ضحايا الهند

١

في ليلة من ليالي الشتاء الباردة كان ثلاثة من لصوص باريس جالسين على ضفة نهر السين، وقد مضت ساعة على انتصاف الليل، ورقصت أشعة القمر فوق مياه ذلك النهر، ونام سكان باريس إلا أمثال أولئك اللصوص؛ لأن أعمالهم تبتدئ في مثل هذه الساعة.

وكان اثنان من هؤلاء اللصوص قد بلغا سن الكهولة، وواحد منهم لا يزال في بدء نضارة الصبا لا يتجاوز عشرين عامًا، واسمه مرميس، وكان الاثنان الآخران أحدهما يدعى مورت، والثاني نوتير، وهي ألقاب لقبهم بها رئيس العصابة؛ فلزمهم لزوم الأسماء.

وكانوا جالسين على رصيف النهر، وأرجلهم مدلاة فوق مياهه الساكنة، وكان مورت يفرك يديه ويقول: ما أشد برد هذه الليلة! وما أشد ظمئي إلى الشراب!

فقال له نوتير: هو ذا الماء أمامك، فارو ظمأك.

فقال له مورت بلهجة الهازئ: ويحك متى كان الماء يروي ظمأ أمثالنا، وإني ما شربته غير أيام قليلة في حياتي، وذلك في سجن طولون.

وكان مرميس يسمع كلامهما فقال: إنه مهما كان من شدة العيش في سجن طولون فإنه أفضل من سجن باريس، وكفى به أن من يدخل إليه يكون له المقام السامي بين العصابات.

فضحك مورت وأجاب: طب نفسًا فإنك لا تزال صغيرًا، وستتشرف بزيارته، ويكون لك هذا المقام ما دمت سائرًا في مناهجنا.

وفيما هم يتسامرون رأى مرميس شيئًا يتحرك في النهر فيغوص ثم يرتفع، فنبه إليه أنظار رفيقيه، فحدقوا جميعهم أبصارهم حتى تبينوا أنه شيخ غريق يحاول الانتحار. وهناك اختلفوا بين أن ينقذوه ويخرجوه حيًّا؛ فلا يكون جزاؤهم من الحكومة غير خمسة عشر فرنكًا، وبين أن يصبروا عليه حتى يموت فتكافئهم الحكومة عن إخراجه خمسة وعشرين، وهي سُنة للحكومة لا ندرك القصد منها.

وكان مورت يقول بوجوب إنقاذه حيًّا، ولم يحفل بمعارضة رفيقيه له، وألقى بنفسه في مياه النهر، وجعل يسبح إلى جهة الغريق، وكان بعيدًا عنه مسافة عدة أمتار.

وكان يظهر أن هذا الغريق ألقى نفسه في النهر مختارًا، بدليل إتقانه فن السباحة، وكان يغوص تحت المياه، ثم يرتفع فوقها، وقد نشبت حرب مائلة بين نفسه التي كانت تريد مفارقة الجسم والانتهاء إلى مبدئها، وبين جسمه الذي كان يريد البقاء في قيد الحياة. وكان إذا تغلبت إرادة النفس غاص في النهر حتى لا يرى، وإذا تغلبت عوامل الجسد عاد إلى السباحة.

وفيما هو على هذا النزاع أدركه مورت فقبض على شعر رأسه، وجعل يجره إلى البر، وكان مرميس يصيح به من الرصيف قائلًا: أغرقه أيها الأبله؛ لأننا نكسب بموته ١٠ فرنكات زيادة.

وكان الغريق يصيح به: دعني وشأني أيها الرجل؛ لأني لا أريد أن تنقذني.

غير أن اللص لم يصغ إلى أحد منهما، فما زال يجذبه حتى وصل به إلى الرصيف، وظهر وجهه لنوتير من أشعة القمر، فصاح قائلًا: هذا هو.

ثم أسرع إلى الاثنين، وأعانهما على الصعود إلى البر.

وانذهل مرميس انذهالًا عظيمًا، وقال: من عسى أن يكون هذا الرجل، ألعله من أمراء الروس الأغنياء فاعتنيتم به هذا الاعتناء.

فقال له مورت: كلا بل هو من رجال سجن طولون القدماء.

ثم التفت إلى الغريق بعد أن هدأ روعه وقال له: ألست الذي كانوا يدعونك في السجن جواني الجزار؟

وأن أنين الموجع، وقال: بل جواني الجلاد، ولقد أسأتم لي إساءة لا أغتفرها لكم بإنقاذي؛ لأني خنت الرئيس، ووجب علي الموت.

وكان مرميس يصغي إلى هذا الكلام ولا يعلم منه شيئًا، وقال لرفيقيه: ماذا تعنون؟ وماذا يعني بالرئيس؟

وأجابه مورت: إنه كان جلادًا في سجن طولون، وهرب منه بدهاء عظيم، وتنكر حتى أعجز الحكومة أمره، ولو وقع في قبضتها استقبلته استقبال روكامبول.

فقال مرميس: إني سمعت بهذا الاسم، فهو من كبار اللصوص المشاهير.

وقال جواني: هذا هو الذي لقبته بالرئيس، وقد أشكل عليك فهم معناه.

فاضطرب نوتير وقال لمرميس: إن روكامبول هذا فوق الناس أجمعين في مراتب الذكاء والدهاء، فقد طالما عبث بالحكام، وأتى أعمالًا لا تخطر لأحد في بال، وقد خطر له يومًا أن يبرح السجن ففتحت له أبوابه، وقضي مرة على رجل بقطع العنق فأوقف آلة القطع عن العمل.

وافتتن مرميس به وقال: والله لو عرفت أنه في أعمق السجون لارتكبت جريمة أستحق بها ذلك السجن كي أراه، وأين هذا الرئيس العظيم من رئيس عصابتنا باتير، فإنه كسول لا ثبات له إلا على موائد الشراب، فلماذا لا نخدم برئاسته؟

فتنهد جواني قائلًا: إنكم لا ترونه فقد قبضوا عليه.

– كيف قبضوا عليه؟

أجابه حواني بلهجة القانط: إني أنا سلمته إلى الحكومة، ولكني ما فعلت ذلك غدرًا به بل إن القضاة خدعوني.

ثم بكى بكاءً شديدًا، وأضاف: هذا هو السبب فيما ترونه من يأسي ومحاولتي الانتحار؛ لأنهم قبضوا علي يوم قبضوا على روكامبول، وألقوني في السجن، وبعد أن تمت محاكمتي، وحكم علي بالعودة إلى سجن طولون أرسلوني أمس في قطار إلى ذلك السجن.

وكنت في مركبة لم يكن فيها سواي من المجرمين، فخرقت خشب المركبة بحديد القيد الذي كان في رجلي حتى جعلت فيها ثقبًا متسعًا، ثم خرجت من ذلك الثقب إلى الأرض، وأنا أرجو أن تسحقني عجلات القطار، وأغمضت عيني مستسلمًا للموت، ولكني ما لبثت بضع ثوان حتى رأيت القطار قد ابتعد عني دون أن تصيبني عجلاته بأدنى ضرر؛ لأني سقطت بين منفرجاتها.

ونهضت مضعضع الحواس، آسفًا لنجاتي من الموت، تنبهت للقيد الذي كان في رجلي فكسرته، وتواريت عن الشرطة كل يومي حذرًا من أعود إلى السجن فأعود إلى مهنة الجلاد.

وفي الليل ذكرت خيانتي لروكامبول فعولت على الانتحار غرقًا في السين، ولولا إنقاذكم إياي لقضيت مآربي بيدي.

وقبل أن يتم حديثه قاطعه نوتير قائلًا: انظروا هو ذا غريق آخر انظروه، إنه عائم على جذع شجرة قرب الشاطئ، والماء يغمره إلى عنقه.

فصفق مرميس بيده فرحًا، وقال: لقد فاتتنا جائزة الغريق الأول، وعسى أن لا تفوتنا جائزة الثاني، وهي أعظم من الأولى؛ لأنه ميت لا حراك فيه.

٢

يوجد بالقرب من ذلك الرصيف قهوة تدعى «أركلين»، تتولى إدارتها امرأة عجوز تمرست بالآفات، وتعودت عشرة اللصوص.

ولم تكن هذه القهوة تفتح أبوابها في النهار لعدم تردد الناس إليها، ولكنها إذا هجم الظلام بدأت عصابات اللصوص تنسل إليها، وأخصها عصابة باتير، فيشردون ويتنادمون، ويتآمرون على إتيان كل منكر، وارتكاب كل إثم.

وكانوا يقدمون إلى هذه القهوة واحدًا واحدًا واثنين اثنين، فلا يفتح لهم بابها إلا إذا صفروا صفيرًا مصطلحًا عليه بينهم يتعارفون به، فكانت ملجأ كل أثيم هارب من السجون يأتي إليهم لينضم تحت لواء زعيم العصابة العام وهو يدعى باتير.

وقد اجتمعوا تلك الليلة، واصطفوا حول مائدة يرأسها الزعيم، وقد رصفت فوقها الأقداح، وكان باتير يقول: إني أنتظر صديقًا من كلامسي.

فقال له أحد رجال العصابة: ألعله فتح لنا باب الارتزاق؟

– ربما.

وبينما هم على ذلك سمعوا وقع أقدام في الخارج فسكتوا، ثم قال الزعيم: لا تجزعوا لا بد أن يكون هؤلاء القادمون من رجالنا.

وعند ذلك دخل جواني الجلاد، ونوتير، ومرميس، ومورت وهم يحملون رجلًا لا حراك فيه، فذعر الحضور لرؤيته، غير أن جواني حاول تطمينهم قائلًا لهم: لا تجزعوا هذا هو الرئيس.

وكان هذا الرجل الفاقد الرشد، المحمول على أكف اللصوص روكامبول.

فالتفت الجميع حوله لتفحص حاله، والتمعن في وجهه لشدة ما بلغ إليه روكامبول من الشهرة بين اللصوص.

فقال مرميس معنيًا بكلامه جواني الجلاد: أظن أن هذا الشيخ مخطئ؛ لأن روكامبول لا حياة فيه.

وقال مورت: هو ما تقول؛ لأن علائم الموت بادية في وجهه، وفوق ذلك إني أرى في صدره جرحًا بليغًا، لا بد أن يكون استنزف معظم دمائه.

كانت العادة في هذه القهوة أنهم إذا انتشلوا غريقًا ميتًا يحضرونه إليها، ويدعون البوليس فيحقق في أمره، ثم يذهبون في اليوم التالي فيقبضون الجائزة المعينة.

وقد وضعوا روكامبول فوق مائدة، وحاولوا استدعاء البوليس، ولكن جواني اعترضهم لاعتقاده أنه لا يزال من الأحياء.

وطال خلافهم، فجاء أحد اللصوص ووضع أذنه فوق قلبه فلم يسمع حركة تدل على الحياة، وأخذ يده وحركها فوجدها لينة كأيدي الأموات، فلجأ عند ذلك إلى التجربة الأخيرة، فأخذ مرآة ووضعها فوق فم روكامبول.

فساد السكوت على الجميع، وكانت دموع جواني تسيل على خديه، ويأسه يحمل على الإشفاق، ونوتير ومرميس واقفان حوله في موقف الخشوع.

فأبقى اللص المرآة فوق فم روكامبول دقيقتين، ثم أزاحها ونظر إليها فوجدها قد تغشت بغشاء ضعيف، وكان ذلك برهانًا جازمًا على أن روكامبول لم يمت.

وعند ذلك صاح بعض رجال العصابة: هلم بنا إلى إنقاذه، أشعلوا النار من حوله، ولندلك جسمه البارد فقد يعيش.

فقال زعيم العصابة: أية فائدة من حياته؟ إن كأس الشراب أفضل منها.

فتصدى له الفتى مرميس؛ لأنه مال إلى روكامبول، وقال له: إن من كان مثلك لا فائدة من حياته.

فسكت الزعيم، ولم تعترض العصابة ذلك الفتى؛ لأنه كان محبوبًا بينهم لبسالته وحداثة سنه.

وأجمع الكثيرون منهم على وجوب إنقاذ روكامبول؛ لأنه من مشاهير زعماء العصابات؛ فثارت الحمية في رءوسهم، واتفقوا على إنقاذه، ما خلا زعيمهم باتير، فإنه ظل منعكفًا على شرابه وهو يحسب لشفاء روكامبول ألف حساب.

وجعل أولئك اللصوص يفركون بالخل صدغيه وشفتيه وأعصابه، وفي كل حين يضع جواني رأسه على قلبه على رجاء أن يسمع دقاته، حتى برقت عيناه بأشعة الفرح، وقال: إن قلبه يدق.

فصاح جميعهم صيحة فرح، وقال مرميس: إن مثل روكامبول لا يموت.

وكان أشدهم تعصبًا نوتير، فجعل يذكر أوصافه لنوتير فاصفر وجه الزعيم باتير، وقال: أأنت تشهد له هذه الشهادة أيضًا؟

– نعم لأني عرفته حق المعرفة حين كنت في عصابة تيميلون؛ إذ كان يعبث بنا كما يشاء.

وعند ذلك اشتدت دقات قلب روكامبول، وتنهد تنهدًا طويلًا.

ففرح الرجال، وقال أحدهم: إنه سيفتح عينيه.

وأجاب نوتير: أقسم بمهنتنا إنه إذا ردت إليه العافية لنجعله رئيس عصابتنا.

فهز باتير كتفه إشارة إلى الاحتقار، فقال له نوتير: لا تهزأ بروكامبول؛ لأنه حيث يوجد تكون السعادة بالرغم عمن ينازعه فيها.

وقبل أن يجيبه باتير، صاح جواني صيحة فرح عظيمة قائلًا: لقد فتح عينيه!

فصاحوا جميعهم نفس صياحه، واختلط الحابل بالنابل، ولم يعد لباتير صوت يسمع.

٣

وبعد ذلك بأربع وعشرين ساعة كان روكامبول نائمًا في السرير، وقد عادت إليه الحياة، وعاد معها ذلك الذكاء النادر؛ لأن الموت لم يجد موضعًا في ذلك الجسم الذي قُدَّ من الفولاذ، ولم يستطع الجنون أن يتغلب على ذلك الذكاء العجيب الذي طالما صرفه روكامبول في سبل الشر إلى أن أصبح من التائبين، فكان يستخدمه في وجوه الخير.

وكانت هذه القهوة التي ذكرناها منقسمة إلى قسمين: قسم أرضي، وهو الموضع الذي يجتمع فيه اللصوص، وقسم علوي، وهو مؤلف من غرفة واحدة متسعة نصب لروكامبول سرير فيها وحمل إليه، ولم يكن يقيم معه فيها غير جواني الجلاد، وكان له ممرضًا وطبيبًا في وقت واحد.

وكان اللصوص يتفرقون في النهار، فنزل جواني وطلب إلى صاحبة القهوة أن تمنع الضجيج حرصًا على راحة روكامبول، فقالت له: طب نفسًا إننا جميعنا نعجب به نفس إعجابك، ووجود مثل روكامبول بيننا أعظم شرف لنا.

وفي المساء أقبل رجال العصابة، وكانوا يتباحثون همسًا، ولا يقرعون الكئوس حين الشراب، ويصعد بعضهم من حين إلى حين افتقادًا لذلك العليل، فشعر باتير أن زعامته قد سقطت مقدمًا؛ لما رآه من ميل العصابة إلى روكامبول.

أما روكامبول، فقد كان شديد الهزال لكثرة ما نزف من دمائه، فقال لجواني بصوت خافت: كيف أنقذتموني؟ ومن أي موضع؟

– من قرب مركريتيل، وقد كنا نحسبك من الأموات.

فتذكر روكامبول هنيهة، ثم أجاب: نعم إني فقدت صوابي في ذلك الموضع، وإن دمائي قد نزفت حين كنت أسبح، وقد كنت أحاول اجتياز نهر السين، وطالما اجتزته سابحًا، غير أن جرحي حال دون قصدي، فأمسكت بجزع شجرة كان عائمًا أمامي، وهناك أطبقت عيني ولم أعد أعي على شيء.

– إن هذا الجرح قد أنقذك، ولكن كيف أصبت بهذا الجرح؟

فارتعش روكامبول عند هذا السؤال، وحدق بجواني، فاضطرب جواني لنظراته وأضاف: عفوًا أيها الرئيس، إني لا أحاول الوقوف على أسرارك.

– قل أجبني عن كل شيء أولًا أين أنا الآن؟

– في قهوة أركلين.

– ما هذه القهوة؟

– هي شبه خمارة تتردد عليها عصابة من اللصوص.

– من يتولاها؟

– تلك المرأة التي أحضرت لك المرق منذ حين.

– كيف أنت مع هؤلاء الناس؟

– إنهم أنقذوني أيضًا من النهر، وقد كنت أحاول الانتحار لخيانتي لك.

– ولكنك كنت في السجن، فكيف خرجت منه؟

فحكى جواني لروكامبول جميع ما اتفق له، حتى إذا فرغ من قص روايته قال له روكامبول: أصغ إلي، إن جميع الذين يعرفونني يعتقدون الآن أني من الأموات إلاك، وأحب أن يبقى لديهم هذا الاعتقاد ليس لأني أخشى أن تقبض علي الشرطة، فقد وعدت الحكومة بالتخلي عني، وما دمت معي فهي أيضًا لا تقبض عليك.

– فانذهل جواني وقال: أحق ما تقول؟

– نعم، فهل تريد أن تكون رفيقي؟

– أعندك شك في ذلك يا سيدي؟ إني أحترمك احترامًا يبلغ حد العبادة، وما حاولت الانتحار إلا من أجلك.

– حسنًا، اعلم الآن أني كنت أسعى إلى قضاء مهمة وقد أتممتها، ولو كنت جبان النفس منخلع القلب لانتحرت، ولكن المؤمن لا يحق له أن يتلف جسدًا خلقه الله.

ثم إني لا أحب أن أرى أولئك الذين عرفتهم وأحببتهم، فهم يعتقدون أني أصبحت من الأموات، ويعيشون سعداء، ولكن ربما بقي لي أيضًا مهمة خير أقضيها؛ لأني أشعر أن الله لم يغفر لي بعد.

وكان روكامبول يتكلم هذه الكلمات الصالحة في حين أن اللصوص كانوا يترقبون شفاءه ليجعلوه رئيس عصابتهم.

فتأثر جواني تأثرًا عظيمًا لكلامه، وأخذ يده وقبلها بملء الاحترام قائلًا: إني أسفك دمي في سبيل خدمتك.

أجابه روكامبول: أصغ إلي، إني تقاتلت ليلة انتشلتموني من النهر قتالًا شديدًا.

– مع تيميلون؟

– كلا، بل مع امرأة بالسيف تقاتل قتال أستاذ، وكان قتالنا بسبب تنازعنا على ذلك الطفل الذي شاهدتني مرة أنظر إليه من نافذة غرفتي وهو يلعب في حديقة منزله، فطعنتني بسيفها طعنة شديدة، ولكني تمكنت منها فطعنتها بخنجري طعنة نجلاء أظنها كانت القاضية.

– لقد عرفت هذه المرأة، أليست هي تلك الروسية؟

– نعم.

– وهل ماتت؟

– لا أدري، ولكني أخذت الطفل وخرجت به إلى الحديقة ومنها إلى الرصيف، فوضعت الطفل مغميًّا عليه على الأرض؛ لاعتقادي أن رفاقي سيعثرون عليه، ثم ألقيت نفسي في المياه، فخطر لي في البدء خاطر الانتحار، ثم رأيت أنه لا يحق لي قتل النفس، فعزمت على اجتياز نهر السين سباحة بعد أن تركت ورائي من آثار الدماء ما يدل على موتي، وأنت تعرف البقية.

والآن أريد أن أعلم إذا كانت فاندا وميلون وجدا الطفل وأرجعاه إلى أمه. اذهب إلى باريس وابحث عن هذه الحقيقة، وكن حكيمًا.

– ولكن إذا رأيت فاندا وميلون فما أقول لهما؟

– لا تقل لهما شيئًا.

– وإذا رأيتهما يبكيان عليك بكاءهما على الأموات؟

– دعهما يبكيان؛ لأني أريد أن أعرف فقط ماذا حدث للولد.

فدهش جواني وسأله: ومتى شفيت فماذا تصنع؟ أتقيم بين هؤلاء اللصوص الأثيمة؟

– ربما، ومن يعلم فقد تكون تلك المهمة الخيرية التي أريد قضاءها استغفارًا لي بين هؤلاء اللصوص.

وفيما هو يتفوه بهذا الكلام دخل نوتير يتبعه مورت.

٤

وقد حمل الاثنان قبعتيهما بيديهما، ووقفا أمام روكامبول وقفة احترام، فقال لهما روكامبول بلهجة حنو وإخلاص: ماذا تريدان أيها الصديقان؟

فتقدم نوتير خطوة قائلًا: إن العصابة أرسلتنا وفدًا إليك.

– قل ما تشاء إني مصغ إليك.

– نريد أن نعلم قبل كل شيء كيف أنت؟

– إني بخير أيها الرفاق، ولكن لا بد لي من ملازمة الفراش خمسة عشر يومًا على الأقل.

– هذا ما كنت أقوله لأفراد العصابة، ولكن ذلك لا يمنعنا من الانتظار.

– قل.

– إن ما أتينا به إليك يوضح بمنتهى الإيجاز. وهو أن من لا يستطيع أن يشتغل بالأعمال العظيمة كما كنت تفعل، يكتفي بالأمور الصغيرة كما نحن نفعل، وإني حين هربت من السجن وأتيت إلى باريس أردت أن أشتغل بالمهنة، ولكن رأيت الارتزاق غير ميسور لشدة تنبه البوليس، فحسب نفسي سعيدًا بانضمامي إلى باتير.

– من هو باتير هذا؟

– هو زعيم عصابتنا المؤلفة من خمسة عشر رجلًا، فإننا نخرج كل يوم ونطوف في أنحاء باريس، ثم نعود في الليل إلى هذه الخمارة فنتحدث بما لقيناه، وإذا اكتشف أحدنا موردًا للكسب عرضه على الزعيم، فيرى رأيه فيه، ولكن نظامنا قد اختل، منذ تشرفت هذه الخمارة بوجودك فيها.

– لماذا؟

– لأن زعيمنا الكسول يريد أن تبقى له الزعامة.

– وأنتم؟

– رأينا أن هذا الزعيم ليس من رجالك، فاتفق أحد عشر رجلًا منا على الصياح ليحيَ روكامبول، وليسقط باتير، ولم يمتنع الأربعة الآخرون عن موافقتنا إلا لخوفهم، ولكننا واثقون من إقناعهم على الانضمام إلينا، ونحن أتينا الآن نسألك باسم العصابة قبول هذه الرئاسة.

فابتسم روكامبول ابتسامًا يشف عن الاحتقار، وأجاب: سوف نرى أيها الرفاق متى شفيت الشفاء التام.

وحاول أن يصرفهم بإشارة غير أن باتير لم ينصرف، وقال: إني أرشدت العصابة إلى عمل قد يكون لنا منه غنم كبير، فارتأى باتير أنه يجب أن نسرع في العمل دون أن ننتظر شفاءك، ولكننا لم نوافقه على ما أراد.

فارتعش روكامبول وأجاب: حسنًا، إذا كان العمل يوافقني أتولاه، غير أنكم تعلمون أيها الرفاق أنه قبل أن أوشك على الغرق كان بيدي أعمال أخرى لم تتم بعد.

– ذلك لا شك فيه؛ لأن رجلًا مثلك لا يبقى دون عمل.

– إني تخلفت عن بعض أمور في باريس، وسأرسل تعليمات بواسطة جواني. كم الساعة الآن؟

– الساعة الرابعة صباحًا.

فقال روكامبول لجواني: اذهب الآن في المهمة التي أخبرتك عنها.

ثم التفت إلى نوتير قائلًا: اجلس الآن بجانبي، وأخبرني عما اكتشفته.

