أحمد عرابي

سميت الثورة التي أعقبها الاحتلال البريطاني باسم الثورة العرابية؛ نسبة إلى زعيمها «أحمد عرابي» بطل الحرية والدستور في عصره. وهي نسبة صادقة وتسمية مطابقة؛ لأن زعامة عرابي لتلك الثورة كانت من مشيئة القدر التي لا محيد عنها، فلا حيلة فيها لعرابي نفسه ولا لأحد من أشياعه وأتباعه. وينظر المتأمل في تاريخها فيحار في اختيار اسم آخر يقترن بها ويقوم بأعبائها، فكأنما كانت قرعة ألقاها القدر فوقعت على عرابي دون غيره، وسيقت إليه كما سيق إليها من فعل الحوادث وفعل الزمن وفعل المصادفات التي تتوافى على قدر واتفاق.

لم يكن في الجيش المصري من هو أقدر من عرابي ولا أعرف منه بمطالبه وأحق منه بعرضها والدفاع عنها، وكانت حالة الجيش في ذلك العصر تلخص حالة الأمة المصرية في جملتها.

كان المصريون من الضباط قد برزوا في عهد «محمد سعيد باشا» وفي طليعتهم «أحمد عرابي»، وكان أول ضابط فلاح وصل إلى رتبة قائم مقام وعرف حقه في التقدم بالقياس إلى زملائه من الترك والشراكسة. ونكب الجيش بعد ذلك في حرب الحبشة من جراء عجز القيادة وغيرتهم من مرءوسيهم المصريين الذين أبلوا في تلك الحرب أحسن بلاء وشهدوا بأعينهم خيانة رؤسائهم وتواطؤهم مع الأعداء. فاعتقدوا أن التحقيقات التي أثبتت عليهم تهمة التقصير الشديد على الأقل سوف تنتهي إلى إقصائهم وتأخيرهم وترشيح مرءوسيهم للترقي إلى مناصبهم. فلم يكن شيء من ذلك بل كان نقيضه في مناصب الجيش وفي غيرها من المناصب الكبرى. وتمت البلية بتمكين المقصرين والمتهمين من الانتقام كما يشاءون ممن عرضوهم للملامة والاتهام.

fig4
أحمد عرابي باشا.

وقد لبث «عرابي» تسع عشرة سنة في رتبة القائم مقام، ووصل إليه الظلم حيث كان كلما تطلع إلى الإنصاف والمساواة. ومن ذلك أنه حرم نصيبه من الأرض التي أمر الخديو إسماعيل بتوزيعها على الضباط في إقليم الغربية وإقليم المنوفية. وكان الخديو قد دعا ضباط الجيش إلى وليمة عامة ثم أعلن بعد الفراغ من تناول الطعام أنه قد أنعم على كل واحد من الباشوات بخمسمائة فدان، وكل واحد من أمراء الألايات بمائتي فدان، وكل قائم مقام بمائة وخمسين فدانًا من زيادة المساحة.

قال «عرابي» في مذكراته: «ولكن عند الشروع في استلام تلك الأطيان ظهر الظلم وتجسم بأكمل معانيه، فقد كان يتوجه كل واحد من المندوبين من طرف المنعم عليهم بأمر من المديرية إلى بلد يختاره من أحسن البلاد تربة، ويطلب تحديد المقدار المعين قطعة واحدة في أخصب حوض من الأراضي المملوكة لأربابها، فيجاب إلى طلبه ثم يحال المالكون الضعفاء على الحيضان الأخرى التي توجد بها زيادة المساحة وقد لا توجد.»

إلى أن قال: «وقد حماني الله من الوقوع في شرك هذه المآثم على غير إرادة مني، وذلك أن خسرو باشا أمير اللواء … كان رجلًا جاهلًا متعصبًا لجنسه تعصبًا زائدًا عن حد المعقول. وكان قد أخبرنا ناظر الجهادية إسماعيل باشا سليم — الرومي الأصل — بأني صلب الرأي شرس الأخلاق … وطلب منه توقيف تسليمي الأطيان المنعم بها عليَّ لحين تحقيق ما افتراه من الكذب، فعرض ناظر الجهادية الأمر على الخديو مشافهة وصدر بناءً على ذلك أمر المعية لمديرية الغربية بعدم تسليمي تلك الأطيان.»

