الفصل الثاني

(الشرفة التي على النيل … الباب الزجاجي الكبير يبدو منه جزء من البهو العربي، كما يبدو منه البيانو واضحًا … وبالشرفة مقاعد مما توضع في الشرفات، وبها كذلك مائدة من طراز المقاعد ومصباح كهربائي على الأرض «أباجور» … الوقت أصيل … وعنان غارقة في مقعد كبير وأمامها أختها ليلى في مقعد آخر.)

ليلى : لقد أصبح وزيرًا من جديد …! وا فرحتاه …! لو رأيته يا عنان هذا الصباح وهو يفضُّ برقيات التهاني التي ترِدُ في كل لحظة، وقد امتلأ وجهه دمًا وانقلب شابًّا في ليلة واحدة …! لقد وقفت اليوم بالباب سيارة الحكومة، فأطل من خلف النافذة وابتسم … وما إن قدمت عليه حتى ابتدرني قائلًا: «لقد عرضوا على أبيك كثيرًا دخول الوزارة، فقبِلت آخرَ الأمر؛ تلبية لنداء الواجب والوطن.» جملته المعهودة التي يقولها كلما عاد إلى الحكومة، ألا تذكرين؟
عنان (وكأنها لم تُصغِ إلى حديث ليلى) : …؟
ليلى (تلتفت إلى عنان الصامتة) : فيمَ تتأملين يا عنان …؟
عنان (تخرج من تأملاتها) : أريد أن أسألك سؤالًا!
ليلى : سلي!
عنان : ما رأيك في حواء إذ أخرجت آدم من الجنة …؟
ليلى : ما هذا السؤال الغريب …؟
عنان : أجيبي عنه.
ليلى : ما رأيي في حواء إذ أخرجت آدم من الجنة …؟ رأيي أنها جرت عليه وعلى نفسها الوبال …!
عنان : لماذا …؟
ليلى : لست أعرف … إني لم أكن معهما؟
عنان : إن كل امرأة تستطيع أن تعرف.
ليلى : وماذا يهمك من أمر حواء وزوجها؟
عنان : يخيل إليَّ أنها لم ترتكب إثمًا.
ليلى : لعلها سئمت الجنة!
عنان : إن المرأة لا تسأم الجنة أبدًا.
ليلى : إنها خشيت أن يسأم زوجها الجنة.
عنان : ليلى …!
ليلى : لماذا تنظرين إليَّ هكذا …؟
عنان : نعم … إنها فعلت ذلك من أجله.
ليلى : كيف عرَفتِ …؟
عنان : هذا لا ريب عندي فيه.

(لحظة صمت.)

ليلى (تلتفت إلى عنان في اهتمام) : أتريدين أن أسألكِ أنا أيضًا سؤالًا؟
عنان : سلي.
ليلى : كيف أنت ومختار؟
عنان : ككل يوم.
ليلى : أعني: هل تحبينه؟
عنان : لِم هذا السؤال …؟
ليلى : أفيه إحراج …؟ لا بأس … أيحبك هو …؟
عنان : وإذا كان الجواب لا …؟
ليلى : أنت إذن غير سعيدة.
عنان : ربما!
ليلى : البارحة في السينما لحَظت أنكِ متغيرة الوجه، كثيرة الوجوم.
عنان : أرأيتِ ذلك …؟
ليلى : لعل سفره إلى الأقصر!
عنان : ليس هذا هو السبب.
ليلى : حبذا لو أفضيت إليَّ … إني شقيقتك الكبرى التي يعنيها كلُّ أمرك.
عنان : ستعرفين يومًا.
ليلى (تنظر إلى عنان نظرة فاحصة) : أخشى أنكِ تتألمين لشيء يا عنان …؟
عنان : لا.
ليلى : أو أنكِ تبالغين في تقدير الأمور …؟
عنان : لا.
ليلى : لن أُلحَّ أكثر من ذلك … إني أعرف طباعك … شأنك إذن.

(صمت.)

ليلى (تنهض وتتأمل النيل) : ما أجملَ النيل الساعة …! وهذه المراكب والقوارب تسبح فيه كالأسماك …!
عنان (في إطراق) : …؟
ليلى (تلتفت إلى عنان) : دائمًا تفكرين! … دعْكِ قليلًا من تأملاتك، وانظري إلى هذا الماء الفضي الجميل …! حقًّا إن كل شيء في بيتك يوحي بالشعر والخيال …! وهذا النسيم الذي يعبث بشعرك ناقلًا عنه عطر البنفسج، (وفجأة كمن تذكرت شيئًا): عنان؟ أما لحَظتِ البارحةَ في المقصورة المجاورة ذلك الرجل الأنيق الذي حيَّاه زوجي كامل …؟ إنه كان يختلس إليكِ النظرَ طول الوقت … إنه زميل زوجي في وزارة الحربية ويُدعى أحمد بك رفعت … واليوم أخبرني كامل أنه سأل عنك من طرف خفي، فلما علم أنكِ متزوجة أطرق في أسف.
عنان (في غير اكتراث) : لم ألحظ قط.
ليلى : إنه أعزب … على ما فهمت من كامل.

