مقدمة في اسم الديوان

شاعر نرجع إليه كما نرجع إلى الصديق الذي نأنس به، ونستطيب الكلام والصمت معه.

وشاعر نرجع إليه كما نرجع إلى الكتاب الذي نستمتع به ونحب القراءة فيه.

وبين الشاعرين فارق، فما هو؟ أيكون الأول أصدق في الشاعرية، وأجزل في العبارة وأجود في الصناعة، وأجمل في الأسلوب؟

قد يكون كذلك.

ولكنه كذلك قد لا يكون.

لأن الصديق الذي نأنس إليه، ونستطيب الكلام والصمت معه لا يلزم أن يكون خيرًا من الغريب الذي لم نعرفه ولم نأنس إليه. فقد يكون بين الغرباء من هو أفضل من أصدقائنا خلقًا، وأجمل سمتًا وأطيب سيرة، وإنما يحبب الصديق إلينا أنه يشاركنا في الشعور، ويعيش معنا في عالم نفساني واحد، وتلك بعينها هي مزية الشاعر الصديق على الشاعر الذي نقرؤه ولا نشعر له بصداقة. فهو ينظر إلى الدنيا كما ننظر إليها ويحس بها كما نحس بها. وإن لم يكن كذلك واختلفت بيننا وبينه وجهة النظر ومذاهب التفكير، فلعله مع هذا أقرب إلى تعزيتنا، والنفاذ إلى ضمائرنا من شعراء آخرين لا يبثون في نفوسنا العزاء، ولا يعرفون إلى ضمائرنا طريق نفاذ، أما الشاعر الذي نقرؤه ولا نصادقه، فقد يجيد ويفضل غيره في الإجادة، ولكنه غريب نلقاه كما نلقى كل غريب.

من الشعراء الذين نرجع إليهم رجوعنا إلى الصديق في اللغة العربية أبو العلاء وابن الرومي والشريف.

ومنهم في اللغات الأوروبية ليوباردي، وهنريك هيني، وتوماس هاردي، وهذا فريد عندنا في هذه الخصلة بين المحدثين المعاصرين.

رجعت إليه وأنا أفكر في طبع ديواني الجديد، واختيار الاسم الذي يناسبه، فقرأت له الأبيات التي يقول فيها:

أنظر إلى المرآة، فأرى هذه البشرة الذابلة تنقبض، فأتوجه إلى الله مبتهلًا إليه: أسألك يا رب إلا ما جعلت لي قلبًا يذبل مثل هذا الذبول.
إنني إذن لأحس برد القلوب من حولي فلا آلم ولا أحزن، وإنني إذن لأظل في ارتقاب راحتي السرمدية بجأش ساكن وسمت وقور.
غير أن الزمن الذي يأبى لي إلا الأسى قد شاء أن يختلس، فلا يختلس كل شيء، ويترك فلا يترك كل شيء، ولا يزال يرجف هذه البنية الهزيلة في مسائها بأقوى ما في الظهيرة من خلجة واضطراب.

فما أتممت هذه الأبيات حتى خطر لي الاسم الذي اخترته لهذا الديوان، وهو «أعاصير مغرب»، وإن لم يرد في الأبيات ذكر للأعاصير.

أعاصير مغرب اسم صالح لجملة الشعر الذي احتوى هذا الديوان؛ لأنه نظم وعالم الدنيا مضطرب بأعاصيره، وعالم النفس مضطرب بأعاصيره، ومنه ما يشبه الأعاصير التي هزت كيان «الشيخ» هاردي، فتمنى من أجلها ذبولًا في القلب كذبول إهابه.

ورأيي في الغزل الذي نظمه هاردي بين السبعين والثمانين ليس بالرأي الحديث، فلم أعجب به اليوم؛ لأنني صاحب ديوان بعد «وحي الأربعين»، بل أعجبت به؛ لأنني كنت أرى في زمن الفتوة أن الشعور والتعبير لا ينتهيان بانتهاء الشباب، ومتى بقي الشعور والتعبير، فما الذي فني من مادة الغزل والغناء؟