ولُفقت لعرابي تهمة ثبتت براءته منها بعد أن عرضت أوراقها على «إبراهيم باشا خليل» رئيس قلم العرائض، ولكنه ظل — بعد ثبوت براءته — ثلاث سنوات يتردد على الديوان ويطلب إعادته إلى الخدمة ولا يجاب إلى طلبه، ثم أعيد إلى الخدمة المدنية ولم يصدر الأمر بإعادته إلى الخدمة العسكرية إلا بعد أربع سنوات.

لقد أصاب الرجلَ كلُّ ما أصاب قومَه من الحيف وابتلى الضنك في نفسه وصحبه، وأقامته الحوادث هدفًا للاضطهاد من جانب الأقوياء وقبلة للرجاء من جانب الضعفاء. وكان ولا شك رجلًا ممتازًا بكفاءته وخلقه ملحوظًا حيث كان باستقامته واقتداره، ولم يعهد إليه عمل من الأعمال المدنية أو العسكرية إلا أبدى فيه من الاجتهاد وحسن التصريف ونزاهة القصد ما يشهد به المنصفون من رؤسائه وزملائه، وبعض هذه الأعمال غريب عن تربيته ونشأته، كوقاية الجسور وبناء القناطر وتسليم المحصولات، فلم يؤخذ عليه عيب من عيوب الإهمال أو التواني أو الاختلاس التي كانت فاشية في زمنه. ووضحت كفاءته الممتازة لكل من خبروه ولازموه في حياته العامة أو الخاصة. ولا ريب أن الوالي «سعيد باشا» قد لمح فيه هذه الكفاءة الممتازة حين خصه بهدية عجيبة في بابها وأسلوبها ولكنها كبيرة الدلالة في مغزاها؛ إذ أهدى إليه نسخة من سيرة نابليون الكبير مترجمة إلى اللغة العربية، ولم يعرف عنه أنه أهدى مثل هذه الهدية إلى أحد من ضباط جيشه وهم ألوف، وقد تكلم عنه الضابط الأمريكي داي صاحب كتاب «مصر المسلمة والحبشة المسيحية»، فقال: «إنه خليق أن يكون من خيرة الضباط في غير البلاد المصرية.»

ويلوح لنا أن الرجل مخلوق من طينة العبقرية التي يمتحن صاحبها بشقوتها كما يمتحن بنعمتها وفضلها، ففي رأي «لمبروزو» وغيره من علماء المدرسة النفسانية التي عنيت بدراسة الممتازين والنوابغ، أن العبقرية تمتزج بالأعراض العصبية، وقد رأى لمبروزو من دراسة نابليون الكبير نفسه أنه مثل لهذه الطبيعة Epileptoid Nature ورأى من دراسة القادة والزعماء أن عقولهم تتقبل البدوات والأعاجيب وتولع بالأسرار والخفايا. ومن قصة عرضية وقفنا عليها في خلال أجوبة عرابي على أسئلة المحققين يظهر لنا أنه لم يسلم من ضريبة العبقرية كما فرضتها الفطرة على نظرائه؛ فقد قال عن حادثة تفتيشه بعد القبض عليه: «صار يفتشني حتى أخرج الجزمة من قدمي وفتشها أيضًا فلم يجد معي شيئًا إلا جملة أحجبة كانت تحت ملابسي، وهي ليست بشيء وإنما كان حملها بسبب أن أولادي كانت تموت بداء التشنج في حال الصغر ولم تجدهم نفعًا أدوية الحكماء، ففزعنا — وعلى حسب اعتقاد الناس في التحفظ على الأولاد — بحمل تلك الأحجبة، وبالواقع حفظهم الله بسبب ذلك …»

على أن العلامة التي لا تخطئ من علامات العبقرية هي «الخصوبة الذهنية» وهي أن يثمر الذهن محصولًا وافرًا من بذور قليلة. وقد كانت الدروس التي تلقاها «عرابي» في صباه قسطًا مشتركًا بينه وبين كل صبي من صبيان القرى؛ حضر مبادئ القراءة والحساب وما إليها في الكتاتيب وأروقة الأزهر المعدة للمبتدئين، ولكننا نقرأ أقواله في الحكم النيابي والمبادئ الديمقراطية والحقوق العامة وقواعد الإدارة والنظام، فيتمثل أمامنا حظ وافر من الفهم والمعرفة لا يتهيأ للكثيرين ممن أحاطوا بالمعلومات المستفيضة في هذه الشئون.

