أغاني الجنود

ارجعوني إلى بلادي، فقد اشتاقت نفسي سماء بلادي.

ارجعوني إلى الشاطئ البهيج ذي الرمال البيضاء، حيث تمرَّغت طفلًا، وحلمت فتًى، وأحببت شابًّا، وأنجبت كهلًا.

ارجعوني أسمع نشيد الأمواج تردده البحار منذ مئات الأجيال، فيتخدَّر دماغي، وتسكر مخيلتي، وأحسب نفسي قطعة من الخلود، وقسمًا من الجمال.

•••

ارجعوني إلى لبنان فأرى بناته يقطفن العنب والتين، ويستقين المياه العذبة من الينابيع، ويرجعن عند الغروب أسرابًا تمر بين الصنوبر فتختلط أصواتهن الحلوة بحفيف الأوراق، ونقيق الضفادع، ورنة الناقوس على التلال البعيدة.

ارجعوني، ارجعوني، أرجعوني ساعة أسمع هذه النغمات فيدق لها ناقوس قلبي.

الجنديُّ الشيخ

أنا كهل جاوزت الخمسين، سحبت جنديًّا وقد كاد ظهري أن ينحني،\ فتركت مدينة آبائي وسرت بين يدي ضابط صغير خليع أمسح حذاءه، وأطعم فرسه، وأنا سيد في قومي، أمير بين بني عشيرتي.

مشيت نهارًا وليلًا، وليلًا ونهارًا، حتى حسبت أن ليس للعذاب آخر، مشيت على الجليد وجررت ثقل الحديد، وتساءلت: رباه! أما للظلَّام زاجر؟!

ارجعوني إلى قريتي فأجلس أمام الموقد، وأرى أولادي وأحفادي يلعبون فيمثلون شخصي آن كنت صبيًّا …

ارجعوني، يلامس قلبي قلوبهم الخضراء فأعود فتيًّا …

ولكن هل يهمكم إفراح الحياة يا من تعيشون لسلب الحياة؟

الجنديُّ الشاب

أنا شاب، جُررت إلى الخنادق، وكُلفت حصد النفوس، فحصدت، وحصدت، وحصدت.

حصدت حقولًا أغراسها شبان وفتيان.

حصدت شبيبة قوية، نشيطة، منظمة، عالمة متفننة، كل ما في أوروبا من الجمال والقوة والعلم والفن كله مرَّ أمام الآلة التي حصدَتْ ولم ترحم.

حصدت البستان، تلو البستان، تلو البستان.

كأنه سباق بين الأمهات ومعامل كروب.

هذه ترمي ألوف القنابل، وتلك حبَّات القلوب.

حصدت وحصدت حتى ذابت حشاشتي من منظر الدم فصرخت: رباه! أما للجور قاهر؟!

ارجعوني إلى بيتي فأرى عروسي الصبية وطفلي الصغير، هل عرف رجلٌ قبل اليوم معنى ابتسامة المرأة، وقبلة الولد في الصباح والمساء؟

هل درى أن في عيون الأطفال آية من ألحان السماء؟

ارجعوني فقد تاقت نفسي لملامسة خدٍّ صغير نعوم.

ارجعوني لأشعر بوجود النعيم.

تبارك خالقه الجبار العظيم.

ولكنَّ نعيمكم دم وسماءكم صواعق.

ولكنَّ نعيمكم للإنسان جحيم.

الجنديُّ الفتى

أنا فتًى اقتطعوني من صدر أمي، وأمي عروس بين البنات، وفلة بين زنابق المروج.

جرُّوني وأنا صغير، فكُلِّفت حمل الجرحى تحت صواعق الفولاذ الأحمر وأنا لم أتعود رؤية الدم.

أمي حنون تبكي لذبح العصفور، وقد ربيت في أحضانها، ولا أب لي يعلمني الخشونة، فنشأت نحيفًا حساسًا تسيل دموعي كدموع البنات.

أناموني على الحضيض وفي الوحول، ومذ رأت عيناي النور أنام في سرير أمي، وسرير أمي شيء كعرش سلطان له ملاءات كتانية، وستائر من حرير، وغدائر أمي الشقراء تملأ الوسادات، وتقيني البرد في ليالي كانون.