واتفق منذ بضع عشرة سنة أنني كتبت في هذا المعنى،١ وأن كتابتي فيه كانت بصدد الكلام عن هاردي الذي أوحى إليَّ اليوم اسم ديواني الجديد، فأثنيت على غزله أجمل ثناء، وقلت أجيب الأديب الأستاذ سيد قطب الذي استغرب إجادة هاردي شعر الغزل في السبعين من عمره: «وإن المسألة بعدُ ليست مسألة نظريات يُرجع فيها إلى تباين الآراء والأذواق، وإنما هي مسألة حقيقة لا ريب فيها ولا اختلاف عليها؛ إذ كل ما يجب علينا لنقول إن الشيخوخة تجيد الغزل أحيانًا، هو أن نعلم أن توماس هاردي نظم شعر الغزل بعد السبعين، وأن ما نظمه بعد تلك السن كان جيدًا مقبولًا رضي عنه قراء الشعر واستزادوه، وأنه كان هو من أسباب تلك الشهرة الذائعة التي أحرزها في عالم الشعر بين قراء الأدب الرفيع بعد اشتهاره بالرواية وحدها في سن الشباب. فهل نظم توماس هاردي غزلًا جيدًا بعد السبعين! نعم. وإذا كانت نعم هي الجواب الذي لا بد منه، فلا حيلة للنظريات ولا لتعريفات الشباب والحب والغزل في نفي هذه الحقيقة المقررة.»

ثم قلت: «على أننا لو فرضنا أن توماس هاردي لم يخلق في هذه الدنيا، ولم يكن بين أيدينا هذا المثل القريب، ولا مثل غيره من الشعراء الشيوخ الذين ساهموا في المعاني الغزلية، وبلغوا فيها بعض الإجادة أو كلها؛ فهل تمنعنا النظريات ومراقبة الظواهر النفسية أن ننتظر المعاني الغزلية بعد انقضاء الشباب؟ أما نحن فنقول: لا؛ لأن الحب شيء والغزل شيء غيره، وإن كان الحب هو موضوع الغزل والمعنى الذي يدور عليه.»

«فالحب» عاطفة شائعة بين الناس، بل شائعة بين من ينطق وما لا ينطق، ولسنا نعني الصلة الجسدية التي تنقضي بانقضاء دوافع الفطرة، فإن هذه لا تسمى حبًّا ولا هي من العلاقات القائمة بين فرد بعينه وفرد آخر بعينه؛ لأنها فوضى مشتركة بين جميع الذكور وجميع الإناث من فصيلة واحدة.

ولكننا نعني الصلة النفسية التي تجمع الفردين معًا بعلاقة لا يغني فيها أي فرد آخر من الفصيلة. وقد ثبت للباحثين في طبائع الأحياء أن بعض الطيور والحيوانات تتزاوج مدى الحياة، وينتقل الذكر والأنثى منها آلاف الفراسخ بين أوروبا وإفريقيا، ثم يعودون من تلك الرحلة إلى حيث كانا سنة بعد سنة، حتى يموت أحدهما، أو يعتاقه عائق لا قدرة له عليه.

فالحب على هذا يستلزم الغزل لا في الإنسان ولا في غيره من الأحياء، وإذا قلنا: لكل حي غزله الذي ينطق بما في نفسه، فليس يسعنا أن نقول إن كل محب شاعر، وإن كل متغزل فنصيبه من الحب مثل نصيبه من الغزل على السواء.

إن الذين يقتلون أنفسهم حبًّا من غير الشعراء الغزليين أكثر جدًّا من الذين يبلغون في الحب هذا المبلغ بين أولئك الشعراء. فلا ريب أن الشاعر لا يُحسن الغزل بغير حب، ولكن لا ريب كذلك في أن الحب قد يعلو حين يهبط الغزل، وأن الغزل قد يعلو حين يهبط الحب، على درجات لا تَناسُب بينها في العلو والهبوط …

والشباب هو سن احتدام الشعور وهجوم الحياة، ولكن أي شباب وأي شعور؟ فقد يقضي الفتى أوائل شبابه، ولا معنى للحب عنده إلا أنه «وظيفة فزيولوجية» مبهمة يساق إليها بغير هداية ولا تمييز. وقد يطلب الشريك في الحب، وهو لا يعلم ما الذي يطلبه فيه، وما الذي يأخذه منه وما الذي يعطيه؟ لأن الحب عنده هو جوعة جسدية أو نفسية يشبعها أي شريك يصادقه، ويلفيه على مثل حاله من الرغبة والاشتياق. وقد يكون احتدام شوقه ناقصًا من حبه، كما أن احتدام الجوع في الجائع يغنيه بكل طعام حاضر، ويجعل الأكل هو المقصود لذاته، لا الصنف، ولا الطعم الذي يميز ذلك الصنف من سواه.

والحب على أتمه وأعمه وأقواه هو تفاهم بين نفسين، وامتزاج بين قلبين وجسدين، وقبل أن يفهم الإنسان نفسه كيف ينشد التفاهم مع نفس حبيبه، وقبل أن ينكشف له قلبه كيف يعرف مواضع الكشف والحجاب من القلوب، وقبل أن يكمل بناء جسمه كيف تكمل فيه رغائب الأجسام، وقبل أن يعرف النساء كيف يعرف المرأة؟ بل قبل أن يزاول الحياة كيف يزاول لباب العاطفة التي تنضجها الحياة.

