هنا … وهناك

تفسير حلم١

تفسير حلمي بالجزيـ
ـرة٢ وقفتي في المقرن
حلمان حظهما خيا
لًا دون حظ الأعين
ما دمت بينهما فما
أنا سائلٌ عن مسكني
وإذا التذكر عاد بي
عطف الجديد فردَّني
يا جيرة «النيل» المبا
رك: كل نيل موطني
وله سميٌّ في الصحا
فة معرب لم يلحن
حييت فيه سميه
وحمدت فيه مأمني

صوت السودان

صوت٣ من السودان أسـ
ـمعني بمصر فسرني
تهفو له الأسماع صا
غيةً ولم يستأذن
فيه بشاشة وامق
ومبشر ومؤمن
لولا حفاوته الكريـ
ـمة ما علمت بأنني٤
فارقت من مصر الجديـ
ـدة ذات يوم مسكني
شكرًا له صوتًا تبيْـ
ـيَن من لسان بيِّن
مستلهم لغة القلو
ب مترجم بالأعين
شمل العروبة كلها
وسرى إليَّ فخصني
ماذا أقوله وقد سُبقـ
ـت بكل قول ممكن
قدم العهود أحبُّ لي
من بدعة المتفنن
من كان ديدنه الصنا
عة فالسليقة ديدني

شعر الأسُود

كم هازل بالشعر جهده
يهذي به ويعاف جده
ما الشعر للنسناس وحده
كم ألهم التبيان أُسده

القمر والظلام

لا أوثر القمراء في حسنها
على الدجى، والطرف فيه يحوم
سناك يا بدر يريني الثرى
وظلمة الليل تريني النجوم

صداح الأثير٥

ملأ الآفاق صداح الأثير
لا فضاء اليوم، بل صوت ونور
لك من كل فضاء شاسع
حيثما يممتَ، داع وبشير
ما صفاء الجو إن فتشته
غير أصداء حواليك تمور
لجب لكنه مستأذن
يطرق السمع بسلطان قدير
أوهى الأرواح إن قلت: احضري
حضرت، أو شئت أعياها الحضور
قيل: أمواج، فقلنا: وبحور
من معانٍ وبيان وشعور
تركب الألبابُ فيها سفنًا
سبَّقًا بين طويل وقصير
حملت من كل زاد، وقرت
كل غادٍ، ووعت كل أثير٦
ولها في كل يوم مدد
يلتقي الأول فيه والأخير

•••

كان فرعون له مجلسه
وهو ذو الصرح المعلى والسرير
ولنا في كل دار مجلس
يسع العالم أيان يدور
هو نادٍ لك، أو مدرسة
أو مجال السبق، أو ملهى السرور
غلب الوهم الذي زينه
في الأساطير خيال مستطير
دعوة المارد إن قيست إلى
دعوة المذياع ظن وغرور
بورك العلم لعمري إنه
من صفات الله، والله قدير
ربما أسمعنا في غده
نغم الأفلاك، أو صوت الضمير

•••

مسمع العلم في عاصمة
تسبح الدنيا إليها وتطير
لا يقر الدهر إن مادت، فإن
سكنت فالدهر حوليها قرير
بُنيت حينًا على اليأس وما
رصدته اليوم إلا لمغير
جمعت أوصالها حرية
يستوي فيها قليل وكثير
وخصيم الأمس من أعدائها
هو في معمعة اليوم نصير
كلهم، والأمر شورى بينهم
مستجير في حماه ومجير

•••

عامك الثالث أم شرخ الصبا؟
أنت في مهدك جبار جسور
لست بالحبو خبيرًا إنما
أنت بالوثب على الأفق خبير
راكب الريح إذا قيس إلى
خطوك الواني سلحفاة كسير
حدَّث الدنيا حديث الضاد من
ساحة رتَّل فيها شكسبير
وأعده ساريًا حيث سرى
زمنًا في مغرب الشمس المنير
طالما رنت على آفاقه
نغمات من نظيم ونثير
من رُبى أندلس حينًا ومن
قمم الأطلس حينًا والثغور
هاتها في نسق موصولة
يلتقي «بيرن» فيها وجرير

•••

ناقل السر وما أعجبه
في رحاب الكون من سر جهير
تسمع القطبين ضدين كما
يسمع النجوى سمير من سمير
عصب الأنساب يا هذا الأثير
أنت في الأرض، وفي الكون الكبير
كلنا في رحبه عائلة
حين تسري أنت أو حين تسير
تنظم القربى على طول المدى
من ذرى الشعرى إلى قاع البحور
عجبي من عالم تجمعه
أذن. كم فيه من قلب نفور!
قل حديث الحرب والسلم معًا
رُبَّ حرب هي للسلم عبور
أنت بالصدق كفيل أن ترى
أمم الأرض إلى الحق تصير
يملك اللب حليفًا راضيًا
من له في دولة السمع سفير

