حجازيات الشريف

أيها السادة

سمعتم فيما سلف أن الشريف الرضي تفتحت عبقريته بفضل طريق الحج، وموسم الحج، ورأيتم أقباسًا من جذوات وجده المشبوب.

ونريد اليوم أن نتكلم بالتفصيل عن قصائده الحجازيات.

ولي مع تلك الحجازيات تاريخ، فقد ألقيت عنها محاضرة في نادي الموظفين بالقاهرة منذ سنين، ثم كتبت عنها بعد ذلك فصولًا مطولة في جريدة البلاغ، وقد حاولت إحضار تلك الفصول من القاهرة، ولكني لم أستطع؛ فأنا أكتبها للمرة الثالثة، وذلك عناء أتقبله في سبيل الشاعر البكاء الذي خلد مواسم العيون والقلوب.

أيها السادة

إن أسلافنا لم يخطئوا حين جعلوا حجازيات الشريف من فرائد الشعر العربي، فهي قصائد تفردت بغرائب من الأحاسيس، والشريف في هذه القصائد من فحول الابتكار والإبداع، فهو لا يكرر ما سبق إليه الشعراء، وإنما تتفجر عبقريته عن معان طريفة تشوق الأذواق والعقول.

والشريف في الحجازيات كأبي نواس في الخمريات، فإن أبا نواس ألحّ إلحاحًا شديدًا في وصف الصهباء، وكانت لجاجته في وصفها خليقة بأن تقذف به في مهاوي الإسفاف، ولكنه مع ذلك تماسك، وظل دائمًا من المبدعين.

وكذلك الشريف، فهو لم يكتف في وصف موسم الحج بقصيدة، أو قصيدتين، أو ثلاث قصائد، أو سبع قصائد، وإنما قال وأعاد، ثم قال وأعاد حتى بلغت قصائده في الحنين إلى موسم الحج نحو الأربعين.

وأنتم تدركون — أيها السادة — خطر هذا الإسراف، فقد كان كفيلًا بأن يسوقه إلى مدارج الابتذال، ولكن الشاعر ظل قويًّا، وظلت معانيه جديدة على الزمان، فهو في حجازياته قادر على أن يبهر بيرون وجوت وميسيه، ومن إليهم من الشعراء الذين جعلوا الحب شريعة إنسانية لها من الشعر فرقان وإنجيل.

وإني لأخشى — أيها السادة — أن أكون بهذه الإشارة ظلمت الشريف، فالشعراء العشاق في فرنسا، وإنجلترا، وألمانيا، والنمسا، وإيطاليا عاشوا في بلاد لا تدعي أنها تحرس الدين، والتقاليد في الأندية الأدبية، أعني أنهم نظموا قصائد الحب في بيئات يغلب عليها المرح، ويصرفها الفتون، فالشاعر كانت تسوقه المغريات إلى التشبيب، والملاح اللائي يدرن الأندية الأدبية إدارة الكؤوس كنّ يطلبن بالقول، أو بوحي، الملاحظ أن تكون لهن سيرة كالجدائل المعطرة في قصائد الشعراء، فلم يكن من المستغرب، ولا المستبعد أن تتسع مذاهب القول في وصف الوسامة والجمال.

أما الشريف فكان ينظم الحجازيات في مواطن لا يجوز فيها رفث، ولا فسوق، وينشدها بين أقوام يصطحبون، ويغتبقون بالتسبيح والتكبير والتهليل.

فأنصفوا الحق أيها السادة، واعترفوا بأن الحجازيات ما كانت تصدر عن شاعر يعيش في بيئة مثقلة بالتحرج والتعفف والتنسك إلا إن كانت جذوات صدره أقوى وأعنف من أن تطفئها شآبيب التحنف بين زمزم والحطيم.

أنتم اليوم في عصر يسمونه (القرن العشرين)، ويزعمون أنه حرّر المشاعر والقلوب من رباق التقاليد، فهل فيكم شاعر يملك من الجرأة ما كان يملك الشريف منذ نحو ألف نسمة، يوم كانت قالة السوء تصرف رجلًا مثله عن ولاية المظالم، وإمارة الحج، ونقابة الأشراف؟ هل يستطيع طلعت حرب — وهو رجل حرّ الذهن والعقل — أن يضيف إلى الشريط السينمائي: شريط الحج، منظرًا يمثل موقعة غرامية في سفح عرفات؟ إنه لو فعل لقامت قيامة المتزمتين في مصر، والمغرب، والشام، واليمن، والحجاز، والعراق، وقال القائلون: إنها دسيسة يراد بها انتهاك المناسك، والغض من هيبة الإسلام.

تصوروا — أيها السادة — أن وصف الحسن الذي ينثر أيام الصيف على الشواطئ المصرية يضيف الشاعر أو الكاتب إلى عصبة الماجنين، وإن صحّ لأحد شعرائنا أن يقول في شاطئ الإسكندرية:

رعاه الحب من شط جميل
خفيف الروح مصقول أنيق
بهيّ الرمل تحسبه سجوفًا
مطرّزة بحبات العقيق
أطوف به فيغلبني خشوعي
كأني طفت بالبيت العتيق
أيا حرم الظباء أنرت روحي
بمشكاة من الحسن الرفيق
ولو كشفت غشاوتهم لقالوا
صبايا الخلد تسبح في الرحيق

إنه لا مفرّ من الاعتراف بأن الشريف كان مثال الجرأة والشجاعة حين استطاع أن يؤرخ هواه في أيام الحج بقصائده الحجازيات، وهذه الجرأة كانت من فيض الشاعرية، فإن الشاعر الحق أشجع الناس، وأقدرهم على الاستهانة بالمكاره والحتوف.

قد تقولون: إن عمر بن أبي ربيعة سبقه إلى هذه الجرأة، ونجيب بأن الفرق بعيد بين الشاعرين: فعمر بن أبي ربيعة نشأ في صدر الإسلام، يوم كان دينًا سمحًا لا تثقله الأوهام التي أثقلته فيما بعد، حين حمل أوزار الواغلين الذين نقلوا إليه أوضار التزمت والجمود، فيما ورثوا عن أصولهم في الشرق أو في الغرب، من بلادات المتزهدين، وغباوات المتقشفين، ورقاعات المتنسكين، كان عمر بن أبي ربيعة يعيش بين أمراء وخلفاء كانوا في حقيقة الأمر من أشراف الفتيان، وكان الناسكون لعهده رجالًا ظرفاء، لا ينكرون حقوق الأفئدة والقلوب.

أما الشريف فعاش في الصدر الثاني من القرن الرابع بعد أن حمل الإسلام ما حمل من عسير التقاليد، وبعد أن كانت بغداد قد عرفت ألوانًا من التزهد والتقشف تجعل الغزل في مواسم الحج ضربًا من اللهو والفجور مع استثناء الظرفاء من الصوفيين العراقيين الذين أطفنا بأخبارهم في كتاب (التصوف الإسلامي).

ذلك فرق بين العصرين: عصر صديقنا عمر، وعصر أستاذنا الشريف.

وهناك فرق بين الرجلين: فعمر بن أبي ربيعة كان في يأس من المجد السياسي، فلم يكن ينتظر أبدًا أن يكون له مجال في سياسة الدولة الإسلامية التي استبد بها الأمويون، وكذلك أقبل على دنياه ينهب منها ما تسمح به مواسم الحج من التطلع إلى الخدود النواضر، والعيون الفواتك، ويخلق لنفسه آفاقًا من السيطرة الوجدانية تعوض ما فاته من السيطرة السياسية والإنسان حيوان لئيم يهمه أن يسيطر في أي ميدان.

أما الشريف فكان له حال غير تلك الحال، كان الشريف علويًّا، والعلويون كانت لهم مطامع سياسية توارثوها من جيل إلى جيل، والذي يراجع ما فصلناه في كتاب (المدائح النبوية) يعرف أن أولئك القوم كانوا بلغوا غاية الغايات في رياضة أبنائهم، وأحفادهم، وأسباطهم على الإيمان بأنهم مظلومون، وأن الدنيا لا تصلح إلا إن رجع إليهم الأمر في قيادة المسلمين، وقد وصلوا في ذلك إلى غاية لا تحتمل ولا تطاق، فكانوا يتصورون أن الدنيا — إن لم يسوسوها — ستظل ظلمات من فوقها ظلمات.

