الفصل الثالث

الزاد والمتاع

رست بي الباخرة في ٢١ ديسمبر سنة ١٩٢٢ في ميناء السلوم، وهي ثغر صغير قريب من حدود مصر الغربية، وكان الترتيب أن نأخذ الجمال من السلوم ونذهب عن طريق «الجغبوب» إلى «جالو» وهي المركز المهم لتجارة الصحراء، حيث يتم تنظيم كل شيء للبدء في رحلتنا إلى الجنوب.

ولمثل رحلتي هذه دائمًا مراحل عدة، ينتابك في كل مرحلة منها شعور خاص، وتلقى فيها تجاريب تختلف عما تلقاه في غيرها، فإني ساعة وقفت في دار أبي في تلك الغرفة التي يشيع في أرجائها القاتمة، عبق البخور، رأيت القيام بهذه الرحلة ضربًا من الأحلام يخلب لبي باحتمال تحقيقه وأن اليقين منه كان بعيدًا.

أما في السلوم فقد واجهتني الحقيقة الواقعة، التي تستلزم جمع الزاد والمتاع، وحزم كل شيء، بحيث يصغر حجمه ويسهل تناوله، وجرد كل شيء للتحقيق من وجوده، ثم الاتفاق مع أصحاب الإبل على المرحلة الأولى من الرحلة.

وعند «جالو» تبدأ المرحلة الثالثة، حيث أتقدم القافلة وأستقبل طريق «الكفرة» التي قطعتها من قبل ثم تنكرت لي معالمها، حتى إذا وصلت إلى الكفرة بدأت مرحلتي الأخيرة ضاربًا في أحشاء تلك الفيافي المجهولة التي لم تطأها قدما مكتشف من قبل.

وقد سبقني إلى السلوم عبد الله وأحمد ومعهما أمتعتي الضخمة، وكانا قد رتبا كل شيء يختص بسفرنا عن طريق الجغبوب، فأخذنا جميعًا في تحضير المتاع والزاد.

ولا يفوتني أن أصف في هذه المناسبة ذينك المصريين اللذين صحباني في هذه الرحلة.

كان عبد الله نوبيًّا من أسوان متين البناء متناسب الأعضاء، قويًّا، له عينان صغيرتان غائرتان … يلوح فيهما الذكاء والشمم، وكان يبلغ من العمر أربعين سنة خرج منها بعلم وافٍ واستظهار للقرآن الكريم.

وكان أول لقائي به سنة ١٩١٤ حين كان في خدمة الأسرة الإدريسية بالقاهرة، وقد ملت إليه منذ رؤيتي له؛ لِمَا توسمت فيه من مخائل الذكاء والولاء، وكان من الأمانة بمكان فاستودعته المؤن والذخائر، وكان يعمل للطوارئ حسابًا فلا يخلو متاعه مما نحتاج إليه من سيور جلدية وإبر غليظة لرتق الأحذية؛ إلى أدوات أخرى لإقامة المعوَّج وإصلاح المكسور من أعمدة الخيام، وكان دائمًا على استعداد لمواجهة كل ظرف من الظروف، فكان في وسعه أن يظهرني بدويًا من عرب مصر الرحَّل أو تاجرًا أو موظفًا كبيرًا في الحكومة، كما حدث حين هبطنا ميدان الحياة الرسمية بالسودان، غير أن عبد الله كان فيه خاصية غريبة، هي أن النوم يغشاه بين الغروب وبعده بساعة أو اثنتين فيصعب كثيرًا إيقاظه من غفوته، وكان يتغلب النعاس عليه أحيانًا، وهو جالس يتحدث فلا يتمالك نفسه من أن يهوم، وإني لأذكر أننا فرغنا من العشاء ذات مساء، وحلت ساعة تهويمه فانتهز هذه الفرصة رفيقي البدوي الأمين «الزروالي» وكان قد انضم إلينا في «جالو» وأراد مداعبته فأخذ جانبًا من الزعتر، ووضعه في كوب الشاي الذي كان أمامه وصحا عبد الله فتذوق كوبه وعرف الأمر، فلم يقل شيئًا وأعاد كوبه إلى موضعه، وبعد قليل من الزمن التفت إلى «الزروالي» وقال: «أظن أنك تنتظر قادم وإني لأسمعه مقبلًا.» وما كاد «الزروالي» يقوم للتحقق مما سمع حتى أبدل عبد الله كوبه بكوب «الزروالي»، وكان نصيب الأخير أن جرع تلك الكوب الحريفة بينما عبد الله يهوم كعادته آمنًا مطمئنًّا.

