الفصل السادس والعشرون

توقيع

وافقته آيريس قائلةً بتبلد: «بالطبع هي قصة اختلقتها. يا لي من حمقاء!»

بينما كانت تحاول كظم خيبة أملها، بدأ شخص ما — على مسافة منهم من الممر — يتحدث بصوت مرتفع على غير المعتاد. كانت كلماته غير مفهومة لها، وكان لها وقع تعويذة سحرية لهطول المطر على أذنيها، لكن تهلَّلت أسارير هير.

قال وهو يهب على قدميه: «أحد معه مِذياعٌ لاسلكي، إنها نشرة الأخبار. سأعود على الفور.»

عندما عاد، أخبر آيريس بما سمعه.

«ها هي جريمة قتل مُثيرة أخرى تضيع سدًى؛ فأدلة الطب الشرعي في قضية مقتل المحرر تشير إلى أنه أُردي بالرصاص في منتصف الليل تقريبًا، بينما غادر المُتأبَّه بعد العشاء مباشرة متجهًا إلى كوخ الصيد الذي يملكه؛ لذا لا يسعهم إدانته بها. يا للخسارة!»

بينما هو يتحدث، لاح في ذاكرة آيريس أمرٌ ما، كبيوت العنكبوت الحلزونية التي تهفو في الهواء في صباح يوم خريفي ساكن، انتبهت بينما كان هير ينظر إلى ساعته.

قال لها: «لقد اقترب موعد جولة العشاء الثانية، فهل ستأتين؟»

«كلا، لكن الآخرين سيعودون عما قريب.»

«وما همك أنت؟ هل تخافين منهم؟»

«لا تكن سخيفًا، لكنهم يتجمعون كلهم في ذلك الجانب، وأنا … وأنا لا أحب أن أكون قريبة لتلك الدرجة من ذلك الطبيب.»

«لست خائفة إذن. حسنًا، ستكون مقصورتنا خاوية بينما نتعشى أنا والبروفيسور. وأنا مستعدٌّ لتأجيرها من الباطن لمستأجرٍ جيد مُقابل ثمن زهيد.»

بعد أن غادر، شعرت آيريس بالوهن القديم يتسلل إليها. علِمت من صوت هرير ممطوط، يُشبه صوت نحيب روح معذَّبة، تبعه صوت يُشبه هدير طلقات مدفع رشَّاش، أنهم يمرُّون عبر نفق. وهذا يشير إلى احتمال وقوع أمر مريع.

ماذا إن كان أحد في تلك اللحظة يُلقي بجثة خارج القطار؟

ذكَّرت نفسها أن قصة هير من وحي خياله واستطاعت طرحها عن ذهنها، لكن قصةً أخرى — قرأتها في مجلة ويُفترض أنها حقيقية — حلَّت محلها.

كانت تحكي عن سيدتين وصلتا مساءً إلى فندق أوروبي، في طريق عودتهما من جولة بالشرق. حفظت الابنة جيدًا رقم غرفة أمها قبل أن تذهب هي إلى غرفتها. عندما عادت في وقت لاحق لم تجد أي أثر لأمها، ووجدت بالغرفة أثاثًا جديدًا وورق حائط جديدًا.

عندما طرحت الأسئلة، أكَّد العاملون بالفندق جميعًا، بدايةً من المدير ومرورًا بمن تحته جميعًا، أنها جاءت إلى الفندق بمفردها. لم يكن اسم الأم مدونًا في سجل النزلاء. ودعَّم المؤامرةَ سائقُ سيارة الأجرة والحمَّالون في محطة القطار.

اختفت الأم وكأنها لم تكن.

لكن بالطبع كان لذلك تفسير. في غياب الابنة، ماتت الأم بالطاعون الذي كانت قد أصيبت به في الشرق. تلك الشائعة وحدها كفيلة بإثناء ملايين الزوار عن زيارة المعرض الذي سيُقام في المدينة. لما كانت مصالح مهمة إلى ذلك الحد تقف على المحك، كان لا مناص من التضحية بفرد واحد.

بدأت كفَّا آيريس تتعرقان وهي تتساءل عن احتمال أن يكون اختفاء الآنسة فروي مُناظرًا لذلك الحادث لكن على نطاق ضيق للغاية. في حالتها لن يتضمن مؤسسة كبيرة معقدة، أو مؤامرة مدهشة، بل مجرد تحالف بين حفنة من ذوي المصالح.

وقد بيَّن لها هير كيف من الممكن لذلك أن يحدث.