إلى المستمع العربي بلندن٧

دعوت إلى حق وأسمعت واعيَا
فحُيِّيتَ مدعوًّا، وحُيِّيتَ داعيَا
وآثرت للعرب اللسان الذي به
تنزَّل وحي الله للعرب هاديَا
وناديتهم من جانب الغرب مثلهم
فتى عربيًّا واضح الصوت عاليَا
أصاخوا فلم يستنكروا القول عجمة
ولم يسمعوا منه لسانًا مداجيا
إذا الحر ناجى الحر فليلق قوله
صريحًا، ولا يومئ إليه مواريا
على ذاك يمضير «اللندني» محدثًا
فيصغي إليه «القاهري» مواليا
ويصغي ابن بغداد إليه محدثًا
وينقل عنه شعب مكة راويا
وفي جلق٨ واعٍ، وفي القدس شاخص
وفي برقة شادٍ يجاوب شاديا
حقائق في شرق البلاد وغربها
يساجل فيها الحاضرون البواديا
يؤلف شمليهم على البعد أنهم
أبوا أن يطيعوا في سوى الحق راعيا
وأنهمُ للظالمين بمرصد
طغاة على من يحكم الناس طاغيا
وأن الذي أوصى به الشرق بادئًا
تواصى به الأحرار في الغرب تاليا
فيا لكِ من حرية جمعتْهما
إلى نسب عالٍ عليه تلاقيا
وما عصبة الأحرار إلا أخوة
إذا اشترك القطبان فيها تآخيا
فلا جاور الشرق امرؤ يصطفي له
عدوًّا لآمال الشعوب معاديا
ولا زال هذا الشرق بالحق آمرًا
ولا زال هذا الشرق بالحق ناهيا

•••

إلى «مسمع العرب» الكرام تحية
أحيى بها عامًا من العمر ثانيا
أرى لك في سن الفطام شبيبة
تسابق في العام القرون الخواليا
وألمح من بشراك طالع مولد
تلاقيه أبراج السعود حوانيا
سبقتَ رِكَاب النصر حتى كأنما
خففت لتلقاه على القرب آتيا
وأتممت حولًا واحدًا فتحولت
مخاوف أقوام فلاحت أمانيا٩
فإن شئت كن فألًا، وإن شئت هاتفًا
إذا أسمع الضلِّيل أقبل ناجيا
تبلبلت الأسماع حينًا، وأطبقت
صروف قضاء ظنه القوم قاضيا
وهيهات ما كان الرجاء مغيبًا
لمن رامه، كلا ولا الأمر خافيا
يقيني الذي لم يطرق الشك سمعه
سحابة يوم أن للحق واقيا
وأن الذي خالوه صرعة هالك
نذيرٌ إذا ما اشتد أيقظ غافيا
وقد هجر الغافي المضاجع فانظروا
على الساهر الجهد المكتم باديا
توثب للعدوان فليمض واثبًا
على غرة منه لينقضَّ هاويا

•••

إلى مسمع العرب الكرام نبوءتي
فسلني غدًا عنها، وما أنت ناسيا
سيُدبِر شر كان بالأمس مقبلًا
ويُقبل خير كان بالأمس نائيا
ويصعد نجم العرب في الشرق ساطعًا
ونجم حليف العرب في الغرب ساطيَا
كفيلي بما أنبأت صدقُ روية
ترى الغد من مستقبل الدهر ماضيا
فلا انخدعت، والحمد لله، ضلة
ولا خدعت يومًا وفيًّا موافيا
غدًا، فانتظرني باليقين إلى غد
وهاك التَّحايا قبله والتهانيا

بين التعب والراحة

قال المعري:

تعب كلها الحياة فما أعـ
ـجب إلا من راغب في ازدياد

ويقول صاحب الديوان:

راحة كلها الحياة فما أعـ
ـجب إلا من راغب في ازدياد
ما ابتغاء المزيد من يوم أمنٍ
عاطل لا يزاد بالتعداد
فالزمان المريح تكرار شيء
واحد واطَّراد حال معاد

هذا هو التاريخ

من جانب القبر لسان بدا
يكذب ما شاء ولا يستحي
هذا هو التاريخ لو أنني
صورته يومًا على المسرح!

النقد

أعطيتهم لؤلؤًا حرًّا فحين رأوا
صغيرةً منه صاحوا: أي إفلاس!
وجادهم بالحصى غيري فحين رأوا
خُريزةً فيه قالوا: أكرم الناس

الظن

إذا خفت ظن الناس ظنوا وأكثروا
وإن لم تَخفْه أكرموك عن الظن
فإن شئت هبهم ألف عين، وإن تشأ
فدعهم بلا عين تراك ولا أذن

رأي الناس

من عوَّد الناس خيرًا طالبوه به
كأنه الدَّين يُلوى بالمعاذير
ومن تعقَّبهم شرًّا فأمهلهم
يومًا تقبَّل منهم أجر مشكور
لا رأي للناس في نفع ولا ضرر
وما لهم قط من حكم وتقدير

بين همٍّ وسآمة

أتهتم بالدنيا؟ فتلك حبيبة
إليك فما تخليك يومًا من الهم
ألي لها همٌّ؟ فهاتيك خلة١٠
صداقتها أضنى من الهم للجسم
وما بين همٍّ دائم أو سآمة
خيارٌ لمختار وحكم لذي حكم
فخذها على علاتها والْقَ عيشها
شقيًّا بعلم، أو شقيًّا بلا علم

الطيش والحزم

الطيش أن تعمل ما تشتهي
وقد يساوي النفع فيه الضرر
والحزم أن تحذر ما تتقي
وقلَّما يغنيك فيه الحذر
كفئان إن وازنت حظيهما
يا صاح فاختر منهما ما حضر

يا كتبي

في ختام الجزء الأول من الأجزاء الأربعة المجموعة في مجلد واحد قصيدة بهذا العنوان، جاء منها هذه الأبيات:

