهود القديمة هو الأصل الأول؛ لما شاع في بعض العقائد من تحريمٍ أو كراهية لها.

وفي العصور الوسطى أصبحت وظيفة الموسيقى في الغرب هي خِدمةَ أغراض الكنيسة، والمساعدة في أداء الطقوس الدينية. وعلى الرغم من أن هذه الوظيفة أوسع نطاقًا من الوظيفة المرتبطة بالسحر؛ فإن مجالها كان لا يزال محدودًا، بل إن طابع الغموض والسرية كان لا يزال قائمًا؛ إذ إن الكثيرين من العارفين بصنعة الموسيقى كانوا في ذلك الحين يضنُّون بها على مَن عَداهم، ويحتكرون أسرارها لأنفسهم، ويوجِّهونها وِجهة تتمشَّى مع أغراضهم الخاصة. ومن المحال في ظروفٍ كهذه أن تكون الموسيقى فنًّا إنسانيًّا عامًّا.

وفي أوائل العصور الحديثة، حدَث في الغرب تطوُّر أدى إلى توسيع نطاق وظيفة الموسيقى، وإن كانت قد ظلَّت بعيدةً عن النطاق الإنساني العام. فقد انتقلت الموسيقى من الكنائس إلى قصور الأمراء والنبلاء الإقطاعيين، وكان ذلك الانتقال طبيعيًّا؛ إذ إن مركز السلطة ذاتَه قد انتقل من الكنيسة إلى الحكام المحليين في أوروبا، فضلًا عن أن كثيرًا من رجال الدين كانوا في الوقت نفسه من كبار الإقطاعيين. وبعد أن كان الموسيقيُّ تابعًا للكنيسة، أصبح يعمل في خدمة الأمير، شأنُه شأن أيِّ واحد من أصحاب الوظائف في القصر. وكانت مهمة الموسيقيِّ عندئذ هي أن يؤلِّف مقطوعاتٍ يَقصد بها التَّرويح عن الأمير وعن ضيوفه في الحفلات الخاصة. ولا شك أن كثيرًا من هذه المقطوعات كانت تتعدى هذا النطاق الضيق، وتنتشر بين جماعة أوسع، غير أن مجالها الأصلي كان تلك الجماعةَ المحدودة التي يكوِّنها الأمير وخاصته، وهدفها هو إشاعة المرح والسرور في نفوسهم فحسب. عندئذ كان من الطبيعي أن يَعجَز الموسيقيُّ عن التعبير عن معانٍ إنسانية عامة، أو أن يعكس في موسيقاه أحاسيسَه وانفعالاتِه الحقيقية، وإنما كان يقدِّم قِطعًا يغلب عليها طابع الرقص الخفيف، أو قطعًا تكشف عن البراعة في العزف، وتتناسب مع طبيعة الجمهور الذي تُوجَّه إليه.

ولا جدال في أنه — إذا استثنينا حالاتٍ فردية قليلة — كان من المستحيل على الموسيقيِّ عندئذ أن يسير وحده في اتِّجاه مستقل، بينما كانت كل الأوضاع الاجتماعية الأخرى توحي بالخضوع لاستبداد طبقة الإقطاعيين الكبار. ولم يبدأ التحرُّر الحقيقي في ميدان الموسيقى إلا بعد أن حدث تحرُّر مُوازٍ له في ميدان العلاقات الاجتماعية العامة. ومن الظواهر التي لا ينبغي أن تمر بنا دون تعليق نستنبط فيه دلالتها العميقة: أن آخر الموسيقيين التابعين، الذين عاشوا معتمِدين على وظيفتهم لدى أميرٍ من الأمراء، كان موتسارت، الذي مات في عام ١٧٩١م، أي في الوقت الذي كانت الثورة الفرنسية فيه قد بلَغَت أوْجَ احتدامها؛ فبعد هذه الثورة — التي قلبَت الأوضاع الاجتماعية رأسًا على عقب، وأكَّدَت مبادئُها احترام الشخصية الإنسانية، وقضَت على سُلطان الإقطاعيين نهائيًّا — لم يَظهر موسيقيٌّ واحد من التابعين، بل اتسع المجال لوظيفة جديدة للموسيقي، ظهرَت بأجلى معانيها عند بيتهوفن، وهي وظيفة التعبير عن المشاعر الإنسانية المستمَدَّة من أعمق التجارِب الواقعية للفرد في مجتمعه. وإذا كان تجديد بيتهوفن يبدو — لمن يتتبَّع التاريخ الموسيقيَّ وحده — طفرة جبارة، ليس لها نظير، فإنه يبدو أمرًا طبيعيًّا إذا ربَطْنا تاريخ الموسيقى بالتاريخ الاجتماعي العام. ومنذ ذلك الحين تأكدت هذه الوظيفة الجديدة للموسيقى، وأصبحت هي المحوَر الذي تدور حوله الأعمال الرائعة في هذا الفن.