ولد هذا الزعيم في عصر يتمخض بالأحداث الجسام — ١٨٤١ — وكان مولده بقرية «هرية رزنة» من إقليم الشرقية، وأبوه السيد «محمد عرابي» عالم تقي ينتمي إلى الحسين بن علي رضي الله عنه، ويبذل ماله القليل في عمل الخير ومواساة الفقراء من أبناء قريته. وقد أنشأ لهم مكتبًا يتعلمون فيه، كان ابنه «أحمد» من تلاميذه. ثم دخل «أحمد» للجندية خلافًا لعادة الوجهاء الذين كانوا يحتالون على الخلاص من التجنيد بما وسعهم من الحيل وهي كثيرة في ذلك الزمن، فانتظم في الجيش جنديًّا بسيطًا وترقى في صفوفه بكفاءته واجتهاده. وكانت تبدو عليه مخايل الزعامة من نشأته الباكرة، فأحاط به رفاقه والتفت إليه رؤساؤه. واتفق في تلك الأيام أن تولى الإمارة «محمد سعيد باشا»، وأنه كان عظيم السخط على كبار الرؤساء؛ لأنهم اشتركوا في اضطهاده أيام ولاية «عباس باشا الأول»، فأعرض عنهم وأقبل على الناشئين من المصريين يشجعهم ويكافئهم بالترقية والعناية، فكان «أحمد عرابي» صاحب النصيب الأول من عنايته، وكان كما تقدم أول مصري وصل في الجيش إلى رتبة «قائم مقام»، وكانت ترقيته إلى رتبة الملازم بالامتحان أمام لجنة من الخبراء العسكريين. ثم تتابعت ترقيته في عهد سعيد وذهب إلى الحبشة في عهد إسماعيل وهو «قائم مقام»، فكانت له في الحرب الحبشية صفحة مشرفة بشهادة الأجانب والحبشان أنفسهم، ولم يرتقِ إلى الرتبة التي تليها إلا بعد تسع عشرة سنة في أيام الخديو توفيق، وقد ظلت فرقته خالية من رتبة «أميرالاي» ثماني سنوات وهو لا يرقى إليها.

ويعنينا من تاريخه في هذا الكتاب ما يرتبط بعلل الثورة ويساعد على تفسيرها. وخلاصة مواقفه منها أنه زج فيها ولم يكن له محيد عنها، وأن أول ما أخذ عليه أنه تظلم من الحيف فلم يغتفر له هذا التظلم، وهو أهون ما ينتظر من ذي كرامة لقي ما كان يلقاه هو وزملاؤه، ولم يزل بمرصد للانتقام منذ وقع عليه الظلم فشكاه.

وليس في تاريخه ما يدل على أنه كان يتطوع للشكوى بغير سبب ملجئ إليها، فلما حدثت أول مظاهرة للضباط حول وزارة المالية في وزارة «نوبار باشا»، أقحم خصومه اسمه في الحركة ولم تكن له يد فيها؛ لأنه كان في دمياط وعاد منها ليلة وقوع المظاهرة، وقضى يومها وهو مشغول بتسليم عهدته في مخازن الوزارة.

ولما اعتقل هو وزميلاه «عبد العال حلمي» و«علي فهمي» — أول فبراير سنة ١٨٨١ — لم تكن فرقته من الفرق التي هجمت على معسكر قصر النيل لإنقاذهم من الموت المحقق، ولكنه اشترك مع الفرق التي توجهت بعد الإفراج عنهم إلى قصر عابدين لرفع خبر المكيدة المدبرة لهم إلى مقام الأمير.

وقد صدر الأمر بإقصائه عن القطر زمنًا، وهو يعلم أن النتيجة المحققة لإخلاء مكانه هي التنكيل بكل من شاركه في طلب الإنصاف، وتشتيت شمل المتظلمين والمتطلعين إلى الإصلاح. فبقي في مكانه ليصيبه ما يصيب زملاؤه ومرءوسيه، أو تكتب لهم السلامة أجمعين.