يا كتبي أشكو ولا أغضب
ما أنت من يسمع أو يعتب
يا كتبي أورثتني حسرة
هيهات لا تنسى ولا تذهب
يا كتبي ألبست جلدي الضنى
لم يغنِ عني جلدك المذهب
كم ليلة سوداء قضيتها
سهران حتى أدبر الكوكب
كأنني ألمح تحت الدجى
جماجم الموتى بدت تخطب١١
والناس إما غارق في الكرى
أو غارق في كأسه يشرب
أو عاشق وافاه معشوقه
فنال من دنياه ما يرغب
أو سادر يحلم في ليله
بيومه الماضي وما يعقب
ينتفع المرء بما يقتني
وأنت لا جدوى ولا مأرب
إلا الأحاديث وإلا المنى
وخبرة صاحبها متعب

وختمت القصيدة بهذا البيت:

لا رحم الرحمن فيمن مضى
من علم العالم أن يكتبوا

والقصيدة الجديدة في هذا الديوان تشير إلى تلك الأبيات بما ورد فيها من المقابلة، وهذه هي:

شكوتها والعمر في فجره
فكيف بي لما دنا المغرب؟
لما دنا المغرب صالحتها
تلك التي تشكي ولا تغضب
تلك التي قلت لها مرة
والقلب دامٍ والحشا ملهب
«يا كتبي أورثتني حسرة
هيهات لا تنسى ولا تذهب»
«يا كتبي ألبست جلدي الضنى
لم يغنِ عني جلدك المذهب»
فالآن يا كتبي تعالي لمن
أخبثُ شيء عنده طيب
ما أنت شر من عناء المنى
وهي التي في صدقها تكذب
ما أنت أقسى من شقاء الهوى
وهو الذي في لهوه يتعب
ما أنت أغلى ثمنًا إن غلا
من جوهر يكنز أو يعطب
ما أنت في سكر وفي متعة
أخلى من السم الذي يشرب
ويحك! إنا نحن من معشر
يسبق فينا «الدور» أو يعقب
غدًا سنمسي كلنا ما لنا
في العيش إلا رفك المترب
فليت لي إذ أنا تحت الثرى
جمجمة ثرثارة تخطب
رهطًا من القراء يرضونني
رضاي عن بلواك إذ أغضب
يا كتبي ما شئت فلتحسبي
أو شاء قرائي فليحسبوا

عجز أو قدرة

علميني كيف لم تضطربي
بين أسماء الأقاصي والأداني
أنا لو لاقيت أخرى مرة
خفت أن يخلط باسمين لساني
الغواني في حجاب دائم
عبث كل سفور للغواني
قدرة فيهن أم عجز طغى
أم هما في لحظة مجتمعان؟
من فناء الغيد في حاضرها
نسيها من غاب عنها كل آن

جواب جميل

قال جميل بن معمر صاحب بثينة:

ألا أيها النوم ويحكمُ هبوا
أسائلكم هل يقتل الرجلَ الحب؟

وأجيب بلسان أحد النوام:

بربك دعنا راقدين فلو درى
بنا الحب لم يرقد لنا أبدًا جنب
وسل راقدي الأجداث عنه، فإنهم
مجيبوك عن علم بمن قتل الحب!

وقد سأل جميل بلسان الحال:

ألا أيها الأموات ويحكم هبوا
أسائلكم هل يقتل الرجلَ الحب؟

وقد أجيب بذلك اللسان:

أفق مزعج الموتى، فلو كنت قادرًا
على أن تهبَّ اليوم من صرعة هَبُّوا
ولستَ إلى أن يُسمع الصور سامعًا
هنا سر مقتول يبوح به صب!

الفقير

ثروة المرء بما يطلبه
لا بما يملكه بين يديه
مالك الأرض فقير إن رعى
مطلبًا يطمح بالعين إليه
والذي أفقر منه طالب
ودَّ قلب ما له ود لديه

ويلنا

من غلا عنده السرور رخيص
كاسد السوق في كبار الأمور
والذي يستحق كل سرور
عجبًا يزدري بكل سرور!
إن غلا عندنا النعيم رخصنا
ويلنا ويلنا بدار الغرور

سيان

إن قيل بالحق أو البهتان
دعهم يقولون، وقل: سيان!
سيان مهما افترق الضدان
سيان مهما اختلف الخصمان
سيان ألفٌ هي أو ألفان
سيان بيدٌ هي أو مغان
سيان نور أو ظلام فان
سيان من يلهو ومن يعاني
قلها ببرهان ولا برهان
وأنت أنت أحكم الزمان
وإن تصدوا لك بالنكران
أو ضحكوا سخرًا فقل: سيان!

أتمنى

أتمنى يومًا لو ان حياتي
تنقضي كلها ولا أتمنى
أتمنى وقد أطلت التمني
لو تعلمت كيف أن أتمنى
أتمنى لو علمتني الليالي
باطل الأمر قبل أن أتمنى
منية لو تحققت لتساوى
ما تملكته وما أتمنى

الصرف والمزيج

رب ما بالنا نغص بأحلى
ما شربنا وفيمَ يا رب يحلو؟
رب والعيش فيه حلو ومرٌّ
لم لا يمحضان والأمر سهل؟
لِمَ لا يصفوان فالشهد شهد
حين يعطي العباد والخل خل
إن خلًّا يشوب شهدًا ضلال
ولشهد يشوب خلا أضل!