وكان الشريف الرضي يرى نفسه أهلًا للخلافة الإسلامية، وساعده على ذلك مركز أبيه في المجتمع، وتشرفه بالانتساب إلى علي بن أبي طالب، وكان لعلي بن أبي طالب سلطة روحية هائلة في تلك العهود، ويكفي أن نحدثكم أن الخليفة القادر أذاع في الناس أنه رأى في منامه نهر الصليق قد اتسع حتى صار عرض دجلة دفعات، وأنه سار على حافته فرأى عليه قنطرة عظيمة، فأراد أن يعبر فانبثق النهر من حوله؛ فرأى شخصًا يناديه: أتريد أن تعبر؟ فقال: نعم، فمدّ يده حتى وصلت إليه، وأخذه فعبر به، وهاله الفعل، فسأل: من يكون هذا المتفضل بنجاته؟ فقال صاحب اليد الكريمة: علي بن أبي طالب، هذا الأمر صائر إليك، ويطول عمرك فيه، فأحسن إلى ولدي وشيعتي.

وهذه الرؤيا الصحيحة أو المخترعة تشهد بأن العلويين في ذلك العهد كان ينصب لهم ميزان، وكان الخلفاء العباسيون يرون من السياسة أن يداروهم بالثناء على جدهم أمير المؤمنين.

وكانت الظروف تسمح بعض السماح بأن يتطلع الشريف إلى الخلافة، فقد كان له في ذات نفسه خصائص ترشحه لذلك المنصب: كان من أسباط الرسول، وكان متفوقًا في العلوم النقلية والعقلية، وكان جميل الوجه جدّا، بحيث استطاع بعض أساتذته أن يقول: إنه لم يستبح النظر إلى وجهه إلا بعد أن اخضرَّ شاربه، ونبت عارضاه، والجمال كان من الصفات المأثورة عن الرجل الذي أعزَّ العرب في بقاع الأرض، وخلد لغتهم على وجه الزمان الرجل الذي اسمه أحمد وحشرنا في زمرة أصفيائه يوم يقوم الحساب.

كان ذلك أيها السادة حال الشريف، فتصوروا كيف جاز لرجل له مثل تلك الأماني أن يفضح نفسه بين الناس، فيصرح بأنه من عبيد النحور، والخدود، والعيون؟

إن ذلك لا يقع إلا في حالين اثنين: حال الشعر، وحال الجنون.

وما اعتقد أن الشريف كان من المجانين، فلم يبق إلا أن يكون من الشعراء.

وما أدعوكم إلى الخروج على تقاليد المجتمع لتُعَرْبِدُوا في معاقرة الحسن عربدة الشريف. لا، وإنما أرجوكم أن ترحموه وتعطفوا عليه، فهو من سلالة قلَّ فيها الشعر جدًّا، حتى صار من كنايات العرب أن يقال: فلان من نسل الرسول، ويعنون أنه لا يصلح للانتساب إلى الشعراء. وما كان من الحق أن ينسلخ أسباط الرسول من الشاعرية، وإنما السبب في ذلك أن القبائل التي كانت ترشح نفسها للملك لم تكن ترى الشعر مما يليق بالملوك والخلفاء، وذلك باب من القول فصلته في كتاب (النثر الفني)، فلا أعود إليه في هذا المساء، ويكفي أن تذكروا أن الشاعرية لا تزكو إلا إن عاش الشاعر عيش البلبل يتنقل كيف يشاء بين أماليد الأفانين، والتأهب للملك يوجب أن يصير الرجل من عبيد المجتمع، فيعيش كرئيس الجمهورية الفرنسية لا يلقي أية كلمة في أي محفل إلا بعد استئذان.

وأريد — أيها السادة — أن أقول: إن الشريف الرضي لم يكن يصلح لغير الشعر، وأخشى أن أقول: إن إمارته للحج لم تكن إلا منحة يتفضل بها عليه الخلفاء العباسيون ليكون الفتى الذي اسمه الشريف الرضي خليفة للشيخ الذي اسمه أبو أحمد الموسوي.

ولكن شاعرنا جمع بين المزيتين، فكان أميرًا للحج، أميرًا فقيهًا، يقدم إلى الحجيج العراقي ما يبصره بالمشاعر والمناسك، وكان شاعرًا يتلهف على الحسن تلهف الظامئ إلى الورد الممنوع.

فإن اختال علينا أهل الأدب والذوق من اللاتينيين والسكسونيين والجرمانيين بأن عندهم قسيسين ورهبانًا يدركون أسرار الأدب الرفيع، فسنقول: إن عندنا «شيخًا» يؤدي الفرائض والنوافل، ويقرأ الأوراد، وهو مع ذلك شاعر حساس يفوق جوت، وبيرون، ولامرتين.

فإن سألوا: ومن هو ذلك الشيخ الشاعر؟

قلنا: هو الشيخ الذي ذهب لأداء فريضة الحج فبهرته الصباحة فقال:

نظرتك نظرة بالخيف كانت
جلاء العين مني بل قذاها
ولم يك غير موقفنا فطارت
بكل قبيلة منا نواها
فواهًا كيف تجمعنا الليالي
وآهًا من تفرقنا وآهًا
وأقسم بالوقوف على آلال
ومن شهد الجمار ومن رماها
وأركان العتيق وبانييها
وزمزم والمقام ومن سقاها
لأنت النفس خالصة فإن لم
تكونيها فأنت إذن مناها
نظرت ببطن مكة أم خشف
تبغم وهي ناشدة طلاها
وأعجبني ملامح منك فيها
فقلت أخًا القرينة أم تراها
فلولا أنني رجل حرام
ضممت قرونها ولثمت فاها

تلكم إحدى طلائع الحجازيات، فلنتناولها بشيء من التحليل، ولنبدأ بهذين البيتين:

ولم يك غير موقفنا فطارت
بكل قبيلة منا نواها
فواهًا كيف تجمعنا الليالي
وآهًا من تفرقنا وآهًا

فذلك شاعر يطوف بالبيت فتقع عينه على غرائب الحسن، ثم يكشف الواقع غشاوة هواه، إذ يعرف أنها لحظة لن تعود. ومن الذي يضمن للشاعر أن يسمح الزمان اللعوب بأن يردّ إليه هوى قلبه بعد عام أو عامين؟ وهل يمكن أن تسمح ظروف العيش لإنسانة هاجرت في سبيل الحج من الأندلس أم المغرب، أو مصر أو الشام أن تعود لتلك المواقف مرة ثانية؟ من الذي يضمن لك حين تقع عينك على وجه جميل في بلد غريب أن تجود الأيام برؤيته مرة ثانية ولو في عرض الطريق؟ وهل تعرف المقادير قلب الشاعر فتعطف على جواه؟

إن الشريف يؤلف المقاطع من قلبه الممزّق وهو يقول:

فواهًا كيف تجمعنا الليالي
وآهًا من تفرقنا وآها
وإن حاله لشبيه بحال صديق أعرفه بعض المعرفة، ولعله يلبس إهابي، وربما كانت معرفتي بذلك الصديق هي السرّ في اهتمامي بحجازيات الشريف، وكان ذلك الصديق رأى فتاة ألمانية بقطار المترو في باريس، فدعاها إلى معاقرة الحديث ساعة أو ساعتين، فاعتذرت بأنها على سفر، ثم قالت وهي تواسيه: On se verra, peut etre!.

وقد ركب صديقنا المترو ألف مرة، وحج باريس مرات، ولم يسمح الزمن بأن تقع عينه مرة ثانية على تلك العيون، فواحر قلباه!

واتفق لذلك الصديق أن يدعوه فريق من أصفيائه إلى زيارة نور منديا في كل عام مرة، ولكن الزيارة الأولى لبساتين التفاح كانت في الوقت الذي فرغ فيه من دراسته بالسوربون، فكانت أيامه بتلك البساتين أول العهد وآخر العهد، وقد رجع إلى فرنسة بعد ذلك، ولكنه وا أسفاه كان يصل بعد (مايو) شهر الأزهار والرياحين، وقد علمت أن شواغله في دنياه لن تسمح له أبدًا برؤية نور منديا في شهر مايو، إلا أن يصبح من تقاليد الحكومات أن ترسل البعثات لتثقيف الذوق والوجدان!