خذوني إلى خدر أمي وإلى أنفاسها النقية، خذوني! إن في نظرات النساء نعيم الحياة، وفي نبرات أصواتهن أناشيد الخلود.

الجنديُّ المتطوع

وأنا رجل من لبنان، هاجرت في أول أمري إلى حيث يقذف الشقاء أبناء الشرق المسكين.

فكنت أسد رمقي وأرسل من وراء البحار ما يقوم بأود عيالي.

وبغتة هتف البوق، وسُدَّت البحار، فتطوعت مع المتطوعين ورميت بنفسي داخل البركان البشري كي أموت فلم أمت.

وسكت النفير فأرجعني قائدي إلى بلادي.

فسرت إلى قريتي وفتشت عن بيتي، فرأيت مكانه أربعة جدران متداعية، دخلت من المكان الذي كان في سالف الزمان بابًا، ونظرت في إحدى الزوايا بقايا الموقد وفوقها آثار الدخان.

ورأيت على جدارٍ شيئًا أشبه بأزهار صناعيَّة كانت تعلقها زوجتي حول أيقونة العذراء، وتحت الأيقونة كانت تضع سرير الأطفال.

فجلست مكان ذلك السرير، ورفعت نظري فوقع على المسرجة.

فتذكرت نور السراج الزيتي الهادي، وأغاني أمي لأخي الصغير، ورقص الصبيان أترابي ليلة العيد.

وذكرت منظر النار في الموقد، وصوت الرياح تقصف خارجًا.

وذكرت وجه زوجتي، وعنقها الممتلئ، وصوتها الرخيم يحدو أغنية الأمهات، وحسبت أنني أسمع صوت السرير الخشبيِّ ذاهبًا آيبًا.

فهرولت مسرعًا من ذلك المدفن الذي ضمَّ حبي وآمالي وآلامي، وذهبت إلى الكاهن الشيخ وسألته عن عيالي، فروى لي الحكاية التي سيرويها التاريخ عن اللبنانيين واللبنانيات!

باعت زوجتي حلاها وثيابها وفراشها، ثم قطعت أغراس الزيتون في البستان، ثم باعت البيت وأكلت ثمنه، وبعد هذا نزلت إلى بيروت مدينة الذهب والفضة، مدينة الجمال والحب، مدينة العلم والدين، مدينة الأدب والأدباء، مدينة الهياكل والمدارس.

ومدينة الخلاعة والفساد والظهور والرياء.

نزلت زوجتي حاملة صغارها، فتعلقوا بأذيالها وتبعوها في الأسواق، فاستعطت وأطعمتهم، وجاعت وأشبعتهم، حتى هزل منها اللحم وبرز العظم، فانحطت قواها ومات فيها الإنسان، ماتت فيها نتيجة تهذيب المئات من السنين.

وسرقت فسُجنت في الدائرة، ولما خرجت تعلَّق بها صغارها، فرمتهم وسارت في الأزقة المظلمة محتفظة بالصغير إلى أن مات الصغير، فحملته وأرته للناس ميتًا، فأشفقوا عليها، ولمَّا رموها بشيء طرحت الميت وجلست تأكل بنهم الوحوش.

وأخيرًا حُمَّت ودنا الأجل، فجرَّت نفسها إلى القرية وماتت أمام عتبة الباب.

قيل في القدم: هنيئًا لمن له مربض عنزة في لبنان! تعالوا، تعالوا يا عابري السبيل رثوا أرز لبنان، وبساتين لبنان، وعيون لبنان.

تعالوا اشتروا السهل والوعر بلا فضة وبلا ثمن، تعالوا فقد بيع البيت والبستان بربع قنطار من القمح، هلمُّوا لشراء الجواري والعبيد، فقد بيعت المرأة بريال، والابنة برغيف!

أنشودة المهاجر

ارجعوني إلى لبنان! إلى أديمه وسمائه، إلى ثلوجهِ ومائهِ، إلى وديانهِ الجليلة، وآكامه الجميلة، وغاباته الخميلة، ارجعوني إلى لبنان!