خداع النفس

يقول وما قضى عجبًا
فتى يخبط في حدسه
أيخدع نفسه رجل
له عينان في رأسه؟
أجل يا صاح: عينان!
وزد ما شئت من حسه
وهل أخدع للإنسا
ن بين الناس من نفسه
خداع النفس معهود
وقاك الله من دسه

كيمياء وصيرفي

قال ابن الرومي:

إن للحظ كيمياء إذا ما
مس كلبًا أحاله إنسانًا

ولم يقل:

إن للحظ صيرفيًّا أريبًا
يقتفي كيمياءه أحيانًا

جنة الخيام

رغيف خبز ووجهٌ
حلو، وكأس مُدام
وتلك جنة عدن
في مذهب الخيام١٢

•••

قالوا: ونودي يومًا
ما تشتهي في يديكا
دع مطلبًا منه فردًا
والباقيان لديكا

•••

فحار بين رغيف
إن فاته مات جوعا
وبين وجه منير
إن غاب غابت جميعا

•••

وبين كأس مُدام
على الشقاء تعين
لولا خداع مناها
أفاق وهو غبين

•••

طال التردُّد فيها
فمال عنها كظيما
سألت جنة خلد
وما سألت جحيما

•••

قالوا: فناداه صوت
يقول في غير رفق
كصوت إبليس لولا
ما فيه من فرط صدق

•••

«أتلك جنة خلد
تهذي بها يا حكيم
بمطلب إن عداها
ترتد وهي جحيم؟»

بيجو

«… صور كثيرة بقيت في خلدي من الإسكندرية، كأنها صفحات مقسمة من معارض الفن والحياة والتاريخ.

وستبقى ما قُدِّر لها البقاء.

وسيكون من أبقاها وأولاها بالبقاء صورة واحدة لمخلوق ضعيف أليف، يعرف الوفاء ويحق له الوفاء، وذلك هو صديقي «بيجو» الذي فقدناه هناك.

وإني لأدعوه صديقي ولا أذكره باسم فصيلته التي ألصق بها الناس ما ألصقوا من مسبة وهوان، فإن الناس قد أثبتوا في تاريخهم أنهم أجهل المخلوقات بصناعة التبجيل، وأجهلها كذلك بصناعة التحقير. فكم من مبجَّل بينهم ولا حق له في أكثر من العصا، وكم من محقَّر بينهم، ولا ظلم في الدنيا كظلمه بالازدراء والاحتقار.

وكنت أقدر أنني سأخلو من العمل في مجلس النواب ثلاثة أشهر الصيف الجديد، فأخلو بنفسي وبالبحر والصحراء في مرسى مطروح أو في السلوم، وأفرغ هناك لتأليف كتابي الذي جمعت له ما جمعت من الأخبار والوقائع عن الصحراء وأبنائها الأقدمين والمحدثين. فلما تواصلت الجلسات أزمعت أن أقضي أيامًا في القاهرة، وأيامًا في الأسكندرية من كل أسبوع، ولم أصطحب بيجو في الرحلة الأولى ولا في الرحلة الثانية، ولا عزمت على اصطحابه بقية أشهر الصيف؛ اكتفاء بأن أراه أيام مقامي في القاهرة، وأن أعود إليه كل أسبوع، ولكن المخلوق الأمين الوفي أرغمني على مصاحبته كلما ذهبت إلى الإسكندرية وكلما رجعت منها؛ لأنه صام عن الطعام صومة واحدة في المرحلة الثانية، وزاده إصرارًا على الصيام أننا كنا نتركه في كفالة الشيخ أحمد طاهينا القديم، الذي يعرفه قراء كتابي «في عالم السدود والقيود».

والشيخ أحمد حمزة كما علم أولئك القراء رجل يُكثر الصلاة والوضوء، ويعتقد نجاسة الكلاب فلا يقربها إلا على مسافة أشبار. وبيجو مخلوق حساس مفرط الإحساس ما هو إلا أن تَبين النفور من الشيخ أحمد حتى قابله بنفور مثله أو أشد وأقسى، فكنا إذا تعمدنا تخويفه وزجره نادينا «يا شيخ أحمد»، فإذا بيجو تحت أقرب كرسي أو سرير، ثم لا يخرج من مكمنه إلا إذا أيقن أن الشيخ أحمد حمزة بعيد، جد بعيد.

فلما استحال التوفيق بينهما، واستحال إقناعه بالعدول عن الصيام في غيابنا أصبح بيجو من ركاب السكة الحديد المعروفين في الذهاب والإياب، وأصبح يزاملنا من القاهرة إلى الإسكندرية، ومن الإسكندرية إلى القاهرة كل أسبوع، وشاعت له نوادر في معاكسته للموظفين ومعاكسة الموظفين له يتألف منها تاريخ وجيز، ثم أصابه في الإسكندرية ذلك المرض الأليم، الذي كان فاشيًا فيها، واستعصى علاجه على أطباء الحيوان، فلزمته في مرضه مخافة عليه من مشقة السفر، وعلمت أن الأمل في شفائه ضعيف، ولكني لم أجد مكانًا أولى بإيوائه من المكان الذي أراه ويراني فيه.

وإني لفي ظهيرة يوم بين اليقظة والتهويم إذا بهمهمة على باب حجرتي، وخدش يكاد لا يبين. ففتحت الباب فرأيت المخلوق المسكين قابعًا في ركنه يرفع إليَّ رأسه بجهد ثقيل، وينظر إليَّ نظرة قد جمع فيها كل ما تجمعه نظرة عين حيوانية أو إنسانية من معاني الاستعطاف والاستنجاد والاستغفار، أحسَّ المسكين وطأة الموت، فتحامل على نفسه وخطا من حجرته، وجلس هناك يخدش الباب حتى سمعته، وفتحت له وهو لا يزيد على النظر والسكوت.

