الفصل السابع والعشرون

اختبار الحمض

حملقت آيريس في الاسم وهي تكاد لا تُصدق أن عينيها لا تخدعانها. كان الخط دقيقًا ذا منحنيات دائرية غير حادَّة، كخط تلميذة مدرسية، وكان ينطق بشخصية المعلمة الودودة، التي تقف بين وقار الكهولة وريعان الصِّبا.

كان دليلًا مؤكدًا على أن الآنسة فروي جلست مؤخرًا في المقعد بتلك الزاوية. تذكَّرت آيريس بإبهامٍ أنها رأتها تحيك شيئًا ما عندما دخلت المقصورة لأول مرة. عندما خطَّت اسمها على الزجاج المعتم بطرف إبرتها، كانت تُنفس عن شيء من حماستها للعطلة.

قالت آيريس وهي تطير فرحًا: «لقد كنت مُحقة في النهاية.»

شعرت براحة غامرة لخروجها من غياهب كابوسها، لكن ما لبث أن طغى على فرحتها شعور بكارثة حتمية.

لم تعُد تُحارب الظلال، بل تُواجه خطرًا فعليًّا.

فثَمة مصيرٌ مريع ينتظر الآنسة فروي، وهي الشخص الوحيد على متن القطار الذي يدرك ذلك المأزق، والوقت يمرُّ دون هوادة. نظرت إلى ساعتها فوجدت أنها التاسعة إلا عشر دقائق. في أقل من ساعة سيصل القطار إلى ترييستي.

وترييستي الآن تحمل دلالة بشعة؛ إذ إنها بمثابة غرفة الإعدام.

كان القطار يسير بسرعة هائلة، في محاولة لاستعاضة الوقت المُهدَر. كان يُقعقع ويصرُّ وهو يسلك المنحنيات، تهتز عرباته كأنها لا تعبق برائحة حمولتها من البشر. شعرت آيريس أنهم في قبضة قوة غضبى عديمة الشفقة، هي بدورها ضحية نظام لا يرحم.

فسيتعرَّض السائق لجزاء عن كل دقيقة يتأخرها عن موعد الوصول المحدد.

دفع حس آيريس بإلحاح الموقف لأن تهبَّ واقفةً من مقعدها، إلا أنها ما لبثت أن فعلت حتى ترنَّحت مجددًا؛ إذ ضربتها موجةٌ مفاجئة من الدوار. نتيجةً لتلك الحركة المتهورة، شعرت بنبض داخل رأسها وبآلام مُبرحة خلف محجرَي عينيها. أشعلت سيجارة في أمل واهن أن يكون لها تأثير مهدئ.

أنبأها ضجيج الأصوات الآتي من الممر أن الركاب قد بدءوا يعودون من العشاء. كانت الأسرة والشقراء أول الواصلين. كانوا جميعًا في مزاج رائق بعد أن تناولوا وجبتهم فلم يعبئوا بآيريس التي نظرت لهم شزرًا من مقعدها. أحنقها سكوتهم عن المؤامرة، حتى مع أنهم يجهلون أن خطرًا يُهدد الآنسة فروي، بل سرَّهم فحسب أن قدَّموا خدمة بسيطة للبارونة.

تبعتهم السيدة التي ترتدي حلة الآنسة فروي التويدية وقبعتها ذات الريشة. فور أن وقعت عيناها على تلك المنتحلة، ارتفعت حرارة آيريس مجددًا وهي تتساءل في نفسها إن كانت تلك هي بالفعل الممرضة الثانية التي التقتها في الممر.

فكلتاهما لها عينان سوداوان باهتتان وبشرة شاحبة وأسنان نخرة، لكن الفلَّاحات اللاتي رأتهن في غرفة الانتظار لم يختلفن عنها في شيء تقريبًا. لما استحال أن تصل إلى أي استنتاج نهضت آيريس واندفعت خارجةً إلى الممر.

كانت متحفزة للتصرف وتنوي اقتحام المقصورة المجاورة، لكن البارونة اعترضت طريقها بجسدها الضخم المتشح بالسواد الذي كاد يسدُّ الممر الضيق. عندما شبَّت آيريس لتتطلع إلى ما وراء كتفها، أدركت أنها مُحاصَرة في منطقة الخطر بالقطار، بعيدًا عن جميع من تعرفهم.