– إنه يوجد بالقرب من ضفة النهر بيت معتزل، يقيم فيه رجل عجوز وامرأة صبية.

– إنها فتاته، وهو أبوها دون شك؟

– لا نعلم، إن البعض يقولون إنه أبوها، والبعض يقولون زوجها، وهما لا يخرجان من البيت على الإطلاق، حتى إن الجيران لم يروها غير ثلاث مرات في مدة عامين، وكانت المرأة بملابس الحداد.

وليس لهما غير خادمين؛ أحدهما امرأة عجوز، والآخر رجل عجوز يشتغل في الحديقة.

– إن ذلك موافق لنا كل الموافقة.

– وقد مررت بهذا البيت مرات، وأخذت تعليمات كثيرة بفضل مرميس.

– ماذا علم مرميس؟

إنه اختبأ كل الليل في شجرة من أشجار الحديقة، وذلك منذ ثلاثة أيام، فعلم أن الخادم والخادمة ينامان في الدور الأسفل، وأن الشيخ والفتاة ينامان في غرفتين تشرفان على الحديقة وهما ينامان متأخرين، ويظهر أن عيشتهما غير راضية، فقد سمعهما مرميس يتخاصمان، وكانت الفتاة تبكي، وتعض يديها من اليأس، ولكن مرميس لم يستطع أن يسمع شيئًا من حديثهما.

– كل هذه التفاصيل مفيدة، ولكن هل يوجد نقود في هذا المنزل؟

– إنه بعد أن فرغ الشيخ من خصام الفتاة أقفل باب غرفتها بحدة، وذهب إلى غرفته، فانتقل مرميس من شجرة إلى شجرة، وراقب هذا الشيخ، فرآه قد فتح صندوقًا من الحديد، وجعل يعد أوراقًا مالية، وأكياسًا ملآى من الذهب، فلما أخبر العصابة بما رآه هاج رجالها — ولا سيما باتير — وأرادوا بدء العمل في هذه الليلة.

فخرج نوتير ومورت وهما يصيحان: ليسقط باتير.

والآن فلنذهب بالقراء إلى ذلك البيت المعتزل الذي يريد اللصوص اغتصابه، ونبسط حالة الشيخ وتلك الفتاة.

٥

كان ذلك البيت — على ما وصفه نوتير لروكامبول — محاطًا بحديقة متسعة، وقد كان من قبل مهجورًا لا يقيم فيه أحد لاعتزاله إلى أن جاء يومًا رجل غريب إلى الذي أنيط به أمر هذا المنزل، وطلب إليه ابتياعه، فاتفقا على ثمنه، ونقده الثمن.

وفي اليوم التالي جاء خادم وخادمة فنظفا البيت وأصلحاه، وبعد ثمانية أيام عاد الرجل الغريب ومعه فتاة صبية لابسة ملابس الحداد، وأقاما في هذا البيت الذي كان يشبه القبور باعتزاله.

ولم يكن يخرج غير تلك الخادمة والخادم لشراء حاجاته، فكانا يكلمان الناس باللغة الفرنسية الفصحى، ولكنهما يحادثان بعضهما بلغة غريبة مجهولة حتى قنط بعض المجاورين من معرفة شيء عن هذا المنزل لتكتم الخادمين. وكان مرميس أسعد منهم حظًّا؛ لتسلقه أشجار الحديقة، ورؤيته داخل المنزل.

وعندما كان مرميس يراقب من الشجرة ذلك الشيخ وفتاته كانت جالسة على كرسي، وكان الشيخ يسير ذهابًا وإيابًا في الغرفة.

ولم يكن في الغرفة غير مصباح واحد، ولكن نوره على ضعفه كان يسطع فوق وجه الفتاة، فيظهر جمالها، وآثار نحولها.

وكانت تلك الفتاة تخاطب ذلك الشيخ بلهجة يتبين منها القنوط، فتقول: إننا هنا يا أبي منذ عهد بعيد، وقد سقيتني مخدرًا في إحدى الليالي، فسلبت طفلي كما سلبتني قبل ذلك، أفلا تجعل حدًّا يا أبي لهذا العذاب؟

وكان أبوها يسير ذهابًا وإيابًا دون أن يرد عليها.

– ألا ترجع لي ابنتي يا أبي؟

– كلا إنها ابنة الجريمة، فلا يجب أن ترد.

فاتقدت عينا الصبية ببارق من الغضب، واحمرت وجنتاها بعد اصفرارهما، ووثبت إلى أبيها فأمسكت بيديه وقالت: لقد كذبت؛ لأنه كان لي زوجًا أمام الله، فما ولدت ابنتي بالإثم، والآن أريد أن أعرف كل شيء.

فذهل أبوها لجسارتها، وقال: ماذا تريدين أن تعرفي؟

– أريد أن أعرف ماذا جرى لقسطنطين.

– إنه في روسيا لا يزال في فرقته.

– كلا إنك تخدعني؛ إذ قد علمت علم اليقين أنه خرج من الجيش، وكفاك يا أبي ألا تشفق علي وأنا ابنتك، ولماذا لا تنقذني من عذابي، فتردني إلى زوجي، وترد ولدي إلي؟

فهز الشيخ كتفيه دون أن يجيب.

فضمت الفتاة يديها شأن المتوسل وقالت: أنزعت منك عاطفة الإشفاق يا أبتاه؟! أيبلغ منك عداء أسرتك وأسرته إلى هذا الحد من القسوة … إني لم أعد ابنتك، بل أنا ضحيتك وأنت جلادي.

فالتفت إليها قائلًا: احذري لقد تجاوزت المدى.

– وأنت تجاوزت كل حد، إني أريد أن أعرف موضع قسطنطين.

– إنك لا تعرفينه.

– وماذا صنعت بابنتي؟

– إنها ماتت.

– طالما قلت لي هذا القول، ولكنك دون شك من الكاذبين.

فظهرت علائم الاضطراب على الشيخ، ولكنه كظم غيظه، وأراد قطع الجدال، فقال لها: إنك شديدة الهياج في هذه الليلة، وخير لك أن تشربي شيئًا من الشاي وتنامي. ثم خرج من الغرفة وأغلق بابها بعنف يدل على مبلغ غيظه واستيائه.

وعادت الفتاة إلى كرسيها تعض كفها من اليأس، وتذرف الدمع السخين.

ومضى عدة دقائق وهي على هذه الحالة، ثم سمعت أن الباب قد فتح، فالتفت لترى الداخل وقد حسبته أباها، فكان خادمها، وقد دخل إليها يحمل صينية عليها آلة الشاي ومعداته، فنظرت إليه الفتاة، ثم اتقدت عينيها بشعاع غريب، وقالت في نفسها: لا بد أن أحمل هذا الخادم على الإباحة بالسر، فإنه يعرف كل شيء.

ووضع الخادم صينية الشاي أمامها، وحاول أن يخرج من حيث أتى، فأوقفته الفتاة بإشارة وقالت له: افتح هذه الخزانة التي أمامك فامتثل، فقالت: ألا ترى فيها علبة صغيرة؟

– نعم.

– أعطني إياها.

وقبل أن يحضرها غيرت الفتاة مجلسها بحيث أصبحت تعترض بين الباب والخادم.

وجاءها الخادم بتلك العلبة التي طلبتها ففتحتها وأخرجت منها مسدسًا محشوًّا، والخادم ينظر إليها بانذهال، ثم حولت المسدس إلى رأسه، وقالت له: إذا صحت أو استغثت فإنك من الهالكين.

ارتعش الخادم وسكت، وكان يدعى نيشيلد، وهو فلاح روسي خلق في أراضي والد الفتاة، وهو يعلم كسائر الفلاحين الروسيين في ذلك العهد أن أصحاب الأرض يمتلكونها مع فلاحيها، ويتصرفون بهم كيف يشاءون، ثم إنه كان يعلم أن تلك الفتاة ناديا ابنة مولاه، فهي يحق لها قتله حين تريد دون منازع، فوقف أمامها موقف الخائف المتوسل.

فقالت له ناديا: إن أبي قد ذهب الآن إلى غرفته، فإذا استغثت به، فإن رصاص هذا المسدس يصل إلى قلبك قبل أن يصل صوت استغاثتك إلى أذنيه.

فاضطرب الخادم، وقال بصوت ملؤه الرعب: سيدتي، ماذا تريدين؟

– أريد أن أعلم كل شيء.

– ولكن أباك الجنرال يقتلني إذا بحت …

– وأنا أقتلك إذا كتمت.

– سيدتي أسألك الرحمة.

– لا رحمة في قلبي الآن، فقد كنت مع أبي في فارسوفيا، وأنت تعلم كل ما جرى.

– أقسم لك يا سيدتي …

– لا تقسم، فإن أيمانك كاذبة، ثم نظرت إلى ساعة معلقة في الجدار وقالت: أصغ إلي إني عولت على قتلك في الحال إذا كتمت عني ما تعلمه، فإذا كنت تحرص على حياتك بح لي بكل شيء.

وكان الخادم ينظر إليها فتبين صدق العزيمة من اتقاد عينيها، فقال: وإذا تكلمت يا سيدتي أتقتلينني؟

– كلا.

– ولكن أباك يقتلني، فأنا في الحالتين مقتول.

– لا تخف فسأحميك.

– أنت تحمينني يا سيدتي من غضب الجنرال؟

– نعم، فإنه إذا لم يقتلني في الحال تمكنت من الاحتماء بالحكومة الفرنسية، فإن الأسياد الروسيين لا يستطيعون إجراء شيء في فرنسا.

فكان الخادم يسمع كلامها ولا يفهم شيئًا مما تقول لتعوده الاستعباد.

واستأنفت ناديا الكلام، فقالت: إنك كنت في خدمة أبي وأنت عالم بكل ما حدث، تكلم فإني أمهلك دقيقتين، إذا سكت بعدها أطلقت عليك النار.

فتردد الخادم هنيهة ثم قال: إذا لم يكن بد من الموت فإني أوثر أن أقول الحق، وأفضح الخائنين.

– أي خائن تعني؟

– أباك يا سيدتي …

– إذن تكلم!

– سيدتي، إن أباك الجنرال كوميستروي قد خان بولونيا.

فتراجعت منذعرة كأن الصاعقة قد انقضت عليها، وقالت: كلا إن ذلك محال، وأنت من الكاذبين.

فقال لها الخادم بسكينة: هو الحق ما قلته، فاقتليني إذا شئت.

وتقدمت الفتاة منه وهي مصوبة مسدسها إليه، وقالت له: إذن تكلم.

– سيدتي إني قلت لك الحقيقة، وهي أن أباك خان بولونيا.

– ذلك محال، وإلا فكيف اتفق أنه أبى تزويجي من قسطنطين بحجة أنه من جنود القيصر، ولا يحق له الزواج بابنة بولوني أمين تضطهده حكومة القيصر؟

فابتسم الخادم ابتسامًا يشف عن احتقاره للجنرال، وتابع: إن الوقت ضيق يا سيدتي، وما سأقوله لك يستغرق عدة ساعات.

– عمن؟

– عن أبيك.

– قل فإني صبورة ووقتي فسيح، ولكن قل لي قبل كل شيء أين قسطنطين، فقد قال لي أبي إنه لا يزال في فرقته؟

– إن أباك لم يخبرك الحقيقة، فإن القائد قسطنطين قبض عليه في فارسوفيا بتهمة المؤامرة مع الثائرين.

– رباه، أهذا ممكن؟

– إنهم وجدوا في منزله بين أوراقه رسائل باسمه تثبت هذه التهمة.

فسقط المسدس من يد ناديا، وقالت: ويلاه إذن قد حكم عليه؟

– نعم يا سيدتي، وقد أرسل إلى سيبيريا، أما ابنتك، فإن أباك قال لك إنها ماتت، والحقيقة أنها لا تزال حية ترزق.

ولما سمعت ناديا هذا القول وأيقنت أن ابنتها حية صاحت صيحة فرح قوية سمعها أبوها، فخشي عليها، وأسرع ليرى ما أصابها.

غير أنها سمعت صوت وقع أقدامه وأسرعت إلى باب غرفتها، وأقفلته من الداخل، وعادت إلى المصباح، فأطفأته وقالت للخادم: احذر أن تفوه بكلمة، فإنه يقتلنا معًا.

٦

وكانت خطوات الجنرال تسمع في الممشى حتى وقف عند باب الغرفة، فسمعت الفتاة وخادمها صرير المفتاح داخل القفل بحدة فاضطرب قلب الخادم، وسكتت ناديا.

ولما رأى الجنرال أن الباب مقفل من الداخل نادى ناديا، وقالت له بلهجة المنذعر الصاحي من النوم: ماذا تريد يا أبي؟

– ماذا أصابك؟ ولماذا كنت تصيحين؟

– لا شيء سوى أني كنت نائمة فأصابني الكابوس فصرخت.

وأجاب بلهجة المرتاب: لقد حسبتك أنك لست وحدك في الغرفة.

فضحكت ابنته ضحك المتألم، وأجابت بلهجة الساخر: من تريد أن يكون معي يا أبي؟

فاطمأن الجنرال، وانصرف إلى غرفته.

وصبرت ناديا إلى أن وثقت من دخول أبيها إلى غرفته، فقالت للخادم: إن أبي قد استقر الآن في فراشه فقل لي أين ابنتي؟

– لا أعلم …

– ولكنك قلت لي منذ هنيهة إنها لم تمت.

– ولا أزال أقول هذا القول.

– إذن ماذا جرى لها، وما صنعوا بها؟

– لا تستطيعين يا سيدتي أن تفهمي ما حدث، أتعلمين كم بقي لك مفترقة عن زوجك؟

– كيف لا أعلم فإني منفصلة عنه منذ عام.

– إنك واهمة يا سيدتي، فقد مضى على هذا الفراق خمسة أعوام.

– خمسة أعوام! ألعلي كنت مصابة بالجنون؟

– هو ما تقولين يا سيدتي.

– ويحك ماذا تقول؟

– أقول الحق، فإنك جننت يا سيدتي على أثر الولادة، وما تلاها من الحوادث المكدرة، وبقيت مدة أعوام يعالجك طبيب فرنسي.

– إني لا أذكر شيئًا من هذا.

– ولكني أقول الحقيقة يا سيدتي، فإنك لم تبرحي فارسوفيا منذ عام كما تتوهمين، بل منذ خمسة أعوام.

– في أي عام نحن الآن؟

– في سنة ١٨٦٧.

إذن إني كنت مجنونة لا محالة، ثم إنك تقول إن ولدي لم يمت.

– إني أستطيع إثبات ما أقول لأني أنا الذي …

وصاحت ناديا بصوت يتهدج من الغضب: أنت.

أجابها الخادم بلهجة الاحترام: إنك ستصدقين جميع أقوالي يا سيدتي فيما بعد، ولكن دعيني أتكلم.

– قل!

– أأنت واثقة من أنك ابنة الجنرال؟

فوقع كلامه عليها وقع الصاعقة، وأجابت: لماذا تسألني هذا السؤال؟

– أتذكرين يا سيدتي أيام حداثتك؟

– دون شك فإني أذكر أن الجنرال كان يدعوني ابنته، ولم يكن لي من العمر غير ثلاثة أعوام.

– هذا بلا ريب ولكن أمك؟

– إن أمي ماتت حين ولدتني، وأنت تعرف هذا.

فتردد الخادم هنيهة، ثم قال: إذا كنت أسألك مثل هذا السؤال فذلك لأني عزمت على أن لا أكون بعد الآن شريكًا للجنرال في أسراره.

– أوضح ما تقول.

– إني كتبت جميع ما يمكن أن أقوله لك؛ لأنه يوجد أمور لا أجسر على قولها، فاضطربت ناديا وقالت: متى كتبت هذا الإقرار وأين؟

– كتبته هنا في هذا البيت منذ عدة أشهر حين كنت وحدي فيه.

– وأين وضعته؟

– وضعته في قدر وختمتها، ثم حفرت حفرة عند جزع الشجرة الخامسة في الحديقة ودفنته فيها فإذا أصبت بنكبة؛ لأن قلبي ينذرني بأن أباك سيقتلني، فاحفري عند تلك الشجرة وأخرجي ذلك الوعاء تعلمين مما كتبته كل شيء.

– ولكنك تستطيع في انتظار ذلك أن تخبرني أين هي ابنتي؟

– إن الجنرال عهد إلي بها في اليوم الثالث من ولادتها، فجئت بها مع المرضع إلى فرنسا.

– وبعد ذلك؟

– وضعتها بأمر أبيك مع الأولاد اللقطاء.

فذعرت ناديا وقالت: ألم تضع لها علامة تعرف بها على الأقل؟

– إن أباك منعني أن أفعل شيئًا من هذا، غير أن عصيت أمره وستجدين في ما كتبته تفصيلًا كافيًا تعرفين فيه ابنتك في الحال، والآن اسمحي لي أن أذهب، فإني أخشى أن يعود أبوك.

ثم تركها وانصرف متجهًا إلى الباب فوجده مقفلًا من الخارج، فهلع قلبه إذ خشي أن يكون الجنرال أقفله متعمدًا لريبه بابنته، ولكنه أسرع إلى النافذة ففتحها، وألقى نفسه منها إلى الحديقة.

وكان الظلام حالكًا فلم تره ناديا، ولكنها سمعت صوت سقوطه، ثم سمعت وقع أقدامه، فعلمت أنه لم يصب بسوء، فجثت على ركبتيها، وقالت: رباه ارحمني ورد إلي ولدي.

وفي صباح اليوم التالي دخل إليها أبوها وقال لها ببرود: إنني أرسلت الخادم تشيلد إلى فرصوفيا؛ لأنه من شر الخدم.

فنظرت ناديا إلى أبيها نظرة رعب، وقالت في نفسها: قد قتله لا محالة.

٧

ولنعد الآن إلى خمارة أرلكين، أي روكامبول، فإن عصابة اللصوص التي كانت فيها بزعامة باتير ثارت على زعيمها ثورة عامة، ورأت أنه لا يذكر بإزاء روكامبول، ولم يجد هذا الزعيم بدًّا من مبارحة الخمارة، والتخلي عن زعامة العصابة، فخرج مغضبًا حاقدًا على روكامبول حقدًا شديدًا.

وكان أول ما خطر له بعد خروجه أن ينتقم من العصابة وزعيمها الجديد روكامبول بالوشاية إلى الحكومة، وكان يعلم أن تيميلون — ذلك الداهية الذي عرفه القراء في الأجزاء السابقة — تستخدمه الحكومة سرًّا لمقاومة العصابات، وخطر له أن يذهب إلى تيميلون ويتآمر على روكامبول.

ولكنه ذهب إلى منزله فوجده مقفلًا، وخطر له أن يذهب إلى رجل يدعى لولو كان يعلم أنه من أتباع تيميلون، فوجده في خمارة، وهناك علم منه أن تيميلون قد برح باريس فرارًا من روكامبول، وحكى له جميع حكايته مع مورليكس.

وزاد هم باتير وحقده على روكامبول، وعظم في نفسه بعد أن علم أنه غلب تيميلون، ولكن الحسد كان قد تمكن من قلبه، وتمثل له الانتقام بأفظع صورة، فذهب إلى خمارة وأقام يشرب فيها، ويفكر بوسائل الانتقام فلا يهتدي إلى مراده.

وبعد أن تخدر دماغه ذهب إلى فندق ينام فيه عادة لصوص باريس المتفرقين، ولقي هناك شيفيوت عدوة أنطوانيت السابقة، وهي جالسة في قاعة متسعة فيها فرش من القش، ينام عليها أولئك اللصوص، فسلم عليها وجلس بإزائها، وجعل يحدثها عن تيميلون، فحكت له حكايتها مع روكامبول، وأظهرت له حقدها عليه، ثم أخبرته أن لا سبيل إلى الانتقام منه إلا بالحيلة؛ لأنه أصبح من رجال البوليس، وأنهم يحترمونه كل الاحترام.

وسألها: ماذا تعملين الآن؟ وكيف ترتزقين؟

فضحكت وقالت: إني أرتزق من سرقة الأطفال.

وكانت فتاة صغيرة نائمة بقربها، ولما سمعتها تقول هذا القول جلست على فراشها، ونظرت إلى شيفيوت نظرات الدهش، وجعل جميع أولئك اللصوص يتأملون وجه هذه الفتاة الجميل، التي كانت بينهم تشبه ملاكًا من السماء وقع بين الأبالسة.

وكانت هذه الطفلة تنظر إلى أولئك المحدقين بها نظرات الرعب والانذهال، في حين أنهم كانوا ينظرون إليها نظرات الرضى والإعجاب.

وانتهرت شيفيوت تلك الفتاة حين رأت أن الأنظار قد تحولت إليها، وقالت: ألا تريدين أن تنامي أيتها الشقية؟

فركعت الطفلة أمامها، وقالت لها: رحماك يا سيدتي لا تضربيني، أفعل ما تشائين.

فأمرتها أن تنام بعد أن صفعتها، فقال لها باتير: ما شأن هذه الطفلة؟

– إني سرقتها.

– ممن؟

– ماذا يهمك؟

– قد لا يهمني، ولكني أريد أن أعلم.

– إذن سأقص عليكم حكايتها إذا كنتم لا تريدون النوم؛ فإن حكايتها طويلة.

وتطاولت الأعناق إليها، وقد تشوقوا إلى سماع الحكاية، وقال باتير: ابدئي بقصتك أنت أولًا؛ فإننا نحب سماعها.

فقالت وهي توجه الكلام إلى باتير: لقد علمت أنهم تركوني بين حية وميتة في ذلك البيت، وقد أصابتني فاندا برصاصة في صدري كدت أفارق بعدها الحياة، وكان الدم يتدفق من فمي، حتى إن الطبيب نفسه قدر أني لا أعيش ساعتين.

– وبعد ذلك؟

– نقلوني إلى المستشفى، فأقمت فيه ثلاثة أسابيع، ونجوت من الموت، فلما شفيت أطلقوا سراحي وأعطوني شيئًا من النفقة.

وكنت في أشد حالة البؤس لا أعلم ماذا أعمل، فذهبت إلى شيخ المخدمين فأدخلني في خدمة رجل عجوز، وكانت امرأته العجوز تربي هذه الفتاة التي ترونها.

– ألعلها ابنتها؟

– لا يمكن أن تكون ابنتها، فإنها تبلغ الخامسة والستين من العمر، غير أنها على قلة ثروتها كانت تعتني بها اعتناءً شديدًا، فكان مما قالته لي عند دخولي في خدمتها: إن هذه الفتاة ليست ابنتي، وما هي قريبة لي، ولكني أحذر عليها كل الحذر؛ لأنها إذا أصيبت بمكروه فقدت مورد رزقي، فإني أعيش من الراتب المعين لها.

أما أنا فلم أكترث لهذه الوصية، ولكني لبثت أعتني بالطفل والعجوز وأخدمهما، غير أن هذه العجوز كانت تغير ملابس الطفلة بيدها، فرأيت يومًا على هذه الطفلة قميصًا مصنوعًا من قماش غير عادي، وكان القميص مشدودًا على صدرها بسيور متينة، وما رأيت العجوز تعرضت مرة لهذا القميص فهاجت بي عاطفة الفضول، وقلت في نفسي: لا بد لي من أن أعرف أسرار هذا القميص.

فاغتنمت فرصة خروج العجوز من المنزل، ونزعت ملابس الطفلة، ثم حاولت أن أجرد القميص، فما استطعت حل السيور، وخشيت أن أقصها فتعلم العجوز بما فعلت، ولم أكن قبضت راتبي بعد؛ إذ لم يكن لي في خدمتها غير أسبوعين، فأجلت ذلك إلى فرصة أخرى.