ولو انحصرت شكايته في مظالم الرتب والوظائف لكان حكم التاريخ عليه وعلى أصحابه أنهم أناس لا يعنيهم من صلاح الحكم إلا زيادة المرتبات والأرزاق، ولكنهم طلبوا إصلاحًا لم يكن في مصر كلها من لا يطلبه ولم يحل بينهم وبين تحقيقه إلا هوان شأن المصريين على الأجانب المسلطين عليهم، وأولهم أصحاب الديون.

ففي الوقت الذي رصد فيه الحاسبون والخبراء كل مورد في مصر لسداد كل مليم من الديون الأجنبية، عمدوا بجرة قلم واحدة إلى إلغاء دين المقابلة وقيمته سبعة عشر مليون جنيه؛ لأنه دين وطني يستحقه المصريون ولم يساهم فيه الأوروبيون، وألغوا كذلك أسهم المصريين في الدين الوطني وقيمتها خمسة ملايين.

وخلاصة دين المقابلة هذا أن الحكومة المصرية أعلنت في عهد الخديو إسماعيل أنها تعفي من نصف الضريبة كل من يسدد الضرائب دفعة واحدة عن ست سنوات، فلما أشرف الأجانب على الميزانية وحسبوا حسبتهم لتوفير أقساط الديون الأوروبية، أسقطوا هذا الدين كله وقرروا تحصيل الضرائب كاملة على جميع أصحاب الأطيان، فوجب على نحو مليون مصري أن ينهضوا بخسارة اثنين وعشرين مليونًا بغير عوض وأن يغرموا ضرائبهم في كل سنة بالعصا والكرباج، وهناك إحدى النكبات المتراكمة التي جمعت كلمة الأمة بأسرها على ضرورة الإشراف على ميزانية الدولة صونًا لأقوات المصريين في زمن عزت فيه الأقوات وكسدت فيه الأسواق وأحاطت فيه الآفات بمحصولات الزراعة، فلم يكن هذا الإجماع بدعًا في رأي أحد لم يسقط المصريين عنده من كل حساب.

بدأت الحركة التي سميت بعد ذلك «بالعرابية» منذ رفع الضباط المصريون عريضتهم يلتمسون العدول عن أوامر وزير «الجهادية» التي قضت بمنع الترقية من تحت السلاح، وتفريق الضباط الذين حصلت ترقيتهم قبل ذلك في جهات الأقاليم. وقد طلبوا فيها عزل وزير الجهادية وتقرير مبدأ الترقية بالامتحان والاختبار، فعولت الوزارة على محاكمتهم وفوضت إلى وزير الجهادية «المطلوب عزله» أن يتولى عقابهم بنفسه. فدعا الضباط الثلاثة الذين وقَّعوا العريضة — وهم أحمد عرابي وعلي فهمي وعبد العال حلمي — إلى ثكنات قصر النيل كأنهم يدعون إلى كمين، وقيل لهم: إنهم مدعوون للاحتفال بزفاف الأميرة «جميلة هانم» شقيقة الخديو. فلما ذهبوا إلى الثكنات أحاط بهم الضباط الشراكسة الذين اجتمعوا هناك من رتبة الملازم إلى رتبة الفريق، وجردوهم من سيوفهم وساقوهم إلى حجرات الاعتقال ريثما ينعقد المجلس العسكري للمحاكمة. ولكنهم كانوا قد أوجسوا خيفة مما وراء هذه الدعوة واتفقوا مع زملائهم على المبادرة إلى إنقاذهم إن أحسوا الخطر على حياتهم، فأسرعت فرقتان من رجال الحرس الخديو إلى الثكنات وكادت تكون مذبحة لولا أن «عرابيًّا» وقف بين الجند والضباط الشراكسة ونهاهم أن يمسوهم بسوء. وانضمت فرق أخرى إلى الفرقتين وتوجهوا جميعًا إلى قصر عابدين؛ حيث عرضوا مطالبهم من جديد، فصدر الأمر بعزل وزير «الجهادية» وتعيين «محمود سامي البارودي» لهذه الوزارة، وتأليف لجنة للنظر في أحوال الضباط والجنود، وكان مرتب الجندي لا يزيد في الشهر الواحد على ريال.