يكفي هذا في الطواف حول هذين البيتين، ونترك لأذواقكم درس الحسن في بقية القطعة، وننتقل إلى الأبيات الآتية، وقد قالها في مدينة الرسول في المحرم سنة ٣٩٤:

وما كنت أدري الحب حتى تعرضت
عيون ظباء بالمدينة عين
فوالله ما أدري الغداة رميننا
عن النبع أم عن أعين وجفون
بكل حشًا منا رمية نابل
قويّ على الأحشاء غير أمين
جلون الحداق النجل وهي سقامنا
ووارين أجيادًا وسود قرون
ولولا العيون النجل ما قادنا الهوى
لكل لبان واضح وجبين
يلجلجن قضبان البشام عشية
على ثغب من ريقهن معين
ترى بردًا يعدى إلى القلب برده
فينقع من قبل المذاق بحين
تماسكت لما خالط اللب لحظها
وقد جن منه القلب أي جنون
وما كان إلا وقفة ثم لم تدع
دواعي النوى منهن غير ظنون
نصصت المطايا أبتغي رشد مذهبي
فأقلعن عني والغواية دوني

فما رأيكم في هذه الأبيات؟ قد تقولون: إن فيها معاني مألوفة، وهو كذلك، ولكن هل تغيب عنكم قوة إحساسه بالمألوف من تلك المعاني؟ أرجوكم أن ترجعوا إلى الفصل الذي أنشأناه عن المبتذل والطريف في الجزء الأول من كتاب النثر الفني لتعرفوا بوضوح كيف يكون المعنى مألوفًا، ثم يكون صاحبه أشعر الناس؛ لأنه أحسّه أقوى إحساس.

ومن الذي ينكر قوة الشاعرية في هذا البيت:

يلجلجن قضبان البشام عشية
على ثغب من ريقهن معين

من الذي ينكر أن كلمة (يلجلجن) على ثقلها وقعت أجمل موقع في هذا البيت؟

من الذي ينكر طرافة الخيال في هذا البيت:

ترى بردًا يعدي إلى القلب برده
فينقع من قبل المذاق بحين

والمهم عندي هو النص على عبقرية السحر في هذا البيت:

وما كان إلا وقفة ثم لم تدع
دواعي النوى منهن غير ظنون

المهم أن تتصوروا مبلغ إحساسه بالوحشة لفقد الجمال، وإن تذكروا كيف يتشوق ويلتاع.

وهذه الأبيات:

تذكرت بين المأزمين إلى مِنَى
غزالًا رمى قلبي وراح سليمَا
لئن كنت أستحلي مواقع نَبله
فإني ألاقي غبهن أليما
أصاب حرامًا ينشد الأجر حسبة
فما عاد مأجورًا وعاد أثيمَا
فلو كان قلبي بارئًا من ألمته
ولكنَّ أسقامًا أصبنَ سقيما
إذا بلَّ من داء أعادت له المها
نكاسًا إذا ما عاد عاد مقيمَا
يظنونني استطرفت داء من الهوى
وهيهات داء الحب كان قديمَا
قنصت بجمع شادنًا فرحمته
وأخفق قناص يكون رحيمَا
أأغدو مُهينًا بالحبائل ساعة
غزالًا على قلبي الغداة كريما
تراءت لنا بالخَيف نفح لطيمة
سرت عنك إلا عبقة ونسيما
ولم أر مثل الماطلات عشية
ذوات يسار ما قضين غريما

وهذه أبيات هادئة النفس، ولكن ما رأيكم في هذا البيت:

أصاب حرامًا ينشد الأجر حسبة
فما عاد مأجورًا وعاد أثيمَا

إن الشريف كان يتوهم أنه كحمام الحرم لا يُطرد ولا يُصاد، وكان يجهل أن الحرم يباح فيه صيد القلوب! … وهذا البيت:

قنصت بجمع شادنًا فرحمته
وأخفق قناص يكون رحيما

فهو يمثل الحسرة اللاذعة التي يحسها من يرحم الجمال، فيضيع منه الجمال.

وهذا البيت:

ولم أَرَ مثل الماطلات عشية
ذوات يسار ما قضين غريما

وهو يمثل لؤم الملاح: فهن يملكن الوفاء، ثم لا يقدمن غير الصدود. وفي منطق الشريف أن المليحة يقبح منها المطل؛ لأنها موسرة، موسرة بالحسن والصباحة، والشاعر لا يطلب غير الأنس بالحسن والصباحة، والجود لا يتلف المحاسن كما يتلف الأموال!

وما رأيكم في هذه القصيدة التي سارت في المشرقين والمغربين، وعارضها جمهور من الشعراء:

يا ظبية البان ترعى في خمائله
ليهنك اليوم إن القلب مرعاك
الماء عندك مبذول لشاربه
وليس يرويك إلا مدمع الباكي
هبت لنا من رياح الغور رائحة
بعد الرقاد عرفناها برياك١
ثم انثنينا إذا ما هزنا طرب
على الرحال تعللنا بذكراك
سهم أصاب وراميه بذي سلم
من العراق لقد أبعدت مرماك
وعد لعينيك عندي ما وفيت به
يا قرب ما كذبت عينيّ عيناك
حكت لحاظك ما في الريم من ملح٢
يوم اللقاء فكان الفضل للحاكي
كأن طرفك يوم الجزع يخبرنا
بما طوى عنك من أسماء قتلاك
أنت النعيم لقلبي والعذاب له
فما أمرك في قلبي وأحلاك
عندي رسائل شوق لست أذكرها
لولا الرقيب لقد بلغتها فاك
سقى مني وليالي الخيف ما شربت
من الغمام وحياها وحياك
إذ يلتقي كل ذي دين وماطله
منا ويجتمع المشكو والشاكي
لما غدا السرب يعطو بين أرحلنا
ما كان فيه غريم القلب إلّاك٣
هامت بك العين لم تتبع سواك هوى
من علم العين أن القلب يهواك
حتى دنا السرب ما أحييت من كمد
قتلي هواك ولا فاديت أسراك
يا حبذا نفحة مرت بفيك لنا
ونطفة غمست فيها ثناياك
وحبذا وقفة والركب مغتفل
على ثرى وخدت فيه مطاياك٤
لو كانت اللمة السوداء من عددي
يوم الغميم لما أفلت أشراكي٥

فما ترون في هذه القصيدة العصماء؟ خبروني ماذا ترون؛ فإنها تسمو على كل تحليل؟

أيكون السحر في أن يصبح القلب مرعى تلك الغزالة؟ أيكون السحر في ألا يرويها الماء المبذول، وإنما يرويها الدمع المسفوح؟ أم يكون في أن يعرف العاشق مهب الريح بما تحمل عنها من نفحات؟ وما هو ذلك السهم الذي يبعد مرماه فيصيب وهو بذي سلم أحشاء من في العراق؟

إن هذه من الحقائق النواصع — لو تعلمون — فالعاشق تقوى عنده ذاكرة النظر، ويتصور ملامح معشوقه على بعد الديار وعلى بعد السنين فتغزوه الملامح الفتانة في كل وقت، كلما أدار أبصار فكره على ما رأت عيناه في عالم الفتون، والجاهل هو الذي لا يعرف ذلك، الجاهل هو المحروم من نعمة الخيال الوثاب الذي يمثل ما نأى وما بعد، وكأنه مشاهد ملموس، والشعراء بهذه المنحة الربانية يتمتعون بالمحاسن في صور مختلفات، ويشهدون المنظر الفاتن ألوف المرات، على حين لا يراه الجاهل غير مرة واحدة — إن كان الجاهل يدرك ما يراه — وأكثر أهل الأرض جهلاء، وإن ظفروا بأعظم الألقاب، وعلى الله رزق الدواب.

ويحدثنا الشاعر عن وعد العيون، وللعيون وعود.

فهل يسمح الشريف بأن نعترض على ما نسبه إلى محبوبته من خلف الوعد؟

هل يصدقنا الشريف إذا حكمنا بأن العيون عالم منفصل عن عالم القلوب؟

هل يصدقنا الشريف إذا جزمنا بأن العين تعد وتحلف، وتبرم وتنقض، في غيبة القلب؟

إن الناس يظنون منذ ألوف السنين أن العيون رسل القلوب، فليعرفوا منذ اليوم أن العين خلق عجيب لا يعرف أسراره غير علام الغيوب.