وبعد يومين جاء في الساعة العاشرة من الليل إلى ذلك المنزل رجل طاعن في السن، ظهر لي من ملابسه أنه روسي؛ لأنه كان يلبس الفرو الكبير، فاستقبلته العجوز استقبالًا فخيمًا، وأسرعت إلي فأمرتني أن أذهب إلى غرفتي التي كنت أنام فيها في الدور الأسفل، فخرجت وأغلقت الباب من ورائي وأنا منشغلة البال لهذا الاجتماع، ونزلت في درجات السلم وهما يسمعان وقع أقدامي عليها، حتى إذا انتهيت من أسفلها خلعت حذائي وعدت فصعدت درجات تلك السلم، ووقفت عند باب الغرفة أنظر من ثقب قفلها إلى ما يجري، أتعلمون ما رأيت؟

رأيت ذلك الرجل أخرج من جيبه قميصًا مثل قميص الطفلة، ولكنه أكبر منه كأنما الطفلة قد ضاق عليها القميص القديم لنمو جسمها، ثم طلب إلى العجوز أن تحضر له مقصًّا، وأخذ الطفلة فاحتضنها، وجعل يقبلها قبلات الحنو، ثم جردها من ثيابها بمساعدة العجوز، وقص سيور القميص الذي كانت تلبسه، وجردها منه؛ فانكشف لي ظهرها، ورأيت عليه ما لم يخطر لكم في بال، إذ رأيت نقوشًا زرقاء غريبة ملأت ظهرها، وهي نقوش ما رأيت مثلها في حياتي.

فضحك الحاضرون لكلامها، وقال واحد منهم: إن شيفيوت تحدثنا بأحاديث خرافية.

غير أن باتير شاقه حديثها؛ فمنع الحاضرين عن مقاطعتها، وقال لها: أتمي حديثك.

وعادت شيفيوت إلى تتمة حديثها، فقالت: إني حين رأيت هذا الوشم على ظهر الطفلة، وهذه العناية في إخفائه قلت في نفسي: لا بد أن يكونوا وشموها ليكون الوشم علامة لها، وربما كان هذا الروسي أباها بدليل حنوه عليها، فإذا سرقتها كان لي خير وغنم كثير؛ إذ لا بد أن يبحثوا عنها، ويكافئوا من يجدها.

وفي اليوم التالي خرجت العجوز لقضاء بعض الأغراض، فخرجت أنا بالطفلة ولم أعد إلى ذلك المنزل.

وقد كادت تعمى عيناي منذ ذلك اليوم لكثرة مطالعتي الجرائد رجاء أن أقف فيها على إعلان يتضمن فقد الطفلة، والجائزة المعينة لمن يجدها، فلم أعثر على شيء من هذا إلى الآن.

فقال لها باتير: ألعل القميص لا يزال على هذه الطفلة؟

– نعم، ولكني قطعت سيوره كي أفحص ما على ظهرها من الوشم.

– إذن جرديها من ملابسها، فإننا نريد أن نرى ما رأيت.

فقامت شيفيوت إلى الطفلة ونزعت قميصها، وأدنى أحد الحضور المصباح منها، واجتمع أولئك اللصوص حولها، فرأوا على ظهرها وشومًا غريبة بإشارات غامضة تشبه حروف اللغة السنسكريتية، وفي وسط هذا الوشم صورة حية هائلة رأسها رأس امرأة.

فدهش الجميع لهذه الرسوم التي لم يفقهوا معناها، حتى قام أحد الحاضرين وقال: أنا أعرف هذه الرموز الهندية، فقد كنت في صباي بحارًا، وسافرت مرات عديدة إلى الهند.

وتحولت الأنظار عن ظهر الطفلة إلى ذلك الرجل، وتأهبوا لسماع حديثه، وكشف هذه المعميات.

٨

وكان هذا الرجل في سن الكهولة تدل سحنته، وتلهب عينيه على ما طوى في نفسه من الشر والخبث، فوقف بينهم في موقف الخطيب، وقال: إن الرفاق يلقبونني بالبحار: وهي مهنتي القديمة، ولكني تقلبت في جميع المهن فكنت بحارًا، ثم صرت جنديًّا، ثم أصبحت لصًّا، ولا أزال في عداد اللصوص.

وقد تمرست في جميع العادات، وطفت في جميع البلدان، فتمرنت على شرب الأفيون في الهند، والحشيش في مصر، فأنا أعرف كثيرًا من الخفايا، فلا تخفى علي هذه الأمور.

أما هذا الوشم الذي ترونه على ظهر هذه الطفلة، فهو رمز سري اختص به الهنود العاصين على الإنكليز، وهم ينقشونه بحبر لا يمحى فوق ظهور الذين يريدون الانتقام منهم، فتنتقل هذه الوشوم بالإرث من الآباء والأمهات إلى أولادهم، ولا بد أن يكون والد هذه الطفلة أو أمها موشومًا بهذا الوشم.

ولا بد لي من إيضاح وجيز تفهمون منه القصد من هذه الوشوم وهو أنه يوجد في الهند فريقان ساخط عليهم، أما الفريق الأول: فقد خضع لهم كل الخضوع، فدفع الضرائب، وعاش بينهم مطمئنًّا راضخًا لأحكامهم، وأما الفريق الثاني: فإنه لا يريد غير الحرية بالاستقلال، وهم يحتمون بالغابات، ويأبون الخضوع، وقد ألفوا شركة هائلة سياسية ودينية، ونشروا أعمالهم في الصين واليابان وأفريقيا وأوروبا، وجميع الأقطار، وهؤلاء الأعضاء يلقبون عندهم بالخناقين، وقد تعصبوا تعصبًا غريبًا على كل أوروبي، ولا سيما إذا كان من الإنكليز، فإذا عثروا بأحدهم في مكان خفي هجموا عليه وخنقوه.

فاعترضه باتير وأجابه: إذا كانوا يخنقون أعداءهم، فأية فائدة لهم من وشمهم؟

– إن لهؤلاء الخناقين ديانة سرية، فهم يعبدون الإلهة كالي، والإله سيوا، وسمكة صغيرة زرقاء لا يوجد منها إلا في نهر الكونغ، وتمساحًا أخضر اللون لا أعلم في أية بحيرة مقره، وفي معتقدهم أن جميع هذه الآلهة تطلب ضحايا بشرية، فإن أحد هؤلاء الخناقين يخنق الفتاة إرضاءً للإلهة كالي، وآخر يخنق رجلًا إرضاءً للإله سيوا، غير أن مطالب معبودهم التمساح أشد من مطالب آلهتهم الأخرى، فإنه لا يريد أن تكون ضحاياه إلا من الأطفال.

ولذلك فإذا خطر لأحد عباد التمساح الانتقام من أجنبي وشمه بهذا الوشم، ثم أطلق له السراح، فيتزوج الأجنبي ويلد البنين؛ فيخلق أبناءه موشومين، فإذا رأى أي خناق — من عباد التمساح — طفلًا موشومًا في أي بلد فلا بد له من خنقه إرضاءً للإله، وتنفيذًا لأوامر تلك الجمعية الهائلة.

وهنا سكت البحار؛ فضحك الحاضرون لغرابة روايته، ولم يصدقه أحد، فقال باتير: إنه يمزح.

وقالت شيفيوت: إني سأحرص على هذه الطفلة، ليس لإشفاقي عليها بل لرجائي الكسب منها.

فاستاء البحار مما أظهروه من الشك، وتفرق شمل الحاضرين، فخلا باتير بشيفيوت، وسألها: أحقيقة أن روكامبول يخدم الحكومة؟

– لا ريب في ذلك عندي.

– وإنك تكرهينه حقيقة كما تقولين؟

– إنني لو عثرت بنخاع رأسه لقليته بزبدة سوداء وأكلته.

– أتريدين أن تنتقمي منه؟

– لا أريد غير هذا الانتقام، ولكني لا أجد وسيلة.

– أهو يعرفك إذا رآك؟

– أنا أعرفه لأنهم دلوني عليه، ولكنه لا يعرفني؛ لأنه لم يرني، غير أنه رجل شديد لا يجب الاستخفاف به، وكفاه أنه غلب تيميلون.

– ولكني سأغلبه أنا.

– كيف ذلك؟

– سأخبرك بعد الآن.

ثم نام على فراشه بالقرب منها، وبينهما تلك الطفلة، فكانت تشبه ملاكًا تحرسه الشياطين.

وعند الصباح تفرق اللصوص، فذهب كل في شأنه، وخرج بعدهم باتير وشيفيوت، فقال لها وهما سائران: أفهمت ما قلته الآن؟

– كل الفهم …

– إذن سنجتمع في هذا المساء.

– دون شك.

– وسيعلم روكامبول أنه يوجد من يغلبه.

– وأنا كذلك.

– وأنا الآن ذاهب إلى خمارة أرلكين كي أجتهد في الحصول على أنصار لنا بين رجال العصابة.

فدعت له بالتوفيق وافترقا، فسار باتير إلى الخمارة، وذهبت شيفيوت والطفلة على كتفها إلى أحد الشوارع المقفرة.

٩

بعد ذلك بيومين كان روكامبول لا يزال في فراشه، وأولئك اللصوص يحرسونه ويحرصون عليه، وكلهم معجب بنفسه يعلل النفس بالثروة لاشتغاله برئاسة روكامبول، فكان بينهم كالقائد العظيم بين جنوده، ولم يكن أحد يراه بينهم إلا جواني الجلاد ومورت، فكانت العصابة تخضع لهما لأنهما من أخصاء روكامبول، وتسألهما عنه كل ساعة مترقبة شفاءه السريع.

وبينما هم جالسون يتحدثون إذ دخلت عليهم شيفيوت والطفلة محمولة على كتفها، فعرفها الجميع واستقبلوها استقبالًا حسنًا، ورأوا الطفلة معها وقد وضعتها على الأرض، فجعلوا يداعبون تلك المرأة، ويسألونها كيف ولدت تلك الطفلة، ولما علموا أنها سرقتها سألها أحدهم: أتتزوجين بي؟

– كلا؛ لأن زوجتك تنتظرك، وما زوجتك غير المشنقة التي ستعلق عليها بفضل روكامبول؛ لأنه من أنصار الحكومة.

فاضطرب اللصوص اضطرابًا شديدًا، وهاج عليها أنصاره، واتهموها بالجنون، ولكنها دافعت عن نفسها خير دفاع؛ فتنصلت من التهمة، وقالت لهم: إني ما أتيت إلا لإنقاذكم؛ لأن روكامبول دخل في خدمة البوليس، ولا بد أن يقبض عليكم في أقرب حين.

فأجاب مورت: إنك تكذبين؛ لأن روكامبول لا يخون.

فأقسمت لهم بمهنة اللصوصية على صدق ما تروي، وهي يمين يحترمها اللصوص كل الاحترام، وأقنعتهم بالبراهين الشديدة، ووقفت بينهم موقف الخطيب، فاتهمت روكامبول بالخيانة، وأهاجت عليه صدور العصابة، وحكت لهم حادثة سجن سانت لازار على ما تريد، من كل ما يثبت اتفاق روكامبول مع البوليس حتى تغيرت خواطر أولئك اللصوص عليه، وثبت لهم صدق شيفيوت، وخيانة روكامبول.

ولم يكن يستطيع الدفاع عنه وإظهار الحقيقة غير جواني الجلاد، ولكنه لم يكن حاضرًا بينهم؛ لأن روكامبول قد أرسله بمهمة إلى باريس.

وفيما هم يتداولون وقد ارتفع ضجيجهم، وعلت أصوات سخطهم على روكامبول، دخل باتير فصاحوا جميعهم بصوت واحد: ليحيَ باتير، وليمت روكامبول.

ثم ثار ثائرهم فصرخ أحدهم: لنطرح هذا الخائن في النهر.

وصاح آخر: بل لتقطع رأسه!

وقالت شيفيوت: بل دعوني أخنقه بيدي!

فصاحوا جميعًا: ليمت روكامبول! ما عدا مورت فإنه كان ساكتًا لم يفه بحرف.

وقد انتصر باتير وعادت إليه الزعامة، وحاول أن يهجم برجاله على غرفة روكامبول فيمزقه تمزيقًا.

ولكنهم قبل أن يهجموا على تلك الغرفة، ظهر لهم روكامبول عند بابها، وهو مصفر الوجه، ولكن عينيه تتقدان ببريق غريب، فتراجعوا عند رؤياه.

وكان يوجد في قاعة تلك الخمارة نحو ثلاثين لصًّا، وكلهم خاضعون لباتير، وكان روكامبول قد سمع بعض حديثهم، وأدرك من ملامحهم كل مقاصدهم، فوقف على عتبة الباب، ووضع إحدى يديه فوق صدره الجريح، وجعل ينظر إلى أولئك اللصوص نظرات ملؤها الاحتقار، ثم يجيل نظره فيهم، فينبعث من عينيه بريق تتكهرب له نفوسهم، فيغضون الطرف واجمين كأنما تلك النظرات وعيد هائل لا يفقهون له معنى.

ثم اشتد روكامبول بعد أن رأى تأثير نظراته وثباته، وذهب إلى باتير زعيم العصابة، وخاطبه بملء الاحتقار: أأنت هو الذي يتهمني بالخيانة والجاسوسية؟

فأجفلت العصابة، لما بدا من ظواهر احتقاره وبسالته، وقالت في نفوسها: إن من كان جاسوسًا للحكومة لا يجسر على الكلام بمثل هذه اللهجة.

أما باتير، فقد أجابه بصوت يضطرب قائلًا: نعم، أنا الذي قلت هذا الكلام.

فدنا منه روكامبول خطوة وأجاب: إذًا أنت كذاب سفاك.

فضم باتير قبضتيه إشارة إلى التهديد، غير أن مورت الذي وقف بينهما وقد برق خنجره بيده فقال: الويل لك إذا جرأت على ضربه، فإني أمزق أحشاءك بهذا الخنجر.

فساد السكوت دقيقتين بين العصابة، وانقسمت في الحال شطرين، فمال شطر روكامبول، وحشر الفريق الآخر تحت راية باتير، وجعل كل فريق ينظر إلى الآخر نظرات الشر والوعيد.

غير أن روكامبول أوقفهم بإشارة، وقد رأى أن السيادة بدأت تعود إليه، فقال بلهجة الحنان: إني لا أريد أيها الرفاق أن أكون السبب في خصامكم وتفريقكم، فإن من كان مثلكم لا يفيدهم غير التآلف والوئام.

فبدت من الجميع أشائر الاستحسان لكلامه ما خلا شيفيوت فإنها قالت كلامًا يدل على السخط، فدنا روكامبول منها، ووضع يده على كتفها، وقال لها بلهجة المتهكم: ما بالك لا تقولين لهم أنك أنت التي كنت في خدمة البوليس؛ لأنك كنت في عصابة تيميلون؟

فخافت شيفيوت لأنها كانت تشعر أن نظرات روكامبول تحرقها، فوجمت وأطرقت بنظرها إلى الأرض.

فالتفت عند ذلك روكامبول إلى أفراد العصابة، وقد شعر بانتصاره وقال: أصغوا إلي جميعكم؛ لأني لا أحب أن تحكموا علي دون أن تسمعوا أقوالي، فأصغوا إلي.

فصرخ حزبه: ليحيَ روكامبول! وسكت حزب باتير، فتابع روكامبول: لا أعلم حقيقة ما قالته هذه المرأة، ولكنكم إذا أردتم سماع حكايتي فهذه هي: إني كنت في سجن طولون، وكان لي رفيق بالقيد يدعى ميلون، كان قبل دخوله السجن خادمًا أمينًا ليتيمتين، وقد سرقوا هاتين الأختين، غير أن السارق لم يكن فقيرًا معدمًا يسرق ليعيش مثلنا، بل كان من أصحاب المقامات العالية، ومن الوجهاء كما يقولون.

فهربت من السجن مع ميلون؛ لأني وعدته بإرجاع الثروة للأختين، وما تعودت غير الوفاء.

فصفق له أحزابه تصفيق استحسان، واصفر وجه باتير، فاستأنف روكامبول الحديث، وقص عليهم بذلك اللسان الذرب الذي خدع به المدموازيل سالاندريرا حين كان يدعى المركيز دي شمري، جميع تاريخ أنطوانيت ومدلين، وخاض في كلامه حتى جعل العصابة تميل إلى الأختين، وتكره مورليكس، وتحب أجينور، وأدوع في نفوس أولئك اللصوص عواطف الحب لفاندا.

استفاض في حديثه نحو ساعة وهو يتلاعب بعواطف سامعيه كما يشاء، حتى إذا فرغ من حديثه سقطت دولة باتير، وتقدم أحزابه أنفسهم من روكامبول، فقالوا له: أيها الرئيس، إننا أخطأنا إليك فاغفر لنا.

– إني أسامحكم، ولكني أحب أن أكون زعيمًا لكم؛ لأني لا أتولى زعامة عصابة إلا إذا كان رجالها يعترفون بمطلق سلطاني، ويخضعون لي خضوعًا مطلقًا لا حد له.

فصاحوا جميعهم بصوت واحد: سنكون كلنا كما تريد.

وقال بعضهم: أتريد أن نلقي باتير في المياه؟

– كلا، ولكني إذا توليت رئاستكم، فلا أحب أن يكون هذا الرجل من العصابة.

فأسرع الجميع إلى طرد باتير، ولكنهم لم يجدوه؛ لأنه هرب قبل أن يطردوه.

وعند ذلك تقدمت شيفيوت وقالت: وأنا أتأمر بطردي أيضًا؟

– أنت يجب عليك — قبل كل شيء — أن تقصي علينا حكاية هذه الطفلة.

فامتثلت شيفيوت، وأخبرته بما عرفه القراء من حديث الطفلة.

فأمر صاحب الخمارة بالاعتناء بها، ثم التفت إلى رجال العصابة، وقال لهم: إن مسألة المنزل يجب تأجيلها ثلاثة أيام إلى أن أكون قد تعافيت، والآن اذهبوا جميعكم حذرًا من البوليس؛ لأن الفجر قد انبثق، ولا تفعلوا شيئًا في هذه الأيام الثلاثة.

فتفرق اللصوص، وعاد روكامبول إلى غرفته وهو يقول: هو ذا خطر جديد، فكيف يتيسر لي إنقاذ سكان ذلك المنزل واللصوص طامعون فيه.

ثم اضطجع في سريره وهو يفكر.

١٠

بعد هذه الحادثة بثمانية أيام كان أربعة في قارب يجتازون نهر السين وهم: مورت، ومرميس، وشانوان، وروكامبول.

وكان القارب يسير بهم سيرًا مستعجلًا بالرغم عن مقاومة التيار، حتى بلغا إلى إحدى ضفتي النهر، فقال مورت لروكامبول: هذا هو البيت.

وأشار بيده إلى بيت معتزل في ذلك المكان، فنظر روكامبول إليه فوجده محاطًا بحديقة تكتنفه من كل جانب، ورأى أشجارًا باسقة عند مدخل بابه الكبير.

فلما تأمل روكامبول هذا البيت مليًّا قال لمورت: إن الوقت لم يحن بعد، وعندي أن الأجدر بنا أن نعود إلى الضفة الثانية فنتعشى في إحدى الحانات، ونصبر إلى أن ينتصف الليل فنعود.

فامتثلت العصابة له، وعاد رجالها إلى التجذيف حتى بلغوا المكان الذين يسيرون إليه، فيما هم على الطريق أخرج شانوان مطرقة من القارب وأراها لروكامبول، فسأله: ما هذه المطرقة؟

– إنها تغنيني عن الخنجر والمسدس، أضرب بها الرجل ضربة واحدة على صدغه فأجهز عليه.

– هي مفيدة، ولكنك لا تحتاج إليها هذه المرة؛ لأني سأدخل وحدي إلى هذا البيت.

وكانت العصابة قد أقسمت يمين الطاعة لروكامبول، فسكت شانوان ممتثلًا ولم يجب.

وظل القارب يسير بهم حتى وصلوا إلى المكان المعين فربطوه إلى صخرة على الشاطئ، وصعدوا جميعهم إلى خمارة هناك فجلسوا حول مائدة، وطلبوا ما اشتهوه من أكل وشراب.

ولم يكن يوجد غيرهم في تلك الخمارة، فلما بلغت الساعة التاسعة دخل إليها رجلان وجلسا حول مائدة محاذية لمائدة العصابة وطلبا خمرًا.

وكانا يتكلمان باللغة الفرنسية، غير أن لهجتهما كانت إنكليزية.

فجعل روكامبول يراقبهما خلسة؛ لأنه عجب لوجودهما في هذا الموضع، لا سيما وأن صاحبه استقبلهما استقبال الغرباء.

أما بقية أفراد العصابة فقد شغلوا بأكلهم وشرابهم، ما خلا روكامبول فإنه كان منتبهًا لهما كل الانتباه إذ كان يظهر له من شربهما وسكونهما أنهما على غير ما يريدان أن يُظهراه.

ومما نبهه إليهما لون بشرتهما، فإنه كان يدل على أنهما من أصل غريب، يشبه ذلك الأصل الممتزج بين الهندي والإنكليزي، ثم أنهما بعد سكوت قليل جعلا يتكلمان بلغة لم يفهمها أفراد العصابة ما خلا روكامبول، فقد علم أنها لغة هندية يعرفها كثيرون في بلاد الإنكليز، وكان روكامبول قد عرف هذه اللغة لكثرة اختلاطه مع قومها حين وجد في لوندرا، فكان يفهم كل ما يتحدث به الهنديان.

وكان أحدهما قويًّا، ضخم الجثة، شديد العضل، يدعى أوسمانا، والآخر على عكسه صغير الجثة، نحيل الجسم، رخيم الصوت، حتى إن من يسمعه يخال أنه امرأة متنكرة بزي رجل، وكان يدعى كيرشي.

وبعد أن شربا زجاجة دون أن يفوها بحرف افتتح الصغير الحديث فقال: إن باريس أصغر جدًّا من لوندرا، ولكنه يصعب فيها اقتفاء أثر رجل يريد أن يحتجب عن الأنظار.

إني اقتفيت أثر الأب والابنة ستة أشهر، وكنت أتبعهما كل يوم تقريبًا، وقد لقيتهما عدة مرات، فلو كان الوقت قد حان لكنت قضيت المهمة التي تسعى إليها، ولكنك تعلم يا أوسمانا أن الأمور مرهونة بأوقاتها، وأن الوقت لم يكن حان بعد.

انحنى أوسمانا إشارة للمصادقة، وقال: أتم حديثك يا كيرشي.

– إني تبعتهما من فرصوفيا في جميع أسفارهما حتى وصلا إلى باريس، وهنا فقدت أثرهما، ولم أهتد إليهما إلا منذ ثمانية أيام حين ورد إلي كتاب من اللجنة في لندرا.

– وأخيرًا التقيت بهما؟

– نعم، وها أنا جئت بك الليلة، وسأوصلك إلى المنزل الذي يقيمان فيه.

– حسنًا، إن الوقت قد حان، وساعة هذا اللعين قد دنت.

– ولا شك أن الإلهة كالي ستكون راضية؛ لأني أعددت كل شيء.

– ماذا أعددت؟

– إن هذا اللعين والد الفتاة قد طرد خادمه منذ أسبوع، ثم جعل يبحث عن سواه في باريس، فوجد خادمًا، ولكنه من جمعيتنا.

– أهو من الهنود؟

– كلا، بل هو إنكليزي، ولكنه يحسن التكلم بالفرنسية، وظواهر السلامة بادية في وجهه، فاستخدمه اللعين دون حذر.

وسيأتي هذا الخادم عند منتصف الليل فيفتح لنا الباب، وندخل حينما يكون الأب والابنة نائمين فنقضي مرامنا دون أن يشعر بنا أحد.

وبينما كان الهنديان يتكلمان كان مورت ومرميس وشانوان يتكلمون بما أوحت إليهم الخمر.

أما روكامبول، فكان يتظاهر أنه نائم وهو مصغ كل الإصغاء، فلم تفته كلمة من حديث الهنديين.