بدأت تحاول مطابقة الوقائع مع تلك النظرية. أولًا، مع أن البارونة ثرية، فإنها تُشارك عامةَ القوم في مقصورة. لمَ؟ لأنها قرَّرت القيام بتلك الرحلة في اللحظة الأخيرة فلم يتسنَّ لها حجز مقصورة؟ لو كان الأمر كذلك، لَمَا استطاعت الأختان فلود-بورتر والزوجان تودهانتر حجز مقصورة خاصة.

أكان ذلك شحًّا منها إذن؟ أم أنها أرادت أن تجلس في مقصورة معيَّنة في نهاية الممر، بجوار عربة الطبيب، حيث لن يراهما أحد أو يُزعجهما؟

علاوة على ذلك أهي صدفة أن يكون باقي ركاب المقصورة من السكان المحليين ممن تتحكم في مصائرهم إلى حد كبير؟

ظلَّت تلك الأسئلة دون إجابة، بينما لاحت غيمةٌ جديدة من الشكوك في ذهن آيريس. كان من غير العادي أن تُترَك الستائر دون إسدال في مقصورة المريضة. تُركت في واجهة العرض — إن جاز التعبير — للإعلان عن بضاعتهم. أكان الغرض من ذلك هو تمهيد الطريق لنسخة من الاستراتيجية القديمة؛ إخفاء شيء حيث يكون على مرأًى من الجميع؟

لكن، ما الذي فعلته الآنسة فروي المسكينة؟ كان هير محقًّا عندما قال إنه لا يعنيه سوى الدافع. إلى حد علم آيريس، أوفت الآنسة فروي بواجباتها بأمانة شديدة، حتى إن رب عملها الموقَّر شكرها بنفسه على الخدمات التي أدَّتها له.

فجأةً شهقت آيريس بانفعال.

وقالت بصوت هامس: «ذلك هو السبب.»

كان من المفترض أن يكون الرجل البارز في كوخ صيده وقت وقوع الجريمة، لكن الآنسة فروي، والتي كانت مستلقية في فراشها دون أن تنام في غير كياسة، باغتته بخروجها من الحمام الوحيد بالقصر، حيث كان يغتسل قبل أن ينسلَّ خارجًا.

بهذا تكون قد أسقطت حجة غيابه.

فمعرفتها تلك ستُمثل خطرًا مؤكدًا لأنها كانت ستعود كي تشتغل بالتدريس لأبناء قائد الحركة الشيوعية؛ فالجميع يعرف أنها تُدمن الثرثرة والنميمة، وهي حتمًا ستفخر بحيازتها ثقة الرجل البارز، ولن تُخفي ذلك. ولأنها مُواطنة بريطانية — لا مأرب لها من وراء الأمر — ستُرجَّح كفة شهادتها في مقابل مجموع شهادات المعنيين.

عندما صافحها ذلك الرجل البارز بأدب جم، كان بذلك يُسطر نهايتها.

تصوَّرت آيريس الاجتماع العائلي الذي أُجري عند مطلع الفجر، والاستدعاءات المستعجلة للحلفاء الضروريين. كانت الرسائل السرية تُتناقَل بهمهمة عبر الهواتف حتمًا. في ضوء ذلك الظرف الطارئ، تُقرر بدافع الضرورة أن إسكات الآنسة فروي لا يمكن أن يكون جريمة كاملة.

حاولت كبت جماح خيالها.

«ماكسميليان أو ماكس تتذكرينه. حَبك لي قصة من خياله. كان يُبالغ بالوقائع كي تُلائم قصته. ربما أفعل الأمر نفسه. لا جدوى من القلق بشأن امرأة ربما لا وجود لها؛ ففي النهاية ربما تكون مجرد وهم كما يزعمون. أتمنى لو استطعت التيقن.» لم تكن قد نسيت اسمه منذ أن قال لها: «هير اسمٌ طويل يصعب أن تتذكريه.»

تحقَّقت أمنيتها تلك بأسلوبٍ مُثير. كان الجو داخل العربة قد صار خانقًا، وتدريجيًّا تحوَّل البخار المتجمع على زجاج النافذة إلى قطرات ماء بدأت تنساب لأسفل.

تابعت آيريس ببصرها إحداها وهي تنزلق من أعلى النافذة المتسخة إلى زاوية منها.

وفجأةً أجفلت عندما لاحظت اسمًا كُتِب بخط دقيق على الزجاج الذي يُغطيه البخار.

لما مالت نحوه، استطاعت أن تقرأ بوضوحٍ التوقيع. كان «وينفريد فروي».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