ولعل الشريف فطن إلى ذلك حين استدرك فقال:

يا قرب ما كذبت عينيّ عيناك

وحين قال:

كأن طرفك يوم الجزع يخبرنا
بما طوى عنك من أسماء قتلاك

فهو يرى للعيون أعمالًا يجهلها أهل العيون، والأمر والله كذلك، ولكن أكثر الناس لا يفقهون.

ويقول:

حكت لحاظك ما في الريم من ملح
يوم اللقاء فكان الفضل للحاكي

فيرينا أن الحلاوة في عيون النساء أمتع من الحلاوة في عيون الظباء.

والحق في هذه القضية أن عيون الغزلان في غاية من الروعة، ولكنها محرومة من صفة أساسية في عيون الملاح، وهي الإفصاح، أو ما يعبر عنه الفرنسيون بكلمة Regard expressit فعين الظبية تروعك، ولكنها لا تحدثك، أما عين المرأة فتروعك، وتفضي إليك في لحظة واحدة بألف حديث وحديث، ولعلّ الشريف قصد إلى ذلك حين قال: فكان الفضل للحاكي.

وانظروا كيف سجل مناسك الحج بهذين البيتين:

سقى مني وليالي الخيف ما شربت
من الغمام وحياها وحياك
إذ يلتقي كل ذي دين وماطله
منا ويجتمع المشكوّ والشاكي

فهل رأيتم أظرف من هذا الكلام؟ وهل تدركون ما فيه من دقيق الإشارات؟ اغفروا لي هذه الهفوة، فما اتهمكم بالجهل، والعياذ بالذوق، وإنما أريد أن أهجم على الشريف فأقول: إنه كان يتخذ أيام الحج مواعيد غرام، وأخشى أن أقول: إنه لم يكن يفارق مناسك الحج إلا على ميعاد. وهذا يفسر حرصه على إمارة الحج بالأصالة عن نفسه، أو بالنيابة عن أبيه، ولا تستكثروا أن يحج الرجل ليرى امرأة يهواها، أو أن تحج المرأة لترى رجلًا تهواه، فقد كنا ننظم المواعيد في القطار بين ليون وباريس، مواعيد لعام أو عامين، ثم نفي فنلتقي بعد عام أو عامين، وللقلوب غرائب لا تدركها العقول.

وما الذي يمنع من مجاراة أبي عمرو بن العلاء في الحكم بين الأعشى ولبيد؟

أتذكرون ما قال أبو عمرو بن العلاء؟

إنه قال: لبيد رجل صالح، والأعشى رجل شاعر.

وكذلك أحكم بأن الشريف رجل شاعر، وليس برجل صالح.

وهل قلَّ الصالحون في الدنيا حتى نشرفهم بالشريف؟

إن الأغبياء يعدون بالألوف، وألوف الألوف، وإمارة الحج تولاها مئات ممن يحسنون التسبيح والتهليل، فليكن فيهم رجل واحد يفهم أن الحج معرض من معارض الجمال في أمة قامت تقاليدها على الاستهانة بالجمال.

لتكن حجازيات الشريف هي الشاهد على أن ماضينا لم يكن كتلة من الجمود، وإنما كان ماضي أمة حية تدرك دقائق الأحاسيس، تأملوا هذه الصورة:

لما غدا السرب يعطو بين أرحلنا
ما كان فيه غريم القلب إلَّاك
هامت بك العين لم تتبع سواك هوًى
من علَّم العين أن القلب يهواك

ثم انظروا كيف يضل المرء بين الحسان، وليس له فيهن إلا محبوبة واحدة، وذلك أظرف أنواع الضلال.

وتأملوا قوله:

وحبذا وقفة والركب مغتفل
على ثرى وخدت فيه مطاياك

فهذا البيت يشهد بأن شاعرنا كان ينتهب الفرص التي يغفو فيها الركب؛ ليمتع القلب اليقظ بما يوحي الهوى من انتهاب القبلات.

•••

وما رأيكم في هذه الأبيات:

أيها الرائح المغذ تحمل
حاجة للمعذب المشتاق٦
أقر عني السلام أهلي المصلى٧
فبلاغ السلام بعض التلاقي٨
وإذا ما مررت بالخيف فاشهد
أن قلبي إليه بالأشواق
وإذا ما سئلت عني فقل نضـ
ـو هوى ما أظنه اليوم باقي
ضاع قلبي فانشده لي بين جمع
ومني عند بعض تلك الحداق
وابك عني فطالما كنت من قبـ
ـل أعير الدموع للعشاق

ما رأيكم في إحساس من يحكم بان «بلاغ السلام بعض التلاقي»، ما رأيكم فيمن يشعر بالأنس حين يمر بخاطر من يهواه؟

والشاعر واثق بأن هناك قلوبًا تسأل عنه حين يغيب، وما أسعد من يشعر بأن في الدنيا قلوبًا تسأل عنه حين يغيب! وشاعرنا لا تفارقه السيطرة العلوية، فهو يحب أن يبكيه الأحباب، فيوصي الرسول بأن يحدثهم أنه أصبح في حكم الفانين عساه يظفر منهم بزفرة، أو شهقة، أو أنين.

وما هذا البيت:

ضاع قلبي فانشده لي بين جمع
ومني عند بعض تلك الحداق

أتعرفون كيف تضيع القلوب، وكيف ينشدها الناشدون؟؟ أتحسون المعنى الملفوف في هذه الكلمة «عند بعض تلك الحداق»؟ أتفهمون من هذا أن الرجل كان له في الحجاز هوى خاص؟

وهذا البيت:

وابك عني فطالما كنت من قبـ
ـل أعير الدموع للعشاق

أنت كنت تعير الدموع للعشاق؟

ليت العباس بن الأحنف كان رآك قبل أن يقول:

نزف البكاء دموع عينك فاستعر
عينًا لغيرك دمعها مدرار
من ذا يعيرك عينه تبكي بها
أرأيت عينًا للدموع تعار

لقد بكى العشاق عنك، وبكوا ثم بكوا، فإن لم تصدق فأنصت من عالم الغيب لترى كيف يسمع أهل العراق أبياتك هذه مرات في كل يوم من حنجرة أم كلثوم.

•••

وهذه الأبيات:

حيّ بين النقا وبين المصلى
وقفات الركائب الأنضاء٩
ورواح الحجيج ليلة جمع
وبجمع مجامع الأهواء
وتذكر عني مناخ مطيي
بأعالي منى ومرسى خبائي١٠
وتعمد ذكري إذا كنت بالخيـ
ـف لظبي من بعض تلك الظباء
قل له هل تراك تذكر ما كا
ن بباب القبيبة الحمراء
قال لي صاحبي غداة التقينا
نتشاكى حرّ القلوب الظماء
كنت خبرتني بأنك في الوجـ
ـد عقيدي وأن داءك دائي
ما ترى النفر والتحمل للبيـ
ن فماذا انتظارك للبكاء؟١١
لم يقلها حتى انثنيت لما بي
أتلقى دمعي بفضل ردائي

إن الشاعر يحس معنى الحياة في وقفات الركائب الأنضاء؛ لأن السفر لا ينضي الركائب إلا بعد أن تصل بالعاشق إلى هواه، فهو يطرب لوقفاتها في قرار واطمئنان.

والشاعر يوصي رفيقه بأن يتذكر عنه مناخ مطاياه، وتلك لفته شعرية لا يدركها إلا الأقلون.

وكما حدثنا عن «بعض تلك الحداق» يحدثنا عن «بعض تلك الظباء»، فيقول:

وتعمد ذكري إذا كنت بالخيـ
ـف لظبي من بعض تلك الظباء
قل له: هل تراك تذكر ما كا
ن بباب القبيبة الحمراء

وعبارة «ما كان» عبارة لطيفة يوشيها الذوق، وهي أبرع من عبارة ابن المعتز إذ يقول:

وكان ما كان مما لست أذكره
فظنّ خيرًا ولا تسأل عن الخبر

لأن ابن المعتز أحاط عبارته بالشبهات.

أما الأبيات الأخيرة فهي تشعركم بأن الشريف لم يكن يودع مناسك الحج بالتلبية والتكبير، وإنما كان يودعها بزفرة الملتاع على ما يفارق من خدود وعيون.