اعتراها فجأةً شعورٌ بالعجز والخوف وهي تشيح ببصرها عن الوجه العابس إلى الظلام الدامس الذي يمرق خارج النافذة. زادت صرخات المحرك الجنونية واهتزازات القطار العنيفة من شعورها بأنها داخل كابوس. مرة أخرى، بدأت ركبتاها ترتعدان وخشيت بشدةٍ أن تفقد وعيها.

لكن خشيتها من أن تفقد وعيها فتصير تحت رحمتهم جعلتها تُصارع الدوار بكل ما أوتيت من قوة. بعد أن لعقت شفتيها الجافَّتين، تمكَّنت من الحديث إلى البارونة.

«دعيني أمُر رجاءً.»

عوضًا عن أن تُفسح لها الطريق، تطلَّعت البارونة إلى وجهها المختلج.

وقالت: «أنت تتألمين. هذا ليس أمرًا جيدًا؛ فأنت يافعة وتُسافرين دون رفقاء. سأطلب من الممرضة هنا أن تُعطيك قرصًا لإراحة ألم رأسك.»

قالت آيريس بحزم: «كلا، شكرًا لكِ! رجاءً، هلَّا تنحَّيت جانبًا؟»

لم تلتفت البارونة لطلبها، أو لرفضها، بل صاحت بأمرٍ حازم فخرجت الممرضة ذات الوجه القاسي إلى مدخل مقصورة المريضة. لاحظت آيريس لا شعوريًّا أن كلمات البارونة لا تتسق وكونها طلبًا عاديًّا، بل كانت أمرًا بالتحرك الفوري.

كان البخار قد بدأ يتجمع على زجاج نافذة مقصورة المريضة بفعل الحرارة، لكن آيريس حاولت أن تُلقي نظرة بالداخل. بدا كأن الجسد الساكن الممدَّد على المقعد لا وجه له، بل مجرد غشاوة بيضاء.

فيما تساءلت في نفسها عما يستقرُّ تحت تلك الضمادات لاحظت الممرضة اهتمامها، فتقدَّمت بغتةً وأمسكت بذراعها كأنها ستسحبها إلى الداخل.

تطلَّعت آيريس إلى ثغرها القاسي، والظلال الداكنة حول شفتيها والأصابع القوية التي تكسوها شعرات سوداوات قصيرة، وقالت في نفسها: «إنه رجل.»

دفعها الذعر لأن تُقدم على حركة غريزية دفاعًا عن نفسها. بالكاد كانت تعي ما تفعل وهي تدسُّ طرف سيجارتها المشتعلة في ظهر كف السيدة. من دهشتها، أرخت قبضتها وهي تنطق بما يُشبه القسم.

في تلك اللحظة، اندفعت آيريس عنوة من جانب البارونة وانطلقت تركض في الممر وهي تشق طريقها خلال سيل الركاب العائدين من العشاء. مع أنهم أعاقوا طريقها، كانت مُمتنَّة لوجودهم لأنهم شكَّلوا حاجزًا بينها وبين البارونة.

بعد أن هدأ ذعرها، بدأت تدرك أن جميع مَن بالقطار يضحك منها على ما يبدو. الحارس لم يُخفِ ابتسامته الساخرة وهو يلوي شاربه القصير المنتصب. رأت لمحات من أسنان بيضاء وسمعت ضحكات ساخرة مكتومة. من الواضح أن الركاب يرون أن مسًّا من جنون قد أصابها، وأنهم مستمتعون بعرضٍ مُسلٍّ.

سخريتهم تلك جعلت آيريس تدرك الموقف. تنبَّهت لِذاتها وشعرت بالخجل كأنها في حلم تسير فيه عاريةً.

سألت نفسها: «يا للهول! ماذا فعلتُ؟ الممرضة لم تفعل سوى أنها قدَّمت إليَّ مُسكِّنًا أو ما شابه، وأنا أحرقت رسغها. إن كانوا حقًّا نزهاء فسيحسبون أنني مجنونة.»

ثم استيقظ ذعرها مرة أخرى عندما تذكَّرت الآنسة فروي.

«لن يسمعوا إليَّ، لكن عليَّ أن أجعلهم يفهمون الحقيقة بشأنها. هذا القطار طويل للغاية. لن أصل إلى مقصدي أبدًا. وجوه. وجوه ضاحكة. الآنسة فروي. يجب أن أصل في الموعد المناسب.»

