مقدمة

الكسندرس ستب-ني-رع-مري-أمن

الإسكندر الأكبر ومصر

وصل بنا المطاف في الجزء الثالث عشر من «مصر القديمة» إلى استيلاء «الإسكندر الأكبر» المقدوني على أرض الكنانة جملة من يد شطربة الفرس «مازاكس» الذي سلمه البلاد دون قتال (راجع مصر القديمة الجزء الثالث عشر) وكان ذلك في خريف عام ٣٣٢ وربيع عام ٣٣١ق.م لم يطُلْ مكث «الإسكندر» في مصر أكثر من بضعة أشهر ثم غادرها ليقوم بمتابعة فتوحه التي بدأها في دولة الفرس التي كانت وقتئذ أعظم دولة صاحبة بطش وسلطان في العالم القديم.

ولكن على الرغم من أن «الإسكندر» لم يمكث في مصر إلا أشهرًا قلائل فإنه في خلال تلك المدة القصيرة تمكَّن من وضع أساس مملكة مقدونية إغريقية كانت غربية في ظاهرها مصرية في أصولها، وقد استمرت دولة البطالمة ثابتة الأركان قوية الدعائم ثلاثة قرون كاملة، وفي خلال تلك المدة الطويلة نهضت مصر نهضة جبارة من حيث العلوم والمعارف والاقتصاد والتجارة والصناعة وازدياد عدد السكان بما يذكِّرنا بمجد مصر في عهد الدولة الحديثة الفرعونية، غير أنه مما يُؤسَف له جد الأسف أن هذه النهضة لم تكن مصرية أصيلة بل كانت في مظاهرها إغريقية مقدونية، ومن أجل ذلك لبست فوق ثوبها المصري الأصيل ثوبًا جديدًا إغريقي المسحة غطى كثيرًا على الثوب المصري الوطني، ومع هذا لم يكن في مقدور حكام البطالمة ومن احتل مصر معهم من إغريق ومقدونيين أن يبلوا هذا الثوب المصري العريق في متانته.

والواقع أن هذا الثوب المصري قد ظل بلُحمته وسداه يقرض الثوب الإغريقي البراق كلما وجد إلى ذلك سبيلًا حتى تلاشى هذا الأخير فيه، ويرجع الفضل في ذلك للشعب المصري الأصيل الذي أخذ يكافح الشعب الإغريقي الحاكم بكل ما أوتي من قوة حتى تغلب في نهاية الأمر وأظهر شخصيته على الأجانب المستعمرين، ولا غرابة في ذلك؛ فإن الشعب المصري القديم كان لا يزال على الرغم من تدهوره شعبًا أصيلًا لم يتمكن شعب آخر أو حاكم أجنبي مهما بلغ سلطانه أو قوته أن يتغلب عليه أو يغير من عاداته وأخلاقه التي طُبِعَ عليها منذ القدم، ويرجع السبب في ذلك إلى أنه كان شعبًا محافظًا إلى أقصى حدود المحافظة، ومن أجل ذلك كانت عنده القدرة على أن يهضم أي شعب يغزوه حتى يجعله جزءًا منه، يضاف إلى ذلك أن الشعب المصري كان يعتبر في نظر الأقوام والشعوب المجاورة له والنائية عنه أعرق شعوب العالم من حيث العلوم والمعارف والدين، ولا نزاع في أنه كان يعد الشعب المختار الذي نهلت من حياض عرفانه كل ممالك الشرق القديم، وبخاصة بلاد اليونان التي كانت على اتصال وثيق به طول معظم العهود القديمة، وقد دلت البحوث العلمية الحديثة والكشوف الأثرية على أن الشعب الإغريقي قد أخذ كل مبادئ علومه التي امتاز بها عن سائر العالم عن مصر، ولقد كانت الروابط وثيقة بين الشعب المصري والشعب الإغريقي في خلال بضعة القرون التي سبقت فتح الإسكندر لمصر، ولا عجب إذن أن نرى الإسكندر عندما دخل مصر فاتحًا ملمًّا بعلومها وديانتها ومكانتها في العالم القديم، وبخاصة عندما نعلم أنه تلقى علومه وتربيته على يد فلاسفة إغريق، وقبل أن نتحدث عن آثار «الإسكندر الأكبر» في مصر يطيب لنا أن نلقي نظرة خاطفة على الأحوال العالمية قبل قيام «الإسكندر» بفتحه العظيم الذي شمل وقتئذ معظم العالم القديم المتمدين وبخاصة بلاد الفرس التي كانت هدفه الأول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