وقد تجلت في عبد الله غريزة الاتجار في أجلى مظاهرها، حين وصلنا في نهاية رحلتنا إلى بعض البلاد الآهلة، وقد أعوزنا الطعام فقد جمع كل ما فاض عن حاجتنا مما خلا من علب الصفيح وزجاجات الأدوية إلى بعض أسلحة الأمواس المستعملة، واستبدل بكل ذلك من السكان زبدًا ولبنًا وتوابل وجلودًا.

وكان من الشمم وطيبة القلب على شيء كثير، وقد تألم عند عرضي شريط رحلتي أثناء إلقائي محاضرة شرفها جلالة الملك فؤاد في دار الأوبرا بالقاهرة، فإن عبد الله حين رأى نفسه في كثير من الصور في ثوب مهلهل، آلمه أن يظهر في تلك الحال الزريَّة أمام ملكه، وسألني بعد ذلك إن كان في المقدور أن أُغير تلك الصور بحيث يظهر فيها أحسن هندامًا وأسلم ثوبًا.

أما أحمد فكان كذلك نوبيًّا من أسوان منسرح القامة، صلب القناة وكان خادمي الخاص وطاهيَّ، وقد اختار حرفة الطهي على مبلغ تعلمه؛ لأنه أراد أن يكون طليقًا، وقد أبى أن ينزل على إرادة أبيه حين اختار له حياة دينية؛ لأنه لم يأنس إلى ما في تلك الحياة من بساطة وزهد وتقشف، وكان طروبًا أبدًا محبوبًا من جميع أفراد القافلة، رغم صبه اللعنات والشتائم من وقت لآخر، ولو أن غيره فاه بكلمة واحدة من ألفاظ السباب التي يفوه بها لكانت كافية لإراقة الدماء بين رجال القافلة، ولكنهم اعتادوا ذلك منه وكانوا يتفكهون به.

وكان من عادته إذا انتهى من الطهي أن يجلس إلى الأعراب ويهزأ من مبلغ معرفتهم بقواعد الدين، ويُظهر التفوق عليهم بإنشاء مقاطيع من شعر الزهد، ويحسن اختيار أشعار الغزل وروايتها، وطائفة من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام.

وكان أحمد هذا مخلصًا لي متفانيًا في خدمتي، لم يكن يفوته أن يقدم لي كوبًا من الشاي في أحرج الظروف وأقلها ملاءمة لذلك، وإني لأذكر أنَّا سرنا ليلة كاملة ثم حططنا الرحال وكان يشكو ألمًا في قدمه، فقلت له اعتباطًا حين أخذنا في نصب الخيام: إني لم أكن في حاجة إلى الفطور أو الشاي حتى أصحو من نومي، وسمحت له بالنوم فتركني، وما كدت أفرغ من إعداد غطائي حتى جاءني بكوب من الشاي يتصاعد منه البخار.

وكان على سبابه ولعنه رفقاءه البدو، لا يتوانى عن الاهتمام بتخفيف آلام مَنْ يمرض منهم فقد أخذ عني بالتدريج، فهم استعمال الأدوية التي معي، وكان كلما أُشكِل عليه معرفة دواء يجيئني بزجاجته للتحقق مما بها.

إن ما يحتاج إليه الإنسان في قطع الصحراء بسيط، والأشياء التي يحملها مجتازو الصحراء معروفة تكون متماثلة في كل حالة، فغذاء الصحراء هو الدقيق والأرز والسكر والشاي، وسكان الصحراء يحبون اللحم، ولكنه لا يمكن حمله بطبيعة الحال، فلا بد للإنسان من الصيد إذا أراد، أو الاستغناء عنه.

