بابل في سوريا

كنت أعد — على أصابعي — لئلا أغلط بالعد فيضيع الحساب، عددت:
  • حزب الاستعمار الإنكليزي.

  • حزب الاستعمار الفرنسوي.

  • حزب الاستقلال مع الوصاية الإنكليزية.

  • حزب الاستقلال مع الوصاية الفرنسوية.

  • حزب الاستقلال مع الوصاية الأميركية.

  • حزب الاستقلال التام الناجز بلا وصاية.

  • حزب الضم.

  • حزب الفتح.

  • حزب التجزئة، والساحل، ولبنان الكبير، ولبنان الصغير، ولبنان الأصغر.

قلت: أفٍّ! يكاد نفسي أن ينقطع.

فقال لي جليسي — وكان ضليعًا في السياسة: استقلالنا سنأخذه تامًّا، تامًّا … لا رقابة ولا وصاية. نريد أن نستجلب من أوروبا اختصاصيين لتعليمنا طريقة الأحكام، اختصاصيين بالأجرة من أي صقع ومن أي قطر نريد.

من بلجيكا وهولانده وسويسرا وأسوج والدانمرك.

وكاد يقول: حتى ومن داهومي.

قلت في نفسي: هذا حزب جديد أعده مع الأحزاب، أما اسمه فسيكون حزب بابل أو التبلبل أو البلبلة …

ما شاء الله …

ولم أتمالك نفسي فغضبت غضب رجال الصلاح، ونفثت من أعماق روحي نفثةً أحملها منذ أربع سنوات وتكاد أن تقتلني.

قلت له: إن الشعب الذي لا يعرف أن يقول: لا أريد، لا يحق له أن يقول: أريد …

سنون أربع أذابت منا الشحم واللحم، أفنت الأعصاب، ودقت العظم، ونحن وقوف نتفرَّج ولا نعرف أن نقول: لا نريد.

لا نريد أن تستبيحوا أموالنا.

لا نريد أن تشلوا تجارتنا.

لا نريد أن تميتوا أطفالنا جوعًا.

سنون أربع وأطفالنا تحشرج في الأقنية والمزابل، وقد مسخها الشقاء، فشابهت السعادين والقرود، بل بقايا عاد وثمود.

من هو طفل محمد مصطفى من البسطة، وطفل يوسف توما من شنانعير؟

هما طفلاي أنا، بحكم الأمومة التي حوَّلت ألياف قلبي وجعلتها أوتارًا حساسة رنانة، هما طفلاي أنا وطفلا كل امرأة شرَّفتها الأمومة، فإذا كنت وأنا أم لا أعرف أن أشفق على طفل جاري؛ فقد سقط عني لقب الأمومة الإلهي.

طأطأنا الرءوس وعفَّرنا الوجوه، بذلنا الأموال وفلذات الأكباد، ولكننا ما عرفنا أن نقول: لا نريد؛ خفنا من المشنقة ومن النفي، كأن الحكومة البائدة كانت قادرة أن تشنق أو تنفي كل أهل بيروت والشام لو اجتمعوا في يوم واحد وصرخوا بصوت واحد: لا نريد!

قابلت مرة ضابطًا إنكليزيًّا وضابطًا إفرنسيًّا كانا ذاهبين إلى قونية في أوائل الاحتلال، قلت لهما: كل بقايا الجيش التركي موجودة في قونية، أفلا تخافون غدرهم وأنتم حفنة؟ فأجابني كلٌّ بلغته — كأن كل واحد يترجم أفكار الآخر: «وأي مصيبة تحدث إذا قُتلنا في وديان الأناضول؟ ألا تعلمين أن كل ضابط يقتل هو سلاح جديد يضعه الأعداء في يد الحلفاء؟»

هذه شعوب تقدر أن تقول: نريد، بحكم الله وأوامره، والعمران وشرائعه، والتاريخ وآياته التي لا تقبل الرد والتحوير.

وخفت أن يفسر سامعي هذه الكلمات على غير معناها، فقلت له: استقلالنا أعطي لنا بحكم ظروف فاقت التصور؛ فالظروف الطارئة شيء والتطور الطبيعي شيء آخر، على أنه لو أعطي أو لم يعط؛ فليشتغل كلٌّ منَّا لأجل هذا التطور.

قال: عهدتك تفكرين ضمن دائرة التدريس والتهذيب، فما بالك …؟

فقاطعته وقلت: أنا كارهة السياسة وأوحالها، ولكن هذه ليست سياسة يا أخي، هذا درس في الأخلاق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