كان اليوم يوم أحد، ولكنا بحثنا عن الطبيب في كل مظنةٍ لوجوده حتى وجد، وشاءت له مروءته الإنسانية أن يفارق صحبه وآله في ساعة الرياضة؛ ليعمل ما يستطيع من ترفيه وتخفيف عن مريضه الذي تعلق به، وعطف عليه لفرط ما آنسه أثناء علاجه من ذكائه وألاعيبه ومداعباته. ولكنه وصل إلى المنزل وبيجو يفارق هذه الدنيا التي لم يصحبها أكثر من سنتين.

سيبقى من صور الإسكندرية ما يبقى وسيزول منها ما يزول، ولكني لا أحسبني ناسيًا ما حييت نظرة ذلك المخلوق المتخاذل، يقول بها كل ما تقوله عين خلقها الله ويودعها كل ما ينطق به فم بليغ من استنجاد واستغفار، كأنه يعلم أنه أقلقني ولا يحسب ما كان فيه عذرًا كافيًا لإقلاق صديقه.

ومن شهد هذا المنظر مرة في حياته علم أنه لا يُنسى، فإن لم يعلم ذلك فهو أقل الناس حظًّا من الخلائق الإنسانية؛ لأن البعد من العطف على الحيوان لا يجعل المرء بعيدًا من الحيوان، بل يقربه منه غاية التقريب …»

•••

هذه كلمة من مقال نشر بمجلة الرسالة الغراء (٣ أكتوبر سنة ١٩٣٨)، وفيها ما يصلح أن يكون مقدمة للقصيدة التالية. ولكنها مقدمة تفتقر إلى تتمة من مقال آخر نشر في الرسالة أيضًا بعنوان «كلبي بيجو» قبل ذلك بنحو عام، وهذا هو المقال:

… أنا أكتب هذا المقال عن «بيجو»، وهو ينظر إليَّ ثم يذهب ويعود ليطل مرة أخرى، ولا يدري أنني أكتب عنه وأشيد بذكره. وكل ما يدريه أنني جالس في هذا المكان الملعون الذي يحب كل مكان في البيت غيره، وهو كرسي المكتب.

ففي كل مكان في البيت يراني مستعدًّا لملاعبته واستجابة نظراته، والتفرج على فنونه وألاعيبه وقفزاته. أو يراني مستعدًّا للإشارة إليه واستدعائه، فإذا هو واثب وثبة واحدة إلى حيث يستوي على مكانه بجانبي، ويغريني بملاطفته ومجاملته أن أبذل له الملاطفة والمجاملة، وأحييه بعبارات التودد والمساجلة … ينتظر مني ذلك في كل مكان إلا كرسي المكتب، فإذا جلست إليه لأكتب أو لأقرأ فهو حائر لا يدري ما يصنع: يدنو من الكرسي إلى مسافة قصيرة ثم يرفع رأسه وينظر، ثم يعيد النظر كرة أخرى، ولعله يسائل نفسه: ما بال صاحبي لا يناديني ولا يجيبني؟ وما بال عينيه تتجهان أمامه وقلَّما تتجهان ناحيتي؟ فإذا طال عليه التساؤل والترقب رجع أدراجه، وغاب هنيهة، ثم عاد إلى المكتب يترقب كلمة النداء أو نظرة الاستدعاء، أو لمسة التربيت والاحتفاء، ولا يزال كذلك حتى ييأس ويسأم فيولي وجهه شطر ألعوبة يتلهى بها، أو شغلة أخرى من الشواغل البديعة التي يفرضها على نفسه، ولا يفرضها أحد عليه، وأولها حراسة الباب والعواء على من يصعدون السلم أو يهبطونه.

وقد تبعني اليوم إلى المكتب ونظر إليَّ قليلًا، ثم غادر المكان الملعون يائسًا عابسًا دون أن يلح في الانتظار والمناورة؛ لأنه تعَلَّم بالمرانة الطويلة أن الانتظار في هذا المكان لا يفيد، وأن الكلب العاقل الرشيد هو الذي يغادر مكان الكتب والأوراق بغير تدبُّر ولا تأمُّل ولا إطالة، والحق معه حتى في آراء الأناسي العقلاء الراشدين.

وقد أردت اليوم أن أدهشه وأخلف عادته، فرفعت رأسي من الورق في بعض جيئاته وصحت به مناديًا: بيجو بيجو تعال! إن كتابتي اليوم تعنيك، ألا تريد أن تقرأ ما كتبت؟ فوجم ولم يكد يصدق أذنيه. وتردد لحظة ثم قفز إلى الكرسي فالمكتب حيث الورق الذي أخط عليه هذا المقال، كأنه يريد حقًّا أن يقرأه ويستطلع ما فيه، وكأنه لا يفضل بالعقل والرشد أولئك الآدميين الذي يعنيهم ما يكتب عنهم الكاتبون، كما ظننته لأول وهلة.

ولكنه ما لبث أن أخافني من أسلوبه في القراءة والمطالعة؛ لأنه هو والتمزيق في عُرفه شيء واحد، وهل هو بدع في أسلوبه وهذا شأن كثير من الآدميين الذين أكتب عنهم؟ فنحيته برفق وحملته إلى الباب، وأرسلته في الدهليز وعدت إلى المكتب فأقفلته، ولا أزال أسمع نباحه يلاحقني بلهجات تتراوح بين الاستغراب والشكاية والسباب.