(عنان مطرقة.)

إدريس (يدخل حاملًا برقية) : سيدتي …!
عنان (تمديدها متناولة … ويخرج إدريس) : برقية …!
ليلى : برقية تهنئة، ولا شك!
عنان (تفض البرقية وتقرأ وتبتسم ابتسامة غامضة) : أتعرفين ممن يا ليلى …؟ خذي واقرئي …! (تدفع البرقية إلى ليلى).
ليلى (تقرأ) : يا للعجب …! برقية غريبة …!
عنان (باسمة) : أقرأتِ؟!
ليلى (تقرأ في دهشة) : «أحبك. أحبك. أحبك» … الإمضاء: «مختار» …!
عنان : ماذا تَرينَ في هذا؟
ليلى : أرى … أنكِ كذبتِ عليَّ بقولكِ إنكِ لستِ سعيدة!
عنان : لم أكذب قط.
ليلى : وما كل هذه البرقية إذن …؟
عنان : إنها لا تحل المسألة.
ليلى : أتراكِ غاضبةً لأنه سافر …؟
عنان : على النقيض، أنا التي طلبت إليه السفر.
ليلى (في استغراب) : مستحيل …!
عنان : بلى … إنك لا تتصورين كم أخاف قربه …! وكم يتطلب مني هذا القرب من يقظة مستمرة وجهد دائم … كمن يروض جوادًا وحشيًّا!
ليلى : پدهشني ما تقولين … لكن لست أدرك على التحقيق.
عنان : إنك لن تدركي ما أنا فيه!
ليلى : أعترف بذلك يا عنان.
عنان : يا لها من مصادفة! … ما من اسم ينطبق مدلوله عليَّ كهذا الاسم: عنان!
ليلى : نعم … أرى كأنك تكبحين شيئًا!
عنان : أخشى أن ينقطع العِنان من طول الشد … وإذا أرخى فهناك الهاوية …!
ليلى : أفصحي قليلًا يا عنان!
عنان (في ضيق) : لا أستطيع … إني متعبة … متعبة وخائفة … إني أقضي حياتي خوفًا وفرَقًا … لقد أشرفت على نهاية قواي … كلا … ينبغي أن يقف كل هذا عند حد!
ليلى : هذه أول مرة أسمعك فيها تتكلمين هكذا …!
عنان : وآخر مرة!
ليلى : لو أن في إمكاني أن أفهم … لعلِّي أستطيع لك شيئًا!
عنان : لا يستطيع أحد لي شيئًا!

(لحظة صمت.)

الوصيفة (تدخل) : سيدتي … رجل من قِبَل محل نجيب الصائغ يريد مقابلة سيدتي، وقدم هذه البطاقة (تُقدم إلى عنان البطاقة).
عنان (تقرأ) : محل جواهر «نجيب»!
الوصيفة (تستطرد) : ويقول إن سيدي أرسله بوديعة يعطيها سيدتي يدًا بيد!

(الوصيفة تخرج.)

عنان : أدخليه.
ليلى : أزَوجُكِ في القاهرة الآن …؟
عنان : هذه البرقية تعني أنه لا بد عائد.
الصائغ (يدخل ويقف بالعتبة مترددًا) : ألستِ …؟
عنان : نعم … أنا هي.
الصائغ (يبرز صندوقًا صغيرًا) : مختار بك رضوان!
عنان : أرسلك بهذا …؟

(الصائغ يشير برأسه أنْ نعم ويقدم إليها الصندوق.)

عنان (تتناول الصندوق) : لي أنا …؟
الصائغ (يشير برأسه أنْ نعم) : للست يدًا بيد!
عنان : مع الشكر …!

(الصائغ يحني رأسه تحية واحترامًا، ويخرج.)