أيها السادة

ما رأيكم في هذا القصيد المرقص:

من معيد لي أيا
مي بجزع السمرات١٢
ولياليّ بجمع
ومنى والجمرات
وظباء حاليات
كظباء عاطلات
رائحات في جلابيـ
ـب الدجا مختمرات١٣
راميات بالعيون النجـ
ـل قبل الحصيات
ألعقر القلب راحوا
أم لعقر البدنات
كيف أودعت فؤادي
أعينا غير ثقات
أيها القانص ما أحسنـ
ـت صيد الظبيات
فاتك السرب ومازوّ
دت غير الحسرات
يا وقوفًا ما وقفـ
ـن في ظلال السلمات١٤
موقفًا يجمع فتيا
ن الهوى والفتيات
نتشاكي ما عنانا
بكلام العبرات
نظر يشغل منا
كل عين بقذاة
كم نأى بالنفر عنا
من غزال ومهاة
آه من جيد إلى الدا
ر كثير اللفتات
وغرام غير ماض
بلقاء غير آت
فسقى بطن منى والخـ
ـيف صوب الغاديات
وزمانًا نائم العذا
ل مأمون الوشاة
في ليال كاللآلي
بالغواني مقمرات
غرست عندي غرس الشـو
ق ممرور الجناة
أين راق لغرامي
وطبيب لشكاتي

ما رأيكم فيمن يرى أن يسمي هذه القصيدة «أنشودة الحجيج»؟

لا تعجبوا من هذا الاقتراح فمواسم الحج تحتاج إلى ضروب من الأناشيد، مواسم الحج في شوق إلى من يرجعها إلى عهدها الأول يوم كانت أقدم ما عرف الناس من المعارض الدولية، مواسم الحج تحتاج إلى شاعر كالشريف يفرق بين عقر البدنات وعقر القلوب، وتحتاج إلى شاعر يعلم الناس أدب الصيد فيقول:

أيها القانص ما أحسنـ
ـت صيد الظبيات
فاتك السرب ومازو
دت غير الحسرات

وتتشوف إلى من يتلهف على أيامها فيقول:

آه من جيد إلى الدا
ر كثير اللفتات
وغرام غير ماض
بلقاء غير آت

وأعظم الحسرات أن تتشوف إلى أنس لن يعود، ويرحم الله أرباب القلوب!

•••

وهذه القصيدة التي تسجل لوعة القلب إلى ما شهد في طريق الحج من أسباب الفتون:

خذي نفسي يا ريح من جانب الحمى
فلاقى بها ليلًا نسيم ربا تجد
فإن بذاك الحيّ إلفًا عهدته
وبالرغم مني أن يطول به عهدي
ولولا تداوي القلب من ألم الجوى
بذكر تلاقينا قضيت من الوجد
ويا صاحبيّ اليوم عوجا لتسألا
ركيبًا من الغورين أنضاؤهم تخدي١٥
عن الحيّ بالجرعاء جرعاء مالك
هل ارتبعوا واخضر واديهم بعدي
كأن بعيني بعدهم عائر القذى١٦
إذا أنا لم أنظر إلى العلم الفرد
شممت بنجد شيحة حاجرية
فأمطرتها دمعي وأفرشتها خدي
ذكرت بها ريا الحبيب على النوى
وهيهات ذا يا بعد بينهما عندي
وإني لمجلوب لي الشوق كلما
تنفس شاك أو تألم ذو وجد
تعرّض رسل الشوق والركب هاجد
فتوقظني من بين نوامهم وحدي
فقلت لأصحابي ألا تتزافروا
رويدكم إن الهوى داؤه يعدي
وما شرب العشاق إلا بقيتي
ولا وردوا في الحب إلا على وردي
والقصيدة واضحة لا تحتاج إلى من يدل على ما فيها من محاسن، ولكن لا بدّ من النص على هذه العبارة:

هل ارتبعوا واخضر واديهم بعدي.

فإنها تصور فهمه لمعاني السعادة في البوادي، وقد يكون في الارتباع والاخضرار إشارة إلى ما يتخوفه من أن يأنس الأحباب بغير هواه بعد الفراق.

ثم انظروا إحساسه بالفروسية في الحب إذ يقول:

تعرّض رسل الشوق والركب هاجد
فتوقظني من بين نوامهم وحدي
وما شرب العشاق إلا بقيتي
ولا وردوا في الحب إلا على وردي

وحدثوني عن شعوركم بهذا المعنى الطريف، فذلك شاعر يرى أن أطياف الشوق تعرفه بين الركب بسيماه، ويعتقد أن العشاق لا يردون في الحب إلا على ورده، ولا يشربون إلا بقاياه، والعشاق كالأنبياء لا تجود الدنيا بهم في كل يوم، وإنما تسمح بهم من جيل إلى أجيال.

•••

وما رأيكم في هذه الأبيات:

تحمّل جيراننا عن منى
وقالوا النقا بيننا موعد
وهل نافع قول ذي غلة
وقد بعد الركب لا يبعدوا
تنادوا بأن التنائي غدًا
لك السوء من طالع يا غد
فالله ما جمع المأزما
ن وجمع لقلبي والمسجد
يضاع فينشد قعب الغبوق
وقلبي يضاع ولا ينشد١٧
وغيداء من ماطلات الديون
لها بالحمى زمن أغيد
تريع كما التفتت ظبية
بذي البان عن لها المورد١٨
نظرت وهيهات من ناظريك
ظباء تهامة يا منجد
ويا ربما والهوى ضلة
ترى العين ما لا تنال اليد

ألا ترون هذه الحسرة الدامية؟ ألا تحسون اللوعة في هذا البيت:

تنادوا بأن التنائي غدًا
لك السوء من طالع يا غد!

وأي لوعة آلم وأوجع من لوعة المفارق الذي لا يعرف متى يعود؟ أي لوعة آلم وأوجع من لوعة من يودع ناسًا لا يدري أيلقاهم مرة ثانية أم يكون أنسه بهم آخر العهد في دنياه؟

وهذا البيت:

ويا ربما والهوى ضلة
ترى العين ما لا تنال اليد

وهل في الدنيا أفظع وأشنع من أن ترى العين ما لا تنال اليد؟ إن هذا أصل الشقاق والنزاع بين طوائف الإنسان والحيوان، وكل شقاء في عالم الذوق والوجدان يرجع إلى أصل واحد: هو أن ترى ولا تملك. وهل يعرف أحد حقيقة اللوعة في قلب الشاعر الذي يرى امرأة جميلة وهو يعرف أن لن تنالها يده، وأنها مع ذلك قد تكون ملكًا لرجل سخيف لا يدرك أسرار الجمال؟

نترك هذا الشطط، وننتقل إلى هذه الأبيات:

ألا يا ليالي الخيف هل يرجع الهوى
إليكن لي لا جازكن ندى القطر
فيا دين قلبي من ثلاث على منى
مضين ولم يبقين غير جوى الذكر
ورامين وهنًا بالجمار وإنما
رموا بين أحشاء المحبين بالجمر
رموا لا يبالون الحشا وتروحوا
خليين والرامي يصيب ولا يدري
وقالوا غدًا ميعادنا النفر عن منى
وما سرني أن اللقاء مع النفر
ويا بؤس للقرب الذي لا نذوقه
سوى ساعة ثم البعاد مدى الدهر
فيا صاحبي إن تعط صبرًا فإنني
نزعت يديّ اليوم من طاعة الصبر
وإن كنت لم تدر البكا قبل هذه
فميعاد دمع العين منقلب السفر

وهذا شعر واضح، ولكن لا بدّ من التذكير ببعض المحاسن، كأن ننص على الخيال في هذا البيت:

ورامين وهنًا بالجمار وإنما
رموا بين أحشاء المحبين بالجمر

وما هو بخيال، وإنما هو حقيقة تراها العيون، ومن الذي ينكر أنه يتمنى أن يكون شيطانًا ترجمه بعض الأنامل الرقاق؟ فهل يستكثر على الشريف أن يقول: إن بعض الراميات لا ترمي بالجمار، وإنما ترمي الأحشاء بالجمر المشبوب؟

ما هذه البدعة الطريفة التي تفرد بها الحج الإسلامي؟ ما هذا التلطف الظريف الذي شرعه الإسلام، وهو يوجب على المرأة المليحة أن تمدّ معصمها لترمي الجمار؟

أما خطر ببال أحد الفقهاء أن يتصور أن المعصم الجميل قد يكون أفتن وأخطر من الشيطان الذي يرجمه الحجاج؟

ليت الدهر يسمح بأن نرى مرة كيف ينعم صديقنا الشيطان، وهو يتلقى الرميات من أيدي الملاح! إن حظه لو تعلمون عظيم!