وعاد الهنديان إلى الحديث، فقال أوسمانا: والطفلة أين هي الآن؟

– لقد وجدت أثرها أيضًا، ولكني أضعته.

– كيف ذلك؟

– إن اللعين كان يخفي تلك الطفلة في منزل امرأة عجوز مقيمة في شارع الدلتا، وكنت أعددت كل شيء لقتلها، ولكنهم سبقوني لاختطافها.

– ومن الذي سبقك إليها، ألعله الجنرال؟

– لا أعلم غير أني لا أظن أنه هو الفاعل.

– من تظن أنه اختطفها؟

– لم أشتبه بأحد، ولكني واثق من أنها اختطفت في ذات اليوم الذي كنا عازمين فيه على اختطافها.

– يجب أن نجدها، فإن كل موشوم برموزنا من النساء ينبغي أن يكون ضحية الآلهة كالي.

– سنجدها دون شك.

فقال روكامبول في نفسه: ما هذا الاتفاق الغريب، فإني بت واثقًا أن هذه الطفلة التي يتحدثان عنها هي نفس الطفلة التي سرقتها شيفيوت.

وعاد أوسمانا إلى الحديث فقال: إنه يوجد على بعد مرحلة من ضفة السين اليمنى منزل يقيم فيه اللعين وابنته، فأنت تخنق الأب، وأنا أخنق الابنة دون أن يعلم بنا أحد.

وماذا يهمنا إذا عرفت الحكومة وقتلتنا، فإن حياتنا ليست لنا بل هي للجمعية، ولأعضائها مطلق الإرادة بأنفسنا يتصرفون بها كيف يشاءون، ولكن قل لي: أتعرف الطريق إلى هذا المنزل؟

– دون شك، وإني اتفقت على موافاتك إلى هذه الخمارة؛ لأنه في الساعة الحادية عشرة يمر قطار السكة الحديدية فيسير بنا حالًا إلى منزل فيانيف سانت جورج.

فاضطرب روكامبول إذ أيقن أنهما ذاهبان إلى المنزل نفسه الذي عزمت العصابة على سرقته، وقال في نفسه: ما هذا الاتفاق؟ فإنهما يريدان قتل الطفلة التي حميتها من شيفيوت، وقتل الرجل وابنته الذين أريد حمايتهما من اللصوص.

وأخذ بعد ذلك يراقب الهنديين أتم المراقبة، فلا تفوته حركة أو كلمة منهما.

أما الهنديان فكانا مطمئنين، ولم يخطر لهما الحذر في بال، فجعلا يدخنان، واستغرقا بالتأملات العميقة التي تشبه الذهول شأن كل رجال الشرق الأقصى.

وبعد حين دفع مورت بكوعه روكامبول، وقال له: أظن أن الوقت قد حان؛ فإن الساعة ١١ أوشكت أن تدق.

– لقد أصبت، ونظر إلى رفاقه فقال لهم: هلموا بنا.

ثم دفع لصاحب الخمارة ما طلب، وذهبوا جميعهم إلى القارب، فأسرع مورت لرفع المراسي فأوقفه روكامبول وقال: إذا كنا لا نصل في مدة نصف ساعة فلا فائدة من ذهابنا.

تعجب مورت وقال: ماذا يهم إذا تأخرنا عن هذه المدة؟

فنظر روكامبول إلى ساعته وقال: إن الساعة الآن بلغت العاشرة ونصف، فلا يجب أن نضيع الوقت سدى؛ إذ لسنا وحدنا الذين يحاولون سرقة المنزل.

ارتعش اللصوص وقالوا: من الذي يزاحمنا فيه؟

– أرأيتم هذين الرجلين اللذين كانا يشربان هنا في الخمارة فإنهما كانا يتكلمان بلغة أفهمها دونكم، فعلمت كل ما ينويان، ولهذا أطلب إليكم أن تكونوا في طاعتي كرجل واحد.

فصاحوا جميعهم بتحمس: إنك لو أرسلتنا إلى الموت لما أحجمنا.

– إذن انزلوا إلى القارب، وأسرعوا قدر ما تستطيعون.

فنزلوا جميعهم، وكان أشدهم تحمسًا الفتى مرميس، فدفع القارب وصاح: ليحيَ روكامبول …

١١

وكان الجو صافيًا، والنجوم تسطع في الفضاء كليالي الصيف.

فاندفع القارب يسير إلى النهر الهادئ وقد أخذ مرميس مجذافًا يجذف به من اليمين، فأخذ مورت مجذافًا آخر يساعده من اليسار، ووقف شانوان في مؤخرة القارب يجذف أيضًا من الجانبين طلبًا للسرعة.

أما روكامبول، فقد لبث واقفًا في وسط القارب، وكان يقول في نفسه: إن الهنديين قد غلطا في حسابهما، فإن القطار الذي يركبان به لا يمر في الساعة الحادية عشرة، بل في الحادية عشرة ونصف، وعلى ذلك فلا يستطيعان الوصول إلى ذلك المنزل قبل نصف الليل، وسنصل إليه قبلهما إذا استمر قاربنا يسير بهذه السرعة.

وكان ساكتًا واجمًا، فكان اللصوص يحترمون سكوته كي لا يقطعوا حبل تفكره.

وقد أصاب ظنه، فإن القارب وصل إلى المنزل المعتزل قبل أن يسمع صفير القطار.

فربطوا القارب، ونزل مرميس ومورت إلى البر، ولما حاول شانوان أن يتبعهما سأله روكامبول: والمطرقة أتدعها في القارب؟

– ألم تأمرني بإبقائها فيه إذ لا حاجة إليها؟

– نعم، ولكني غيرت فكري الآن فهاتها.

فامتثل شانوان، وجعل روكامبول يبحث في القارب فأخرج منه حبلًا فطواه ووضعه في جيبه، ثم نزل إلى البر قائلًا لرفاقه: أصغوا إلي الآن: أتعلمون من هما هذان الرجلان اللذان لقيناهما في الخمارة؟

– لا.

– إنهما عضوان في عصابة لصوص هائلة.

فقال شنوان: إذن هما من رجال المهنة.

– وهما يريدان من هذا البيت ما نريده، ولا أريد أنا شركاء.

– إذن ماذا تأمر؟

– تعالوا معي وسترون.

ثم مشى أمامهم في طريق معوجة ضيقة تؤدي إلى حديقة البيت، وعند ذلك سمع صفير القطار القادم من باريس.

ولم يكن للهنديين طريق يسلكانها من المحطة إلى المنزل غير هذه الطريق.

وكانت الأشجار الضخمة تكتنف الطريق من الجانبين على مسافة مائة خطوة من باب المنزل الكبير، فأخذ روكامبول الحبل من جيبه فنشره وربط أحد طرفيه بشجرة، والطرف الآخر بشجرة تقابلها في تلك الطريق الضيقة بحيث أصبح لا بد لمن يمر بها أن يعثر بذلك الحبل الذي يعترضه فيقع.

وكان رفاقه ينظرون إليه وهم لا يعلمون شيئًا من قصده، ولما أتم ربط الحبل ذهب بهم إلى شجرة كبيرة وأمرهم أن يختبئوا وراءها.

ثم صفر القطار مرة أخرى، فعلم روكامبول أنه وقف في المحطة المؤدية إلى البيت، وقال لرفاقه: أصغوا إلي الآن، فإنه يجب علينا أن نقبض على هذين الرجلين مهما كلفنا أمرهما من الجهد، وإني أفضل أسرهما واستبقاءهما على قيد الحياة، إلا إذا تعذر ذلك علينا، فلا بأس من أن يستخدم شانوان إذ ذاك مطرقته.

فرد شانوان: إن ضربة واحدة تكفي للقضاء على من تصيبه.

وتابع مرميس: إنه تكفل بالكبير، وأنا أتعهد برفيقه الصغير.

وسألهم مورت: وأنا ماذا أعمل؟

فابتسم روكامبول وقال له: لا تيأس فسأجد لك عملًا.

وبعد عشر دقائق سمعوا وقع أقدام، فأصغى روكامبول وقال: إنهم أكثر من اثنين فناموا على الأرض، ولا تأتوا بحركة إلا بأمري.

وكان أولئك القادمون ثلاثة غير أنهم كانوا يمشون بخطوات بطيئة كأنهم يتشاورون، فأشار روكامبول إلى رفاقه بالسكون، وأصغى إصغاءً تامًا، فعلم من حديثهم أن هذا الرجل الثالث الذي يصحب الهنديين كان خادم الجنرال الذي دخل حديثًا في خدمته بعد طرد ذلك الخادم العجوز.

وقد سمع هذا الخادم يقول لهما: لا يزال الوقت فسيحًا.

فقال أحدهما: لا بأس أن ننتظر إذا كان لا بد من الانتظار، ولكن أين ننتظر؟

فأشار لهما الخادم إلى المكان المختبئ فيه روكامبول، وقال لهم: انتظروا تحت شجرة من هذه الأشجار التي تتصل بباب المنزل إلى أن تسمعا صفيري فتدنوان من الباب.

فاضطرب روكامبول اضطرابًا شديدًا؛ لأنه خشي أن يتقدم الخادم وحده بالحبل، ويقف الهنديان على الحيلة فيهربان.

ولم يكن غرضه حماية الجنرال وفتاته فقط، بل إنه كان يريد كشف الحجاب عن سر تلك الجمعية الهائلة التي يأتي أعضاؤها من أقصى بلاد المعمورة للانتقام من أعداء الإلهة كالي والإله سيوا.

غير أنه سمع الخادم يقول للهنديين: أما أنا فسأعود من الطريق التي أتيت منها.

فقال له أحدهما: لماذا؟

– إن مفتاح الباب غير موجود معي.

فقال له أوسمانا: كيف خرجت من المنزل؟

– من باب صغير في الطرف الآخر من هذا البستان، ويقتضي للدخول منه أن أرجع على أعقابي، وأسلك إليه طريقًا أخرى.

– ونحن ماذا نصنع؟

– تقدما بين صف هذه الأشجار حتى تقربا من الباب، فتلبثان هناك حتى تسمعا صفيري.

ثم تركهما وانصرف … فاطمأن خاطر روكامبول.

وكان روكامبول ورفاقه مختبئين وراء شجرة كبيرة.

وتقدم الهنديان حتى وصلا إلى شجرة لا يفصل بينهما وبين شجرة روكامبول غير الحبل.

ووقفا قربها، وأرسلا بصرهما إلى ذلك البيت المنفرد، ولم يجدا فيه غير نور واحد ينبعث من أحد النوافذ.

وكان مرميس واقفًا أيضًا قرب روكامبول وهو ينظر إلى تلك النافذة، فأدنى فمه من أذنه، وقال له همسًا: هذه نافذة الأب.

غير أن صوت مرميس على ضعفه وصل إلى أذن أوسمانا، فاضطرب وانذعر وصاح: إلي يا كيرشي.

ثم تقدم خطوة، فعثر بالحبل وسقط وصاح صيحة أخرى، فأسرع إليه كيرشي وسقط مثله، فانقض عليهما عند ذلك رجال روكامبول.

وركع روكامبول فوق صدر أحدهما، والخنجر مشهر في يده ثم قال له باللغة الهندية: اسكت أو أقتلك.

وذعر الهندي لسماعه تلك اللغة الهندية أكثر مما ذعر لإشهار الخنجر عليه، فكف عن المقاومة في الحال، وسكنت حركاته شأن أولئك الذين يستسلمون إلى الأقدار متى حل بهم المصاب.

وعند ذلك نادى روكامبول مرميس، وقال له: تعال واقبض عليه.

ففعل وجعل روكامبول يفتش جيوبه، فأخرج منه حبلًا تستعمله طائفة الخناقين الهندية للخنق، ثم بحث أيضًا فوجد مسدسًا إنكليزيًّا، وخنجرًا منقوشًا عليه نقوش غريبة.

وبعد أن جرده من هذه المعدات أخذ منديله فربط به فمه كي لا يصيح، وقال لمرميس: احرص عليه جيدًا.

ثم ركض إلى الهندي الآخر فوجد شانوان رابضًا فوقه يكاد يميته وبيده المطرقة وهو يقول: أأقتله أيها الرئيس؟

فأجابه روكامبول: كلا …

ودنا من الهندي فقال له بلغته: إن الإله سيوا يريد هذا.

فأثرت هذه اللغة به نفس تأثيرها برفيقه، وكف عن المقاومة، وجعل ينظر روكامبول نظرات تشف عن الرعب والحيرة.

ففتشه روكامبول كما فتش رفيقه، فوجد معه نفس المعدات، فاستولى عليها، ثم ذهب إلى الحبل الذي ربطه بالشجرتين فقطعه قطعتين، وأوثق بهما أرجل وأيدي الأسيرين وثاقًا محكمًا.

ولما فرغ من جميع هذا قال لرفاقه: لقد تغيرت خطتنا الآن، فاذهبوا بالأسيرين إلى القارب.

فتأسف مرميس قائلًا: والمنزل ألا نذهب إليه؟

– سأقضي هذه المهمة وحدي.

فقال مورت: ألا تحتاج إلى مساعد؟

فهز روكامبول كتفيه قائلًا: إن المهمة بسيطة لا تحتاج إلى أكثر من واحد أعطوني المطرقة واذهبوا في سبيلكم بالأسيرين، واحرصوا عليهما حرصكما على الحياة.

فلما مشي بضع خطوات ألقى المطرقة، وأخذ من جيبه حبلًا من الحبلين اللذين وجدهما في جيوب الهنديين، وتقدم إلى باب المنزل، فرأى النور لا يزال في نافذة إحدى غرفه، ولم يطل وقوفه حتى سمع صفير الخادم، ثم فتح الباب وخرج الخادم، وقال باللغة الهندية: أين أنتم؟

فأسرع روكامبول وأطلق على عنقه ذلك الحبل ثم شده، فأطبق حول عنقه وانقطع صوته.

١٢

ولندخل الآن بالقارئ إلى هذا المنزل الذي كثرت المشاكل على بابه وأهله لا يعرفون، فإنه منذ طرد الجنرال الخادم نيشيلد سادت السكينة التامة في هذا البيت، فلم يعد الجنرال يفوه بحرف، ولم تعد ناديا تعترض عليه بكلمة، حتى إنهما لم يكونا يجتمعان إلا على مائدة الطعام.

أما سكينة ناديا فلم تكن غير ظاهرية؛ لأنها كانت تذكر ما قاله لها الخادم بشأن الأوراق التي دفنها عند جذع الشجرة وفيها كل ما تريد الوقوف عليه من الأسرار.

ويذكر القراء أن الخادم احتجب عن المنزل في اليوم التالي لإقراره، ودخل مكانه خادم آخر، فقال الجنرال لابنته حين دخوله عليها: احذري أن تكلميني بشيء من شئوننا أمام هذا الخادم؛ لأني لا أعرفه إلا من الشهادات التي بيده.

فلم تجبه ناديا بشيء، وجعلت تنتظر فرصة تغتنمها لإخراج الأوراق من مدفنها.

واتفق في ليلة اشتد ظلامها أن والدها قام باكرًا، وكان الخادم قد خرج بعد العشاء لاستقبال الهنديين في المحطة، فخرجت إلى الحديقة وحفرت عند جذع الشجرة التي دلها عليها الخادم، فأخرجت تلك القدر المدفونة فيها الأوراق، وأسرعت عائدة إلى غرفتها وهي تمشي مشية اللصوص؛ حذرًا من أن يشعر بها والدها.

فلما دخلت إلى غرفتها أغلقت بابها من الداخل، وأرخت الستائر على النافذة؛ حذرًا من أن ينتبه أبوها إلى النور، ثم أنارت الشمعة، ولكنها لم تلبث أن أضاء نورها حتى صاحا الصبية صيحة منكرة، وسقطت الأوراق من يدها.

ذلك أنها لم تكن وحدها في تلك الغرفة، بل كان فيها رجل، وهذا الرجل أبوها الجنرال.

غير أنها على فرط ذعرها اطمأنت بعض الاطمئنان حين تفرست في وجه أبيها، فقد تعودت أن ترى ملامح القسوة والشدة بين ثناياه، ولكنها رأته على غير ما ألفته؛ فقد كان حزينًا تدل ملامحه على كآبة شديدة، وقد سقطت دمعتان على خديه المجعدين.

فلما رآها أبوها على هذه الحالة قال لها بلهجة الحنو: إذًا أنت تريدين يا ابنتي أن تعرفي كل شيء؟

فتقطع قلبها إشفاقًا على أبيها لما رأته عليه من ظواهر الحزن، وقالت: ما بالك يا أبي؟

– أتريدين أن تعرفي ماذا فعلت بطفلتك؟

فأطرقت بنظرها إلى الأرض، وقالت: نعم يا أبي.

– وماذا فعلت بزوجك قسطنطين؟

– نعم.

– أما قال لك خادمنا نيشيلد أني أخفيت الطفلة؟

– ولكنها لا تزال حية، أليس كذلك يا أبي؟

فقال لها بلهجة حنو: أتسألينني إذا كانت حية، وكيف لا تكون آمنة وأنا أرعاها؟

فدهشت الصبية وقالت: ماذا أسمع وكيف تغيرت، ومن أنت؟

– أنا أبوك الذي أصابته الأيام بكارثة هائلة، فاضطر مكرهًا إلى معاملتك معاملة الأعداء أعوامًا طويلة، وهو يذوب حنوًّا عليك. نعم، إني أخفيت طفلتك، ولكني أعرف أين هي، وأعتني بها كل اعتناء. وأنا الذي أرسل قسطنطين إلى سيبيريا، ولكني لم أرسله إلى تلك البلاد النائية إلا لأنقذه من موت هائل.

فجعلت ناديا تنظر إلى أبيها نظرات غريبة كأنها خشيت أن يكون أصيب فجأة بالجنون.

وتابع قائلًا: لا تنظري إلي يا ابنتي هذه النظرات، ولا تنخدعي بأقوال الخادم نيشيلد، فإنه لم يكن يعرف غير ما رآه، أما أنا فسأخبرك عن الحقيقة بتفاصيلها، وسترين بعد ذلك إذا كنت تجسرين على اتهام أبيك بما كنت تتهمينه به من قبل.

وعند ذلك جذب ابنته إلى صدره فقبلها وبكى، ثم أجلسها بقربه وقال: إن ما عرفه نيشيلد من أمري هو أني من أعيان بولونيا الذين رفعوا راية العصيان، وأنه قد جرى بيننا وبين جنود القيصر معارك هائلة، وأنه كان بين هؤلاء الجنود ضابط أحبته ابنتي وأحبها، ولكن ابنتي لم تجسر على مخاطبتي بحبها؛ لأنه عدو لي، ولم تستطع الإقلاع عن حبه، فاندفعت في حبه حتى أذنبت، فأراد أبوك الانتقام منك ومنه على السواء، وأنك جننت حين فقدت طفلتك وزوجك، وأني خنت بولونيا، ألم يقل لك الخادم هذا القول؟

– بلى يا أبي، وقد زاد على ذلك أنه كتب في هذه الأوراق كثيرًا من الخفايا.

– ستقرئينها بعد الآن للتفكه بها؛ لأن هذا المسكين لا يعلم شيئًا من حقيقة أمرنا، وأما الحقيقة فهي ما تسمعينه مني، فأصغي إلي:

إنني بولوني، ولكني أتسمى بغير اسمي، حتى إني حاولت نسيان اسمي القديم، ومع ذلك فلست مضطهدًا، ولا أنا من المذنبين، وعندما كنت في الثامنة والعشرين من عمري أنفت البقاء في بلادي؛ لما كنا نلقاه من الخسف والمظالم، فرحلت إلى الهند، وبعد إقامتي عامًا فيها تعينت قائدًا في الجيش.

وكان لي صديق روسي هناك، وهو قائد مثلي في ذلك الجيش.

فمرت بي عدة أعوام ترقيت في خلالها إلى رتبة كولونيل، فأحببت مس أنا ابنة الجنرال هاريس قائد الجيش الأكبر، وهي أمك.

وقد كنت خطبتها إلى أبيها فتجهم وجهه وأبى، فألححت عليه، وذكرت له أن الحب متبادل بيني وبين ابنته، وأنه إذا أصر على رفض طلبي يسيء إلي وإليها على السواء.

فسكت الجنرال هنيهة سكوت المضطرب، ثم قال: لا تظن أني رفضت طلبك استخفافًا بك، ودليلي على ذلك أنه عندي فتاة ثانية إذا أردت الزواج بها فهي لك وهي مس ميبل.

– قلت لك لا أريد الزواج إلا بالمس أنا؛ لأني أحبها وتحبني.

– أيها التعيس! أتريد أن تموت قتيلًا يوم زواجك، وتخنق امرأتك بين يديك؟

فدهشت لقوله، وقلت: كيف ذلك؟

– ذلك لأن المس أنا التي تحبها مكرسة للإلهة كالي، أتعلم في أي بلاد نحن مقيمون؟

– نعم أعلم، إننا في بلاد الهند الإنكليزية، وإننا نعبد الإله القادر، ولا شأن لنا في معبودات الهند.

فابتسم ابتسام الحزين، وقال: ليس لنا من الأحكام غير ظواهرها. نعم، إننا نحتل سون والحصون ونجبي الضرائب، ولكننا لسنا الأسياد؛ لأنه يوجد فوق يدنا في هذه البلاد التي تظلها رايتنا، وتحميها أساطيلنا يد قوية، وحكومة خفية قادرة، مجتمعاتها في الغابات والهياكل، والمغائر الخفية، ولهذه الجمعية الهائلة منفذون في العواصم، ولا سيما لندرا، يدعونهم بالخناقين، وهم يعبدون الإلهة كالي، ويعتقدون أن هذه الإلهة لا يرضيها غير سفك الدماء.

فقاطعته وقلت: ما الذي تخشاه على ابنتك من هؤلاء الخناقين؟

– لقد قلت لك إنهم كرسوها للإلهة كالي، ويظهر أني لم أفصح عن مرادي بجلاء، اعلم أن أعضاء هذه الجمعية الهائلة يتعارفون برموز وإشارات سرية تخفى عن الأوروبيين والإنكليز، وكل من لم يدخل في سلكها من الهنود.

وقد دخل في هذه الجمعية كثيرون من أعيان البلاد وفقرائها، وامتزجوا بيننا امتزاجًا عظيمًا، حتى إنه يوجد منهم كثيرون بين خدامنا وجنودنا.

وهم يعبدون كثيرًا من الآلهة، أخصها الإلهة كالي، فيلقي الكهنة ما توحيه إليهم تلك الإلهة على أعضاء الجمعية، ولا بد من تنفيذ ما يأمرون، فقد صدر أمرهم منذ خمسة عشر عامًا أن هذه الإلهة تريد أن يضحى لها من الغرباء ستون فتاة من سن العاشرة إلى العشرين، فيقضى على هذه الفتيات بالعزوبة، ومن تزوجت منهن يقتلها الخناقون وهم عباد هذه الإلهة.

فقلت مندهشًا: أتجب عليك الطاعة إذا أمروا؟

– لا، ولكن اسمع كيف ينفذون أوامرهم، فإن هؤلاء الخناقين يبلغون أوامر إلهتهم كالي بإعلانات يلصقونها على الجدران، والأشجار، والمتنزهات العمومية، وأبواب المجامع، ويأمرون عمالها أن يشموا كل فتاة يختارونها للتضحية برمز الإلهة الخاصة.

فلما تنتشر هذه الأوامر، يحرص الآباء والأمهات على بناتهم كل الحرص، ولكن حرصهم لا يفيدهم؛ لأن ما تريده هذه الإلهة لا بد أن يكون.

وقد تنبهت حينما انتشرت هذه الإعلانات؛ فأطلقت سراج جميع من كان في خدمتي من الهنود، ولم يبق لدي غير الأوروبيين، ووضعت الحراس والرقباء على منزلي، ومنعت ابنتي عن الخروج من المنزل، وعينت لهما وصيفتين تنامان في غرفتهما، فلم يكن يدخل إلى منزلي غير ضابط واحد، وهو من أركان حربي ومن الإنكليز.