عنان (تفض غلاف الصندوق) : ما معني هذا …؟
ليلى : لعلها هدية!
عنان (وقد فتحت الصندوق) : لأية مناسبة …؟ (منبهرة لما في الصندوق) انظري يا ليلى …! هذا قُرطٌ من ماس!
ليلى (في بهرة) : يا لله …!
عنان (لا تتمالك) : أية أُذنٍ تستطيع حمل هذا الماس کله؟
ليلى : الفص الواحد كاللوزة حجمًا …! هذه ثروة يا عنان!
عنان : بالتأكيد.
ليلى : أتعلمين كم ثمنه …؟ أذكر أني شاهدت عين هذا القرط معروضًا في واجهة المحل، وثمنه فوقه مكتوب ألف جنيه، فيما أذكر.
عنان : لا شك عندي في هذا.
ليلى (تلمح وريقةً في قاع الصندوق) : انظري … ما هذه الوريقة في قاع الصندوق؟ … (تأخذ الوريقة وتقرؤها): «إلى عنان؛ معبودتي التي تظلمني وتذلني، عسى أن تبسم مرةً أخرى»!
عنان (تضع الصندوق بغير عناية على المائدة) : من أجل هذا القُرط …؟
ليلى : ما أغلاها ابتسامةً!
عنان : أنت مخطئة يا ليلى، لو تعلمين الحقيقة لوجدت هذا الثمن بخسًا … آه لو علمت كم تكلفني الابتسامة!
ليلى (تنظر إليها مليًّا) : أإلى هذا الحد أنت …؟
عنان : لا تحاولي فهم الموقف، فهو عسير الفهم، ولا يدركه أغلب الناس؛ لأن طبيعتي ليست كطبائع الناس، كذلك أفكاري وتصرفاتي!
ليلى : هذا صحيح.
عنان : ومع ذلك … قلت لك إن الساعة قد دنت فيما أرى.
ليلى (في قلق) : أية ساعة؟
عنان : ما علينا … أرأيت والدتي اليوم يا ليلى …؟
ليلى (لا تزال تنظر إليها في قلق) : نعم … وهي مغتبطة … طبعًا، وكانت تود رؤيتك … لماذا لم تذهبي يا عنان هذا الصباح …؟
عنان : سأذهب.
ليلى : إنك لم تهنِّئي بعدُ والدَك!
عنان : سأفعل.
ليلى (تنظر إلى ساعة بمعصمها ثم تنهض) : ينبغي أن أنصرف الآن.
عنان : ليلى …! قبِّليني …!
ليلى (تتأملها قليلًا في قلق ثم تعانقها وتنصرف) : إلى الغد.
عنان (كالمخاطبة نفسها) : الغد …!

(ليلى تخرج، وتبقى عنان واقفةً لحظةً بلا حراك، ثم تعود إلى مقعدها فتغرق فيه، ثم تتناول كتابها فوق المائدة التي بجوارها، وتضيء المصباح الكهربائي القائم خلف رأسها، فينبعث منه ضوء وردي خلال مظلته الحريرية وينعكس على شعر عنان، ويُشع على نحرها وجسمها، وتتلاعب الظلال والأضواء في أشكال جميلة على رسمها البديع … وبعد أن تلقي نظرة في الكتاب تلقي به على المائدة … وتتناول صندوق القرط من مكانه وتفتحه، وتتأمل ماسه الثمين، ثم تقفله وتعيده إلى المائدة في إهمال، وتسمع عندئذٍ صوت بوق سيارة، فترفع رأسها قليلًا وترهف السمع … ثم تعود إلى الاستلقاء؛ شأن غير الحافل.)

الوصيفة (تدخل في عجلة كمن تحمل بشرى) : سيدي عاد بحقائبه يا سيدتي …!
عنان (لا تتحرك) : عاد؟!

(ثم تغمض عينيها؛ فكأنها للناظر في سِنةٍ من النوم … يداعب شعرها النسيم.)

(الوصيفة تنظر إليها في دهشة ثم تخرج.)

(لحظة صمت.)

مختار (من الخارج) : عنان!

(ثم يدخل مندفعًا فيراها نائمة، فيقف فجأة)

مختار (يهمس) : نائمة؟!

(ويقف يتأملها لحظةً غير مجترئ على إيقاظها.)

عنان (لا تتحرك أهدابها الطويلة وتفتح عينيها قليلًا) : أعُدت؟
مختار (في رقة وشبه حياء وقد فاجأت نظراته) : نعم يا عنان!
عنان : إن غيبتك قد طالت!
مختار : لا تتهكمي يا عنان!
عنان : يا له من سفر طويل … طويل!
مختار : إنك تَرينَ أني لا أستطيع دائمًا تنفيذ ما أعتزم في شأنك!
عنان : لماذا؟
مختار : لأني …
عنان : ماذا؟
مختار : المسألة عندي الآن أخطر مما تتصورين … إني أعود الآن كي أضع تحت قدميك نفسي يا عنان … إلى الأبد … لأني تعبت.
عنان (في تهكم خفيف) : أنت أيضًا!
مختار : نعم … تعبت … وإن عامًا كاملًا كافٍ أن أتعب!

(يخلع طربوشه ويضعه على مقعد.)