شعرت أنها سجينة كابوس مريع كأنما ثُقِّلت فيه أطرافها بأثقال من رصاص ويأبى جسدها أن يستجيب لإرادتها. كان الركاب يُعيقون طريقها، فكانت كلما تقدَّمت خطوة للأمام ترجع خطوتين للخلف. في خيالها المضطرب، كانت وجوه أولئك الغرباء رسومات هزلية للطبيعة البشرية، خاوية وفاقدة للحس وبلا قلب. فبينما الآنسة فروي في طريقها لأن تُقتَل لا يكترث أي منهم لشيء سوى العشاء.

بعد جهاد طويل في عدة أقسام من القطار — عندما استحالت الممرات الواصلة إلى كونسيرتينات تعزف ألحانًا لصرير الحديد — وصلت إلى عربة المطعم. عندما سمعت طنين احتكاك الخزف وهمهمة الأصوات هدأت عاصفة ذهنها، فظلَّت واقفة عند المدخل يُصارع حسها بالعرف خوفها وذعرها الغريزيين.

كان الحساء يُقدَّم، وكان مَن يتناولون العشاء يحتسونه بنَهَمٍ؛ إذ انتظروا وجبتهم طويلًا. أدركت آيريس في لحظة من صفاء الذهن أن محاولة إقناع رجال جائعين بدءوا يتناولون عشاءهم للتو لا أمل منها.

مرة أخرى، لاقت نظرات عدائية وهي تسير في الممر بين الطاولات. ضحك نادلان يتهامسان ضحكة مكتومة، فرأت أنهما يسخران منها حتمًا.

كان البروفيسور، الذي تشارك طاولة مع هير، أول من رآها، فلاح على وجهه الطويل نظرة توجس خاطفة. كان يتجاذب أطراف الحديث مع الطبيب، الذي بقي ليحتسي القهوة والنبيذ؛ إذ لم تكن المقاعد للعشاء الثاني مشغولة جميعها.

حدَّقوا جميعًا بآيريس فسرت قشعريرة في جسد آيريس من ذلك الاستقبال. حتى عينا هير لم تحملا ترحابًا؛ إذ تطلَّع إليها بعبوس قلق.

استجدت البروفيسور في يأس.

«بربِّك تابِعِ احتساء حسائك، لا تتوقف، لكن اسمعني رجاءً؛ فذلك أمرٌ بالغ الأهمية. أعلم يقينًا أن الآنسة فروي موجودة، وأعلم أن مؤامرةً تُحاك ضدها، وأعلم سبب تلك المؤامرة.»

هزَّ البروفيسور كتفيه بإذعان وتابع احتساء حسائه. بينما كانت تروي قصتها غير المترابطة باندفاع، هالها ضعف حججها، فيئست من إقناعه قبل أن تُنهيها. استمع إليها في صمتٍ تام، وبدا منشغلًا بإضافة نسبة الملح المضبوطة إلى حسائه.

بعد أن أنهت حكايتها، نظر إلى الطبيب رافعًا حاجبيه مُستفهمًا، فطفق ذلك الأخير يخوض في شرح سريع. أدركت آيريس وهي تُراقب وجوههم بعينين قلقتين أن هير انزعج مما يُقال؛ إذ قاطع الحديث.

«هي لم تحبُك تلك القصة، بل أنا من فعلت. ألَّفتُها على سبيل التسلية، فصدَّقتها الفتاة المسكينة؛ لذا إن كنتم ستتَّهمون أحدًا بالخبل فلتتَّهموني أنا.»

قطع حديثه وقد أدرك فجأةً ما كشفه، لكن آيريس كانت ذاهلة للغاية فلم تلاحظ أي تعريضات فيما قال.

قالت تترجَّى البروفيسور: «والآن، ألن تأتي معي؟»

نظر إلى الطبق الخاوي الذي وضعه النادل أمامه استعدادًا لتقديم وجبة من الأسماك.

سألها بتثاقل: «ألا يمكن لذلك أن ينتظر إلى بعد العشاء؟»

«ينتظر؟ ألا تفهم؟ الأمر عاجل لأقصى درجة. عندما نصل إلى ترييستي، سيكون الأوان قد فات.»

مرة أخرى، استشار البروفيسور في صمتٍ الطبيب الذي ظلَّت عيناه مثبَّتتين على آيريس وكأنما يحاول تنويمها بالإيحاء. عندما تحدَّث أخيرًا تحدَّث بالإنجليزية كي تفهمه.