ثم عُزل «محمود سامي باشا» ولما يمضِ على تعيينه ستة شهور وعُين «داود يكن باشا» في مكانه. وظل كل فريق يتربص بالفريق الآخر ويرتاب في مقاصده وأعماله، واتسعت الهاوية بينهما حين فوجئ غلام شركسي يدس السم في طعام «عبد العال حلمي» وقد كان وصيًّا عليه؛ لأنه ابن زوج حرمه المتوفى. وانكشفت مؤامرات شتى للإيقاع بالضباط المصريين، وأحيطت منازلهم بالحراس والجواسيس، وصدر الأمر من وزير الجهادية الجديد بمنع التزاور في البيوت ومعاقبة كل ضابطين يسيران معًا في الطريق. وتتابعت المواعيد بتنفيذ قوانين الإصلاح وإجراء الانتخاب لمجلس النواب. وشاع أن مندوب إنجلترا مستر «ماليت» يتردد على الديوان العالي وعلى الوزارة لإرجاء الانتخاب والاعتراض على إنشاء مجلس النواب.

وكانت الحركة في هذه الأثناء قد شملت المدنيين والعسكريين، فأبلغ كبار الضباط الديوان العالي أنهم حاضرون مع فرقهم — في اليوم التاسع من سبتمبر سنة ١٨٨١ — للشكوى من تأخير تنفيذ القوانين وإعلان الدستور. فأشار مستر «كوكسن» قنصل إنجلترا في الإسكندرية على الخديو بالخروج لمقابلتهم واستدعاء عرابي إلى مقربة منه ثم إطلاق النار عليه، ولكن الخديو تردد في العمل بمشورته. ولم يصغِ إليه حين استعجله وهو واقف إلى جانبه في ميدان القصر، واكتفى بأن أمر عرابيًّا بالترجل، ثم سأله: لماذا حضرت إلى هنا؟ فأعاد عرابي بيان المطالب؛ وهي: إقامة وزارة دستورية وافتتاح مجلس نواب وإبلاغ الجيش إلى العدد المنصوص عليه في الفرمانات. وجاءت كلمة العبيد على لسان الخديو، فقال عرابي: «لقد خلقنا الله أحرارًا ولم يخلقنا تراثًا وعقارًا.»

عهد الخديو إلى «محمد شريف باشا» بتأليف الوزارة والاستعداد للانتخاب، ونمى الخبر إلى الآستانة، فتخوف السلطان من سريان العدوى إلى بلاده وقيام الأمة هناك بحركة كهذه الحركة للمطالبة بالحكومة الدستورية، فقدمت إلى مصر بعثة «علي نظامي باشا». واتفق الرأي على إقصاء عرابي عن القاهرة، ولكنه أرجأ سفره إلى أن يصدر الإعلان عن موعد الانتخاب. ولم يلبث أن أُعيد إلى القاهرة؛ لأن الأقاليم التي مر بها جميعًا أسرعت إلى موكبه تهتف له وتنادي بحياته، وهرع إليه طائفة من الأعيان والشبان يتبعونه حيثما سار.

وغضبت إنجلترا وفرنسا لاستجابة الخديو إلى مطالب الأمة، وأصر النواب على مراجعة الميزانية، وأراد «شريف باشا» أن يتوسط في الأمر بعرض جزء منها على المجلس وإبقاء جزء منها في رقابة المندوبين الأوروبيين؛ فاستقالت الوزارة حين تعذر التوفيق بين موقفها وموقف النواب والأمة، وقامت وزارة غيرها برئاسة «محمود سامي باشا»؛ إذ اشترك فيها عرابي وزيرًا للجهادية — فبراير ١٨٨٢ — فأرسلت الدولتان «لائحة» أو مذكرة تطلبان فيها إقصاء عرابي من القطر وإقالة الوزارة — ٢٥ مايو ١٨٨٢ — وعلم رئيس الوزارة أن الخديو قبل المذكرة، فاستقال محتجًّا على تعرض الدول لشئون الحكومة الداخلية، وجاء الأسطولان الإنجليزي والفرنسي يعززان هذا التصرف بالإنذار والتهديد.

حدث هذا في السادس والعشرين من شهر مايو، ولم ينقض أسبوعان حتى وقعت مذبحة الإسكندرية في الحادي عشر من شهر يونيو، وكانت منتظرة — أو كأنها منتظرة — لأنها تمام التدبير الذي بدأ بذلك النذير.