عنان : من غير شك.
مختار : أنا أعلم أني أتعرض لاستهزائك … وأتجرد من كل سلاح في المستقبل؛ إذ أعترف لكِ الآن بأن كل خطوة كان يخطوها القطار البارحة بعيدًا عن هذا المكان، كانت تنقبض لها نفسي، وأود لو أثِبُ من النافذة قائلًا … علامَ المكابرة؟ … أنتِ لي كلُّ شيء في الحياة … ولئن فقدتك لأفقدن الحياة قاطبة.
عنان : أنت؟
مختار : ألا تصدقين يا عنان! … أرجو أن تصدقي … إن مجرد رائحة البنفسج في أي مكان تكفي وحدها لزيادة دقات قلبي! … إن زوجًا لا يحب زوجته على هذا النحو يا عنان … إني لست زوجًا … إنكِ استطعتِ أن تجعلي مني عاشقًا … كنت أردد هذا في القطار، وأقول إني، ولا ريب، جُننت … أيمكن أن أمسي مشغوفًا بامرأتي بهذا المقدار؟ … وثَم اعتراف آخر يا عنان أشد خطرًا؛ أتصدقين أني ما عرفت الحب في حياتي قبل اليوم، أعني ذلك الحب الخليق أن يُجنَّ رجلًا … ذلك الذي نقرؤه في أخبار الشعراء، لا ذلك اللهو والعبث الذي تمرغت فيه منذ الصغر … نعم، لقد تأكدت واستوثقت أن هذا هو الحب الأول والأخير، وأن حياتي بدونكِ مستحيلة … إني أحس أني قد سلَّمتكِ كل نفسي بعد هذا الاعتراف … فماذا تريدين بي الآن بعد أن عرفتِ أن حياتي بدونكِ مستحيلة؟
عنان : أفرغت؟
مختار : لا أريد أن أفرغ … إني خائف يا عنان مما ستقولين!
عنان (كالمخاطبة نفسها في تهكم خفيف) : أيمكن أن تعرف أنت الخوف؟!
مختار : أرجو ألا تكوني قاسية!
عنان : اطمئن!
مختار (في فرح) : أحقًّا أستطيع أن أطمئن!
عنان : لن أقول شيئًا.
مختار (مصدومًا) : لن تقولي شيئًا؟
عنان : ماذا تريد أن أقول؟
مختار : بعد كل الذي سمعتِ؟
عنان : أينبغي أن أقول شيئًا؟
مختار : …؟
عنان : ماذا دهاك؟
مختار (في صمت وإطراق) : وبرقيتي … ألم تقرئيها؟
عنان : تلك البرقية الفكهة … نعم قرأتها.
مختار : الفكهة؟!
عنان : أعني أنها كذلك في نظر «عامل التلغراف» على الأقل … ألم يبسم أو يضحك عندما اطلع عليها؟ … قل!
مختار : أشكركِ يا عنان!
عنان : لست أنكر أنها بدعة جديدة في تاريخ الغرام … ألا ترى معي؟

(مختار مطرق.)

عنان : اعترافات لاسلكية!
مختار : …؟
عنان : كم أرثي لك! … لقد كلفتُك اليوم مبلغًا جسيمًا من المال … إني أكثر معشوقاتك استنزافًا لمالك بلا مراء.

(مختار يرفع رأسه قليلًا وينظر إليها، ثم يعود إلى الإطراق.)

عنان (تشير إلى صندوق الماس) : نعم … قرط ثمين حقًّا. لكن لن أقبله منك مع الأسف الشديد.
مختار (يرفع رأسه) : لن تقبليه!
عنان : لن أستطيع دفع الثمن … ألست تطلب فيه ابتسامة؟
مختار : إلى هذا الحد يا عنان!
عنان : هذه الابتسامة التي لا تكلفني شيئًا … تشقُّ عليَّ حين وجودك.
مختار (في يأس) : إني آسف!
عنان : هذا ليس ذنبك.

(لحظة صمت.)

عنان (تقصي بأطراف أناملها صندوق الماس) : أرجع هذا الماس إذن إلى محل الجواهر … ولا تنسَ أن تنزع وريقة الثمن هذه … إلى «معبودتي التي تظلمني» … معبودتك التي تظلمك؟! … إنك تجيد التعبير أحيانًا … اذهب!
مختار : سأذهب!
عنان : خير لك أن تسترد الألف … فالنقود مضمونة … أما أنا … (لحظة) وبعد … ألا تتحرك؟ … قلت لك اذهب … لست أحب أن أطيل النظر إلى هديتك الغالية.
مختار (يتجه إلى الباب وينادي) : إدريس!
إدريس (يظهر) : نعم!
مختار (بصوت خافت ثائر) : أحضر الهاون!
إدريس (في استغراب) : الهاون!
مختار : أسرع!

(إدريس يخرج على عجل.)

عنان : ماذا طلبت من الخادم؟

(مختار يقف جامدًا ووجهه إلى النيل.)

عنان : منظر بديع حقًّا! … هذا النيل الفضي اللون! … والمراكب البيضاء تسبح فيه كأنها طيور الماء!
إدريس (يدخل حاملًا الهاون) : سيدي!
عنان : ما هذا؟

(مختار يأخذ الهاون من إدريس ويأمره بالخروج في إشارة.)

(مختار يضع الهاون على طرف المائدة … ويتناول صندوق الماس ويفتحه ويُخرج القرط الثمين ويلقي به في قاع الهاون ثم يسحقه سحقًا، ويطحنه طحنًا … وتنظر عنان إلى فعله صامتة مشدوهةً أولَ الأمر … وبعد أن يفرغ مختار من طحن الماس حتى يصير مسحوقًا أبيض، يأتي بكتاب عنان من فوق المائدة، ويضع على جلدته هذا المسحوق، ثم يرفعه في يديه وينظر إلى عنان، وينفخ مسحوق الماس الثمين فيتطاير في الهواء، ويرمي بالكتاب إلى مكانه.)