ويجب أن أعترف للقراء بأن كلبي «بيجو» ليس بكلبي على التحقيق، ولكنه كلبي في شريعة الدعوى والاغتصاب، أو كلب صديقي العزيز «فيفي» الذي لا يجاوز السنتين إلا منذ شهرين. ولا إخاله إلا مطالبي به قريبًا بعد أن زال الموجب لإقصائه، وهو انحراف صحته في موعد التسنين، وفيما أصابه على أثر ذلك من مصاب أنقذه الله من خطره الشديد.

والأصل في المصائب أن تجمع بين الأصدقاء لا أن تفرق بينهما، كما افترق فيفي وصديقه بيجو. ولكن اللوم في هذا الافتراق على صداقة بيجو دون غيرها — أي على إفراطه في الصداقة لا على تقصيره فيها — فمعاذ الله أن يُتهم كلب بخيانة الأصدقاء.

كان بيجو يرى «فيفي» على سريره ساكنًا من التعب والإعياء، فلا يحسب أن شيئًا تغير بينه وبين مولاه. ويقفز إلى السرير ليعرض خدماته التي لا يكل عنها ولا يتوانى فيها، وهي المواثبة والملاعبة واصطناع العض والمصارعة ومولاه في شاغل عن ذلك، ولكنه هو لن يقبل العذر ولن يعرف شاغلًا أهم من تلك الخدمات المرفوضات.

وإذا أقبل الطبيب وصرخ «فيفي» من مقاربته وجسه وفحصه، كما يصرخ جميع الأطفال من جميع الأطباء، فما هي إلا لمحة كأسرع ما يكون لمح البصر، وإذا بأنياب «بيجو» توشك أن تنغرس في ساق الطبيب الذي يعتدي على مولاه بما يُبكيه، أما إذا ربطوه اتقاءً لهذه المفاجآت فلا راحة ولا قرار في البيت كله، لا لمولاه العزيز ولا للنائمين حوله أو الساهرين عليه.

لهذا عوقب «بيجو» على إفراط صداقته بالنفي من جوار مولاه أثناء توعكه وانحراف مزاجه، ورضيت أنا أن أتولى مؤاساته وحراسته أيام منفاه حتى تنجلي الغاشية فيعود إلى مأواه.

وما انقضت فترة وجيزة حتى أصبح «بيجو» شخصية من شخصيات البيت المعدودة، وحتى فرض على نفسه واجبات وأعمالًا لم يفرضها عليه أحد، ولكنه يغضب ويتذمر إذا قاطعته فيها أو عوَّقته عنها، كأنك تحسبه مخلوقًا عاطلًا لا يصلح لعمل، ولا يؤمَن على واجب … عرف عرف الفرق بين جرس التليفون وجرس الباب، فلا يدق هذا أو ذاك إلا أسرع إلى الإجابة، وغضب من الخادم كلما سبقه إلى غرضه، فتظاهر بعضِّه والوثوب عليه.

ومن عجائب ذكائه إذا سمع جرس الباب أسرع إلى الباب، ولم يفعل كما تعوَّد أن يفعل حين يسمع جرس التليفون. مع أن جرس الباب يدق في المطبخ، حيث يكون الخادم ولا يدق في المكان الذي يجري إليه، ولعله عرف أن فتح الباب المقصود بدق الجرس في المطبخ كلما جرى الخادم لفتحه على إثر سماع دقاته، ولكن تفريقه بين الجرسين براعة تشهد له بالقدرة على مزاولة الأعمال والواجبات.

ومن الأعمال والواجبات التي فرضها على نفسه ولم يفرضها عليه أحد أنه لا يدع إنسانًا، ولا حيوانًا يصعد السلم إلا أدركه بنباح الاحتجاج من وراء الباب، فيعدو أمامي ويعود إليَّ ولا يزال يرقص، ويتوثب حتى أجزيه على استقباله بالتحية الواجبة والتربيت المحبب إليه. ألأجل الطعام يهش لي «بيجو» هذه الهشاشة ويرعاني هذه الرعاية؟ أنا أود من الباحثين في طبائع الحيوان أن يراجعوا ملاحظاتهم وأحكامهم في أسباب التأليف والمودة بين الحيوان والإنسان، فإن إطعام الكلب ولا شك سبب من أسباب وفائه وتعلُّقه بأصحابه، ولكن لا شك أيضًا في أن الكلاب تفهم للمودة أسبابًا غير الطعام، وتدرك معنى من معاني الصلة النفسية ليس مما يرتبط بالمنافع.

وأوضح دليل على ذلك أن «بيجو» يعتبر نفسه تابعًا لمولاه «فيفي»، ولا يعتبر نفسه تبعًا لأبيه أو خادم أبيه، وكلاهما يطعمه ويلاطفه ويسقيه. أما «فيفي» فهو لا يطعمه ولا يسقيه ولا يتورع عن خطف طعامه إذا ساغ في مذاقه، وقد يتبرم به فيضربه أو يقبض على لسانه، أو يضع أصبعه في عينيه، وبيجو في كل ذلك لا يقابل الأذى بمثله، ولا يفتأ متعلقًا بالطفل أشد من تعلقه بآله وذويه.