على أننا لا نستطيع أن نقول: إن تحرر الفنان قد أصبح تامًّا، وإنه يستطيع الآن أن يعبر عن تجارِبه الإنسانية تعبيرًا خالصًا لا يعوقه عائق؛ ذلك لأن الفنان الموسيقيَّ بعد أن استقل عن تحكم الأمير أو الإقطاعي، قد بدأ يستعين بالناشرين والمنظمين من أجل كسب عيشه. ولو راجَعْنا تاريخ حياة الموسيقيِّين المشهورين، لوجدناه حافلًا بأمثلة استغلال تجار الموسيقى لهم، ولكن هذا الاستغلال قد اتَّسع نطاقه في القرن العشرين إلى حدٍّ لا نظير له. فقد أدى التوسُّع في تطبيق الكشوف العلمية في مجال الموسيقى، إلى أنْ تضاعَف عدد المستمعين آلاف المرات، بل أصبح الاستماع إليها أمرًا يكاد يكون في ميسور الجميع، عن طريق الإذاعة اللاسلكية والتسجيلات. ولقد كان مثل هذا الأمر كفيلًا بأن يؤدي إلى بعث نهضة موسيقية هائلة، ولكن الذي حدث هو أن مديري الأعمال والمنظمين وأصحاب الشركات، قد استغلوا هذا التوسع على نحو أدى إلى أن يَضيق به الموسيقيون أنفسُهم.

ومن أمثلة ذلك ما يلاحظه موسيقي أمريكي معاصر هو Roger Sessions من أن الفنان قد أصبح خاضعًا لمشيئة السوق، ولما يُمليه عليه المتعهِّد بتنظيم أعماله الفنية ونشرها، ومن أن المستمع قد أصبح «مستهلِكًا» ينبغي إرضاؤه بطريقة لا تختلف كثيرًا عن الطرق التجارية المعتادة١ ولا شك أننا لا نستطيع في مثل هذه الظروف أن نتحدث عن تحرر موسيقيٍّ كامل، طالما كان الفنان خاضعًا لتقلُّبات السوق ومقتضياته. غير أن ما يقيد حرية الفنان في مثل هذه المجتمعات هو ذاتُه ما يقيِّد حرية كل فرد آخر فيها، وأعني به الاستغلال الجشع الذي تتميز به الشركات الكبرى في معاملاتها. وفي مثل هذه المجتمعات لا يكون من المستغرب أن نجد الفن الموسيقي الصحيح يُعاني تأخرًا كبيرًا.

وإذنْ فلنا أن نقول: إن فنًّا كالموسيقى يقتضي — إذا شاء أن يصل إلى التحرُّر الكامل في أداء وظيفته — أن يتخلص من تحكُّم الاستغلال التِّجاري، بحيث تتوافر للفنانين حياةٌ مستقرة هادئة، تضمن للكفاءات الصحيحة منهم أن تَظهر وتتفوق بمجهودها الخاص، دون أن تتدخل العوامل الاستغلالية المصطنَعة في رفع شأن البعض وخفض البعض الآخر؛ لاعتبارات قد لا يكون لها في كثير من الأحيان صلةٌ بالفن ذاته. ومع ذلك، ففي وُسعنا أن نقول: إن الموسيقى، على الرغم من هذه القيود التي لا زالت تُكبِّلها في كثير من المجتمعات، قد أصبحت فنًّا إنسانيًّا شاملًا، وتجاوزَت وظيفتُها نطاق التعبير عن مقتضَيات فئات قليلة من الناس، فأصبحَت تتحدث بلسان الإنسان بوجه عام، وترتبط بمشاكله الحقيقية أوثقَ الارتباط.

•••

figure
شونبرج.

فإذا انتقلنا إلى الحديث عن التطوُّر في أسلوب الموسيقى، أو في طرق أدائها، لوجدنا أن هذا التطور قد سار دائمًا نحو تحقيق الغاية العامة التي تَحدثنا عنها من قبل؛ فكل الكشوف التي استحدثَها الموسيقيون منذ عهد باخ حتى عصرنا القريب، كانت ترمي إلى زيادة القدرة التعبيرية للموسيقى، وإلى توسيع نطاق لغتها؛ حتى تَفِيَ بمقتضيات هذا الفن الإنساني الرفيع.