(عنان تهز كتفيها استخفافًا.)

(مختار يستند إلى جدار الشرفة متجهًا إلى النيل كما كان.)

عنان (بعد لحظة) : حبذا القلب أيضًا يُصنع به مثل هذا!
مختار (ينتفض قليلًا ثم يتمالك) : سوف أصنع به مثل هذا!
عنان : بعض التواضع! … أترى له من القيمة ما يماثل هذا القرط؟
مختار : أهذا تقديركِ لي يا عنان؟
عنان : لست أحب أن أكذب من أجلك … نعم!
مختار : دائمًا؟
عنان : منذ تزوجنا.

(مختار يطرق.)

عنان : أفهمت الآن؟

(مختار يشير برأسه أنْ نعم.)

عنان : لهذا تراني لم أجد ما أقول جوابًا على اعترافاتك.

(مختار يطرق.)

عنان : ما أنت إلا شيء واحد!
مختار : …؟
عنان : عاشق بارع قد أتقن الإفضاء بالاعترافات الخطيرة!

(مختار يخرج من المكان في الحال دون أن ينبس بحرف.)

(عنان تبهت قليلًا لحركة خروج مختار على هذه الصورة … وتتبعه بنظرها حتى يختفي فتطرق لحظة … ثم تعبث بصفحات الكتاب.)

الوصيفة (تظهر مسرعة وتهمس) : سيدتي … سيدتي!
عنان (تلتفت إليها) : ماذا؟
الوصيفة : سيدي دخل حجرته يبکي!
عنان (بعد لحظة وجوم) : وأي شأن لكِ في هذا؟
الوصيفة (في حيرة) : سيدتي!
عنان : اذهبي لعملك!

(الوصيفة تخرج … وتلبث عنان لحظةً مطرقة … ثم تنهض فجأةً وتتجه إلى البيانو الظاهر قرب باب الشرفة الواسع وتجلس إليه وتأخذ في التوقيع.)

الوصيفة (تعود) : سيدتي!
عنان (تبطل العزف) : ماذا تريدين؟
الوصيفة : سيدي أمر بوضع حقائبه في السيارة من جديد!
عنان : هذا حسن … انصرفي لعملك!

(تعود عنان إلى الشرفة وتتكئ ناظرة إلى النيل طويلًا في تفكير عميق، وبعد لحظة يدخل مختار في ملابس الخروج عاري الرأس.)