فلما زارني «فيفي» مع أبيه بعد شفائه ونجاته من خطره كان المعقول المنظور أن يخف «بيجو» إلى الأب الكبير، الذي يُعنى بإطعامه وإيوائه ويشمله بمودته. غير أنه التفت أول ما التفت إلى «فيفي» العزيز دون غيره، وتهافت عليه يعانقه، ويلحس وجهه بلسانه ويئن أنينًا من فرط حنينه وفرحه، وجهدنا جهدًا شديدًا في التنحية بينه وبين مولاه الصغير؛ لفرط ما أرهقه بتحياته ومجاملاته، وكنا سبعة منا أستاذ في علم الزراعة والحيوان، وأخ له أديب جم الاطلاع، وصديق مهذب من أدباء الموظفين، وسيدة إنجليزية وابنها اليافع، ووالد فيفي وكاتب هذه السطور. فأتعبنا الكلب الأمين الودود جد التعب، ونحن نبعده من هنا فيرجع من هناك على حال من اللهفة والاشتياق تجلب الدمع إلى الآماق. فماذا بين بيجو ومولاه فيفي من البر والمجاراة غير الصلة النفسية التي لا شأن لها بالطعام والشراب؟ ولماذا يحسب نفسه تابعًا للطفل، ولا يحسب نفسه تابعًا لأبيه؟ إنه لا يفقه أنهم أهدوه إلى فيفي الصغير؛ ليكون لعبته وحارسه وعشيره، ولكنه قد يفقه أنه نده وقرينه بواشجة الطفولة، والملاعبة الصبيانية، وهي على كل حال واشجة غير وشائج المنافع والطعام والشراب.

ويشبه هذا في الدلالة على إدراك الخلائق العجماء للصلات النفسية أن «بيجو» لا يطيق «الطاهي» أحمد حمزة، ولا يرتاح إلى رؤيته ولا يسمع النداء على اسمه حتى يحسبه تهديدًا له بالعقوبة والإقصاء … وهو مع هذا يألف فرَّاش المنزل «محمدًا»، ويهش له ويستريح إلى مصاحبته في المنزل وفي الطريق. فلِمَ كانت هذه التفرقة عنده بين هذا وذاك؟ كلاهما يقدم له الطعام، ويزيد صديقه «محمد» بتجريعه الدواء الذي يتعاطاه لعلاج السعال أحيانًا، وهو يمقته وينفر منه أشد النفور. غير أن الطاهي «أحمد حمزة» يتحاشى «بيجو» خوفًا من النجاسة، فيشعر «بيجو» بجفائه ويلقاه بمثله، ويحتمل التجريع والغصص من زميله لأنه يحتفي به ويأنس إليه.

ومن إدراكه «للمعاني» الفكريه أنك إذا لمسته بالعصا وهو غافل عن رؤيتها، فهو لا يبالي ولا يحفل ولا يحسبك غاضبًا أو قاصدًا لعقابه. ولكنه إذا التفت إليك ورأى أن العصا هي عصا التأديب التي تخوفه بها ظهر عليه الرعب، أو ظهر عليه الأسف والتوسُّل، كأنه يقرن بالعقاب معنى غير الضرب وألمه، وهو استياء سيده وإعداده له عدة العقاب.

والخلاصة أن «بيجو» مخلوق أنيس، وهو أفيد ما يكون في المكتبة التي يمقتها ويستثقل ظلها؛ لأنني استفدت على يديه فوائد جليلة، وأنا أقرأ بعض الكتب الحديثة في علم النفس وعلم الاجتماع.

يقول علم النفس إن التعاطف في التربية والتعليم أنفع وأنجح من تبادل الأفكار، وبيجو يؤكد لي ذلك؛ لأنني أرى منه أن الكلاب أسرع تعلمًا من القردة، وهي أرفع في مرتبة التكوين والإدراك. وإنما فاقت الكلاب القردة بسرعة التعليم؛ لأنها عاشرت الإنسان طويلًا فاتصلت بينه وبينها العاطفة، وإن لم يتقارب بينه وبينها تركيب الأعصاب والدماغ.

ويقول علماء الاجتماع من أنصار «الفاشية» إن الغرائز لا تتبدل وإن الحرب والعدوان غريزة الإنسان، فلا فائدة لوعظ الواعظين بالسلام، ونصح الناصحين بالإخاء والعدل والمساواة، وبيجو يدحض ذلك أيما إدحاض؛ لأنه قد تحدَّر من سلالة الذئاب، فما زالت به التربية والمصانعة حتى أصبح حارس الأطفال والحِملان، وقد كان قبل ذلك آفة كل طفل من بني الإنسان، وكل صغير أو كبير من أبناء الضأن.

ويعد «بيجو» بحق من أحسن الشُّرَّاح للعالم الروسي «بافلوف» صاحب التجارب المشهورة في إخوان بيجو من الكلاب الروسية، فإنه جرب أن الكلب يسيل لعابه إذا شاهد الطعام، فقرن بين تحضير الطعام له ودق الجرس على مقربة منه، فإذا بفمه يتحلَّب كذلك كلما دق الجرس، ولو لم تصحبه رؤية طعام.

فبنى على ذلك مذهبه في مقارنات العواطف، ومصاحبات الشعور وظواهره الجسدية.

وجاء علماء النفس والتربية، فاستفادوا من ذلك فوائد شتى في علاج الخوف والجشع والعادات الذميمة التي يصعب علاجها في بعض الأطفال، فجعلوا يقرنون الشيء المخيف بالشيء المحبوب؛ ليعوِّدوا الطفل أن يسكن إليه ولا يخشاه، ويقرنون الشيء المرذول الذي يحبه الطفل بالشيء المزعج الذي يقصيه عنه وينفره من إتيانه؛ ليقلع عن ذميم الخلال بداهة وعفوًا بغير أمر ولا إلحاح.