وهذا البيت:

رموا لا يبالون الحشا وتروّحوا
خليين والرامي يصيب ولا يدري

والمهم هو النص على أن الرامي قد يصيب وهو لا يدري، ذلك منطق الشريف! والأغرب منه أن ننص على أن الرامي قد يقصد هدفًا واحدًا فيصيب هدفين!

وهذا البيت:

ويا بؤس للقرب الذي لا نذوقه
سوى ساعة ثم البعاد مدى الدهر

فذلك هو المعنى الأصيل الذي يدور حوله الشريف في سائر الحجازيات.

•••

وهذه الأبيات وقد قالها عند دخول الحجيج إلى مدينة السلام في شهر صفر سنة ٣٩٥.

عارضًا بي ركب الحجاز أسائلـ
ـه متى عهده بسكان سلع١٩
واستملّا حديث من سكن الخيـ
ـف ولا تكتباه إلا بدمعي
فاتني أن أرى الديا بطرفي
فلعلي أرى الديار بسمعي

هل ترون؟ ألا تحسون لوعة المشتاق إلى أنفاس الظباء بالحجاز؟ ذلكم شاعر فاته أن يحج فلم يبق أمامه إلا أن يتنسم أرواح القادمين ليرى الديار بأذنيه، وقد فاته أن يراها بعينيه؟ والعاشق يستبيح كل شيء حتى الأنس بالخيال، وهو والله مظلوم فقد ينشد القدح الضائع، ولا ينشد الفؤاد المفقود … وهذه الأبيات:

إني علقت علي منى
لمياء يقتلني لماها
راحت مع الغزلان قد
لعبت بقلبي ما كفاها
تبغي الثواب فمهجتي
هذي القريحة من رماها
وقف الهوى بي عندها
وسرت بقلبي مقلتاها
بردت عليّ كأنما
ظل الغمامة عارضاها
شمس أقبل جيدها
يوم النوى وأجل فاها
وأذود قلبًا ظامئًا
لو قيل وردك ما عداها
ولو استطاع لقد جرى
مجرى الوشاح على حشاها
يا يوم مفترق الرفا
ق ترى تعود لملتقاها
قالت سيطرقك الخيا
ل من العقيق على نواها
فعدى بطيفك مقلة
إن غبت تطمع في كراها
إني شربت من الهوى
حمراء صرف ساقياها
يا سرحة بالقاع لم
يبلل بغير دمي ثراها
ممنوعة لا ظلها
يدنو إليّ ولا جناها
أكذا تذوب عليكمو
نفسي وما بلغت مناها؟
أين الوجوه أحبها
وأودّ لو أني فداها
أمسي لها متفقدًا
في العائدين ولا أراها
واهًا ولولا أن يلو
م اللائمون لقلت آها

ما رأيكم في هذا الشعر المرقص؟ وما هي التعابير التي تفصح عما فيه من فتون؟ ما رأيكم في العذوبة التي تتموج بين ألفاظه ومعانيه كما يتموج البريق في الثنايا العذاب؟

حدثوني عند أي بيت نقف لنحدد غرائب البيان؟

انظروا هذا البيت:

إني علقت علي منى
لمياء يقتلني لماها

تجدوا المعنى قديمًا مبذولًا تناهبه مئات الشعراء. ولكن ألا توافقون على أن الشريف أداة تأدية رشيقة حتى كاد يصبح من المبتكرات؟

وهذا البيت:

راحت مع الغزلان قد
لعبت بقلبي ما كفاها

وهو أيضًا معنى قديم، ولكن هل تدركون الصورة الشعرية التي تتمثل في قوله:

لعبت بقلبي ما كفاها

وهو يريد أنها لم ترح مع الغزلان إلا بعد أن شبعت لعبًا بذلك القلب الخفاق، وهل تشبع الظباء من اللعب بالقلوب!

وهذا البيت:

وقف الهوى بي عندها
وسرت بقلبي مقلتاها

فقد يمكن رجع صدره إلى قول دعبل:

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي
متأخر عنه ولا متقدم

ولكن من الذي يجهل قيمة اللطف في هذه الشطرة:

وسرت بقلبي مقلتاها

وهذا البيت:

بردت عليّ كأنما
ظل الغمامة عارضاها
والبرد كلمة لها في التشبيب مدلول خاص، وهي تشبه الكلمة الفرنسية Fraicheur.

وهذا البيت:

شمس أقبّل جيدها
يوم النوى وأجل فاها

هو أيضًا معنى قديم، ولكن لا يكذب من يقول: إنه من مبتكرات الشريف.

وهذا البيت:

وأذود قلبًا ظامئًا
لو قيل وردك ما عداها

وما أحسبكم تطالبونني بالتنبيه على ما في هذا البيت البارع من جمال، فإني أخشى أن تفسده الشروح، وانظروا كيف عقب عليه بهذا البيت:

ولو استطاع لقد جرى
مجرى الوشاح على حشاها

وأحب أيها السادة أن تتأملوا الحسن في هذه الأبيات:

يا سرحة بالقاع لم
يبلل بغير دمي ثراها
ممنوعة لا ظلها
يدنو إليّ ولا جناها
أكذا تذوب عليكمو
نفسي وما بلغت مناها
أين الوجوه أحبها
وأود لو أني فداها
أمسي لها متفقدًا
في العائدين ولا أراها
واهًا ولولا أن يلو
م اللائمون لقلت آها

أتدركون قيمة العذوبة في هذا القصيد؟

أعتذر مرة ثانية وثالثة ورابعة عن الارتياب في أذواقكم، فمثلي لا يسيء الظن بأذواق أهل العراق، وإنما أعجب حين أرى من يتهمني بالتعصب للشريف، ويطالبني بكشف ما عنده من عيوب، وأنا والله مستعد لكشف عيوب الشريف، ولكن متى؟ بعد أن يعرف الناس محاسن الشريف.

أليس من العجب العاجب ألا يعرف هذه القصيدة مغنٍّ في تونس، أو مراكش، أو الجزائر، أو صنعاء، أو مكة، أو المدينة، أو دمشق، أو بيروت، أو القاهرة، أو بغداد، وما إلى أولئك من الحواضر العربية؟

لو كانت هذه القصيدة العذبة مما نظم ميسيه، أو بيرون، أو جوت لكانت على جميع الألسنة في بلاد الفرنسيس، والإنجليز، والألمان، ولكنها واأسفاه من نظم شاعر يجهله أكثر العرب، وينكره بعض أهله في العراق.

أنا لا أقول بأن الشريف ابتكر جميع معانيه، فلأكثرها أصول عند أسلافه من الشعراء، ولكني مع ذلك أقول بأن جميع معانيه من المبتكرات؛ لأنه يحسها بأقوى وأعنف ما تتصورون من الإحساس، وقد دعوتكم من قبل إلى مراجعة كتاب النثر الفني لتروا كلمة الحق والصدق في المبتذل والطريف، ولتعرفوا أني في إنصاف هذا الشاعر لم أكن من العابثين.

وهل أستطيع مرة ثالثة أن أدلكم على الحسن في هذين البيتين:

أين الوجوه أحبّها
وأودّ لو أني فداها
أمسي لها متفقدًا
في العائدين ولا أراها

إن المعنى فيهما مأخوذ من قول بعض الشعراء:

ما أقبح الناس في عيني وأسمجهم
إذا نظرت فلم أبصرك في الناس

ولكن الصورة مختلفة كل الاختلاف.

وأنا — أيها السادة — أقدر منكم على تجريح الشعراء؛ لأني قضيت عشرين سنة أو تزيد في تعقب الألفاظ النثرية، والأخيلة الشعرية، وأستطيع أن أهجم على شاعر مثل المتنبي فأثبت أن معانيه كلها من الحديث المعاد، ولكني لو فعلت لكنت من الظالمين؛ لأني أعرف أن المتنبي أحس معاني شعره أصدق إحساس، وأومن بأنه لم يكن يغير على معاني سواه، وإنما كان يفترع المعاني افتراعًا، وإن أنس بها من قبله كثير من الشعراء.