عنان (في شيء من التلطف والرفق وهي تشير إلى طربوش مختار على المقعد) : عدت تريد الطربوش طبعًا؟
مختار : نعم!
عنان : أنت مسافر من جديد إذن؟
مختار : نعم!
عنان : أتحبني حقيقة؟
مختار :
عنان : لماذا لم تقل «نعم» في هذه المرة أيضًا؟
مختار : وما الفائدة؟
عنان : تقصد أنك عبرت عن ذلك بطرق أخرى غير كلمة «نعم»؟
مختار : بل أقصد أن التعبير لا معنى له … ولأني ذاهب.
عنان : ذاهب إلى أين؟
مختار : لست أدري … لا يهم المكان!
عنان : للنزهة والترويح؟
مختار : أرجو أن تكوني جادةً قليلًا معي في هذه اللحظة الأخيرة … إنك تعرفين جيدًا أني لن أذهب للنزهة والترويح … بل لأنك طردتني!
عنان : أنا؟! … هذا بيتك … أأطردك من بيتك؟!
مختار : بل طردتني من حياتك … من الحياة!
عنان : يا لله! … من الحياة؟ … أتدرك معني هذه الكلمة؟
مختار : إني عندكِ طفل دائمًا … لا يدرك معنًى لكلمة أو معنًى لشيء!
عنان : لا تبالغ يا مختار.
مختار : لست أبالغ في وصف منزلتي عندك!
عنان : بل لا تبالغ في استعمال كلمة «الحياة» … إن حياتي ليست حياتك، وإنك لَتستطيعُ أن تعيش بدوني عيشًا كله سرور وسعادة، وتحيا بعيدًا عني حياة كلها متعة وهناء.
مختار : أتظنين ذلك؟
عنان : بل أجزم.
مختار : ما أعظم سروري! … أنتِ التي كنت أومن دائمًا بصواب ما تفعل خطأً وما تقول … معبودي الذي لا يخطئ، ها هو ذا يخطئ أولَ مرة خطأً فاحشًا.
عنان (في جد) : لم أخطئ.
مختار : إصرارُكِ لا يَزيدني إلا اغتباطًا، أنا أدرى بما في نفسي، أنتِ التي تدَّعين معرفتي، کم تظهرين الآن قاصرةً عن النفوذ إلى دخيلتي … مرحى مرحى … تكلمي أيضًا، استمري في الغلط!
عنان (دهشة) : إنك واثق من نفسك؛ على ما أرى!
مختار (في قوة) : في هذا الأمر … نعم!
عنان : أظنني لا أخطئ إذا قلت إنك لم تكن كذلك دائمًا.
مختار :
عنان : أجب.
مختار : لن تصدقي ما أقول، ولن تأخذي قولي على سبيل الجد.
عنان : بل إني أفعل.
مختار : إنكِ خُلقت كي تُعبدي.
عنان (مبتسمة) : وكي يكفر بي المشركون أمثالك!
مختار : نعم … لست أنكر أني لم أكن أفهمك كل الفهم فيما مضى … لقد كنت في الواقع كأهل الجاهلية أمام النور الجديد، كنت حقيقة أكبرك بسنتين عمرًا، ولكنكِ تكبرينني بعشرة أعوام فكرًا وعقلًا، ومع ذلك كنت أحس نحوك إحساسًا غريبًا لم أعلِّلْه إلا اليوم … كل تصرفاتي معك حتى تلك التصرفات الضارة بك المؤذية لكِ؛ ما صدرت إلا عن اهتمام جنوني، لم أكن أدري لماذا كنت أشعر بلذَّة غريبة إذ أُوقع بك ألمًا، وإذ أتخيل أني أمقتك؛ نعم … لا أظن هذا كان انتقامًا من فتورك وتفوقك بقدر ما كان لذةً أجلبها لنفسي بتعذيبك، ومع ذلك يا عنان لو أنكِ تعلمين كيف كنت أنظر إلى غيرك من النساء، لأيقنت أني بريء من كل ظن سوء … نعم … اليوم أستطيع أن أقسم لك إنني لم أشرك بك أحدًا في قلبي، هذا الصباح اتضح لي ذلك، لقد بلغت «الأقصر» منقبض الصدر متعبًا بعد ليلة تضعضعت فيها حواسي؛ تفكيرا فيكِ وفي شأني معكِ، فما إن وطئت قدماي رصيف المحطة حتى نظرت شزرًا إلى شمس «الأقصر» الجميلة وهتفت بي نفسي: ماذا جئت تصنع هنا بغيرها؟ … وحتى متى هذه الأكذوبة الطويلة؟ … وهل تمضي حياتك تعذب نفسك بحجة أنك تعذب تلك التي هي حياتك؟ … ثم من أدراك أنها تتعذب.
عنان : آه … هذه الفكرة الأخيرة هي التي أتت بك.
مختار (تعبًا) : نعم … لا … إني لست أطلب منك حبًّا مماثلًا لحبي، لقد تعبت في النهاية، إني أحبك أكثر مما ينبغي.
عنان : أتظن ذلك؟
مختار (تعبًا) : وساعة أن جاءتني هذه الأفكار في المحطة كنت قد أيقنت أن حياتي بدونك مستحيلة (يريد الجلوس فتقدم له الكرسي)؛ لذلك هرعت أبعث إليك برقيتي «الفكهة» بجميع ما معي من نقود لو أن النقود تستطيع بعض التعبير! … ولم يكن معي سوى بضعة قروش هي التي دفعتها.
عنان : هذا أنت حقيقةً الذي يفعل ذلك؟ … وبعد؟ … عدت إلى مصر؟
مختار : في أول قطار يتهيأ للسير.
عنان : والأمريكية … ماذا جرى لها؟
مختار : تركتها مع الدليل وبعض السائحين تلوِّح بيدها في الهواء دهشة؛ وأنا أقفز إلى قطار العودة.
عنان (ضاحكة) : ترى ماذا تقول فيك الآن؟! … لم يبقَ أحد، ولا ريب، لم يتهمك بالجنون والهوس.
مختار : حتى أنت؟
عنان (باسمة) : لماذا تريد رأيي؟
مختار : رأيك وحده له عندي كلُّ القيمة.
عنان : لولا جنونك وهوسك هذا لَمَا تزوجتك.
مختار (بفرح) : عنان …! ماذا تقولين؟
عنان : نعم … هذا حقيقي … انتظرت الزوج الذي أريده زمنًا، وكنت أرفض الكثيرين، وكدت أنت تكون ضمن المرفوضين، لولا تردد والدي قليلًا أمام ثروتك، وعندئذٍ تقدمت ليلى أختي وتقدم زوجها کامل، وأرادا أن يقنعاني بوجوب الرفض، قائلين إنك شاب سفيه متهوس … هنا أورد كامل حكاية هي التي رجحتك عندي بدون أن يقصد … قال إنك كنت في جمع من أصدقائك يومًا، وجلهم معتمد عليك في السهرة، وقد نفِد ما معك من إيراد الشهر إلا مبلغًا في جيبك، وإذا بائع تماثيل صغيرة يمر بكم في المقهى … فأعجبك تمثال حمامتين صغيرتين تلتقطان الحَب، فبلغ بك الإعجاب أنْ أخذت التمثال من الرجل وأعطيته كل ما معك من نقود، وتركت أصدقاءك يتميزون من الغيظ.
مختار (مستذكرًا) : نعم … نعم … كان ذلك في يوم خميس.
عنان : ليس يهمني اليوم … إنما منذ تلك الساعة وأنا أوقن أن لك طبيعةَ شاعر.
مختار (مستذكرًا) : شاعر!