فليس الاحتدام هو الحب نفسه؛ لأن هذا الاحتدام قد ينقص من الحب، كما أن الحب قد يلهب الاحتدام فيمن لم يكن يعانيه …

فللشباب حبه، وللرجولة حبها، وللكهولة بعد ذلك حب لا يشبه الحبين …

وإذا تقضى الشباب وتقضت بعده الرجولة، وتقضَّت بعدهما الكهولة، فهل تنفد مؤنة الغزل وهل يبطل دواعيه؟ كلا! فهناك الحنين والتذكار، وكلاهما مؤنة للغزل لا تنفد وداعية حاضرة في كل حين. ولو سألنا الشعراء الذين عالجوا النظم في خوالج النفوس شيوخًا وشبابًا لعلمنا منهم أن خير ما نظموه في شوق أو حزن، أو ألم أو خالجه ثائرة أيًّا كان فحواها إنما كان كله من قبيل الحنين والتذكار؛ لأنهم ينظمون بعد فوات الثورة الداهمة واطمئنان اللوعة العارضة، فيسلس لهم المعنى ويصفو الشعور من كدر الدخان والضرام …

فلا عجب أن يجيد هاردي الغزل أو يجيده سواه من الشيوخ، سواء أنظرنا إلى الحقيقة الواقعة التي لا ريب فيها أم نظرنا إلى المعهود من أطوار النفوس والقرائح. وقد يحسن أن نذكر بعد هذا أن إجادة هاردي في الغزل لم تكن إجادة مطلقة يطمع فيها كل شيخ ينظم القريض، وتثبت له العبقرية، ولكنها كانت إجادة هاردية عليها سمة الرجل، وفيها طبيعة مزاجه التي لم تفارقه في شباب أو شيخوخة.

ومضت الأيام والسنون بعد كتابة هذا المقال، فلم يكن فيما قرأت ولا فيما عرفت شيء يخالف ما بدا لي من هذا الرأي منذ نظرت في حقائق العاطفة والتعبير. وأحرى أن نعلم مع الزمن أن العاطفة ألزم للحياة الإنسانية، وألصق بها وأعمق فيها من أن تحصرها فترة واحدة، أو تحتويها صورة واحدة، أو يختمها عهد واحد. فهي — ككل شيء في الحياة — تزداد فهمًا على طول المصاحبة، وطول المراس والمساجلة، وعلى حسب ازدياد الفهم يزداد التعبير، ويزداد الاستكناه والتصوير، وبخاصة بين الذين يقضون حياتهم في عالم الشعور والجمال، وهو عالم الفنون والآداب، وهم الشعراء والموسيقيون والمصورون والممثلون.

ويصح على هذا أن يكون الشباب عهد ابتداء العاطفة وافتتاحها على صورتها الأولى، أو هو العهد الذي تُفاجأ فيه البنية بشعور جديد لم تكن لها به خبرة من قبل، فيشاهَد عليها ما يشاهَد على كل بنية تفاجئها حالة طارئة. فإن المفاجأة إذا عرضت لإنسان بدا لك في حالة كحالة الشاب في أول عشقه: وجهٌ ساهم، وفم مفغور، وطرف ذاهل، ولسان معقود، ونفَس مطرود … وهذه هي الحالة التي يخيل إلى من يراها أنها العشق دون غيره، مع أنها أحرى أن تدل على أن العشق مفاجأة لم تعهدها البنية ولم تألفها النفس، فلم تزل بها حاجة إلى التثبُّت منها والرياضة عليها. ثم تأتي هذه الرياضة شيئًا فشيئًا مع تعاقب الأيام وتعاقب ألوان الشعور.

في هذه الحالة — حالة المفاجأة — تتفتح النفس على عالم مسحور حافل بالصور والزخارف والأسرار، وتجود القريحة بالمعنى البكر والخيال الطريف، وتتسع للشاعر منادح للإحساس ولوصف الإحساس يركض فيها ركض السبق والتجلية إن كان من السابقين المجلين. ولكن سحر المفاجأة يمتنع بعد قليل أو كثير، فلا يمتنع عليه سبيل القول بامتناعه، كالذي تسحره المدينة لأول نظرة فيصفها على التو والساعة في الصورة المتوهجة التي أضفاها عليه سحرها، ثم يقيم فيها سنة وسنوات، فلا يجهلها بعد معرفة، ولا يعز عليه وصفها بعد قدرة. ولكنه يصفها غير مسحور ولا مبهور، فيخسر وصفه ذلك الوهج اللامع ثم يعوضه نفاذ النظر، وطول الخبرة وصدة المشاهدة، كأنما تغيرت المدينة وهي لم تتغير بين النظرتين، ولا أخطأ واصفها في إحدى الحالتين.