وهل تظنونني أجبن عن مصارحتكم بكلمة العدل في هذه القضية، وأنا الذي جبهت بها أساتذتي في السوربون في محضر جمهور يعد بالمئات؟

هل تظنونني أجبن عن التصريح بأن النقاد القدماء كانوا يلعبون حين أتعبوا أنفسهم، وأتعبوا قراءهم فيما سموه بالسرقات الشعرية؟

لقد آن لنا أن نقيم النقد الأدبي على قواعد علم النفس، وأظنني وصلت في ذلك إلى بعض ما أريد.

ثم ننتقل إلى هذه الأبيات:

يا رفيقيّ قفا نضويكما
بين أعلام النقا والمنحنى
وانشدا قلبي فقد ضيعته
باختياري بين جمع ومنى
عارضا السرب فإن كان فتى
بالعيون النجل يقضي فأنا
إن من شاط على ألحاظها
ضعف من شاط على طول القنا٢٠
تجرح الأعين فينا والطلى
قاتل الله الطلى والأعينا٢١
ثم كانت بقباء وقفة
ضمنت للشوق قلبًا ضمنا٢٢
وحديث كان من لذته
أحد يصغي إلينا أذنا٢٣
غادروني جسدًا تظهره
لهم الشكوى ويخفيه الضنى
حبذا منك خيال طارق
مرّ بالحي ولم يلمم بنا
باخل بخل الذي أرسله
سئل النيل وما جاد لنا
سرحة أعجلها البين وما
لبث٢٤ الظل ولا ذيق الجنى
ما رأت عيني مذ فارقتكم
يا نزول الحي شيئًا حسنا

وهذه أبيات تدركون ما فيها من روعة الخيال، ويكفي أن نقف عند هذا البيت:

وحديث كان من لذته
أحد يصغي إلينا أذنا

وليس من العجيب أن تصغي الجبال لأحاديث المحبين، فقد صحّ لأحد شعرائنا أن يقول:

وقف النجم وألقى باله
ليعدّ اللمح من قلبي وقلبك
ويح هذا النجم مما هاله
في ضمير الليل من حبي وحبك

•••

على أن صبابات الشريف في مواسم الحج، وفي طريق الحج، ولم تكن كلها من الوجد العابر الذي يمر مرور الطيف، ولا تبقى من نعيمه غير العقابيل، فقد حدثنا أنه طاف بمعاني الوصل، إذ قال:

يا ليلة السفح ألّا عدت ثانيه
سقى زمانك هطال من الديم٢٥
ماض من العيش لو يفدى بذلت له
كرائم المال من خيل ومن نعم٢٦
لم أقض منك لبانات ظفرت بها
فهل لي اليوم إلا زفرة الندم
فليت عهدك إذ لم يبق لي أبدًا
لم يبق عندي عقابيلًا من السقم٢٧
تعجبوا من تمني القلب مؤلمه
وما دروا أنه خلو من الألم
ردّوا عليّ لياليّ التي سلفت
لم أنسهن ولا بالعهد من قدم
أقول للّائم المهدي ملامته
ذق الهوى وإن استطعت الملام لم٢٨
وظبية من ظباء الأنس عاطلة
تستوقف العين بين الخمص والهضم٢٩
لو أنها بفناء البيت سانحة
لصدتها وابتدعت الصيد في الحرم
قدرت منها بلا رقبى ولا حذر
على الذي نام عن ليلى ولم أنم
بتنا ضجيعين في ثوبي هوى وتقى
يلفنا الشوق من فرع إلى قدم
وأمست الريح كالغيرى تجاذبنا
على الكثيب فضول الريط واللمم٣٠
يشي بنا الطيب أحيانًا وآونة
يضيئنا البرق مجتازًا على إضم٣١
وبات بارق ذاك الثغر يوضح لي
مواقع اللثم في داج من الظلم
وبيننا عفة بايعتها بيدي
على الوفاء بها والرعي للذمم
يولّع الطلّ بردينا وقد نسمت
رويحة الفجر بين الضال والسلم٣٢
وأكتم الصبح عنها وهي غافلة
حتى تكلم عصفور على علم٣٣
فقمت أنفض بردًا ما تعلقه
غير العفاف وراء الغيب والكرم
وألمستني وقد جدّ الوداع بنا
كفا تشير بقضبان من العنم٣٤
وألثمتني ثغرًا ما عدلت به
أرى الجنى ببنات الوابل الرذم٣٥
ثم انثنينا وقد رابت ظواهرنا
وفي بواطننا بعد من التهم
يا حبذا لمّة بالرمل ثانية٣٦
ووقفة ببيوت الحي من أمم٣٧
وحبذا نهلة من فيك باردة
يعدي على حر قلبي بردها بفمي
دين عليك فإن تقضيه أحي به
وأن أبيت تقاضينا إلى حكم
عجبت من باخل عني بريقته
وقد بذلت له دون الأنام دمي
ما ساعفتني الليالي بعد بينهم
إلا بكيت ليالينا بذي سلم
ولا استجدّ فؤادي في الزمان هوى
إذا ذكرت هوى أيامنا القدم
لا تطلبنّ لي الأبدال بعدهم
فإن قلبي لا يرضى بغيرهم
والحسرات في هذه القصيدة حسرات شاعر، وهي أقوى من حسرات Andre Chenier على الجدائل المموجة، والإقدام العارية، وصورة الشاعر مع محبوبته فوق الرمل، وبين وشاية الطيب والبرق، وفي هداية الثغر البراق، وفي حراسة العفاف، صورة جذابة جدًّا، وصورة التوديع الذي عاناه بعد ذلك أرق وأظرف، وأسف الشاعر على تلك الليلة يذيبب القلوب.

والفتوة في صدر الشريف هي التي أنطقته بهذه المعاني، فمن المؤكد أن الدنيا لعهده لم تكن تخلو من أغبياء يصعب عليهم أن يدركوا كيف يصح العفاف لمن يبيتان ضجيعين، هو رجل خُلق للشعر والخيال، لا يصلح للنجاح في المعترك السياسي، ولكنه يؤدي لوطنه وقومه خدمات يعجز عنها الساسيون؛ لأنه يخلق ثقافة الذوق، ويروض النفوس على الأريحية، ويغرس فيها الشوق إلى حب الحياة.

ومن الواضح أن حجازيات الشريف لا تصلح دستورًا للحجاج، فقد يجب أن تكون لهم شواغل غير التطلع إلى النحور والمباسم والعيون، ولكن هل يدّعي الشاعر أنه يضع الشرائع للناس؟ وهل للشاعر شريعة واضحة الرسوم حتى يفكر في سن الشرائع؟

إن الشعراء كالأنهار يحلو لهم الاعوجاج، أما ترون نهر دجلة يمضي يمنة ثم يرجع يسرة؟ أما ترون نهر السين كيف يسير على غير هدى؟ وبفضل ذلك الاعوجاج حسنت مواقع المدائن التي تقوم علي شواطئ الأنهار والبحار، ولو كان شاطئ البحر الذي تقوم عليه مدينة الإسكندرية يعرف الاعتدال لكان من المستحيل أن تظفر الإسكندرية بذلك الموقع البديع الذي يمكن الناظر من أن يراها في الليل، وهي كالعقد على نحر المحيط، وشواطئ الإسكندرية لم تجمل إلا بفضل ذلك الاعوجاج.

كنت أستطيع أن أناقش الشريف فيما ادعاه من العفاف، فأعيد التي جاءت في الجزء الثاني من كتاب البدائع؟ كلمة أستاذنا الدكتور منصور فهمي الذي يرى أن الشهورة قد تخرج من العيون.

ولكن ما رأيكم في أن الله — عز شأنه — لم يضع عقوبة للشهوة التي تخرج من العيون؟

أنكون أغْيرَ من الله؟

إن الشريف رجل شاعر، ولا يعيبه ألا يكون من الصالحين، فإن الصلاح المطلق لا يتم إلا لأهل البلادة والجهل.

كم كنت أتمنى أن أحاسب الشريف على ما ادعاه لنفسه من العفاف، ثم صدني عن ذلك شعوري بأنه لم يكن منافقًا، وأنا رجل يرى الكفر أهون من النفاق.

أيها السادة

لقد طال القول في حجازيات الشريف، وما نريد الاستقصاء، فلنختم البحث بقصيدته اليائية، وقد قالها قبل أن يموت بأربع سنين، قالها عند توجه الناس إلى الحج في ذي القعدة من سنة ٤٠٠ وهو يتلهف على مواقع عينية في أرض الحجيج.