عنان : الجنون والهوس هما الأمل الوحيد فيك كشاعر.
مختار : كنت قد نسيت هذه الكلمة!
عنان : صدقت، ألم تقرأ الصحف اليوم؟
مختار : من أين لي الوقت لأفكر في الصحف؟
عنان : حسنًا فعلت، إنهم يأسفون لضياع مواهبك … آه يا مختار … يا مختار … لا ينقصك إلا شيء واحد.
مختار : ما هو؟
عنان : حتى تبلغ العظمة!
مختار : لست أريد العظمة … بل أريد قلبكِ.
عنان : وا أسفاه!
مختار (مرتجفًا) : ماذا؟ أحقيقي إذن! أهو بعيد عليَّ كثيرًا؟
عنان (في شبه يأس) : إنك لم تتقدم خطوة.
مختار (في خوف) : لا تقولي ذلك.
عنان : وأنا التي حسبت أنك اقتربت وكدت تصل.
مختار : إلى قلبكِ؟
عنان : لا … لست أتكلم الآن عن قلبي … مختار … أنت هوائيٌّ متقلب … لا تثبُت على عمل ولا تستطيع أن تثابر إلى غاية … أفهم أن يكون الشاعر هوائيًّا في الأمور التافهة … أما في الغرض الأسمى … في سر وجوده …
مختار : أنتِ سر وجودي.
عنان : لا … لا … لست أنا … ليس هذا ما أقصد الآن.
مختار : بلى … أنتِ … متى كنت متقلبًا معك؟ أوردي حادثة واحدة … أو قدِّمي دليلًا واحدًا … هجرْتُكِ؟ نعم! قصدت تعذيبك؟ نعم! … أما أني أحببت سواكِ؟ …
عنان : ليس في رأسك إلا أنا الساعة؟
مختار (في صوت التوسل) : نعم يا عنان! دائمًا!
عنان : نعم … ومع ذلك من يدري … بعد أسبوع …
مختار : لا تتهكمي … لا لزوم للتهكم … إنكِ تشعرين جيدًا أني اليوم رجل آخر لا حياة له إلا بجواركِ.
عنان : نعم … كهارون الرشيد؛ كلما أعجبته جارية انقطع إلى جوارها أسبوعًا لا يخرج إلى الناس، ولا يأذن لأحد بالدخول عليه … حتى إذا ما فرغ من الأسبوع …
مختار : لست هارون الرشيد … دعينا مما في الكتب … ومع ذلك … إذا شئتِ فأنا … أنا المجنون.
عنان (ضاحكة) : نعم … هذا ما تقوله دائمًا.
مختار : كلا … بل أريد قيس «مجنون ليلى»، وأنتِ ليلى.
عنان : آه لو أن لك شِعره!
مختار : شعر قيس؟
عنان : لم لا؟ قد يكون لك لو أن لك آلامه!
مختار (في قلق) : عنان!
عنان : لا ينقصك إلا هذا.
مختار : ألا يمكنكِ أن تفكري في شيء آخر … أحقيقة ليس لديكِ ما تقولين لي؟ أم أنكِ تضنِّين عليَّ بالكلام؟ إني لم أجرؤ مطلقًا على سؤالك، هل تحبينني بعض الشيء؟ … كلا … لست أريد أن أعرف جوابكِ الآن، لا تكلفي نفسك المراوغة والتهرب … شأنك في كل مرة … قلت لكِ لست أطلب مماثلة … هذا مستحيل … فقط … ومع ذلك لِم العجلة؟ … حسبي أني بجواركِ إلى الأبد … نعم … طول الحياة أولًا … ثم بعدها، ما دام هناك خلود! … «عنان»! … نسيت أن أقول لك إني منقبض الصدر كئيب النفس! … وأريد أن أبكي … أن أبكي كثيرًا لغير ما سبب!
عنان : منذ متى هذا؟
مختار : منذ لحظة، والآن مر بخاطري بغتةً ذلك الزمنُ الذي أنفقته بعيدًا عنك، عن حمق وجنون! … لو أنه نقود، أو جزء عظيم من مالي، لألقيت به هباءً لكنه هناء محسوب عليَّ … «عنان»! … إني لست مطمئنًّا عليكِ وعلى دوام قربي منكِ! … يخيل إليَّ أن ما مضى كان كل شيء! … وأنه قد فرغ نصيبي من … من … أتراني سأموت شابًّا! … في الوقت الذي بدأت أجدك فيه! … أجد سعادتي … التي عميت عنها … طمئنيني! … ما معنى هذا الانقباض؟ … إني لست مريضًا، وسأعيش! … «عنان»! … ماذا بكِ؟ … ما لكِ شاحبة الوجه؟
عنان (صفراء) : لا شيء!
مختار (مضطربًا) : عنان! … أنتِ تحبينني ولم تتحملي فكرة موتي!
عنان : تكلم في موضوع آخر!
مختار : صدقتِ … لست أريد تكديركِ، لقد أمسيتُ غير قدير على ذلك! … إني الآن أخاف عليك، وأُشفق عليكِ كروحي، ولا أطيق فكرة خدش أنملة من أناملك! … أنا الذي كنت ألتذ بألمك وعذابك … قاتلني الله! … «عنان»! … أتعلمين بماذا أقتل الآن؟ … بفكرة الابتعاد عنك! … لماذا ترتجفين؟
عنان (تشير إلى النيل) : برد المساء! … لو تحضر لي «نفيسة» رداءً ثقيلًا من حجرتي؟!
مختار (ينهض في الحال، ويخلع رداءه، ويضعه على كتفيها) : أدفئتِ الآن؟
عنان : نعم! … أشكرك! … وأنت … أتظل هكذا؟
مختار : لا تهتمي لأمري!
عنان : فليحضر لك أحد رداء أو معطفًا من حجرتك!
مختار : كلا … لست أريد! … حجرتي وحجرتك؟! … أنحن نعيش في حجرتين، منفصلة إحداهما عن الأخرى؟ … منذ متى كان ذلك؟ … ومن قال منا بهذا؟ … لست أقدر أن ألبث منفصلًا عنكِ ساعةً بعد اليوم! … قومي، ولننقل أمتعتنا إلى حجرة واحدة … حجرتان؟ … هذا أمر غير معقول! … هذا لا يصدق! … هيا بنا يا «عنان»!
عنان : مستحيل!
مختار : لماذا؟
عنان : لا يمكن لحجرة واحدة أن تتسع لنا … أدوات زينتي، وأثوابي العديدة، وأحذيتي … إن حجرتي لا تَسَع كل هذا إلا بشق الأنفس.
مختار : شكرًا لك!
عنان : ماذا دهاك؟
مختار (في سخرية مُرة) : إنكِ حقيقةً تحبينني إلى حد أنك تفضلين عليَّ أدواتِ زينتك، وأثوابَك، وأحذيتك! … حب إلى درجة التضحية … نعم … إلى درجة أن تضحي بعواطفي كلها، وإحساساتي وقلبي من أجل أثوابك العديدة وأحذيتك!
عنان : أرجو منك ألا تُدخل كلمة التضحية في مثل هذه الأشياء!
مختار : لا بأس!
عنان : ومع ذلك إذا سألتك أنت التضحيةَ من أجل حبي، فما عساك أن تقدم لي؟
مختار (بصوت خافت هادئ لكنه خطير) : حياتي!
عنان (متهكمة) : حقًّا إنك شاعر في استعمال الكلمات الهائلة … كلا! … لست أطلب حياتك … بل حياتي أنا.
مختار (بصوت مخنوق) : ماذا تقولين؟
عنان (في جد وخطورة) : أريد أن تطلقني.