أما الشاي فهو شراب أهل صحراء ليبيا، وهم يفضلونه عن القهوة لسببين: أولهما ديني والثاني عملي، فقد حرم السيد ابن علي السنوسي على أتباعه عيش الترف وأمره نافذ؛ لأنه مؤسس الطائفة السنوسية المهيمنة على أمور البلاد التي أزمعت اختراقها، وقد تناولت أوامره تحريم الدخان والقهوة، ولكنها لم تتناول الشاي لأمرٍ ما، ولهذا تجد كل أتباعه يحبون الشاي إذا صحت المقارنة بين ذلك السائل العكر المر الذي يبعث النشاط في النفوس، نفوس الأعراب أثناء السير، وينعشها آخر النهار وبين ذلك الشراب الذهبي الشهي ذي الرائحة الذكية الذي يوسع حافات الموائد في بلاد الحضارة.

والسبب الثاني الذي يجعل أهل الصحراء يؤثرون الشاي على القهوة، أنه مُنَشِّط على العمل، وهم يشربونه عقب كل طعام ويختمون به رحلة اليوم.

والبلح من أهم الأطعمة في الصحراء إن لم يكن أهمها جميعًا، فإنه غذاء الرجال والجِمال؛ إذا نفد الزاد أو ضاق الوقت عن طهي شيء، وليس بلح الصحراء تلك الفاكهة الحلوة الشهية، التي يتلذذ بأكلها أهل الغرب على موائدهم ويحملونها معهم في سياحاتهم القصيرة، فإن البلح الذي يحمله قاطع الصحراء، يجب أن يكون قليل مادة السكر؛ لأن السكر يسبب العطش، ولا بد من الاقتصاد في الماء؛ إذ الآبار على مسافة أيام من بعضها البعض.

وقد أخذت معي بعض الأطعمة المحفوظة في العلب مثل لحم البقر والخضر والفاكهة، ولكن هذه العلب ثقيلة والإكثار منها يتطلب زيادة في عدد جمال القافلة، وكان معي بعض البن، ولكني لم أشرب القهوة إلا قليلًا، وقدمته هدايا إلى مَنْ صادقنا أثناء الطريق، وكان معي كذلك قليل من زجاجات أقراص اللبن المركز، وقد نفعتنا كثيرًا عند نقص مقدار الطعام، ولكن البدو لم يميلوا إلى هذه الأقراص؛ لأنها كما كانوا يقولون: تشبعهم بدون إمتاعهم بلذة التذوق.

هذا ما كنا نحمله من الأغذية، مضافًا إليه الملح والتوابل، وأخصها الفلفل لعمل «العصيدة»، ولا تخلو هذه الأغذية من التنويع القليل، ولكن التنويع في المأكل شيء يجب الاهتمام به في الصحراء، حيث تنقل المؤن دواب تعيش في الغالب على أكثر ما تحمله، ولم يكن معي طعام خاص شهي أستعين بلذته على إساغة الأرز والخبز والبلح والشاي؛ لأن مَنْ يجرب السفر في الصحراء ويتعلم دروسه، يدرك أنه يجب أن لا يختص نفسه بشيء دون رجال القافلة، فلا يحمل من لذائذ المأكولات ما لا يكفيهم جميعًا؛ إذ في الصحراء تنمحي الفوارق كلها، فلا تمييز بين رفيع ووضيع، غير أن التبغ كان الشيء الوحيد الذي ميزت به نفسي عن بقية الرجال، ولكن هذا لم يكن في الواقع خرقًا للقاعدة؛ إذ لم يكن بين رجال القافلة مَنْ يدخن إلا شخص واحد شاركني لذة التدخين التي نعمت بها أثناء الرحلة؛ لكثرة ما حملت معي من السجاير المصرية والطباق.

ويجيء الماء بعد هذا، وهو المعضلة الدائمة في الصحراء فقد رأينا رجالًا يمسكون عن الطعام أيامًا عديدة، ويصومون إلى آجال لا يصدقها عقل، إما لحاجة قضت بذلك أو على سبيل التجربة، أما إذا أمسك رجل عن الماء في الصحراء أربعة أيام فإنه يكون قد أتى بمعجزة، والصحراء لم تُسَمَّ صحراء إلا لخلوها من الماء، والماء أهم ما يتحتم على مجتازها التفكير فيه والعناية به.