«ربما من الأفضل أن نذهب على الفور لنرى مريضتي. أنا آسف على إفساد عشائك يا بروفيسور، لكن الشابَّة في حالة شديدة من التوتر العصبي، وقد يكون من الآمن أن نُحاول طمأنتها.»

نهض البروفيسور من مقعده وقد ارتسم على وجهه تعبيرٌ يُشبه مَن وقع شهيدًا لحس عدالته. مجددًا، قطع الموكب الصغير ممرات القطار المترنح في صف واحد. عندما أوشكوا على بلوغ وجهتهم، التفت هير إلى آيريس وتحدَّث إليها بنبرة هامسة حادة.

«لا تتصرفي بحماقة وتُقدِمي على أي تصرف متهور.»

تولَّاها الجزع عندما أدركت أن نصيحته جاءت بعد فوات الأوان؛ فقد كانت الممرضة تُري يدها بالفعل للطبيب والبروفيسور. لاحظت آيريس دون تركيز أنها تلفُّ رسغها بضمادة جروح وكأنما تريد حجبها عن الفحص المتمعن.

التفت إليها الطبيب وتحدَّث بنبرة مطمئنة معسولة.

«يا فتاتي العزيزة، ألا ترين أن إحراق ممرضتي المسكينة تصرُّف متهور للغاية؟ هي لم تفعل سوى أنها عرضت عليك قرص دواء لا ضرر منه لتخفيف ألم رأسك. أترى كيف يتشنج وجهها يا بروفيسور؟»

تراجعت آيريس عندما لمس جبهتها بسبَّابته الباردة ليُبين قصده.

فجأة، تذكَّرت أنه عندما يكون المرء على وشك أن يخسر لعبة دفاعية، يكون الهجوم هو أمله الوحيد. استجمعت شجاعتها، وتمكَّنت من الحديث بصوت هادئ.

«لا يسعني أن أتأسف بما يكفي بشأن ذلك الحرق. لا يغفر لي أن أقول إنني كنت في حالة من الهلع، لكن لديَّ ما يُبرر حالتي تلك؛ فثَمة أمور كثيرة جدًّا لا أفهمها.»

قبِل الطبيب التحدي.

سألها: «أمورٌ مثل ماذا؟»

«حسنًا، أخبرني البروفيسور أنك عرضت أن تصحبني إلى دار رعاية في ترييستي.»

«وهو عرض لا يزال قائمًا.»

«لكن يُفترض أنك تهرع بمريضة إلى المستشفى لإجراء عملية خطيرة لها، فكيف يتسنَّى لك أن تشغل نفسك بغريبة؟ ذلك يدفع المرء للتشكك في خطورة إصاباتها، أو في أنها تُعاني أي إصابات على الإطلاق.»

داعب الطبيب لحيته.

«قدَّمت عرضي ذلك لا لسببٍ سوى إعفاء البروفيسور من مسئولية ثقيلة على نفسه، مسئولية تقع في مجال اختصاصي لا في مجال اختصاصه، لكني يؤسفني أن أخبرك أنك تُبالغين في تقدير أهميتك. كانت نيتي هي أن أمنحك مقعدًا في عربة الإسعاف التي ستصحبنا للمشفى، وبعد أن نصحب مريضتنا للداخل سيتبع السائق التعليمات ويصحبك إلى دار رعاية أوصيت بها. لم يكن ذلك من أجل أن تلقَي رعاية متخصصة، بل كي تحظَي بقسط جيد من النوم لتتمكني من متابعة رحلتك في اليوم التالي.»

بدا العرض منطقيًّا للغاية، فلم يسع آيريس إلا أن تتراجع وتطرح سؤالها التالي.

«أين الممرضة الأخرى؟»

سكت البروفيسور طويلًا قبل أن يُجيب.

«لا يوجد سوى ممرضة واحدة.»

عندما تطلَّعت آيريس إلى وجهه الجامد الذي عزَّزته لحيته السوداء المدبَّبة، أنبأها حدسها أن الاعتراض سيكون غير ذي جدوى؛ إذ سيُسفر عن النتيجة نفسها؛ الإنكار من جميع الجوانب. فلن يكون أحد سواها قد رأى الممرضة الثانية. وبالمثل، لن يُصدق أحدٌ أن توقيع الآنسة فروي أصلي. هذا إن لم تمحُه قطرات البخار.

توجه الطبيب إلى البروفيسور بالحديث.