ولقد ظل التطور في هذا الطريق يسير متصلًا، فيأتي كل فنان بتجديدات رائعة، سرعان ما تندمج في التراث الموسيقيِّ القديم؛ لتكون معه مركبًا أعمق وأغزَر مما عُرِف من قبل. وأدى تَدرُّج هذا التطور إلى تمكين الناس من فَهْم كل تجديد ذي قيمة، واستيعابه سريعًا، ثم ضمه إلى تلك الذخيرة الضخمة من الكشوف والتجديدات، التي حَفَل بها تاريخ الموسيقى الحديثة. وكان التجاوب يسود دائمًا بين جماهير المستمِعين وبين الفنانين، هذا إذا استثنَيْنا حالاتٍ قليلةً من عدم الاعتراف، سرعان ما كان يعقبها تقدير كامل للفنان إذا كانت مؤلفاته تستحق ذلك.

غير أن تاريخ الموسيقى فُوجِئ في أواخر القرن التاسعَ عشر، والرُّبع الأول من القرن العشرين، بحركة موسيقية تكاد ترمي إلى اقتلاع الماضي من جذوره، وإلى استحداث تجديدات — أو على الأصح انقلابات — في الأسلوب الموسيقي، تكاد تُنكر التطورات الماضية، أو تترفَّع عن الاندماج فيها. وللمرة الأولى في تاريخ الموسيقى، يحدث تجديد يعترف مُبتكِروه ذاتهم بأنه لا يُهضَم ولا يُفهَم إلا بعد عناء طويل، ويؤكدون — رغم ذلك — أن عدَم فهم الناس له لا يَنقُص من قدره شيئًا، بل يصرون على أن هذا الاتجاه هو وحده الذي ينبغي أن تسير فيه الموسيقى إذا شاءت أن تخرج عن دائرة التكرار الرتيب.

وهكذا ظهرت «ابتكاراتٌ» عديدة في كل ميادين الموسيقى: فعند شونبرج Schönberg يُقضَى تمامًا على السُّلم الغربي بفرعيه: الكبير والصغير، وتزول أهمية الأبعاد بين الأصوات، ويصبح لكل نصفِ صوت من الاثني عشر نصفًا، التي يتكوَّن منها ذلك السلم، نفسُ الأهمية التي للآخر. وتبع ذلك تغييرٌ أساسي في توافق الأصوات، فلم تَعُد القاعدة فيه إحداثَ توافق بين أصوات تنتمي إلى سلم واحد يتمشى مع الاتجاه الذي يسير فيه اللحن في موضع التوافق، وإنما أصبح التوافقُ بين أصواتٍ منفردة، أو مجموعات من الأصوات، ينتمي كلٌّ منها إلى سلم مختلف. وحدثت تغيرات موازية في «صورة» الموسيقى أو قالبها على يد سترافنسكي Stravinsky، فلم يعد الفنان يبالي بالصور التقليدية، بل أصبح انطلاق اللحن «حرًّا» لا يعوقه شيء. ومنذ ذلك الحينِ أخذت التجديدات تتوالى، وتبارى الموسيقيون في كشف قواعدَ غيرِ مألوفة، أو في الخروج عن القواعد المألوفة، بل أتى على الموسيقى وقتٌ ظُنَّ فيه أن القوالب القديمة قد اندثرت تمامًا، وأن الاتجاه الثائر الجديد قد استقر نهائيًّا. غير أن مثل هذه الحمى التجديدية التي بلَغَت أوْجَها في الربع الأول من القرن العشرين، أخذت بعد ذلك تَفتُر رُويدًا رويدًا، وبدأ الفنانون ينظرون بعينٍ نقدية إلى الكشوف الثائرة السابقة؛ يستبعدون منها الكثير، ويستَبْقون منها ما يؤمنون حقًا أنه يُضفي على الفن الموسيقيِّ لونًا جديدًا، يتلاءم مع الألوان الزاخرة التي أضفاها عليه السابقون. ونستطيع أن نقول: إن الأسماء التي تتألق اليوم في عالم الموسيقى، هي في معظهما أسماء فنانين استطاعوا — على نحوٍ ما — أن يستفيدوا من الكشوف الانقلابية استفادة مستنيرة، وألا يندفعوا في تيار التجديد إلى الحد الذي يجعل من موسيقاهم سلسلة متصلة من الأصوات الغريبة التي لا تستسيغها الآذان، ومن هذه الأسماء: سبيليوس، ورتشارد شتراوس، ورخمانينوف، وخاتشاتوريان، وشوستاكوفتش، وبروكوفييف.
figure
سترافنسكي.
figure
سيبيليوس.
فما هي الأسباب التي دعت إلى نبذ الثورة الانقلابية في الموسيقى، والعودة إلى التجديد التدريجي المتزن؟ الذي لا شك فيه أن فهم الوظيفة الحقيقية للفن الموسيقي هو الذي أرشد الموسيقيين إلى المنهج السليم الذي ينبغي أن يتَّبعوه في أسلوبهم. فالموسيقى — بعد أن أصبحت فنًّا يخاطب الإنسانية كلَّها، ويعبر عن معانٍ ترتبط بحياة الناس الفعلية في هذا العالم — كان من المستحيل أن ترجع ثانية إلى الوراء، فتتحدثَ بلغةٍ غامضة لا يفهمها إلا الأقلية النادرة، بل لا تفهمها هذه الأقلية ذاتها! أجل؛ فتلك الدعوى القائلة: إن الآذان لا تستسيغ الموسيقى الجديدة؛ لأنها لم تألفها، وأنها إذا اعتادتها فسوف تُحسِن فَهمها وتذوقها، وتهتدي فيها إلى ما لم تُدركه من عناصر الجمال — تلك الدعوى باطلة؛ إذ إن الآذان مهما ألِفَت سماع الموسيقى المبنية على النُّظم الثورية الخالصة، فلن تجد فيها «جمالًا» بالمعنى المألوف. إن التحليل العقلي يكشف في هذه الموسيقى تجاربَ صوتية جديدة لم تُعرَف من قبل، ولكن عنصر التمتُّع الجمالي مفقود فيها، بل إن بعض المقطوعات التي تتطرَّف في تطبيق المذاهب الحديثة لا تعدو أن تكون مجموعة من الأصوات الخشنة التي لا يمكن أن يُخفِّف التعوُّدُ من تنافرها. وادعاء أشخاصٍ معينين أنهم يجدون لذة فنية في الاستماع إلى هذه الموسيقى هو من قبيل «الحذلقة» فحسب. وأقصى ما يجده المرء فيها، هو نوع من المتعة العقلية، الناشئة عن الإحساس بارتياد آفاق مجهولة في العالم الصوتي.٢