ولقد حملنا الماء على طريقتين، فأخذنا حاجتنا منه في خمس وعشرين قربة من جلد الغنم، على أن هذه القرب سهل انفجارها إذا اصطدم جملان ليلًا في طريق صخرية؛ ولذلك أودعنا الماء الذي ربما مَسَّت إليه الحاجة في فناطيس مستطيلة من الصفيح، مدلاة على جوانب الجمال، وكان معنا ثمانية فناطيس، يسع الواحد منها ما يملأ ثلاث قرب، فكان كل ما معنا من الماء يكفي جميع أفراد القافلة في أطول المراحل بين بئر وأخرى، وقد قصرنا وضع الماء الاحتياطي على الفناطيس، وإن كانت أسلم عاقبة من القرب؛ لأن هذه لا تشغل حيزًا كبيرًا إذا خلت، فقد يكفي جمل واحد لحمل الخمسة والعشرين قربة الخالية، بينما لا تزيد حمولة الجمل الواحد عن أربعة فناطيس، سواء أكانت ملأى أم خالية ولم يكن معنا جمال نغنى عنها.

وكان معنا كذلك بعض «زمزميات» من القماش ولكننا ألقينا معظمها؛ لأنها كانت تضايقنا كثيرًا في حملها، وقد نفعنا القليل الباقي في تبريد الماء بعد ذلك، عند اشتداد الحر في السودان؛ فإن تبخر الرطوبة من منافذ قماش الخيش يحفظ للماء درجة حرارة معتدلة.

وكان من ضمن متاعنا أربع خيام منها ثلاث ناقوسية الشكل والرابعة مستطيلة، وكذلك من أدوات الطبخ أهمها «حلة» كبيرة من النحاس لطهي الأرز، وكان معنا — استعدادًا للطوارئ — صندوق صيدلة يحوي: الكينا، واليود، والقطن، والأربطة، وساليسلات البزموت. لمعالجة الدسنطاريا وأقراص من المورفين، وحقنة ومصل ضد لسع العقرب، نفعنا كثيرًا أثناء الرحلة في حالات حرجة، ودهان من الزنك لأجل الأجزيما، وأقراص ملينة وملح فواكه، وكان معي بعض الجهازات وبعض أسلحة الجراحة الطبية، وأدوات وأدوية لمعالجة أمراض الأسنان.

وكانت هذه الأدوية والجهازات، تساعدنا كثيرًا في علاج الأمراض البسيطة العادية، أما إذا اشتد المرض على عليل وضقت ذرعًا بعلاجه، فكان لا مناص لي من تفويض أمره لله قائلًا كما تقول العامة: الشفاء من عند الله.

وأخذت معي لقصد الصيد ودفع الطوارئ ثلاثة مسدسات كبيرة، وثلاث بنادق وبندقية أخرى لصيد الطيور، أهديتها قبل عودتي، بينما زدت أسلحتي ست بنادق أخرى ومسدسًا كبيرًا.

ولما وصلت تلك الأسلحة إلى السلوم في صندوق غريب الشكل، تهامس الناس أني أحمل مدفعًا رشاشًا لغاية خفية، اختلقوها وفقًا لأهوائهم ولم تخلُ هذه الإشاعة من الرواج.

وحملت معي خمس آلات للتصوير رغبة مني في أخذ مناظر الرحلة بحيث تظهر التفصيلات التي أعوذ بها عنها وافية واضحة ناطقة، وكان ثلاث آلات منها من نوع كوداك، وقد قامت بتأدية وظيفتها على أحسن ما يُرام حتى آخر الرحلة، وواحدة من نوع آخر، وقد أتلفها تسرب الرمال إليها، وكانت الآلة السادسة من آلات السينماتوغراف.

وقد استعملت في التصوير بهذه الآلات «فلمًا» من نوع «ايستمان كوداك» حفظته بعناية شديدة في علب صفيحية محبوكة القفل، ثم وضعت هذه العلب في صناديق من الصفيح ملأتها بنشارة الخشب، ووضعت كل هذه في صناديق من الخشب، ولم تكن العناية بهذه «الأفلام» زائدة عن الحد، نظرًا للحرارة الشديدة في مبدأ الرحلة، والأمطار الغزيرة التي هطلت بعد ذلك في السودان.