قال له: «أنا آسف على إبقائك أكثر، لكن لدينا هنا سيدة شابَّة تعتقد في أمور مريعة. يجب أن نحاول إقناعها بأنها متوهمة.»

سار إلى جسد مريضته المغطَّى، ورفع طرف إحدى البطانيات كاشفًا عن ساقين مهندمتين، وسألها: «هل تُميزين ذلك الجورب أو ذلك الحذاء؟»

هزَّت آيريس رأسها نفيًا وهي تنظر إلى الجورب السميك الحريري، والحذاء الرسمي البني ذي الإبزيم الواحد الذي يرتفع عنقه إلى الربلتين.

قالت: «أنت تعرف أني لا أميزهما، لكن ربما كان حظك أفضل إن رفعت ضمادة واحدة فحسب وسمحت لي أن أرى وجهها.»

قطب الطبيب وجهه في ذعر، وقال: «أها، أرى أنك لا تدركين الوضع. عليَّ أن أخبرك بأمرٍ غيرِ سارٍّ. أصغي إليَّ.» نقر بطرف إصبعه جبهة المريضة الملفوفة بالضمادات. «ليس ثَمة وجه تحت ذلك على الإطلاق. لا وجه. بل مجرد كتل من اللحم المكشوف. ربما تُمكننا من منحها وجهًا جديدًا تمامًا إن حالفنا الحظ. سنرى.»

تحرَّكت أنامله وحامت لبرهة فوق الضمادات التي تُغطي عينَي المريضة، ثم قال: «ما زلنا ننتظر حكم طبيب العيون بشأن هاتين العينين. حتى ذلك الحين، لا نجرؤ على تعريضهما لمجرد ومضة من الضوء. ربما يكون قد أصابها العمى الكلي؛ فإحداهما تحولت إلى عجينة، لكن العلم بإمكانه أن يصنع المعجزات.»

ابتسم لآيريس وتابع حديثه.

«لكن أبشع إصابة هي إصابة الدماغ، لكني سأعفيك من وصفها؛ فالغثيان يبدو عليك بالفعل. أولًا، علينا أن نُعالج تلك الإصابة. بعدها نهتم بباقي الإصابات. هذا إن ظلت المريضة على قيد الحياة.»

قالت له آيريس: «أنا لا أصدقك. تلك كلها أكاذيب.»

قال الطبيب بنبرة هادئة: «في تلك الحالة، بإمكانك أن تقنعي أنت نفسك. ما عليك سوى أن تنزعي إحدى تلك الضمادات اللاصقة عن وجهها لتتأكدي، لكن حذارِ، فإن فعلت فسيبدأ النزيف مجددًا وستموت المريضة على الفور بفعل الصدمة. ستُدانين أنت بجريمة قتل وتُعدَمين شنقًا، لكن لأنك واثقة تمامًا من الوجه الذي سيُطالعك من وراء تلك الضمادات، فلن تترددي. هلَّا نزعت تلك الضمادة؟»

شعرت آيريس بأصابع هير تقبض على ذراعها بينما وقفت مترددةً. أنبأها حدسها بأن الطبيب يُمارس خدعة، وأن عليها أن تنتهز أي فرصة وإن كانت الأخيرة لإنقاذ حياة الآنسة فروي.

لكنه أدى عمله على أكمل وجه؛ فقد جعلتها فكرة ذلك الوجه المشوَّه الذي تتفجر منه ينابيع الدم تتراجع خوفًا. وماذا ينتظرها بعد ذلك؟ حبل المشنقة أو السجن مدى الحياة في مصحة بروودمور النفسية. كان ذلك مصيرًا مريعًا لم تتحمل التفكير فيه.

همست: «لا، لا أستطيع.»

قال الطبيب باستهزاء: «أها، أنت تتحدثين كثيرًا لكنك لست شجاعة كثيرًا.»

للمرة الأولى، خطر لآيريس أنه لم ينوِ قط تعريض مريضته للخطر. إن كان قد فعل، لكان ذلك بمثابة انتحار مهني. كان يقف متأهبًا هو وممرضته، في تربص لحركاتها.

لكن على أي حال، كان لديه مأرب خفي؛ إذ بدت عليه خيبة الأمل.

في ذلك الحين، كانت آيريس تشعر بحزنٍ أكمد قلبها من جُبنها الذي حبسها عن التمادي في الاستفسار، وأدركت أن لديها خصمين داخل المقصورة.

الطبيب، ونفسها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