كان في الإسكندرية يومئذٍ محافظ يسمى «عمر لطفي باشا» لم يحرك ساكنًا لاتقاء هذه المذبحة أو وقفها قبل تفاقمها واستشرائها، وسئل في ذلك، فقال أنه تلقى أمرًا من «عرابي» بالكف عن كل عمل في ذلك اليوم … ولكن كذب الرجل ينجلي من أمرين لا يقبلان اللبس والمكابرة: أحدهما أنه دخل الوزارة على أثر ذلك توًّا وزيرًا للجهادية، والآخر أن «أحمد عرابي» لم تكن له مصلحة في الفتنة، بل كانت الفتنة حربًا عليه وحجة لمن أرادوا أن يسجلوا عليه القصور في حماية الأرواح والأموال وحفظ الأمن والنظام.

وغني عن القول أن الأسطول الإنجليزي لم يأتِ إلى الإسكندرية ليرجع أدراجه كما أتى، فقد طلب قائد الأسطول الإنجليزي وقف الترميم والتسليح في قلاع الميناء، ثم طلب تسليم تلك القلاع ليحول بين الحامية المصرية ومعاودة الترميم بعد وقفه، وزعم أنه يدفع الخطر عليه من تلك القلاع، وهو الخطر الذي لم يشعر به الأسطول الفرنسي الواقف إلى جانبه. فانقسم الساسة وذوو الرأي إلى فريقين: فريق يرى التسليم وفريق يعارضه، ومنه «درويش باشا» مندوب الباب العالي الذي حضر من الآستانة في تلك الأيام وحجته أن تسليم الحصون المصرية أمر لا يملكه الخديو بموجب الفرمانات، وكان «عرابي» من المعارضين؛ لأن نية الافتيات ظاهرة من الطلب المتعسف فلا فائدة تجنيها البلاد من إجابة القائد إليه.

ولا ريب أن مجال القيل والقال هنا متسع لأصحاب الحكمة الخالدة: حكمة ماذا يجري لو كان؟ وماذا يجري لو لم يكن؟ وماذا تصنع حين ينتهي كل صنيع؟

فقد قيل يومئذٍ، ولا يزال يقال إلى اليوم: إن معارضة «عرابي» في تسليم القلاع هي التي جرت إلى الاحتلال، مع أن تسليم القلاع هو الاحتلال بعينه مقبولًا برضى الجميع من غير مقاومة ولا اعتراض.

وقد استمر «عرابي» يقاوم بما عنده من وسائل المقاومة إلى ما بعد ضرب الإسكندرية في الحادي عشر من شهر يوليو، ولم يكن نجاحه في صد الجيش الإنجليزي ميئوسًا منه، بل كان على نقيض ذلك أملًا راجحًا لولا الأوامر التي صدرت بمساعدة الجيش الإنجليزي، ولولا خيانة المأجورين على هداية ذلك الجيش في دروب الصحراء، ولولا إعلان السلطان عصيان «عرابي» بإلحاح من الإنجليز.

فمن شاء أن يلوم الرجل فليلمه؛ لأنه طلب الإصلاح وتعرض للانتقام، أو فليلمه لأنه رفض الدسائس والذرائع المختلفة من الدول الأجنبية، وليقم الدليل القاطع على أن الخير كل الخير في اجتناب ذلك الملام.

إنما يلام «عرابي» في اعتقادنا؛ لأنه ضعف في منفاه واستسلم لإغراء المحتلين الذين أطمعوه في العفو، ثم أرسلوا إليه من يسأله عن إلغاء السخرة وتنظيم الإدارة وإصلاح الأرض، فحمد الله لأنه أراد شيئًا حققه الزمن. ولكن الرجل الذي أفضى بذلك الحديث كان شيخًا فانيًا خابت آماله في أبناء قومه فلم يكفهم ما أصابه من أجلهم حتى جبهوه بوصمة الخيانة وهو براء منها. ولم يكن سعي الإنجليز في العفو عنه إلا لأنهم يستندون إلى فساد الحكم للبقاء في البلاد، فليس في وسعهم أمام العالم المتمدن أن يقضوا بالإعدام على رجل ضاق ذرعًا بالفساد وتمرد عليه، ولئن حق عليه اللوم بعد هذا لأحق منه باللوم من فتحوا الصدور للاحتلال وتقبلوه بالترحيب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