وإذا استثنينا القلة المتعمقة في دراستها، التي تهتم بتحليل مثل هذه الكشوف عِلميًّا، فسوف نجد أن الكثرة الغالبة من الجمهور — الذي تتوجَّه الموسيقى عادة إليه — لا شأن لها بهذه التَّجارِب الصوتية في قليل أو كثير. وفي هذا — بالإضافة إلى ما لاحظناه من غياب عنصر التمتع الجمالي عند الاستماع إلى هذه الموسيقى — نجد التعليل الكافيَ للإخفاق الذي صادفَتْه تلك المحاولاتُ التجديدية المتطرفة؛ ذلك لأن الموسيقى قد سارت في الطريق الذي تخاطب فيه الناسَ بمعانٍ يفهَمونها، ويَجِدون فيها صدًى لإحساساتهم في حياتهم الواقعية. وهي قد أخذَت على عاتقها أن تُعين الإنسان في سعيه الدائم إلى التقدم، ولا بد لها — تبعًا لذلك — أن تشق طريقها إلى أذهان الناس جميعًا. فإنْ ظهَر نظام موسيقيٌّ لا يصل إلا إلى فئة متخصصة قليلة، كان هذا النظام محكومًا عليه بالإخفاق منذ البداية؛ فمنذ اللحظة التي أصبحت فيها الموسيقى فنًّا إنسانيًّا، أصبح من الواجب أن يتمشَّى أسلوبها مع صفتها هذه. وفي الحق أن هذا هو الطابع الذي تتميَّز به أروعُ المؤلفات الموسيقية في عصرنا هذا؛ أعني تلك المؤلفات التي عاشت وذاعت، لا تلك التي بهَرت الناس وأدهشَتهم لحظة، ثم غابت في ظلمات النسيان!

١  انظر لهذا الموسيقيِّ كتاب: The Musical experience of composer, performer, listener Princeton 1950. pp. 91, 92.
٢  انظر مقال «الأساس العقلي للموسيقى الحديثة» للمؤلف. مجلة علم النفس فبراير ١٩٥٢م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