وإذا كان هذا شأن المدينة المحدودة، فكيف يكون شأن العالم النفساني الذي ليست له حدود؟ وكيف يستنقذ هذا العالم الرحيب في نظرة واحدة ولا سيما نظرة المفاجأة والمعرفة الأولى؟ وكيف يفهم العاطفة الإنسانية من يحسبها ضيفًا يفارق الحياة بعد المصافحة الأولى، ولا يعلم أنها هي صاحبة الدار، وأنها هي هي الحياة؟

فالأعاصير الطاغية تعصف على العالم النفساني حيثما تشاء على اختلاف الأوقات والأجواء، وليست أعاصير المغارب بدعًا في عالم الأكوان ولا في عالم الإنسان.

وقد أشار عليَّ صاحبنا هاردي، فأحسن المشورة فيما اخترتُ لتسمية هذا الديوان، فقد نظمته بين ثوائر الأفكار، وثوائر الحروب وثوائر الصدور، فلو بحثت له عن عنوان أدل على ما فيه لانقطع عنان الاختيار دون المراد.

•••

سألني صديق يرى أنني تشاءمت من حيث يتفاءل فقال: ولم استعجلت المغرب، وقد أجَّله صاحبك هاردي إلى ما بعد السبعين بل الثمانين؟

قلت: يا صديقي اقرأ أبيات بيرون إن شئت ولا تقرأ أبيات هاردي إن لم تشأ، فإنما هي حالة تلم بالرجل فيما قبل الأربعين، كما تلم فيما وراء السبعين.

وبيرون ماذا قال في السادسة والثلاثين؟ ماذا قال وهو في يقظة الحياة ومعترك النضال؟

نظم تلك الأبيات التي سماها بعضهم «عيد ميلاد أخير»، فقال:
آن لهذا القلب أن يسكن، مذ عَز عليه أن يحرك سواه، ولكني وقد حرمت من يهوى إليَّ، حسبي نصيبًا من الحب أن أهوى.
إن أيامي لمكتوبة على الورقة الذاوية، إن زهرات الحب وثماره ذهبت إلى غير رجعى، إنما السوس والديدان وحسرة الأسى، هي لي … لي وحدها تحيا.
وهذه النار التي تأكل الحنايا، كأنها جزيرة بركان في عزلة قاصية، حممها لا توقد جذوة أخرى، وإنما هي نار تبيت على سرير الردى.
وتلك الأشواق والأوجال والهموم الغيرى، ذلك الحظ المقسوم من اللوعة العليا، تلك القدرة على الهيام والهوى، ليس لي منها حصة تبقى، فما لأغلالها في عنقي لا تنزع ولا تبلى؟

•••

نظم بيرون هذه القصيدة في عيد ميلاده السادس والثلاثين، ولم يكن يعلم أنه عيد ميلاده الأخير الذي لا حب بعده ولا حياة، ولكن هكذا كان على ما أراد أو على غير ما أراد. فماذا تغني السنون القصار أو السنون الطوال؟ إنما هي حالات تلم بالنفوس في كل حين، وإنما التفاؤل والتشاؤم لسانان يقولان، وللزمن وحده أن يصدقهما أو يكذبهما فيما يقولان.

فإن تشاءمت أيها الصديق بأعاصير الغروب، فاذكر متفائلًا أن ساعات الغروب هنا بغير حساب. فمنذ سنين جمعت دواويني الشعرية فسميت الجزء الأول منها «يقظة الصباح»، وسميت الجزء الثاني «وهج الظهيرة»، وسميت الجزء الثالث «أشباح الأصيل»، وسميت الجزء الرابع «أشجان الليل»، ثم ظهرت لي بعد ذلك الليل وأشجانه ثلاثة دواوين هي: وحي الأربعين، وهدية الكروان، وعابر سبيل. ثم ها نحن أولاء في هذا المغرب وفي هذه الأعاصير. فهل نحن راجعون؟ وهل للشمس من «يوشع» يؤجل لها مواقيت الغروب؟ إن كان للشعر «يوشعه»، فليس نصيب هاردي من مغربه المديد أمنية أشتهيها، وليس نصيب بيرون في ضحاه القاتم نعمة أرتضيها، وإن كانت الكلمة في هذا للقضاء يفعل ما يشاء، ويتبع أسلوبه في الإطناب والاقتضاب حين يرتجل كل كتاب.

عباس محمود العقاد

هوامش

(١) البلاغ الأسبوعي ٩ مارس سنة ١٩٢٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