وكان طول الشريط السينماتوغرافي الذي حملته معي ٩٠٠٠ قدم.

وقد كنت موفقًا في كل ما أخذته من الصور، ولم أحمض الجزء الكبير منها حتى عدت إلى مصر بعد ذلك بثمانية أشهر، ولكن الذي خسر منها قليل بالنسبة لمجموعها.

أما لباسي فكان ثوب البدوي العادي المكون من قميص وسروال وصديري من نسيج قطني أبيض وجرد عربي — والجرد هذا حزام من الصوف — وكوفية وعقال، وأخذت بعض ملابس حريرية وسراويل من الجوخ للبسها في مواقف خاصة، عند دخول الواحات والخروج منها، ومقابلة رؤساء العشائر، وكبار أهل الصحراء وحضور مآدبهم وغير ذلك.

ولم أرد أن أتزيا بزي أهل الصحراء حتى أنتهي من المرحلة الأولى، فتركت السلوم في «بدلة» من الخاكي وسروال ركوب نال منها القدم، وكنت غريب الهيئة وأنا أنتعل تلك المراكيب الصفراء التي لا ينفع غيرها للسير في الصحراء، وألبس تلك القلنسوة الصوفية دفعًا للبرد الشديد.

figure
الشيخ عبد الله الصادق والأسطى أحمد الْمِصْرييْن من أسوان اللذين رافقا الرحَّالة في رحلته.

والعادة عند السفر في أراضي مجهولة في البلاد الشرقية، أن يقوم الإنسان بتقديم الهدايا إلى الرجال المشاهير الذين يلقاهم، فكان معي كمية وافرة من الحرير، والأواني النحاسية والمباخر المطعمة بالفضة وزجاجات الروائح العطرية، والمناديل الحريرية وأباريق وأكواب للشاي من الفضة، وأجراس فضية، يسر البدوي أن يستعملها في دعوة خدمه بدلًا من التصفيق بيديه، وكنت عند قيامي بهذا المقدار العظيم من الهدايا أظن أني عائد بنصفه.

ولكني لاحظت عند وصولي الكفرة أن الميل إلى قبول الهدايا لم يقتصر على مَنْ أدى لي خدمة في هذه الرحلة، ولكنه تجاوزهم إلى كل مَنْ أدوا إليَّ أية خدمة في رحلتي السابقة، مهما صغرت تلك الخدمة؛ ولذلك رأيت أن كل ما حملت لم يكن كافيًا لإرضاء مَنْ توقع الهدية قبل عودتي، وَمَنِ استحقها في رحلتي الثانية، ولم تكن هذه الهدايا مني طلبًا لخدمة أو توقعًا لنفع، وإنما كانت بمثابة تحية أو تذكار من بدوي من المدن إلى أخيه البدوي المقيم في الصحراء.

وكان أهم ما خرجت منه بفائدة عظيمة من هذه الرحلة، من حيث الأبحاث العلمية والتاريخية، تلك الجهازات العلمية والأدوات الفنية التي ذكرها الدكتور بول في تقريره الطبوغرافي في ذيل هذا الكتاب.

وقضيت في السلوم أسبوعين، كنت فيهما شديد الاهتمام بتهيئة أسباب الرحلة، صارفًا عنايتي في تنسيق كل شيء وترتيبه؛ لأن الأشياء التي تُنقل على ظهور الإبل، ويتحتم حملها كل صباح وإنزالها كل مساء، وصفها فوق بعضها؛ ليكون منها حائل يدفع البرد ويرد الاعتداءات المتوقعة، لا بد أن يُعتنى بحزمها والتأكد من سلامتها، فقد يحدث بعد سفر يوم طويل أن يستسهل الحمالون الذين نال منهم التعب، أو تغلب عليهم الإهمال أن يتركوا الأحمال تزل عن جوانب الجمال بدلًا من أن ينزلوها عنها برفق وعناية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