بيجو خير مفسِّر لهذا المذهب النافع الذي كان الفضل الأول فيه لواحد من أبناء جنسه، فقد عهدته في منزله الأول، وليس أبغض إليه من السلسلة والطوق؛ لأنهم كانوا يقيدونه بهما في حديقة الدار كلما أضجرهم بعبثه وفضوله.

فلما جاء عندي وليس للمنزل حديقة واسعة أُطلقه فيها أصبحت السلسلة والطوق من أحب الأشياء إليه، وأدعاهما إلى طربه وابتهاجه؛ لأنه تعوَّد كلما رُبط بالسلسلة والطوق أن يخرج مع الخادم لغشيان الطريق، وقضاء ساعته المنذورة للمرح والرياضة في الخلاء.

ولبيجو فنون أخرى يشارك في تفسيرها وتفهمها، وفضائل شتى يتبرع بهداياها ومزاياها، وإن في بعض هذا لما هو حسبنا من تقدير للأستاذ بيجو، والصديق بيجو والزائر الكريم بيجو الذي نخشى أن نسطو عليه لفرط ما نستفيد منه ونأنس إليه.

والآن وقد عرف القارئ من هو «بيجو» لا أراني بحاجة إلى اعتذار من الحزن عليه، والوفاء لذكراه، فإنه لم يخطئ في وفائه ولم يخطئ في خلقته. ولم يخلق إنسانًا فدنس الإنسانية بالغدر، ولكنه خلق كلبًا فشرَّف الحيوانية بالوفاء.

بيجو

حزنًا على بيجو تفيض الدموع
حزنًا على بيجو تثور الضلوع
حزنًا عليه جهد ما أستطيع
وإن حزنًا بعد ذاك الولوع
والله — يا بيجو — لحزن وجيع

•••

حزنًا عليه كلما لاح لي
بالليل في ناحية المنزل
مسامري حينًا ومستقبلي
وسابقي حينًا إلى مدخلي
كأنه يعلم وقت الرجوع

•••

وكلما داريت إحدى التحف
أخشى عليها من يديه التلف
ثم تنبهت وبي من أسف
ألا يصيب اليوم منها الهدف
ذلك خير من فؤاد صديع

•••

حزني عليه كلما عزني
صدق ذوي الألباب والألسن
وكلما فوجئت في مأمني
وكلما اطمأننت في مسكني
مستغنيًا أو غانيًا بالقنوع

•••

وكلما ناديته ناسيَا:
بيجو! ولم أبصر به آتيَا
مداعبًا مبتهجًا صاغيَا
قد أصبح البيت إذن خاويَا
لا من صدى فيه ولا من سميع

•••

نسيت؟ لا، بل ليتني قد نسيت
أحسبني ذاكره ما حييت
لو جاءني نسيانه ما رضيت
بيجو معزيٌّ إذ ما أسيت
بيجو مناجيَّ الأمين الوديع

•••

بيجو الذي أسمع قبل الصباح
بيجو الذي أرقب عند الرواح
بيجو الذي يزعجني بالصياح
أو نبحة منه، وأين النباح؟
ضيعت فيها اليوم ما لا يضيع

•••

خطوته يا برحها من ألم
يخدش بابي وهو ذاوي القدم
مستنجدًا بي، ويح ذاك البكم!
بنظرة أنطق من كل فم
يا طول ما ينظر! هذا فظيع

•••

ثم، لا أرى النوم لعيني يطيب
أنتم خبيرون بنهش القلوب
يا آل قطمير هواكم عجيب
غاب سنا عينيك عند الغروب
وتنقضي الدنيا ولا من طلوع

•••

نم واترك الأفواج يوم الأحد
والبحر طاغ والمدى لا يُحد
عيناي في ذاك وهذا الجسد
بوحشة القلب الحزين انفرد
والليل والنجم وشعب خليع

•••

أبكيك أبكيك وقلَّ الجزاء
يا واهب الود بمحض السخاء
يكذب من قال طعام وماء
لو صح هذا ما محضت الوفاء
لغائب عنك وطفل رضيع

هوامش

(١) مهداة إلى صحيفة النيل الغراء بالخرطوم.
(٢) إشارة إلى جزيرة مصر المشهورة والمقرن هو حديقة بالخرطوم في موضع الاقتران بين النيلين.
(٣) إشارة إلى صحيفة صوت السودان الغراء من أكبر صحف الخرطوم.
(٤) هذا الوصل لا يرضاه العروضيون، ولا نجري على مذهبهم فيه.
(٥) اقترحت محطة الإذاعة المصرية موضوع هذه القصيدة لتحية المحطة العربية بلندن عند الاحتفال بمرور عامين على افتتاحها.
(٦) الأثير هنا بمعنى المأثور وهو المفضل المنتقى.
(٧) أذيعت في مطلع العام الثاني لمجلة «المستمع العربي»، التي تصدرها محطة الإذاعة العربية بالعاصمة الإنجليزية.
(٨) اسم من أسماء دمشق.
(٩) اتفق في إبان الاحتفال بعام المجلة الثاني أن تحولت كفة النصر إلى جانب الدول الديمقراطية.
(١٠) الخلة هي الخليلة والصديقة.
(١١) الكتب في الغالب موتى يتكلمون، فإذا قرأت فيها فكأنك تصغي إلى جماجم تتكلم.
(١٢) عمر الخيام الشاعر الفيلسوف الفارسي، وله رباعية بهذا المعنى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