(صمت.)

مختار (مشدوهًا كمن لا يصدق ما يسمع … ثم يُفيق من بغتته ويتضاحك ضحكة المرتجف خوفًا) : لا … لا يا عنان … دعي هذا المزاح … إنكِ أرعبتني حقيقة!
عنان (في جد) : لست أمزح.
مختار (وهو ينظر إلى وجهها مستفسرًا في هلع، وصوته يتوسل) : عنان … أقسم لك إنكِ تستطيعين إيلامي بوسيلة أخرى غير هذه … إذا كنت تثأرين فإنك تسرفين وتتجاوزين … ليس من الألم ما تحدَّثين الآن … إنما هو … إنما هو … إنما هو شيء مخيف … إنكِ تخيفينني إلى حد قاتل … إن لم أكن الآن مريضًا بالقلب … فإن هزةً كالتي كادت تخلع قلبي الآن كافيةً أن تورثني هذا المرض … وفِّري ذلك عليَّ يا عنان.
عنان (تغالب التأثر) : أريد أن … أريد أن …

(مختار في شبه ذهول.)

عنان (تتماسك) : مختار! … مختار! … إني جادة كلَّ الجد … إني أطلب إليك أن تفعل هذا!
مختار (بصوت يأس هائل) : أفعل هذا؟
عنان : نعم … أريد أن تطلقني في الحال.

(مختار شاحب لا يقوى على الكلام.)

عنان (في لطف وهي تغالب التأثر والضعف) : نعم يا مختار … هذا هو الشيء الوحيد الذي أريده منك … التضحية الوحيدة … ألم تقل الآن إنك مستعد أن تعطيني حياتك؟ … برهن لي على حبك بأن تفعل ما أريد … «مختار» … أريد أن تطلقني طلاقًا لا رجعة له! … أفتُلبي، أم أن حبك كله أثرة، لا فائدة منه ولا خير فيه؟

(مختار مطرق مغمض العينين!)

عنان : أعترف أن التضحية كبيرة.

(مختار دموعه تتساقط في سكون!)

عنان : لا تبكِ … تفعل ذلك لأني أريد … نعم إني أريد (تدير وجهها خشيةَ أن يرى دموعها)!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