أقول لركب رائحين لعلكم
تحلون من بعدي العقيق اليمانيا
خذوا نظرة مني فلاقوا بها الحمى
ونجدًا وكثبان اللوى والمطاليا
ومروا على أبيات حي برامة
فقولوا لديغ يبتغي اليوم راقيا
عدمت دوائي بالعراق فربما
وجدتم بنجد لي طبيبًا مداويا
وقولوا لجيران على الخيف من منى
تراكم من استبدلتمو بجواريا
ومن حلّ ذاك الشعب٣٨ بعدي وراشقت
لواحظه تلك الظباء الجوازيا٣٩
ومن ورد الماء الذي كنت واردًا
به ورعى الروض الذي كنت راعيا
فوا لهفتي كم لي على الحيّ شهقة
تذوب عليها قطعة من فؤاديا٤٠
صفا العيش من بعدي لحيّ على النقا
حلفت لهم لا أقرب الماء صافيا
فيا جبل الريان إن تعر منهمو
فإني سأكسوك الدموع الجواريا
ويا قرب ما أنكرتم العهد بيننا
نسيتم وما استودعتم الودّ ناسيا
أأنكرتمو تسليمنا ليلة النقا
وموقفنا نرمي الجمار لياليا
عشية جاراني بعينيه شادن
حديث النوى حتى رمى بي المراميا
رمى مقتلي من بين سجفي غبيطه٤١
فيا راميًا لا مسّك السوء راميا
فيا ليتني لم أعل نشزًا إليكمو
حرامًا ولم أهبط من الأرض واديا
ولم أدر ما جمع وما جمرتا منى
ولم ألق في اللاقين حيًّا يمانيا
ويا ويح قلبي كيف زايدت في مهًا٤٢
بذي البان لا يشرين إلا غواليا
ترحلت عنكم لي أمامي نظرة
وعشر وعشر نحوكم لي ورائيا
ومن حذر لا أسأل الركب عنكمو
وأعلاق وجدي باقيات كما هيا
ومن يسأل الركبان عن كل غائب
فلا بد أن يلقى بشيرًا وناعيًا
وما مغزل أدماء تزجي بروضة
طلا قاصرًا عن غاية السرب وانيا٤٣
لها بغمات خلفه تزعج الحشا
كجس العذارى يختبرن الملاهيا
يحور إليها بالبغام فتنثني
كما التفت المطلوب يخشى الأعاديا٤٤
بأروع من ظمياء قلبًا ومهجة
غداة سمعنا للتفرق داعيا٤٥
تودعنا ما بين شكوى وعبرة
وقد أصبح الركب العراقي غاديا
فلم أر يوم النفر أكثر ضاحكًا
ولم أر يوم النفر أكثر باكيا

هذه — أيها السادة — أنشودة القلب الحزين، وبها نختم الحجازيات، وكنت أحب أن أتناولها بالنقد والتحليل، ولكني عرضت لها قبل ذلك في مؤلفاتي عدة مرات، وما أدري أين عرضت لها؛ فقد كثرت مؤلفاتي وطالت، وربما كنتم تعرفون عن مؤلفاتي أكثر مما أعرف، فارجعوا إلى ما كتبت في تحليل هذه القصيدة إن كنتم تذكرون!

هوامش

(١) الغور: اسم لعدة مواضع.
(٢) الملح: جمع ملحة بضم الميم وهو ما يستملح ويستطاب.
(٣) يعطو: من العطو وهو التناول ورفع الرأس واليدين.
(٤) مغتفل: من الفغلة والمراد بها الإغفاء. والوخد: السير.
(٥) الغميم: موضع.
(٦) المغذ: المسرع.
(٧) المصلى: اسم موضع.
(٨) في الديوان (وبلاغ السلام بعد التلاقي)، والصواب ما أثبتناه.
(٩) الأنضاء: المهازيل.
(١٠) مرسى من أرسى إذا أقام، ومنه (مجراها ومرساها).
(١١) النفر: هو تفرق الحاج عن منى.
(١٢) السمرات بضم الميم: جمع سمرة وهو اسم موضع، والسمر في الأصل ضرب من الشجر.
(١٣) المختمرات: لابسات الخمار.
(١٤) السلمات: جمع سلمة بالتحريك وهي ضرب من الشجر.
(١٥) الركيب: مصغر ركب، وتخدي: تسرع.
(١٦) العائر: كل ما أعل العين، وفي الديوان (غائر) بالغين المعجمة وهو تحريف.
(١٧) القعب: بفتح فسكون هو القدح الضخم.
(١٨) تريع: ترجع.
(١٩) معارضة الركب: هي السير حيال الركب، وسلع بفتح أوله وسكون ثانيه: جبل أو موضع بقرب المدينة تتصل به قصة وجدانية، فقد سمع يزيد بن عبد الملك جاريته تغني هذه الأبيات:
لعمرك إنني لأحب سلعًا
لرؤيتها ومن بجوار سلع
تقر بقربه عيني وإني
لأخشى أن تكون تريد فجعي
حلفت برب مكة والمصلى
وأيدي السابحات غداة جمع
لأنت على التنائي فاعلميه
أحب إلي من بصري وسمعي
ثم رآها تتنفس الصعداء فقال: لم تتنفسين؟ والله لو أردته لفعلته حجرًا حجرًا. فقالت: وما أصنع به؟ إنما أردت ساكنيه!
(٢٠) شاط: احترق وهلك.
(٢١) الطلى بالضم: الأعناق وأصولها، المفرد طلية أو طلاة.
(٢٢) ضمن: فعل ماض من الضمنة بالضم وهي المرض.
(٢٣) أحد بضمتين: اسم جبل كانت به موقعة مشهورة جدًّا.
(٢٤) في الديوان (لبس) وهو تحريف.
(٢٥) ألا: كلمة تحضيض مثل هلا.
(٢٦) النعم بالتحريك وقد تسكن عينه: الإبل والشاء، أو هو خاص الإبل، والجمع أنعام.
(٢٧) العقابيل: بقايا العلة والعداوة والعشق، وما يخرج على الشفة غب الحمى، والشدائد. واحد الكل عقبولة وعقبول بضم العين، وهو ذو عقابيل، أي شرير.
(٢٨) لم يثبت الفاء في جواب الشرط للضرورة.
(٢٩) الخمص: ضمور البطن، والهضم بالتحريك لطف الكشح، والكشح: ما بين الخاصرة إلى الضلغ الخلف.
(٣٠) الريط: الثياب، واللمم جمع لمة بالكسر، وهي الشعر المجاوز شحمة الأذن، والمعنى أن الريح كانت تداعب العاشقين بمجاذبة الشعر والثياب.
(٣١) إضم على وزن عنب: جبل، والوادي الذي فيه المدينة النبوية يسمى أسفله إضم.
(٣٢) ولع الطل البرد: رقمه، والضال والسلم: مما تنبت البادية.
(٣٣) المراد بالعلم — بالتحريك — المكان المرتفع.
(٣٤) العنم بالتحريك: شجرة حجازية لها ثمرة حمراء يشبه بها البنان المخضوب.
(٣٥) المراد من أري الجنى عصير الفواكه ممزوجًا بماء الغيث. والوابل: المطر. والراذم: المتدفق.
(٣٦) اللمة بالفتح هي المرة من اللمام، أي المرور.
(٣٧) من أمم — بالتحريك — أي من قرب.
(٣٨) الشعب بالكسر: الطريق في الجبل، ومسيل الماء في بطن أرض، أو ما انفرج بين الجبلين.
(٣٩) الظباء الجوازي التي يغنيها العشب عن الماء.
(٤٠) ارجع إلى تحليل هذه المعاني في كتاب (مدامع العشاق).
(٤١) الغبيط على وزن أمير: هو المركب.
(٤٢) في الديوان (منى).
(٤٣) المغزل: ذات الغزال، والأدماء: وصف من الأدمة بالضم، وهي لون مشرب سوادًا أو بياضًا، المذكر آدم على وزن أفعل، وبه سمي أبونا آدم، ولم يكن بالتأكيد من الظباء! والطلا بالفتح: ولد الظبي حين يولد، والصغير من كل شيء، والواني: المتمهل من الضعف.
(٤٤) يحور: يرجع.
(٤٥) ظمياء: معشوقة الشاعر، وهو اسم اصطفاه الشريف وتلميذه مهيار، وبه سميت ظمياء وصيفة «ليلى المريضة في العراق» شفاها الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