•••

إن الحياة لفي أشعة الشمس البارزة من وراء جباله.

والحب يدب خلال أنوار البدر الساطعة فوق تلالهِ.

إن العبادة لفي ليلةٍ من لياليه المقمرة وقد تفضَّض الجو والأديم.

وسجدت عناصر الكون ليهوَه القديم!

إن الخشوع لفي نظرة إلى أشجاره الباسقات.

تشابه ليلًا أشباح الجبابرة المرعبات.

كل ما فيك يا لبنان يهيب بالنفس إلى العبادة والأمل.

قباب أديارك القديمة وهي ترسل مساءً أصوات النواقيس، وخرير مياهك تتدفق في الوديان، ودبيب الهواء بين أوراق الزان، وهمس النسيم في مباسم الغزلان.

كل ما فيك يا لبنان حبيب وجميل.

هدير العاصفة تكسِّر شتاءً ضعيف نبتك يُمثِّل جلال رواسيك الشوامخ وقد وقفت صامتة تهزأ بالدهور.

والثلوج على نواصيك تذوب في قلبك وتغور لتتفجر من عيونك أنهارًا وينابيع، رموز أزلية لناموس التجدد الكامن فيك، والنبات الأصفر الذابل اليابس على جوانب طرق العربات دليل على وجود الحياة في تلافيف تربتك يا لبنان.

حتى واللثام على رءوس العذارى مثال أبديٌّ للفضيلة الكامنة في نسائك، والفضيلة في نسائك هي دعامة حياة بنيك يا لبنان.

•••

هل أعيش لأرى الحياة تدب بين بنيك؟

رأيت الموت ناشرًا أجنحته السود فوق كل ذي حياة فيك!

رأيت الحياة تتمرغ في الأقنية والأقذار، رأيت الشبيبة تمشي إلى الفناء وقد مات فيها نشاط الإنسان.

رأيت الأطفال تقطع من كبد الإنسانية وترمى في سلسلة الحيوان.

وآه! كم تفتتت نفسي على ما كان يجري فيك يا لبنان!

فتحت عيني للنور وكانت أغاني طفوليتي أهوال سنة الستين، ففزعت لبني أمي، ونشأت نافرًا من السفاحين، كارهًا للمتعصبين، وكبرت فألفت حياة الشرق! وبحثت، ولما تفهمت أشفقت على الذابحين، وأحببت الجاهلين.

•••

كبرت فإذا شبان بلادي يهاجرون بالعشرات والمئات والألوف، ثم يرجعون فيأخذون من شابات البلاد زهرات يانعات عطرات.

وهناك في أرض المهجر تنمو غريبة عيال لبنان، متبعثرة في أنحاء المعمورة من كندا إلى المكسيك إلى الأمازون إلى الشيلي إلى أستراليا.

أعيدوا لي بنيَّ يقول: لبنان، أعيدوا لي عيالي، أرجعوا لي أمتي، عودوا إليَّ فأجدد كياني القديم في الشرق القديم.

•••

كبيرًا كنت أو صغيرًا فأنت أنت يا لبنان.

ولئن فصلتك جراحك الدامية عن سوريا فأنت عين سوريا وقلب سوريا. هو ذا بنوك في المشارق والمغارب «بنوك آن كنت صغيرًا» يحملون النشاط في قلوبهم، والأنفة في نفوسهم.

بنوك نفخوا في الشرق نسمة التجدُّد فتكهرب بها الشرق من سوريا إلى النيل إلى الجزيرة إلى العراق.

وبنوك، يا لبنان، سيحملون في الغد فكرة الاتحاد المجيد.

من على رواسيك ستبعث الحياة الجديدة إلى الشرق الجديد وفي وديانك ستنشأ فكرة اندغام عناصر سوريا ولبنان، اندغامًا لا يحله الجهل.

ولا تُفرِّقه الأديان.

•••

ارجعوني إلى لبنان! إلى أديمه وسمائه، إلى نسيمه ومائه، إلى آكامه الجميلة، إلى غاباته الخميلة، ارجعوني إلى لبنان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