وكنت قد التمست من حكومتي العودة إلى إنكلترا، فصدر لي الإذن بالسفر، وفي الليلة التي عولت على السفر … ضاعفت عدد الحراس، وبت مبالغة في الحرص في غرفة ابنتي.

وعزمت على السهر طول ليلتي، ولكن النعاس تغلب على أجفاني فنمت بالرغم عني، فلما انتبهت في الصباح وجدت الجميع نيامًا والباب مقفلًا، والكلب الذي كان على الباب ساكنًا لم يتحرك، فدنوت من ابنتي لأتفقدهما فرأيت إحداهما، وهي المس أنا التي تريد أن تخطبها، قد نزع قميصها عنها، ورأيت تلك النقوش السرية مطبوعة فوق ظهرها، وفي وسطها رمز الإلهة كالي.

ولم تكن قد انتبهت من رقادها، ولم يصح أحد من النائمين، حتى إن الكلب لم ينبح، ولكن الخناقين قد دخلوا إلى تلك الغرفة، فعلمت وا أسفاه أن ابنتي ضحية لتلك الإلهة، وقضي عليها بالعزوبة الأبدية، فإذا تزوجت كان نصيبها الموت.

فقلت له عند ذلك: لقد مضى على هذه الحادثة خمسة عشر عامًا، ولا بد أن يكون الخناقون نسوا أمر ابنتك.

– كلا؛ لأنه في كل عام في مثل اليوم الذي وشمت فيه يرد إليها هدية من هذه الجمعية يعتبرونها هدية الإلهة كالي، فلا نعلم كيف تصل إليها؛ لأنها تصبح فترى تلك الهدية على مائدتها. ما زالت فتاة عذراء؛ لأن تلك الجمعية تعتبرها مقدسة مع البيت الذي تقيم فيه وأهله فلا يصيبهم أحدهم بمكروه، وأما إذا تزوجت كان نصيبها الموت لا محالة.

وعند ذلك فتح الباب فجأة، ودخلت منه مس أنا فقالت لأبيها: إني لا أخشى الموت يا أبي، وقد أحبني الكولونيل وأحببته، فأرجو أن يأذن لنا بالزواج.

فذهل السير هاريس لما رآه من ثباتها، وتراجع منذعرًا إلى الوراء.

وهنا توقف الجنرال هنيهة يسمح العرق من جبينه ويستريح، وكانت ناديا مصغية إلى حكايته وقلبها يخفق أشد الخفوق.

١٣

وعاد الجنرال البولوني إلى الحديث فقال: إن السير هاريس ذعر ذعرًا شديدًا لما رآه من ثبات ابنته، فبذل جهده بإرجاعها عن عزمها، فلم يفلح فاضطر مكرهًا إلى الموافقة على زواجنا، واحتفل بعقده في كلكوتا، فعزمنا على السفر جميعنا في اليوم التالي لزواجنا.

وكان الزفاف بسيطًا لم يحضره غير صديق لي من الروسيين كان شاهدي، وفي اليوم التالي نزلنا جميعنا إلى الباخرة، فأعد لنا ربانها في الليل حفلة راقصة استمرت إلى منتصف الليل لم يحضرها أحد من الهنود، وقد حسبت أني بت في مأمن من أفراد تلك الجمعية الرهيبة.

غير أني ما زلت موجسًا خيفة؛ لأن السفينة كانت عازمة على السفر في الصباح، فأدخلت امرأتي إلى غرفتها، ووضعت كرسيًّا عند باب الغرفة، ومائدة وضعت فوقها مسدسين؛ لأني عزمت على السهر طول تلك الليلة مبالغة في الوقاية.

ثم شعرت بظمأ شديد، فطلبت إلى الخادم أن يأتيني بكأس ماء بارد، فما كاد هذا الماء يستقر في جوفي حتى تثاقلت عيناي، ولم أستطع مغالبة النعاس، فنمت على الكره مني.

ولما استفقت عند بزوغ الفجر رأيت صدري عاريًا من الملابس، فنظرت في مرآة وصحت صيحة الدهش والرعب؛ لأني وجدت على صدري تلك الوشوم التي أخبرني بها السير هاريس.

وقد رأيت على المائدة التي كانت بقربي قطعة من ورق الببيروس، كانت موضوعة بإزاء المسدس، فعلمت أنها لي، ودخلت إلى غرفة امرأتي فذعرت حين رأت ذلك الوشم على صدري، وقالت: لقد وشموك من أجلي، فاغفر لي.

فأعطيتها تلك الورقة كي تترجمها لي؛ لأني لم أكن أعرف لغة القوم، فقرأت لي ما يأتي:

أيها الغريب، إنك أحببت مس أنا هاريس حب جنون وهي مكرسة للإلهة كالي، وقد تجاسرت تلك الإنكليزية على عصيان أوامر الإلهة، فحكمت الإلهة عليك وعلى نسلك بالعقاب.

إن هذه العذراء ستغدو أمًّا وتموت، وسيقتل أولادكما مهما بالغتما في الحرص عليهم واحدًا بعد واحد، وأنت أيها الغريب ستقتل بعد أن ترى بعينيك مصرع جميع الذين تحبهم لأن الإلهة كالي تريد أن تعذبك أشد عذاب قبل أن تبعث بنفسك الخائنة إلى عالم الأحلام.

ثم إن هذا الصديق الروسي الذي يدعى بطرس سيلقى نفس عقابك وقد وشم كما وشمت؛ لأنه كان الشاهد على زواجك بضحية الإلهة.

وكان التوقيع على هذه السطور رسم حبل وخنجر.

قال الجنرال لابنته: فلما فهمت هذه السطور وثبت من الغرفة، وجعلت أستغيث، فأسرع إلي ربان السفينة وضباطها، فلما رأى الربان ما أصابني قال: إنك من الهالكين.

ثم جاء صديقي بطرس وهو يصيح صياح الذعر فقد وشموه كما وشموني، ووشموا امرأته وابنه والطفل.

ثم خرجت امرأتي أيضًا وهي والهة تقول: أين أبي؟

فذهبنا إلى غرفته فوجدناها مقفلة، فقرعت بابها مرات فلم يفتح فكسرت الباب ودخلنا جميعًا فرأينا ما تقشعر له الأبدان، وهو أن السير هاريس كان ملقيًّا على فراشه تخيم عليه ظلمة الموت، وفي عنقه حبل من الحرير خنق به.

وقد كانوا رأوا في الليل السير هاريس داخلًا إلى غرفته، ودخل معه القائد سميث أحد أركان حربه، وقد كان ينام في الغرفة معه، فلما كسرنا باب غرفته وجدنا نافذة الغرفة المشرفة على البحر مفتوحة، ولم نجد القائد سميث فيها ولا في الباخرة، فأيقنا أن هذا القائد من جمعية الخناقين، وأنه هو الذي فعل كل هذه الفعال.

ثم ارتاح الجنرال هنيهة، واستأنف الحديث مع ابنته، وقال: عدنا بعد ذلك إلى أوروبا فافترق عني صديقي في ليفربول، ولم أره بعد ذلك إلى الآن.

وقد رجوت أن أجد طبيبًا ماهرًا يزيل عنا تلك الوشوم، فجئت بأمك إلى فرنسا.

واستشرت أشهر أطبائها، فقالوا لي: إن هذا الوشم لا يزول وقد يتصل بالإرث إلى البنين، فتظهر عليهم الوشوم نفسها حين يخلقون، فتركته قانطًا، وعدت بأمك إلى بلادي.

وبعد أشهر ولدتك، فكان سرورنا عظيمًا، لا سيما وأننا لم نجد على ظهرك أثرًا من آثار تلك الوشوم، فقالت لي أمك: إن هذه الجمعية لا بد أن تكون نسيت أمرنا، وإذا كنت لا تزال خائفًا فترسل ابنتنا إلى إحدى القرى فتربو فيها مع مرضعها باسم غريب.

فوافقتها على ذلك؛ لأن خوفي كان لا يزال شديدًا، وأرسلناك في الحال مع إحدى المراضع إلى وكيل لي في إحدى القرى، ونمنا تلك الليلة آمنين، ولكني نهضت في الصباح فوجدت أمك وا أسفاه مخنوقة لا حراك فيها، وأمامها خنجر عليه تلك الرسوم السرية الهائلة.

وتعاقبت السنون على هذه الحادثة حتى صرت صبية، فعدنا إلى فارسوفيا، وعفى عني القيصر بعد خمود الثورة، وكان ما كان بينك وبين قسطنطين، فعفوت أنا أيضًا على زلتك وزلته، ووعدته أن أزوجه بك، وفي ذلك الحين ولدت منه تلك الطفلة.

فدفعتها إلى القابلة حين ولدتها، فما تأملتها حتى ذعرت وصحت صيحة رعب؛ لأني وجدت على ظهرها تلك الوشوم التي وشمت بها أنا وأمك، ودنا قسطنطين حين سمع صيحتي، ثم فتح صدرته ومزق قميصه، وأراني صدره، فإذا الوشوم نفسها مطبوعة عليه.

فدهشت، وقلت: كيف وشمت هذا الوشم؟

– أنا ابن بطرس كوروسوف، وقد كان أبي في الهند وعلى صدره مثل هذا الوشم.

فذكرت صديقي الروسي الذي كان شاهد زواجي، وشعرت بقوة هذه الجمعية الهائلة.

وفيما نحن نفتكر بإعداد وسيلة للفرار من الخناقين جاءني ساعي البريد برسالة، ففضتها وقرأت فيها ما يأتي:

إن ساعة قتلك وقتل ابنتك وصهرك قسطنطين قد دنت فافترقوا عن بعضكم، وتأهبوا للموت.

وكان توقيع الرسالة رسم خنجر وحبل ودفعته لقسطنطين، وقلت له: انج بنفسك وأنا سأنجو بابنتي وأفر بها إلى مكان قصي.

وقرأه قسطنطين وقال: لا بد لي من الفرار في كل حال، فقد صرت بعد انضمامي إليكم من الثائرين، وأنا أتوقع النفي إلى سيبيريا في كل حين.

فوافقته على ما قال.

واضطربت ناديا، وقالت لأبيها بلهجة المؤنب: إذن هي هذه الرسالة التي حملتك على التفريق وإرسال قسطنطين إلى سيبيريا في حين أنك كنت قادرًا على التوسط في العفو عنه!

– نعم، فإني منذ خمسة أعوام أطوف بك متنكرًا من بلد إلى بلد حتى جئت بك إلى هنا، وأنا أرجو أن أحجبك في هذا المكان المعتزل عن عيون هؤلاء الخناقين.

– وماذا فعلت بابنتي؟

– إنها هنا في باريس أراها في أكثر الأحيان.

– ردها إلي …

– ويحك ما هذا الجنون، أتريدين أن يهتدي الخناقون إلينا؟

فهاجت عواطف الأمومة في صدرها، وقالت: إني لا أخاف الخناقين، ولا أثق بسلطانهم.

ولم تكد تتم كلامها حتى صاحت صياح الرعب، وتراجع أبوها منذعرًا ذلك أن باب الغرفة قد فتح فجأة، وظهر على عتبة الباب رجل غريب عنهما، وكان بإحدى يديه حبل، وبالأخرى خنجر مشهر، فدنا خطوة من ناديا، وقال لها ببرود: لقد أخطأت يا سيدتي، فإن الخناقين لا يهزأ بقوتهم.

١٤

واشتد ذعر ناديا، وأسرعت إلى أبيها، وحالت بينه وبين هذا الرجل وهي تقول: أتوسل إليك أن تعفو عنه، وتقتلني مكانه.

وكانت جميع ظواهر الرجل تدل على أنه من أعضاء تلك الجمعية، ولم يكن لدى الجنرال سلاح يدافع به غير أن هذا الغريب طمأنهما بإشارة قائلًا لهما: ليهدأ روعكما لقد نجوتما من خطر عظيم.

وسأله الجنرال: إذن من أنت؟

– لا فائدة لك يا سيدي بمعرفة اسمي ودعني أقص عليك ما فعلت. ثم التفت إلى ناديا، وقال لها: اطمئني يا سيدتي … لم يعد من خطر عليك، وسأحميك وأحمي أباك بعد الآن.

وحكايتي أن الصدفة قادتني إلى خمارة، وأنا أعرف اللغة الهندية، فسمعت اثنين يتحدثان بهذه اللغة، فأصغيت إلى حديثهما، وعلمت أنهما قادمان خاصة من لندرا لقتلكما، وأن ذلك الخادم الجديد الذي دخل في خدمتكم كان متفقًا معهما على أن يفتح لهما الباب، ولكن ثقا أنه لا يستطيع خيانة بعد الآن؛ لأنه بات من الأموات.

وقد عرف القراء دون شك أن هذا الرجل لم يكن غير روكامبول، بطل هذه الرواية، وقص عليهما كيف أسر الهنديين، وكيف قتل الخادم.

ثم أخبرهما أنه بعد قتل الخادم بذلك الحبل الذي خنقه به رأى النور ينبعث من الغرفة، فصعد إليها، واختبأ فسمع حديثهما.

وسأله الجنرال: أسمعت كل الحديث؟

– نعم، ولم تفتني كلمة منه بحيث إني أعلم الآن جميع أمركم.

وسأله الجنرال: إذن من أنت أيها الرجل الذي أنقذتنا دون أن يكون لك معرفة بنا؟

فأجابهم بلهجة الحزين: لا تبحث عن معرفة اسمي الآن، واقتصر على العلم بأني منقذكم.

فقال بلهجة القانط: نعم أنقذتنا اليوم، ولكن من ينقذنا غدًا؟

– إني سأحرص عليكم غدًا كما حرصت اليوم.

وهز الجنرال رأسه وأجاب: لا حيلة لنا من عصابة الخناقين.

فابتسم روكامبول وأجابه: أصغ إلي فإني أستطيع أن أفعل كل ما أريد، وفي وسعي أن أترأس غدًا عصابة تكون أشد هولًا من عصابة الخناقين، فأمحو أثرها.

وأنت تسألني الآن من أنا، فاعلم أني رجل خلق للعراك الدائم في معترك هذه الحياة، ولي زعامة على الناس لم أنلها إلا بالثمن الغالي، فيخضع لي رجالي كما يخضع أولئك الهنود لإلهتهم كالي.

انظر إلي تراني لم أتجاوز الأربعين من عمري، ولكني لقيت من غرائب هذا الوجود ما لا يلقاه المعمرون حتى سئمت العيش، وثقلت علي الحياة وطلبت الراحة الأبدية في مياه السين، ولكن الموت أبى أن يمد يده إلي، وحسنًا فعل إذ بقي ما أفعله في هذه الحياة.

وقد أنقذني من الموت عصابة من اللصوص، وعينتني زعيمًا لها، فرضيت هذه الزعامة لرجائي أن أصرف رجالها إلى الخير في مستقبل الأيام.

وإن بعض رجال هذه العصابة رأوا منزلكم المعتزل، فراقبوكم وتآمروا على سلبكم وقتلكم، وعلى ذلك فليست الصدفة وحدها التي قادتني إليكم، بل اضطراري إلى الدفاع عنكم، ومنع رجالي عن ارتكاب هذا الإثم، فلقيت عدوًّا آخر لكم أشد هولًا، أي أولئك الهنود الذين حكموا عليكم بالإعدام، ولكن لا تجزعوا فإني أستطيع حمايتكما وحماية الطفلة.

فذعرت ناديا، وقالت: أية طفلة تعني؟

– بنتك يا سيدتي، فقد وضعتها في محل أمين.

فأجفل الجنرال وقال: كيف وصلت إليها؟

– ألم تضعها عند امرأة عجوز مقيمة في شارع الدلتا؟

– نعم، وقد ذهبت إليها منذ ثمانية أيام، ورأيت الطفلة عندها.

– ولكنها سرقت اليوم التالي لزيارتك.

– ومن الذي اختطفها؟

– امرأة من اللصوص، ولكني عثرت بها، وأخذت الطفلة منها؛ لأن هذه المرأة خاضعة لي لحسن الحظ.

فصاحت ناديا تقول: رباه، إني أخشى أن تصاب بسوء.

– اطمئني يا سيدتي، فسترد إليك سليمة آمنة من كل سوء بإذن الله، والآن فإني سأفارقكم هنيهة فلا تجزعوا؛ فإني سأرسل لكم حراسًا بعد ساعة.

قال هذا وحاول الذهاب، فاعترضه الجنرال ومسكه بيديه، وقال: بالله قل لنا من أنت لنعرف اسم من أنقذ حياتنا على الأقل.

– إنكم تجهلون اسمي إذا ذكر لكم. إني أُدعى روكامبول، وحقيقة أمري أني كنت من كبار المجرمين وأنا الآن من التائبين، أستغفر الله عما مضى من ذنوبي بصالح الأعمال.

ثم تركهما وانصرف، فكان الجنرال وناديا ينظران إليه بذهول وإعجاب …

١٥

كان اللصوص قد نفذوا أوامر روكامبول بالتدقيق، فحملوا الأسيرين المكبلين إلى القارب، وأقاموا ينتظرون عودته، فجعلوا يتحدثون بمهارة هذا الزعيم وشهرته الفائقة بلغة لم يفهمها الهنديان، ولكنهما كانا يسمعان اسم روكامبول يتردد كثيرًا بينهم، فعلما أنه هو ذاك الذي رعبهما بلغته الهندية.

وطال حديثهم نحو ساعتين دون أن يعود روكامبول فاستبطئوه، وقال شانوان: لا بد أن يكون قد قتل الشيخ والصبية، ولا بد أن تكون كنوز هذا البيت كثيرة، فهو منهمك الآن بفتح الخزائن، واستخراج ما فيها من المخبآت.

ورد مورت: ولكن غيابه طال، وأخشى أن يكون قد أصيب بمكروه.

فقال مرميس: لا خطر عليه؛ فإنه أعظم من أن يناله أحد بسوء.

فرد شانوان: ولكنني أجد أمرًا لا يزال شاغلًا لبالي وهو النور الذي ينبعث من نافذة الدار، فإنه لم ينقل من موضعه من ساعتين، فلو كان الرئيس قضى مهمته، وقتل أصحاب البيت لاستعان بالنور على التفتيش، وعندي أنه يجب أن نبادر لمساعدته.

فوافقه مرميس، واعترضه مورت، فقال: ينبغي أن نحافظ على الأسيرين.

فرد شانوان: أنا أبقى للمحافظة عليهما وهما مكبلان، لا خوف منهما، وأما أنتما فاذهبا لمعاونة الرئيس.

فقال مورت: نعم، ولكن يجب علينا أن لا ننسى ما وعدنا به الرئيس من الطاعة المطلقة، ثم ألم نعده بأننا لا نتبعه، وأن ننتظره في القارب؟

فرد شانوان: هو الحق ما تقول، ولكني أخاف أن يكون أصيب بمكروه.

فرد مورت: طب نفسًا فإن روكامبول لم ينل الشهرة عبثًا.

وفيما هم يتحدثون بهذه الأحاديث سمعوا صفيرًا بعيدًا، هتف مرميس: هو ذا الرئيس قد عاد.

ثم سمعوا صفيرًا آخر، فأيقنوا أنه روكامبول القادم إليهم، وبعد هنيهة وصل روكامبول فوثب إلى القارب، وهتف بمرميس: لا ترفع المرساة؛ لأننا سنتحدث قبل الرحيل.

سأله شانوان: ألم تقض المهمة؟

فابتسم روكامبول ابتسامًا معنويًّا وقال: ألم تقسموا لي يمين الطاعة؟

فأجاب الثلاثة بصوت واحد: نعم.

– إذن لا زلت زعيمكم الذي تخدمونه بإخلاص، ولكني لا أكتفي بهذا الإخلاص، بل أريد أن تطيعوني طاعة عمياء لا حد لها دون أن تناقشوني فيما أصدره لكم من الأوامر.

فوقف الثلاثة، وقالوا بصوت واحد: إننا نقسم لك بمهنتنا على الوفاء.

– إذن أصغوا إلي؛ إني صعدت إلى ذلك البيت بغية قتل أصحابه، ونهب ما فيه، ولكني بدلًا من أن أجد قومًا نسرقهم وجدت أصدقاء.

فانذهل اللصوص، وجعل كل منهم ينظر إلى الآخر، فقال روكامبول دون أن يحفل بنظراتهم: إن هؤلاء الأصدقاء يجب علينا حمايتهم، وصيانة منزلهم دون شك.

فاستاء شانوان ورد عليه … إن هذا من الغرائب.

– لهذا فقد عينتك للمهمة، اذهب إلى هذا البيت وقل للشيخ والصبية: إني آت من قبل الرئيس لحراستكم في الليل والنهار.

فرد عليه شانوان: إن الأمر غريب، ولكنه يكفي صدور أمرك، ولا يسعني إلا الطاعة.

وأدرك روكامبول استياء العصابة، فقال لهم: ألم تظهروا لي رغبتكم بالأمس أنكم أنفتم من السرقات الصغرى، وأنكم تحبون الأعمال الكبيرة؟

فعاد الرجاء إلى نفوسهم وقالوا: … نعم.

– إذن فاعلموا أن الفرصة قد حانت، وليس لي اليوم ما أزيد على ما قلته لكم، اذهب الآن يا شانوان ويا مورت، أما أنا فسأعود إليكم في الغد، والويل لمن يعصي أوامري.

فخرج شانوان ومورت من القارب، وبينما هما يخرجان سأله مرميس … وأنا أيها الرئيس ماذا ينبغي أن أفعل؟

– أنت يجب أن تبقى معي، ارفع المرساة وسر بنا.

فامتثل مرميس ودفع القارب، وسار في عرض النهر.

أما روكامبول، فقد دنا من الأسيرين المنطرحين في القارب، وقال لأوسمانا باللغة الهندية: … إن الإلهة كالي قد تخلت عنك، والإله سيوا يأمرني أن أنتقم منك بالقتل …

فلم يظهر أوسمانا شيئًا من الخوف، ورد عليه: ما قدر يكون، وإن الإلهة ستكافئني خيرًا في العالم الأخير.

أشهر روكامبول الخنجر على رفيقه كيرشي، وقال له: … وأنت أتخضع لي إذا صفح عنك الإله سيوا؟

فأصر على العناد إلى أن أحسَّ بوخز الخنجر، فقال: لا تفعل فسأتكلم …

١٦

بعد ذلك بيومين كان رجال العصابة مجتمعين في تلك الخمارة التي جعلوها مركز اجتماعهم العام، وكانوا يتداولون بشأن روكامبول، واحتجاب شانوان ومورت عنهما؛ لأن مرميس كتم الأمر عنهم.

وفيما هما يتداولون أقبل واحد منهم، وأخبرهم أن شانوان ومورت قد اعتزلا المهنة، ودخلا في خدمة رجل عجوز، فكان أحدهما — وهو شانوان — سائق مركبة العجوز، والآخر خادمًا يجلس بإزاء السائق، فذهل اللصوص لهذا الخبر، وقالوا: لا بد أن يكون لهما وراء هذه الخدمة قصد خفي؛ فإن الخدمة لا تفضل مهنتنا.

ثم دخل مرميس فأبلغ العصابة أن الرئيس سيحضر قريبًا، فطربوا جميعهم وصاحوا بصوت واحد: ليحيَ الرئيس؛ لأنهم كانوا يدعونه الرئيس بدلًا من روكامبول حين رضوا بالإجماع أن يكون زعيمهم.

وعند ذلك أخبرهم مرميس أن روكامبول يعد مشروعًا عظيمًا، وأنه يحتاج إلى كثير من رجال العصابة، ولكنه لا يستخدم منا غير الأكفاء القادرين.

وجعل كل يسأله بدوره إذا كان من المرشحين، فيجيب كل واحد منهم بما يرضيه.

ثم سأله نوتير إذا كان هذا المشروع سيتم في باريس أجاب: كلا، فإننا سنجتاز البحار.

فصاحوا جميعهم: إلى أين؟

ولكن مرميس لم يجبهم؛ لأنه لم يكن عارفًا بشيء من مقاصد روكامبول، فجعلوا يتكهنون ويتنبئون وكلهم يتنبأ عن قصد، ويتكهن عن مشروع.

وفيما هم على ذلك إذ رأوا مركبة جميلة يجرها أربعة من جياد الخيل، وقد وقفت عند باب الخمارة، فاندهش الجميع.

وصاح نوتير: ارفعوا قبعاتكم، فهذا الرئيس قد حضر.

وعند ذلك دخل روكامبول، فاشتد ذهول اللصوص؛ لأنهم رأوا من زعيمهم ما لم يروه من قبل، ولم يخطر لهم في بال.

وقد كانوا رأوه حين انتشلوه من النهر بسيط الملابس، ولم يجدوا في جيوبه غير قليل من النقود، ثم ما لبث أن عاد إليهم بمركبة تجرها الجياد المطهمة وهو لابس ملابس الأمراء، وأزرار قميصه من الماس الفاخر، فضجوا جميعهم لما رأوه وصاحوا: ليحيَ روكامبول.

وعلا ضجيج استحسانهم حتى أسكتهم بإشارة، ووقف بينهم موقف الخطيب فقال: إن من عرفني بينكم يعلم أني لا أقدم إلا على الأعمال الخطيرة، وأما زعامة عصابة تسرق منزلًا وحانوتًا فذلك لا يقدم عليه غير أمثال باتير.

ثم تبسم ابتسام الاحتقار، وقال: إنكم كنتم في عهد رئاسة ذلك الرجل من أحقر اللصوص، فهل تريدون أن تكونوا في عهدي من بواسل الجنود؟

فصاحوا جميعهم: ليحيَ الرئيس.

فلما انتهى صياحهم قال لهم: ألم تسمعوا بعصابات لوندرا؟

فأجاب مرميس: نعم، وهي عصابات هائلة.

– إني أريد أن أسود عليها، ولكنه يوجد في تلك العاصمة عصابة أشد هولًا من كل عصابة يدعى رجالها خناقين، وأنا أريد محق هذه العصابة، فمن كان يثق بي فليتبعني، ومن كان خائفًا فليبق في باريس.

فأجمعوا على الثقة به، وصاحوا جميعهم متحمسين: هلموا إلى لندرا.

وعند ذلك وقفت صاحبة الخمارة، وقد بدت عليها ملامح الخوف، فقالت: إنك ستقطع أيها الرئيس أسباب رزقي بسفر هذه العصابة؛ إذ لا أرتزق إلا من رجالها.

– لا تخشي يا خالتاه، فإنني أحتاج إلى مراسلين في باريس، وستكون مكاسبك في غيابنا أكثر مما هي الآن.

ثم أخرج كيسًا من جيبه، وأفرغ ما فيه على الطاولة، فذهل اللصوص لأنهم رأوا فيه قطعًا من النحاس عليها نمر مختلفة، فقال لهم روكامبول: أصغوا إلي الآن، فإني مسافر إلى لندرا في هذه الليلة نفسها لأعد فيها المعدات؛ ولذلك لا أستطيع أن أجعلكم تسافرون معي، ولست محتاجًا إليكم إلا بعد ثمانية أيام.

فليأخذ كل واحد منكم نمرة من هذه النمر، وليذهب بها إلى شارع لافييت، وهناك ترون محلًّا مكتوبًا على بابه بالحبر الأحمر «مكتب للمهاجرة»، ورجلًا ضخم الجثة فيه يدعى ميلون، فكل من يعطيه هذه النمرة يدفع له ألف فرنك وتذكرة سفر وجوازًا إلى لندرا.

ولا تنسوا أنه يجب بعد ثمانية أيام أن تكونوا جميعكم في لندرا.

فسأله نوتير: أين الملتقى هناك؟

– يوجد في لندرا شارع كثير السكان، يصل إليه المسافر بعد أن يجتاز جسر واترلو.

وفي هذا الشارع محل يدعى واينغ، وفيه خمارة تدعى «الملك جورج»، فإذا وصلتم ادخلوا إلى هذه الخمارة؛ فإن صاحبها من رجالي، وهو يخبركم أين تجدونني.

ثم جعل يفرق النمر، فكانوا يأخذونها منه بلهف، وبعد أن أتم توزيعها خرج إلى المركبة التي جاء بها، وكان فيها امرأة حسناء استلفتت أنظار اللصوص، لكنهم كانوا ينظرون إليها باحترام؛ لأنها كانت مع زعيمهم.

كانت هذه المرأة فاندا، فأخذ روكامبول يدها، فأنزلها من المركبة، وجاء بها إلى أصحابه، فقال لهم: انظروا إلى هذه السيدة، وأمعنوا بها النظر، فأنا وإياها واحد في زعامتكم، ويجب أن تطيعوها كما تطيعونني.

ثم خرج بها إلى المركبة يخفرها أولئك اللصوص بين ضجيج الهتاف، فركب وإياها مودعين بالإشارة تلك العصابة.

وبعد حين كانت المركبة سائرة تنهب الأرض بجيادها المطهمة، فكان روكامبول يقول لها: لقد لقيت الآن خصومًا أكفاء لنا، وسنرى ما يكون بيننا وبين أولئك الخناقين.

فطوقت فاندا عنقه بذراعيها قائلة: ألم أقل لك: إنه لا يحق لك أن تموت؟

١٧

مضى شهر على سفر روكامبول وفاندا من باريس، ففي إحدى الليالي كان بعض أشراف الإنكليز جالسين على مائدة في فندق أوبرج يتحدثون بعد الطعام.

كان حديثهم دائرًا على مصارعة حدثت في النهار بين ديكين، فإن الإنكليز يحبون مصارعة الديوك، ويتراهنون عليها بالمبالغ الطائلة، فكان من حديثهم أن السير جورج ستوي خسر خسارة فادحة في هذا الرهان.

على أن حديث هذه المراهنة لم يكن قاصرًا على أولئك الأشراف المجتمعين في ذلك الفندق، بل كان عامًا تناولته جميع الألسن في منتديات لندرا ومجالسها الخاصة، ومراسحها العامة، ذلك ليس لجسامة الرهان على مصارعة الديكين، بل لأن الديكين كان أحدهما فرنسيًّا والآخر إنكليزيًّا، ولأن الفوز في المصارعة كان للديك الفرنسي.

ولهذا الرهان حديث طويل نورده بالإيجاز: هو أن أحد أشراف الفرنسيين قال أمام الإنكليز في كثير من منتدياتهم: إن لديه ديكًا يغلب جميع ديوك إنكلترا.

وكان لدى السير جورج ستوي ديك عظيم يفتخر به، فراهنه على مصارعته فخسر الرهان، ثم تراهنا على مصارعة الكلاب، فقال جورج ستوي: إن لدي كلبًا يقتل مئة فأر في مدة خمس دقائق، فرد الفرنسي: وأنا لدي كلب يقتل كلبك بأقل من هذه المدة.

فتوافق الاثنان على تجديد الرهان، وتعين مكان المصارعة في ذلك الفندق نفسه الذي كان يتحدث فيه أولئك الأشراف، فكان حديثهم قاصرًا على ذلك الرجل الفرنسي الذي غلب ديكه أعظم ديوك إنكلترا، وجعلوا ينتظرون بفارغ الصبر موعد مصارعة الكلبين.

أما السير جورج ستوي فقد كان إنكليزيًّا، لكنه أسمر اللون؛ لأنه ولد في الهند، كان كبير الجثة قويًّا، أسود الشعر تدل ملامحه أنه يوجد دم هندي في عروقه …

وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره، وافر الجمال جريء، لكن نظرات عينيه حين يغضب تشير إلى أن تمدنه لم يكن غير ستر رقيق يغطي الهمجية الكامنة في فؤاده كمون النار في الحجر.

كان كثير الغنى منهمكًا في المقامرة، يحسن لعب السلاح، على الأخص إطلاق المسدسات، فقد كان من البارعين في هذا الفن.

فلما حانت الساعة العاشرة، وهي الساعة المعينة لمصارعة الكلبين أقبل السير جورج ستوي إلى الفندق ومعه كلب، وهو كلب هائل يتقد الشرر من عينيه: فقال لصاحب الفندق حين دخوله: يظهر أني أول القادمين.

فأجابه صاحب الفندق: كلا يا سيدي، فإن كثيرين من المراهنين مقيمون في القاعة، وإن خصمك أيضًا موجود فيها مع كلبه.

فأسرع السير بكلبه إلى حيث كان الحضور، وهم نحو ثلاثين رجلًا من نبلاء الإنكليز الذين يحملهم بطر الثروة على التفكه بمثل هذه الملاهي.

فأعد صاحب الفندق معدات المصارعة، ووضع في وسط القاعة صندوقًا عظيمًا يبلغ اتساعه أربعة أمتار، فتقدم الرجل الفرنسي من الصندوق وهو يحمل كلبه بيده، فظهرت على مياسم الحاضرين علائم الاحتقار حين قارنوا بين الكلبين، فإنهم كانوا يعرفون بطش كلب السير جورج الهائل المنظر، أما كلب الفرنسي، فقد كان صغيرًا مجعد الشعر، تدل عيناه على الذكاء والسلامة، وأنه خلق للجلوس في القاعات لا في صناديق المصارعات.

فلما دنا الفرنسي بكلبه من الصندوق دنا الإنكليزي أيضًا فسلم عليه، لكنه لم يتمالك عن الابتسام حين نظر ذلك الكلب الصغير، فقال الإنكليزي بلهجة الإشفاق: إني أشفقت على كلبك الصغير حين نظرته، فإذا اعترفت أنك مغلوب قبلت حرصًا على هذا الكلب الجميل.

فابتسم الفرنسي وقال له: إن كلبك جميل، وأنا أقترح عليك نفس الاقتراح.

– إنك تمزح دون شك.

ثم حل عقال كلبه المتعود مثل هذا الصراع، فوثب مسرعًا إلى الصندوق.

وعند ذلك أخد الفرنسي كلبه وألقاه بيده في ذلك الصندوق.

فاستقبله كلب الإنكليزي بعينين يتقد فيهما اللهب، وكشر عن أنيابه، وكان بين الحضور سيدة إرلندية، فحولت وجهها كي لا ترى ذلك المنظر الهائل؛ لاعتقادها أن الكلب الكبير سيخنق الصغير لأول وثبة.

١٨

على أن الرجال لم يؤثر بهم ذلك المنظر الوحشي كما أثر بالسيدة، فتهافتوا حول الصندوق ليروا ما يجري فيه ما خلا بعضهم، فإنهم كانوا ينظرون إلى الفرنسي، ويراقبون تأثيره، فلا يجدون غير آثار السكينة والاطمئنان.

وزمجر كلب الإنكليزي مرتين قبل الوثوب، فكان كلب الفرنسي نائمًا بعيدًا ينظر إليه مطمئنًّا.

وبعد أن زمجر الكلب الكبير وثب فأطبقت الإرلندية عينيها.

أما الكلب الصغير فإنه هب من سكونه، فوثب بخفة القرود إلى ظهر الكلب الكبير، فامتطاه كما يمتطي القرد ظهر الحمار، وجفل ينهشه في عنقه، فيدور الكلب الكبير حول الصندوق والصغير فوق ظهره يعضه.

حتى إذا أعياه أمره انقلب إلى الأرض، فيثب الصغير من فوق ظهره، ويجري الاثنان في تلك المساحة الضيقة إلى أن يوشك الكبير أن يدرك الصغير، فيعيد الوثوب إلى ظهره، ويدمي عنقه نهشًا وعضًّا.

وكان الكبير في أسوأ حال إذا فتح فكيه كي يعض خصمه لا يعض إلا الهواء، غير أن حالة صاحبه السير جورج كانت أشد، فقد امتقع لون وجهه، وبدا الغضب بين عينيه، فقال لخصمه الفرنسي: كان ينبغي أن تنذرني يا سيدي بأن كلبك من نسل القرود.

– إنني أوافقك على إنهاء المصارعة متى أردت.

– أتعترف أنك مغلوب؟

فابتسم الفرنسي وأجاب: كلا لم يحن الوقت بعد.

ثم نادى كلبه نداءً خاصًّا فوثب بسرعة إلى ظهر الكلب الكبير، وغرس أنيابه في عنقه، فلما شعر بالألم انقلب على ظهره، فهرب الصغير، ثم عاد إلى الوثوب إلى ظهره وعضه، فجعل الكلب الإنكليزي يدور كحجر الرحى، وهو لا يعلم كيف ينجو من هذه الداهية التي أصابته.

فقال الفرنسي لجورج ستوي: ماذا ترى يا سيدي، أيجب إتمام المصارعة أم تكتفي بما جرى؟

فأجاب بصوت يتهدج من الغضب: بل أريد إتمامها إلى النهاية حتى يموت أحد الكلبين.

فنادى الفرنسي عند ذلك كلبه يحمسه بنداء خاص، والتفت إلى جورج ستوي قائلًا له: إن كلبك سيموت بعد ثلاث دقائق.

أما كلب الفرنسي، فإنه ما أوشك أن سمع نداء صاحبه حتى غرس أنيابه في عنق الكلب الكبير وهو رابض فوق ظهره فتمكنت أنيابه كالكلاليب، فجحظت عينا ذلك الكلب، وظهرت عليه علائم النزع، وجعل يطوف على غير هدى في ساحة الصندوق، كل ذلك والكلب الصغير لا يتركه، والعيون ناظرة إلى هذا الصراع الهائل إلى أن سقط الكلب قتيلًا، فقال الفرنسي لكلبه: كفى الآن … وناداه فوثب إليه خارجًا من الصندوق.

فجعل الإنكليز يصفقون بأيديهم إعجابًا لفوز هذا الكلب غير مكترثين بمس عواطفهم الوطنية، وكان إعجاب الإرلندية فوق كل إعجاب، حتى إنها عرضت على الفرنسي أن تشتريه منه بمائة جنيه فأبى.

أما السير جورج ستوي، فقد بلغ منه الغضب مبلغًا شديدًا، حتى إنه خرج عن دائرة الصواب وقال للفرنسي: لا أظنك سعيدًا مثل كلبك، فهل تحسن إطلاق الرصاص؟

فأجابه الفرنسي ببرود: إني أصيب الهدف عشر مرات متوالية، فتقع رصاصاتي بعضها فوق بعض.

– إني أحب أن أرى ما تقول.

– وأنا مستعد للبرهان على صدق قولي متى أردت، فهل تحب نور الغاز؟

– لا أفهم ما تريد قوله.

– أريد أن أقول إني أحب المبارزة على نور الغاز، وهذه الأنوار مضيئة.

فحاول بعض الحضور عند ذلك أن يتداخلوا، فمنعهم الفرنسي قائلًا: دعونا أيها الأسياد وشأننا، فإن السير جورج ستوي يحتاج إلى أمثولة.

فرد عليه السير جورج: سنرى أينا أحوج إلى هذه الأمثولة، غير أن وقتي لا يسمح لي بالمبارزة هذه الليلة، فإذا أردت فاحضر غدًا الساعة الثامنة إلى بيرمنجهام مع شاهديك.

– حسنًا ليكن ما تريده.

ثم حمل كلبه وخرج وحده من تلك القاعة والناس يعجبون بهذه النهاية السيئة التي ختم بها الرهان.

ثم خرج أيضًا السير جورج، فلما وصل الفرنسي إلى باب الفندق وجد رجلًا ضخم الجثة ينتظره، أخذ منه الكلب، وألبسه ثوبًا طويلًا مبطنًا بالفرو.

فقال له الفرنسي: أين المركبة؟

– هي هنا في ردهة الفندق الخارجية.

– إذن خذ الكلب إلى فاندا …

– وأنت أيها الرئيس ألا تذهب إليها؟

– … كلا!

فأظهر الخادم شيئًا من التردد، وجعل ينظر إلى سيده كأنه يريد أن يقول شيئًا، فسأله الفرنسي وهو يضحك: ماذا أصابك، ولماذا تنظر إلي هذه النظرات؟

– ذلك يا سيدي … لأني.

– ماذا؟

– لأني خائف …

– وممن الخوف؟

– إني أخاف عليك حين أراك عازمًا على الطواف في الليل في شوارع لندرا.

– لا تخف علي … فإني أدخل إلى شارع وينغ لسببين: أحدهما: أنه لي شغل فيه، والثاني: لأني أدعى روكامبول.

ثم صرفه بإشارة ومضى كلٌّ إلى سبيله.

١٩

كل من زار مدينة لندرا يعلم أن نهارها ليل وليلها نهار، فإن الشمس تشرق على تلك العاصمة كما تشرق في كل الأرض، ولكنها لا تظهر عند إشراقها؛ لما يعترضها من الضباب الكثيف، فإذا دنت الساعة الثامنة من المساء أشرقت أنوار المصابيح في جميع الشوارع، فنابت عن شمس النهار.

والغريب أن السكان في تلك العاصمة يخرجون إلى النزهة في هايد بارك، وسانت جيمس عند منتصف الليل كما يتنزه الباريسيون في حديقة التولري عند الساعة الخامسة بعد الظهر.

وكان الليل قد انتصف حين خروج روكامبول من ذلك الفندق بعد انتهاء المصارعة، فبعد أن ذهب ميلون إلى فاندا مشى روكامبول عدة خطوات، ثم وقف على الرصيف تحت مصباح من الغاز، وأخرج من جيبه نسخة من جريدة التيمس يقرأ فيها بالظاهر، غير أن عينيه كانتا ترقبان مدخل الفندق وذلك الشارع.

وبعد هنيهة شاهد رجلًا يسير على الرصيف الآخر متجهًا إلى الفندق، فتنحنح روكامبول فوقف الرجل وتلفت يمينًا وشمالًا حتى رآه يقرأ التيمس فأسرع إليه.

فلما دنا منه قال له روكامبول بالإنكليزية: هل أحضرت المعدات يا نويل؟

– نعم.

– إذن أسرع وأحضر لي مركبة وأنا هنا في انتظارك.

فذهب نويل وهو أحد رجال روكامبول القدماء، ولبث روكامبول واقفًا على الرصيف يستر وجهه بجريدة التيمس وهو يراقب باب الفندق إلى أن رأى السير جورج ستوي خرج من الفندق، ومشى مسرعًا، فبالغ روكامبول بالاحتجاب كي لا يراه، ومر السير جورج بقربه دون أن ينتبه إليه.

وعند ذلك عاد نويل بالمركبة فوثب روكامبول إليها، ودل السائق على جورج ستوي، ثم قال له: يجب أن تقتفي بنا أثر هذا الرجل، فإذا لم يحتجب عنا أعطيتك جنيهًا.

وقد عرف رجال هذه المهنة في بلاد الإنكليز بالتكتم، وعدم المبالات بمثل هذه المهمة، فهم يخدمون اللورد والبوليس واللص على السواء، ولا يبيحون بسر أحد منهم حتى إنهم لا يكترثون لهذه الأسرار، ولا يحاولون الاطلاع عليها.

فامتثل السائق وسار بمركبته على مسافة قريبة من السير جورج الذي كان يتقدمها مشيًا على الأقدام.

وعند ذلك قال روكامبول لنويل: هات الآن ما لديك من معدات التنكر، واجلس أمامي.

فأخرج نويل من تحت ثوبه الكبير بنطلونًا وقبعة ولحية وشاربين، فلبسهما روكامبول وتغيرت سحنته بحيث لو رآه السائق لما عرفه.

ظل السير جورج يسير والمركبة تسير في أثره حتى وقف عند باب المنزل، فأخرج مفتاحًا من جيبه ففتح به الباب ودخل.

فنزل روكامبول من العربة، وأعطى سائقها جنيهًا، فعجب السائق لما رآه من التغيير، لكنه لم يكترث فذهب في سبيله، وتوجه روكامبول مع نويل إلى مكان قريب من المنزل، فوقفا فيه ينتظرون ظهور السير جورج.

فقال له روكامبول: أظن أننا قد أدركنا الغرض، الذي قدمنا من أجله.

فرد نويل معجبًا: كيف ذلك أيمكن أن يكون صاحب الديك والكلب ذلك الرجل؟

– نعم، هو ذلك الرجل الذي أتينا من أجله إلى هذه العاصمة، فلننتظر الآن خروجه من البيت الذي دخل إليه.

وأقاما ينتظران نحو ساعة إلى أن فتح الباب، وخرج منه رجل لا يشبه السير جورج بشيء، وقد كان لابسًا لبس أولئك البحارة الذين تغص بهم خمارات وينغ في الليل.

فابتسم روكامبول قائلًا: يظهر أنه يحسن صناعة التنكر، فهلم بنا يا نويل في أثره.

يوجد في لندرا ناحية عظيمة تدعى وينغ اشتهرت بشر قومها وفساد أخلاقهم، حتى إن البوليس لا يدخل إليها.

مثال ذلك: أنه إذا طلب غريب إلى أحد أفراد البوليس أن يرشده إلى أحد الأماكن يسير معه حتى يصل إلى وينغ، فيرفع قبعته، ويعتذر عن مواصلة السير.

وذلك لأن هذه الناحية هي الناحية الوحيدة التي تضعف فيها الأنوار، ويكثر فيها تردد الأشرار، ويختلط فيها اللصوص مع الفجار، وقد جمعت كل المفاسد وأصحابها من لص خطاف، وبحار سكير، وإرلندية رقاصة، وإرلندي يسكر يطالب باستقلال بلاده.

وفوق ذلك فإن فريقًا كبيرًا من أولئك النور الرحل تمكنوا في تلك الناحية، وكثر عددهم، فكانت لهم السيادة التامة على سائر الذين يترددون إليها.

وإن الرجل الغريب أو الإنكليزي قد يستطيع انتياب هذه الناحية والخروج منها في النهار دون أن يصاب بمكروه، لكن يشترط أن يزرر ثوبه كي لا يختطفوا ساعته، وأن لا تكون بادية عليه آثار النعمة، أما في الليل فإن الخطر عليه شديد.

لقد ذهب السير جورج إلى هذه الناحية وهو متنكر بملابس البحارة وفي أثره روكامبول ونويل، حتى بلغ إلى خمارة هناك تدعى خمارة الملك جورج، فدخل ودخل الاثنان بعده.

كان صاحب هذه الخمارة يدعى كلكراف، وهو رجل هائل ضخم الجثة، وخمارته أشهر خمارات تلك الناحية، غير أنه لم يكن لصًّا، ولم يقف مرة أمام القضاة، ولم يسلب أحدًا بارة.

لكنه كان شديد التساهل، لا يتداخل بشئون سواه، ويكره مداخلة الحكومة.

فإذا قتل أحد زبائنه في خمارته يحمل القتيل على كتفه ويطرحه في الشارع قائلًا: إني لا أحب مداخلة الشرطة.

فلما دخل السير جورج جلس على مائدة، وطلب قدحًا من الشراب، وجلس روكامبول ونويل على مائدة بالقرب منه، وكانت الخمارة غاصة بالشاربين وهم يتحدثون عن حادثة خطيرة.

فأصغى روكامبول لما يحكى، فسمع واحدًا يخبر: إننا لسنا في الهند، لكنه يحدث عندنا حوادث لا تجري إلا تحت سماء كلكتا ومدراس.

فقالت إرلندية كانت تسمع الحديث: مسكينة جيبسي؛ فإنها لا تستحق ما حدث لها.

فقال بحار آخر: إني عندما رأيت جيبسي ترقص أول مرة، شعرت أن دمي يغلي في عروقي، وقلت في نفسي: إني أرضى بزواجها إذا رضيت بي زوجًا، فلما عرضت عليها هذا الخاطر هزئت بي، فاضطررت أن أتناساها.

فقالت له الإرلندية: لم يكن ذلك إلا لحسن حظك.

وكأنما ذلك الحديث قد شغل خاطر السير جورج ستوي.

فقال له أحدهم: ألا تعرف جيبسي الرقاصة النورية، فقد أصابها شقاء جديد، فإنها لا تستطيع أن تتزوج؟

– كيف ذلك؟

– هو ذا الزوج السادس الذي تقدم لها في هذا العام، وهو شاب جميل حسن الأخلاق.

– ماذا أصابه؟

– ما أصاب أزواجها الخمسة الآخرين، فقد قتل خنقًا كما قتلوا، فجعلت تلك المسكينة تعض كفها من اليأس؛ لأنها وجدته ليلة الزفاف مخنوقًا على باب منزلها.

فتبادل روكامبول نظرة سرية مع كالكراف صاحب الخمارة، وأخذت الإرلندية كأس شرابها، فشربت ما فيه وقالت: أصغوا إلي فسأحكي لكم قصة هذه النورية.

٢٠

إن جيبسي كما تعلمون من قبائل النور، غير أنه ليس لديها من علائم هذا الشعب ما يدل على أنها منهم، والأرجح أن النور قد اختطفوها فربيت بينهم كما يقولون.

فرد أحد الحاضرين: قد تكون ابنة أحد اللوردات.

فقالت الإرلندية: ليس ذلك ببعيد؛ لأن جمالها وحركاتها، وكل ما بها يدل على أنها من أبناء النبلاء.

فقاطعها السير جورج قائلًا: لنسمع حكاية عشاقها أو أزواجها.

فقالت الإرلندية: إن جيبسي تتردد على هذه الخمارة منذ ثمانية أعوام، وهي الآن في السادسة عشرة من عمرها، وقد كان لها رجل من النور يخفرها يدعي أنه أبوها، فلم يكن أحد يجسر أن يعتدي عليها.

وقد جاءها يومًا رجل من الأشراف، وعرض عليها أن يشيد لها قصرًا، ويشتري المركبات، ووعدها أجمل الوعود، فذهب أبوها إليه وقال له: إذا كنت تحب الحياة فارجع عن هذا القصد، فخاف الرجل، ولم يعد يذكر جيبسي بلسان.

فصبرت تلك الفتاة إلى أن مات الرجل الذي كان يزعم أنه أبوها، فأذاعت بين الرفاق أنها تميل إلى الزواج، فقال لها أهل القبيلة: اختاري من بيننا الفتى الذي تريدينه، فليس بين فتياننا من يأبى هذا الزواج.

فاختارت جيبسي فتى نوريًّا يعزف على العود، ويشتغل بمهنتها.

وطريقة النور بزواجهم تخالف طريقتنا، وهي مضحكة على بساطتها، فإنهم يجتمعون يوم الاحتفال بالزواج، ويحضرون إبريقًا يضعون فيه شرابًا خاصًّا وكأسين، ويأتون بالعروسين فيصب العريس شراب الإبريق بالكأسين، ويشرب مع عروسه، ثم يأخذ الاثنان ذلك الإبريق فيرفعانه فوق رأسيهما ويلقيانه إلى الأرض فيتحطم، وعند ذلك يصبحان زوجين شرعيين، وتنتهي حفلة الزواج بكسر الإبريق.

وقد تم زواج جيبسي بزوجها الأول في اليوم نفسه الذي اختارت فيه ذلك الزوج، فذهبوا بالعروس في موكب حافل إلى منزلها، وخرجوا بالعريس يطوفون به في جميع الخمارات حسب عاداتهم.

ولبث هذا الزوج المنكود في أسرهم إلى الساعة الثامنة من الصباح، فأطلقوا سراحه، فذهب إلى منزل امرأته فلم يتجاوز العتبة حتى أطلقت يد مجهولة حبلًا من الحرير على عنقه، فازدرد الحبل ومات الزوج مخنوقًا.

فهتف الحاضرون: قد سمعنا حادثة الزوج الأول، فقصي علينا حكاية الزوج الثاني.

قالت الإرلندية: وبعد ذلك بثلاثة أشهر أعلنت جيبسي أنها تريد أن تتزوج، فتقدم لها نوري آخر من القبيلة، وقال لها بحماسة: إني لا أخاف القتل، وسأكون زوجك، ولكنهم لم يمهلوها للاحتفال بهذا القران إذ وجد في نفس تلك الليلة ميتًا في فراشه.

فلما انتشر هذا الخبر بين أفراد القبيلة ذعروا ذعرًا شديدًا، ولم يعد أحد يجسر على الزواج بجيبسي.

بعد مدة قصيرة وقفت جيبسي في هذه الخمارة بعد انتهائها من الرقص قائلة: إني أريد رجلًا أتزوجه ليحميني، لكني لا أحب أحدًا، وقد مات زوجي الأول، ثم خطيبي التالي ولم يقتلهما دون شك غير رجل يحبني ولا يريد أن يعرف، فإذا كان ذلك فليتقدم هذا الرجل ويمد يده إلى زواجي فإني أرضى به كيف كان.

وكان بين الحضور يهودي عجوز قبيح المنظر، لكنه من أهل الثروة، كان يحضر كل ليلة ليشاهد جيبسي عند رقصها لشدة ولعه لها، فادعى أنه هو ذلك الرجل الذي كان يغار عليها، وأنه هو الذي قتل زوجها وخطيبها، ثم مد لها يده.

فجزعت جيبسي لقبحه، وقالت له: قد رضيت بك زوجًا على قبحك كي أفي بما وعدت.

في الليلة نفسها أصيب اليهودي بطعنة خنجر ذهبت بحياته.

فضج الحضور لهذه الحكاية، فأسكتتهم الإرلندية قائلة: اسمعوا حكاية الزوج الرابع.

فإنه حين يتفق مثل هذا الخطر يكثر المتحمسون من أولئك المجانين، أما يحسبون هذا الخطر صنع إنسان فيعتمدون على قوتهم، أو يحسبونه من صنع الاتفاق، فلا يكترثون للصدف والأقدار.

لذلك لم يمض أسبوعان على مقتل الزوج الثالث حتى أقبل بحار كان عائدًا من أميركا، فلما سمع حكاية الفتاة ضرب بيده على هذه الطاولة التي نحن حولها الآن، وقال لجيبسي: إني لست من الذين يخافون، فهل ترضين أن تكوني امرأتي أيتها الفتاة؟

فرضيت الصبية، وتعين أن يكون موعد القران يوم السبت وهو لا يشتغل فيه النور، ويعتبرونه اعتبار الأعياد.

كان هذا البحار قويًّا شديدًا، وفوق ذلك فقد كان له كثير من الأصدقاء بين رفاقه البحارة، فاتفقوا على حمايته من ذلك الخطر الخفي، والحرص عليه، وحراسته في الليل والنهار.

ولكن كل حرصهم ذهب سدى، فإنه وجد في اليوم الثاني غريقًا في مياه النهر، ولا يعلم أحد إلى الآن كيف كان الغرق العجيب، وكيف اتفق قتل هذا المسكين.

وأما حكاية الزوج الخامس فهي قصيرة، وتفصيلها أن أحد أصحاب الحانات الشهيرة في جسر لوندرا علم أن جيبسي لا يخطبها شخص حتى يقتل.

وكان ضخم الجثة، شديد القوة كالثور، كثير العناد، فلما ذكرت أمامه حكايات هذه النورية قال: إني أقسم بالقديس جورج، حامي إنكلترا، أني سأعثر على هذه الفتاة وأتزوجها، وأعود بها إلى خمارتي فتقيم معي فيها.

فهتف أحد الشاربين عنده: متى عزمت على طلب الاقتران بها؟

– غدًا دون شك.

ثم تفرق زبائن الخمارة، فأقفل بابها ونام فيها حسب عادته، وهو يحلم بجيبسي.

وفي اليوم التالي انتصف النهار والخمارة لا تزال مقفلة، وأقبل الليل وهي مقفلة أيضًا، فأوجس جيرانه شرًّا، وطرقوا الباب فلم يجبهم أحد، فأبلغوا البوليس.

ثم أقبلت الشرطة فكسروا الباب، ودخلوا فلقوا المسكين ميتًا في فراشه، وفي عنقه حبل من الحرير خنق به.

فضج الجمهور لهذه الغرائب، فلما سكنت غوغائهم استأنفت الإرلندية الحديث، فقالت: بقيت حكاية السادس، وهي مختصرة محزنة: فإن أحد عشاق جيبسي وهو فتى جميل في مقتبل الشاب دنا منها يوم أذيع موت الزواج الخامس، فقال لها: إني أحبك حبًّا لا حد له، وإذا لم تكوني امرأتي فإني مائت لا محالة، فهل ترضين بي بعلًا؛ لأنه إذا لم يكن من الموت بد فإني أوثر موت الانتقام على موت الغرام.

فرضيت به الصبية، وكان من أمر خنقه في تلك الليلة نفسها ما تعلمون.

فعجب الحاضرون لهذه الحكاية الغريبة، وقال أحد البحارة: مسكينة هذه الفتاة، فقد قضي عليها بالبتولية إلى الأبد.

فلما تفوه بهذا الكلام وقف أحد الشاربين في تلك الخمارة، وقال: أصغوا إلي أيها الرفاق، إني لم أر هذه الفتاة التي تتكلمون عنها في حياتي، ولا أعلم إذا كانت على ما وصفتموها من الجمال، لكنها إذا كانت حسناء كما تقولون ورضيت هي أن أكون لها زوجًا أرضى بهذا الزواج على ما فيه من الأخطار.

فاتجهت الأنظار إلى هذا الرجل الجريء الذي لم يشاهدوه قبل الآن، واضطرب كالكراف صاحب الخمارة، ونظر نويل إلى رئيسه نظرة تشف عن الرعب؛ لأن هذا الشخص الذي خطر في فكره هذا الخاطر الغريب لم يكن إلا روكامبول.

وبينما كان الحضور ينظرون نظرات الإعجاب والإشفاق على روكامبول الذي لم يروه أبدًا غير هذه المرة في خمارة سانت جورج، إذ فتح الباب ودخلت منه فتاة فقالت: رضيت.

وكانت هذه الفتاة جيبسي نفسها، فمشت إلى روكامبول ومدت إليه يدها، فعاقدها بيده وهو مندهش لجمالها الفتان.

٢١

أدهشت جرأة روكامبول جميع الحاضرين، فلم يكد يتكلم ذلك الكلام حتى حامت حوله الأبصار، فجعلوا يتأملونه ويفحصونه وينتقدونه، بين مشفق عليه لما يتوقعونه له من سوء المصير، وبين معجب لإقدامه على زواج جيبسي بعد أن علم أنه محفوف بخطر الموت.

أما الإرلندية فكانت تقول: إنه من زمرة أولئك المجانين، ولا بد أن يموت كما ماتوا.

أما روكامبول فإنه قال لجيبسي: إني وعدتك أن أكون بعلك، وسأفي بوعدي.

فرفعت إليه عينيها النجلاوين قائلة: أنا مصدقة لما تقول.

كانت هذه الفتاة وافرة الجمال لا عيب فيها، كأنها خلقت كما اشتهت، وملامح السلام بادية بين عينيها، فكان مقامها بين هؤلاء الأشرار كمقام الملاك بين الأبالسة.

وكان روكامبول يتمعن في وجهها قائلًا في نفسه: يستحيل أن تكون هذه الفتاة على ما وصفتها الإرلندية.

وكانت لابسة ثوبًا قصيرًا كما تلبس الراقصات النوريات في ذلك العهد، وهي شقراء الشعر، وقد عقصته فوق رأسها، وحملت بيدها دفًّا تنقر عليه حين الرقص.

فسألتها الإرلندية قائلة: أترقصين هذه الليلة أيضًا؟

فأجابتها بلهجة تدل على الكآبة: إني أرقص اليوم كما رقصت أمس وكما أرقص غدًا، ألا يجب أن أعيش؟

ثم نظرت إلى روكامبول، وقالت له بمظاهر الخضوع: إني لا أرقص إذا كنت لا تأذن لي؛ لأنك خطيبي الآن، ويجب علي طاعتك.

– ارقصي، لكن بعد انتهاء الرقص تذهبين معي لنتفق في هذه الليلة على شروط الزواج.

– كما تريد، إني لا أخالف لك أمرًا.

ثم أخذت ترقص وتنقر بأناملها على الدف رقصًا عجيبًا أدهش الحضور، وحامت حولها الأنظار، وانصرفت إليها الخواطر، فبقيت كئوس الجعة ملأى لا يفطن أحد لشربها، وانطفأت نار الغلايين في أيديهم لانصرافهم عن التدخين إلى مشاهدة رقصها البديع.

فدنا نويل من روكامبول، وقال له همسًا: إنك تعلم مبلغ ثقتي بك.

فأجابه ببرود: ماذا تعني؟

– أعني على فرط ثقتي بك خفت عليك هذه الليلة.

– ومن أي شيء خفت؟

– من تعهدك بزواج هذه الفتاة، وما أظنك إلا كنت مازحًا فيما قلت.

– كلا، إني لا أعرف المزاح، وسأتزوجها دون شك.

– ولكن ألم تسمع حديث الإرلندية؟

فهز روكامبول كتفيه وقال: دعني وشأني الآن إن لدي أمورًا يجب أن أهتم بها أفضل من سماع هذيانك.

ثم تركه روكامبول وجعل ينظر إلى جيبسي وإلى السير جورج، فكان كلما نظر إلى السير جورج يجده أيضًا ناظرًا إليه.

كانت عينا السير جورج تتقدان حتى كان يحسب الناظر إليه أنه متدله بغرام تلك الراقصة، وأنه هو ذلك المنتقم الخفي من أزواجها الستة.

لبثت جيبسي ترقص رقصًا متصلًا نصف ساعة، حتى وهنت عزائمها، فكفت عن الرقص، فصفق الحضور لها تصفيقًا شديدًا، ما خلا السير جورج، فإنه كان ينظر من حين إلى حين إلى روكامبول نظرات ملؤها الحقد.

وكان نويل قد تنبه لنظراته فقال لروكامبول: إن هذا الرجل لا بد أن يكون قد عرفك، فإنه ينظر إليك نظر الحاقد عليك.

– إن حقده طبيعي؛ لأني سأتزوج الفتاة.

– إذًا هو يهواها؟

– لا أعلم.

– ألا تظن أنه هو الذي …

فقاطعه روكامبول وقد نفد صبره قائلًا: اسكت ولا تحدثني الآن إلا إذا حدثتك.

بعد أن فرغت الراقصة من الرقص، أخذت دفها بيدها، وطافت به على الحاضرين، فكانت قطع النقود تتساقط كالمطر في هذا الدف، حتى إذا أتمت تطوافها عادت إلى روكامبول، وقالت له: إني خاضعة لأمرك يا سيدي.

– إذًا لنذهب.

ثم همس في أذن نويل قائلًا: ستجدني غدًا عند فاندا.

فذهل نويل وقال: ألا تصحبني معك؟

– كلا! وهذا الرجل تذهب في أثره متى خرج، وتراقبه أتم المراقبة، فإذا عاد إلى منزله اذهب إلى فاندا، وإذا ذهب إلى غير محله اكمن له في الطرقات، ولا تفارقه حتى يشرق الصباح.

فانحنى نويل ممتثلًا لاعتقاده أن الجدال مستحيل.

أما روكامبول فأمسك ذارع جيبسي، وقال لها وهو يبتسم: ودعي الرفاق أيتها الحبيبة.

فعلت ضوضاء بين الحضور ممتزجة بين الانذهال والإعجاب، فصاح أحد البحارة: إنه لا شك من البواسل.

فقالت الإرلندية: ولكن سيصاب بما أصيب به أمثاله من أزواج هذه المشئومة!

فسمعها روكامبول فأجابها: سوف ترين ما يكون.

ثم أخذ جيبسي، وخرج بها خروج الفائز في معركة.

لما بلغا إلى الطريق، قالت له بصوت يضطرب: إلى أين نحن ذاهبان؟

– أين تقيمين؟

– في بيت قرب شابل.

– أتقيمين وحدك في هذا البيت؟

– نعم.

– إذًا لنذهب إلى منزلك، فنتحدث فيه.

– ولكن يجب أن أخبر زعماء القبيلة بأمرنا.

– بأمر زواجنا؟

– نعم.

فطمأنها بنظرة قائلًا: ستخبرينهم بعد أن نتحدث، وأعاهدك على أن أنام على عتبة غرفتك.

– أحق ما تقوله؟

– أقسم لك أجل الأقسام.

فنظرت إليه باضطراب قائلة: كلا لا أريد.

– لماذا؟

– لا أريد أن تكون زوجي.

– لماذا؟

– لأنك ستصاب بما أصيب به سواك.

فابتسم روكامبول وقال: أتصدقين أنت هذه الأقوال؟

– نعم، وفوق ذلك فإني أرى بين عينيك ملامح البسالة والشرف، فلا أحب أن أخدعك كما خدعت الآخرين.

فنظر إليها روكامبول مستفهمًا؛ فاضطربت وقالت: كلا لا أستطيع أن أبوح بحرف؛ لأنه سر يتوقف عليه موتي.

فقال لها بلهجة السيادة: هلم بنا إلى منزلك.

فاضطربت الفتاة اضطرابًا شديدًا، وقالت: كلا … ليس لي منزل … إني أفضل الموت على أن أخدعك … فاذهب بي إلى حيث تشاء، غير هذا المنزل.

– إذًا ليكن ما تريدين. وسار بها إلى جسر لندرا.

٢٢

إن الناحية التي كانت تقيم فيها جيبسي تدعى وايت شابل، وهي أشر من ناحية وينغ، وأكثر منها فسادًا.

وكان المنزل الذي تقيم فيه جيبسي أضيق منازل تلك الناحية، وأشدها ظلامًا.

غير أن هذه الفتاة كانت تطهر تلك الناحية من أدرانها حين تمر بها، فإن الأشرار كانت تحن نفوسهم حين يرونها، فلا ينظرون إليها إلا نظرات تشف عن الاحترام؛ لما يرون عليها من ملامح السلامة، ومظاهر الأدب والعفاف.

كان منزلها في الدور الأعلى لرخص أجرته، ولم يكن فيه من الأثاث غير صندوق وسرير وكرسيين ومرآة صغيرة معلقة على الجدار.

غير أن خطيبها منذ ساعة وزوجها في الغد — أي روكامبول — كان يحسب أنه مقيم في قصر معها، وهي جالسة على الكرسي، وهو واقف أمامها ينظر إليها بملء الإشفاق والحنان.

وكانت راضية بالرجوع معه إلى منزلها بعد أن حادثها مليًّا عند جسر لندرا حيث ذهبا في البدء.

ويظهر أن الثقة قد تبودلت بينهما؛ لأن روكامبول كان واقفًا أمامها وقد نزع لحيته المستعارة، وبرقع وجهه الذي كان يتنكر به، فظهر للفتاة وجه جميل بدأت الأيام تحط بين ثناياه آثار معارك الحياة، ونقشت على جبينه أحرف من السويداء.

أما جيبسي فكانت تتفرس بوجهه معجبة به، وقد قالت له ببساطة: إنك جميل يا سيدي، وكل ما أراه بك من نعومة يديك، وسلام نظراتك، وحنو ألفاظك، وجمال ملابسك كل ذلك يشير إلى أنك من الأشراف، وأنك لست من زبائن خمارة سانت جورج.

فابتسم روكامبول وجعل يحادثها بحديث أزواجها الستة، فظهرت ملامح الاضطراب على محيا الفتاة، وقالت له بلسان يتلعثم من الوجل: إنك لم تعلم يا سيدي مقدار شقائي لرثيت لحالي.

وأدمعت عيناها، فسقطت دمعة على يده.

فتأثر روكامبول، وقال لها بلهجة الحنو: إنك عجبت لنعومة يدي وحسن ملابسي؟

– نعم، ولا أزال أعجب إذ لا يمكن أن تكون من زمرة أولئك الذين يترددون على تلك الخمارة.

– ذلك لا ريب فيه.

– إذًا لماذا أتيت إلى وينغ؟

– لأني أذهب إلى كل مكان يحتاج فيه المظلومون إلى مساعدتي.

فصاحت صيحة دهش وفرح، كأنما ذكرت أمورًا هائلة تروعها، وقالت: أنت تحميني؟

فحاول روكامبول أن يأخذ بيدها غير أنها امتنعت كأنما قد رجعت إلى عزمها السابق، وقالت: كلا إني لا أريد أن تحبني.

فابتسم روكامبول ابتسامًا يشف عن قصده باكتشاف سرها، وقال لها: لماذا لا تريدين؟

– لأنك جميل … لأن ظواهرك تدل على الصلاح، لأن … ثم أرخت عينيها وقالت: لأن الحب يجلب الحب وأنا …

– وأنا ماذا؟ أتخشين أن تحبيني؟

– كلا لأني لا أستطيع أن أحبك.

– إذًا أنت تحبين سواي.

فنظرت إليه الفتاة نظرة لا يستطيع قلم أن يصفها، وقالت: إني لا أعلم من أنت، ولا أعرف اسمك، فقد تكون رجلًا من عامة الناس، وقد تكون لوردًا من النبلاء، ولكن نظراتك لا أستطيع أن أقابلها بعيني، وظواهر إخلاصك دفعتني إلى الثقة بك، والركون إليك.

– حسنًا فعلت.

– أتعلم لو أني بحث لسواك بما سأبوح به إليك الآن لحكم علي بالموت.

– لا يوجد هنا من يسمعنا، ولست من الذين يبوحون بالأسرار، فقولي.

– إذًا اعلم أني أحب.

– وهذا الرجل ألا خطر عليه من حبك؟

– كلا، وإن الله يعاقبني لأني مذنبة، فإني منذ عامين أطلب قرينًا، وأنا أعلم يقينًا أنه لا يمكن أن أتزوج، ولكني كنت أرتكب هذه الجريمة الشائنة كي أحول الأنظار عمن أحبه، وأقيه شرهم.

– شر من تعنين، ومن هم الذين يريدون السوء لحبيبك؟

– هم قوم يضطهدونني منذ نشأت، وقد حكموا علي أن أبقى بتولًا ما حييت.

– من هم أولئك الناس أتعرفين أسماءهم؟!

– هم أولئك الذين يلقبونهم بالخناقين.

فارتعش روكامبول وقال في نفسه: لم يخطئ ظني، فقد خطر لي هذا الخاطر.

وعند ذلك رفعت جيبسي عن كتفيها وشاحًا كانت متشحة به حين خروجها من الخمارة، وانحنت قليلًا كي تضعه على الصندوق، وكان روكامبول واقفًا، فرأى بين كتفيها وشومًا تشبه تلك الوشوم التي رآها على كتف الفتاة التي اختطفتها شيفيوت، أي بنت ناديا، وعلم أن هذه المسكينة ضحية من ضحايا الإلهة كالي.

فقال لها: لقد رأيت الوشوم بين كتفيك وأنا أعلم أسرارها، فهل تريدين أن أدافع عنك وأحميك من ظلم هؤلاء الخناقين؟

– أتستطيع أن تحميني؟

– إني أقدر على كل ما أريد، ولكن يجب أن تخبريني بكل شيء، فقولي لي أين ولدت؟

– لا أعلم، ولكني أرجح أني ولدت في الهند.

– أنت من جماعة النور؟

– كلا، فقد كنت أحسب أني منهم زمنًا طويلًا، ثم عرفت أن عائلتي التي لم أوفق لمعرفتها إلى الآن قد عهدت بي إلى أولئك النور لإخفائي عن الخناقين دون شك.

– من قال لك هذا القول؟

– النوري الشيخ الذي رباني.

ثم وضعت يدها فوق جبينها وقالت: أواه إن لدي أمورًا هائلة يجب أن أقصها عليك.

فأخذ روكامبول يدها بين يديه، وقال لها: قولي يا ابنتي كل شيء ولا تخافي.

واستأنفت جيبسي الحديث، فقالت: إن منتهى ما أتذكره من أمور حداثتي أني نشأت بين النور، وكان يتولى أمري رجل اسمه فارو، وكان يقول إنه أبي.

لكني كنت أرى نفسي شقراء بيضاء البشرة خلافًا لأولئك النور، فإنهم سود الشعر، سمر الوجوه، حتى إن لون بشرتهم يشبه لون النحاس، فكنت أعجب من هذا التباين، وأشكك في قول أبي.

وأنت تعلم أنهم لا يكسبون رزقهم إلا بشق النفس، فإن بعضهم يرقصون، وبعضهم ينجمون، وآخرون يسرقون، ومنهم من يحترفون كل هذه المهن في وقت واحد.

أما فارو الذي كان يدعي أنه أبي فقد كان أغنى رجال القبيلة.

وأذكر من ذلك أنه حين كانت القبيلة تحتاج إلى شيء من المال لشأن خطير من شئونها يسألونه ذلك المال، فيمهلهم هنيهة، ثم يعود إليهم بما طلبوه بعد أن يذهب إلى أجمل شارع في لندرا.

ولما تجاوزت سن الحداثة جعلت أفتكر بهذه الأموال السرية التي يأتي بها فلا أعلم مصادرها.

وقد قلت له مرة: إننا يا أبي من فقراء الناس ننام أحيانًا تحت السماء، وإذا أوينا إلى منزل كان من شر المنازل، وفي أقذر الشوارع، فكيف يتسنى لك الحصول على المال حينما تريد؟

فنظر إلي نظرة إنذار، وقال: ذلك لا يعنيك …

فسألت من كان يميل إلي من أهل القبيلة، فكان بعضهم يجهلون، وبعضهم يتجاهلون ويسكتون.

غير أن أحد النساء قالت لي: إنك إذا أردت أن تعرفي مصدر هذه الثروة، فاقتفي أثره حين يخرج من المنزل.

وكان عمري في ذلك العهد ١٣ عامًا، ولم أكن أخاف أمرًا، فقلت لهذه المرأة: لقد أصبت وسأعمل بما أشرت به إلي.

وكنا نسكن في هذا البيت الذي تراني فيه الآن ولنا فيه سريران، أحدهما لأبي، والآخر لي، فأنام مع فامو في غرفة واحدة.

ولم يكن يفارقني لحظة، فإذا ذهبت إلى الرقص ذهب معي، وإذا ذهبت إلى الحفلات التي يعقدها النور كان معي، غير أنه كان إذا عدنا إلى المنزل أقفل علي باب الغرفة بالمفتاح، وذهب فلا يعود إلا عند الصباح.

وقد لاحظت مرات كثيرة أنه لم يفارقني إلا حين قرب حلول الأعياد المسيحية كالفصح والميلاد وغيرهما من الأعياد الكبرى، فكنت أقيم وحدي وكان هو يذهب مطمئنًّا؛ لأن المفتاح في جيبه، ولا سبيل إلى الخروج.

غير أنه كان يوجد منفذ إلى الخارج لم يخطر في بال.

ثم أخذت يد روكامبول وسارت به إلى آخر الغرفة، فأرته نافذة مرتفعة فيها، وقالت له: انظر إلى هذه النافذة فإنها منفتحة وليس بينها وبين السطح غير مسافة نصف متر، فإذا أتيت منها إلى السطح نزلت من سلمه إلى باب المنزل الكبير، فخرجت منه إلى الشارع دون أن يراني أحد.

وفي ليلة عيد الميلاد ذهب بي ذلك الذي كنت أحسبه أبي إلى مطعم فأكلنا فيه وشربنا خمرًا، وهذا لم يكن يفعله إلا في مثل هذا العيد، ثم عاد بي عند منتصف الليل إلى منزلنا فخلع ثيابه ونام فاقتديت به، وذهبت إلى سريري، فتناومت فيه وهو يحسبني نائمة.

وبعد ساعة هب من فراشه ولبس ثيابه دون أن يبدي حركة تدعو إلى انتباهي، ثم خرج من تلك الغرفة بعد أن أقفل بابها حسب المعتاد.

فأسرعت في الحال إلى ثياب بحار كنت اشتريتها بالسر بغية التنكر بها، فلبستها وخرجت من النافذة إلى السطح، ونزلت من السطح إلى باب المنزل الكبير، فخرجت منه إلى الشارع.

وكان فارو قد سبقني، ولكني كنت أعرف عاداته، فإنه كان يقف قبل ذهابه في خمارة فيشرب شيئًا من المسكر، ثم يمضي في شأنه.

فأسرعت إلى تلك الخمارة فوجدته لا يزال فيها …

كان الظلام حالكًا، فوقفت قرب باب تلك الخمارة أترقب خروجه منها إلى أن خرج، فجعل يخطو خطوات سريعة.

غير أني كنت أسرع منه في المشي، فكنت تارة أتقدمه، وطورًا أمشي خلفه كي لا يفطن أني أقتفي أثره وهو يراني ولا يشتبه بأمري لكثرة انتشار البحارة في تلك الأماكن.

وما زال يندفع في سيره وأنا أقفوه حتى وصل إلى هاي مركب، فوقف عند بيت جميل تتقدمه حديقة كان بابها مفتوحًا.

كان البيت في وسط الحديقة، فطرق الباب وفي الحال فتح الباب وبرزت منه امرأة وافرة الجمال، لكنها كانت صفراء الوجه تبدو عليها ملامح التعب والكدر.

كانت أشعة المصباح الذي بيدها تظهر وجهها، فما تأملت وجهها الصبوح حتى شعرت بميل نفسي إليها.

ثم دخل فارو إلى المنزل وأغلق الباب وراءه، فدفعني الفضول إلى كشف السر ودخلت إلى الحديقة.

وهنا توقفت جيبسي عن قص حكايتها، فنظرت إلى روكامبول قائلة: يجب أن أقص عليك جميع هذه الأمور كي تعلم حكايتي الهائلة.

– تكلمي يا ابنتي، فإني أصغي إليك.

فاستأنفت الحديث وقالت …

٢٣

العادة في لندرا أن يشتد البرد في ليالي الشتاء غير أن تلك الليلة كانت أشبه بليالي الصيف لا مطر فيها ولا عواصف.

فلما أقفل الباب بعد أن دخل فارو رأيت نور المصباح من خلال النوافذ يتنقل من مكان إلى آخر حتى استقر في غرفة تشرف نافذتها على الحديقة.

فدنوت من تلك النافذة دون أن يشعر بي أحد، ورأيت فارو واقفًا وقفة الاحترام أمام مرأة كانت جالسة قرب المستوقد.

كانت هذه الغرفة جميلة الرياش تشبه القصور، وكانت تلك السيدة تنظر نظرة تشف عن الحزن إلى فارو، وتقول له: لقد قلت إنها باتت كبيرة وجميلة.

– نعم، وهي تشبهك كثيرًا.

جالت الدموع في عينيها، وقالت: أريد أن أراها.

– احذري يا سيدتي أن تعودي إلى مثل هذا القصد، ألا تعلمين الخطر الذي ينتج عن اجتماعكما؟

فأظهرت حركة تدل على نفاد صبرها ويأسها، وقالت: إني أم وأحب أن أرى ابنتي …

– ليس من ينكر هذه العواطف يا سيدتي، ولكنك تعلمين أنه إذا ذهبت سيدة مثلك إلى ناحية ويت شابل فلا يمكن إلا أن يُقفَى أثرها.

أخذت يد فارو وقالت له بلهجة المتوسل: ابحث لي طريقة أستطيع بها أن أرى ابنتي ساعة واحدة، وليقتلوني بعد ذلك، فإني لا أبالي بالموت، ابحث أيها الصديق لعلك تجد طريقة تمهد لي السبيل إلى رؤيتها ولو لحظة.

فتأمل فارو هنيهة، ثم قال: لدي طريقة يا سيدتي، ولكن لا أجسر على أن أدلك عليها.

– لماذا؟

– لأنك قد تهيج بك عواطف الحنو عندما ترينها، فتصيحين صيحة، أو تقولين كلمة تفضحنا.

غير أنها لم تحفل بهذا التحذير، وقالت له بلهجة السيادة: تكلم فإني أريد أن أعرف.

فتردد فارو أيضًا، ولكنه لم يسعه بعد ذلك إلا الامتثال حين رآها قد غيرت لهجتها، وصارت تأمره، فقال لها: غدًا يتفق عيد الميلاد.

وفي مثل هذا اليوم يسرح النور في شوارع لندرا، ويدخلون المنازل، فبعضهم يرقصون وبعضهم يغنون، وبعضهم يستكشفون الغيب، فيحسن عليهم الناس، ويكثر التجمهر حولهم دون حذر.

فإذا شئت أتيت غدًا بجيبسي إلى ويت هال فترقص في الحديقة في الساعة الثانية بعد الظهر بحيث إذا مررت بمركبتك في تلك الساعة ترينها، ولكن لا ينبغي أن تطيلي الوقوف حذرًا من الرقباء.

ففرحت السيدة فرحًا لا يوصف، وأخذت يد فارو وضغطت عليها إشارة إلى الامتنان، ثم أخذت كيسًا مملوءًا دنانير أعطته إياه، وقالت: هذا لك، ونزعت من زندها سوارًا من الذهب الخالص، وقالت: وهذا لها …

فقالت الفتاة: ثم رأيت فارو يتحفز للقيام، فأسرعت وخرجت من الحديقة، وأنا أبكي بكاءً مرًّا؛ لأن تلك المرأة كانت أمي.

وجعلت أركض أجتاز الشوارع إلى منزلنا حذرًا من أن يسبقني فارو إليه حتى بلغت المنزل قبله، فصعدت إلى السطح ونزلت منه إلى النافذة، ودخلت منه إلى الغرفة.

ولما عاد الرجل الذي طالما حسبته أبي رآني نائمة في سريري، ولكن قلبي كان يدق دقات عظيمة توشك أن تسمع.

ولم أنم تلك الليلة لشدة شوقي إلى الغد، وقد رأيت الليل أطول من ليالي عشاق العرب، حتى إذا أشرق الصباح وصحا فارو من رقاده قال لي: ابحثي يا ابنتي في كيسك عساك تجدين فيه شيئًا يروق لك.

فلما رأيت ذلك السوار الذهبي تظاهرت بالفرح العظيم، فقال لي فارو: ربما كانت الملكة أرسلت لك السوار.

فتظاهرت بالدهشة أيضًا وقلت له: لماذا ترسل لي الملكة هذه الهدية؟

– كي ترقصي اليوم في ويت هال.

فلبست السوار وقلت: حسنًا فسأذهب وأرقص أبدع رقص.

وفي الساعة الثانية من ذلك اليوم جمع فارو بعض النور وذهب بنا جميعًا إلى ويت هال، فازدحم الناس من حولنا، وكان الفرسان والجنود والبحارة وجميع من حضر إلى تلك الحديقة يقفون كي يتفرجوا على رقصي.

فكنت أرقص وأنا أنظر إليهم، وأراقب المركبات باحثة فيها عن أمي.

وبعد حين سمع الناس فجأة صيحة استلفتت أنظارهم، ووقعت في قلبي وقع السهم، فتوقفت عن الرقص.

ثم رأيت الناس يزدحمون حول المركبات، ويبتعدون وبعد ذلك جعلوا يتفرقون وعليهم مظاهر الاكتئاب كأنما قد حدث مصاب.

وكان النور رفاقي منذهلين أيضًا، فجعلوا يسألون عما حدث ما خلا فارو، فإنه كان مقطب الحاجبين ساكتًا لا يتكلم، ولا يظهر عليه شيء من ملامح الاندهاش.

وما زالت تفاصيل الحادثة تنتقل من فم إلى فم حتى وصلت إلينا، فعلمنا أن إحدى السيدات كانت تنظر إلى رقصي فصاحت صيحة عظيمة، وسقطت مغميًّا عليها في مركبتها.

وكانت هذه السيدة تدعى اللادي بسفورت، وهي من أجمل وأغنى نساء الإنكليز، وكان أبوها من قبل حاكمًا عامًّا في الهند الإنكليزية.

وقد هاج فضول الناس؛ لأنهم لم يدركوا السبب في إغماءة هذه السيدة.

أما فارو فإنه كان يحاول إبعادي عن هذا المكان، فأخذ بيدي وقال لرفاقنا: هلموا بنا إلى وينغ نشرب ويسكي.

فذهبنا جميعنا، ولكن لم نكد نبلغ وينغ حتى زادت عصابتنا رجلًا آخر وهو ذو لون نحاسي قدمه لنا فارو كواحد منا فإنه كان يلبس ملابسنا، ويتكلم بلغتنا، وقد قال إنه من النور النازلين في أيكوسيا.

فاستقبله رفاقنا استقبالًا حسنًا، لا سيما أنه كان وحده ولا مورد له للارتزاق، فسار معنا هذا الرجل إلى خمارة سانت جورج.

وكان ينظر إلي بانتباه عظيم، وقد سألني مرة في خلال الحديث عن اسمي، فقلت له: إنك تعرف اسمي كما أعرفه، فسكت ولم يجب.

وكنت غير مكترثة به خلافًا لفارو، فقد كان يظهر أنه يريد أن يسكر إلى أن يفقد رشده.

فلما افترقنا وعدنا إلى البيت كان فارو سكران لا يعي، وهو أمر لم يكن يتفق له من قبل.

وكان النوري الجديد يرافقنا، فلم يفترق عنا إلا حين وصلنا إلى البيت، فصعد فارو السلم وأنا أمسكه؛ لأنه كان يوشك أن يسقط لفرط سكره.

فلما وصلنا إلى غرفتنا انطرح على سريره وهو لا يعي من السكر ونام نومًا عميقًا، فخطر لي فجأة خاطر سريع، فنزعت ملابسي، ولبست ملابس البحار التي تنكرت بها في الليلة السابقة، وقد قلت في نفسي: إن فارو لا يمكن أن يصحو من سكرته قبل عدة ساعات.

ثم صعدت إلى تلك النافذة، وذهبت بغية أن أرى أمي.

فلما وصلت إلى الشارع جعلت أسير سيرًا مستعجلًا حتى إني كنت أركض، فلم أنتبه إلى ذلك النوري الجديد الذي كان يقتفي أثري دون أن أراه.

٢٤

وصلت إلى هاي ماركت، ووجدت في الحال ذلك المنزل الذي تتقدمه الحديقة.

وكانت نافذة الغرفة مفتوحة، والنور ينبعث منها كالليلة السابقة.

فدنوت على مهل، ونظرت إلى تلك الغرفة فرأيت اللادي بلسنفورت جالسة قرب المستوقد كما كانت جالسة بالأمس وهي حاملة رأسها بين يديها تنظر إلى الأرض مفكرة مهمومة.

فجعلت أتأمل ملامحها وأنا أكاد أذوب حنوًّا، ثم رأيتها قد رفعت رأسها فجأة، فنظرت الدمع يتساقط من عينيها، وسمعتها تقول: رباه، ما هذا الشقاء؟ أأكون أنا من أعظم سراة الإنكليز، وتكون ابنتي من الراقصات؟! ويلاه إن هذا شديد لا يطاق!

فلما سمعت هذه الكلمات المؤثرة، ورأيت تساقط دموعها لم أستطع ضبط نفسي، فوثبت إلى النافذة وهبطت منها إلى الغرفة، فركعت أمامها وقلت لها: هو ذا ابنتك يا أمي.

وكانت قبعتي قد سقطت عن رأسي، فانتشرت ضفائر شعري على كتفي، فعرفتني للحال بالرغم عن تنكري بملابس الرجال، وصاحت صيحة فرح لا توصف، ثم ضمتني بين ذراعيها، وقالت: أيتها التعيسة، ماذا فعلت؟ أتريدين أن تكوني السبب في هلاكنا؟

ولكنها لم تلبث أن نسيت ما يتهددنا من الأخطار بعد أن ضمتني إلى صدرها، جعلت تعانقني وهي تضحك وتبكي في حين واحد.

وبعد ذلك عادت إلى التنبه والاحتياطات، فأحكمت إغلاق باب الغرفة من الداخل.

وأقفلت النوافذ المشرفة على الحديقة، وأطفأت المصباح، فبت وإياها في تلك الحجرة في الظلام الحالك.

وهنا جعلت تقبلني وتقول: نعم، إنك ابنتي المحبوبة، وليس من يعلم ذلك غير فارو، فإذا وجدوك هنا حكم علي بالموت لا محالة.

فذهلت لقولها وقلت: لماذا يا أمي؟

تنهدت قائلة: هذا سر لا أستطيع أن أبوح لك به، ثم تابعت بعد سكوت قصير، كيف أتيت، ومن أين دخلت، وكيف عرفت أني أمك؟

فاعترفت لها عند ذلك بكل شيء.

ولما أتممت حكايتي لها تنهدت تنهدًا طويلًا، وقالت: وا أسفاه إنك حكمت علي بالقتل دون أن تريدي؛ لأنك لا تعرفين شيئًا من أسراري، لكني لا أكترث للموت بعد هذا اللقاء.

ثم عادت إلى ضمي وعناقي، فكانت دموعها تتساقط على وجهي.

وفيما نحن على ذلك سمعنا حركة خفيفة، فصاحت أمي وقالت: إننا لسنا وحدنا في الحجرة.

وفي الوقت نفسه رأيت خيالًا أشد سوادًا من الظلام الذي يكتنفنا يدنو منا، ثم شعرت بأنفاسه فوق صدري.

وبعد هنيهة سمعت أمي تصيح صياح النزع بصوت مختنق.

ثم انقطع الصوت، فلم أكن أسمع حسًّا، ولا أشعر بتلك الأنفاس التي كانت تحرقني، وابتعد الشبح الأسود، ثم شعرت أن يدي أمي التي كانت تعانقني بهما قد تراختا، وأنها لم تعد تبدي حركة.

وجزعت جزعًا شديدًا، وجعلت أصيح وأستغيث بأصوات ملؤها الذعر.

وتسارع الخدم إلي حين سمعوا صياحي، ودخلوا وبيد أحدهم مصباح، فرأيت أمي عند ذلك منطرحة على الأرض وفي عنقها حبل من الحرير خنقتها به يد خفيفة أثيمة.

ومع ذلك فقد كانت لا تزال تتنفس، وكانت عيناها مصوبتين إلي بحنو لا أستطيع وصفه، وبعد أن ودعتني هذا الوداع الأخير أطبقت عينيها.

وجاء بعد أولئك الخدم صبية رأيتها أكبت على جسم اللادي بلسنفورت وهي تقول: أمي.

وعلمت أنها أختي، غير أني لم أشعر بعاطفة ميل إليها كما شعرت حين رأيت أمي لأول مرة.

وكانت هذه الفتاة تنظر إلي بملء الدهشة والاستغراب؛ لأنها كانت تراني امرأة بملابس الرجال، وكانت تراني أبكي، وعلى وجهي ملامح اليأس الشديد أمام جثة أمها، في حين أن جميع القرائن تدل على أني أنا القاتلة.

ولما رأيت هذه النظرات إلي، ورأيتهم أرسلوا يستدعون الشرطة خشيت أن يتهموني بقتلها، فحملني الخوف والحزن على الهرب، فاغتنمت فرصة اضطرابهم وهربت …

وبعد عدة دقائق كنت في شوارع لندرا هائمة على وجهي كالحمامة أصابها سهم الصياد، لا تعلم كيف تستقر.

وهمت زمنًا طويلًا وأنا لا أعلم أين أذهب إلى أن رأيت نفسي في المنزل دون أن أسعى إليه سعيًا مقصودًا.

وكان النهار قد طلع وصحا فارو فلم يجدني، وبحث عني في كل مكان ثم عاد إلى المنزل وقد أجهده البحث، فوجدني فيه، وعند ذلك أكببت على عنقه أبلل وجهه بدموعي، واعترفت له بكل ما مضى.

ونظر إلي نظرة تعرب عن كآبة لا حد لها، وقال: أيتها التعيسة، إنك كنت السبب في قتل أمك.

وكاد تقريع الضمير يقتلني، وعلمت أن هذا الرجل الذي ادعى أنه من النور، وشرب معنا وصحبنا إلى منزلنا هو الذي خنق أمي.

وهنا سكتت جيبسي ومسحت دموعها، فأخذ روكامبول يدها وقال لها: إني لا أعلم بقية حكايتك، ولكني أعرفها بالتقدير، فإنك خلقت في الهند حين كان أبوك اللورد بلسنفورت حاكمًا عامًّا فيها، وإن الخناقين قد وشموك؛ لأن هذه الوشوم على ظهرك تدل على أنك ضحية للإلهة كالي، وأنه يجب عليك أن تبقي بتولًا طول العمر، فإذا تزوجت حكم عليك بالقتل.

أما أمك فقد أرادت وقايتك من شر تلك الجمعية الهائلة، فتبنت فتاة جعلتها مكانك إخفاءً لك.

فصاحت جيبسي عند ذلك: هو الحق ما تقول، فإن تلك الفتاة التي رأيتها في منزل أمي، لا يمكن أن تكون أختي؛ لأني لم أشعر بعاطفة حنو عليها حين رأيتها.

وعاد روكامبول إلى حديثه فقال: وإن الخناقين علموا بسر هذه الفتاة التي استبدلتها بك أمك، فقتلوا أمك.

– لم يعد لدي شك بصحة ما تقول؛ لأن فارو حين حضرته الوفاة دعاني إليه، وقال لي: تذكري إذا تزوجت يقضى عليك بالموت إذ قدر لك أن تبقي بتولًا.

– وهل صدقت هذه النبوة؟

– إنك ترى كيف أنها صدقت، فقد كنت السبب في قتل ستة رجال.

فأخذ روكامبول يدها بيده، وقال لها بحنو: يجب يا ابنتي أن تخبريني بكل شيء.

– ماذا تريد أن تعرف بعد؟

– إنك تحبين؟

فاضطرب وجهها وقالت: اسكت.

– إن عاشقك يقتل وأنت تقتلين معه إذا لم أحميكما من الأعداء.

– أنت تحمينا؟

– نعم …

– ألا تريد إذن أن تكون زوجي؟

– بالعكس.

وبينما هي تنظر إليه منذهلة لجهلها مقاصده، قال لها: لا بد أن تكوني مسيحية؛ لأنك ابنة اللادي بلسنفورت، وأنا أيضًا مسيحي؛ أي إني لا أعتقد بصحة الزواج إلا إذا عقده الكاهن.

– ماذا تعني بذلك؟

– أعني أن اصطلاح النور بزواجهم مضحك لا يعول عليه، وهو منحصر بشرب الزوجين من إبريق واحد، وكسر الإبريق بعد الشرب.

– هو ما تقول …

– إذن أتريدين أن تكوني امرأتي على طريقة الزواج النوري؟

– ولكن.

– لا تقطعي علي القول، فإني بهذه الوسيلة أحميك وأنام على عتبة بابك كما ينام الكلب الأمين، وأمنع الخناقين من الوصول إليك.

فعانقته جيبسي وقالت: إنك كريم، ومن رجال الصلاح، وسأكون كما تشاء.

٢٥

ولندع الآن روكامبول مع جيبسي، ولنعد إلى نويل.

ويذكر القراء أن روكامبول عهد إلى نويل حين خرج من الخمارة مع جيبسي أن يراقب السير جورج.

أما السير جورج، فإنه حاول أن يبرح الخمارة بعد انصراف روكامبول، فتبعه نويل وكان ماهرًا في التجسس، فإنه حسب أن السير جورج لا بد له من مبارحة الخمارة، فخرج منها قبله كي ينتظره في الشارع.

وكان نويل يحسن التكلم بالإنجليزية كأبنائها، ويقلد الإنكليز في جميع حركاتهم أتم التقليد.

فلم يكد يخرج من الخمارة حتى رأى رجلًا يتأهب للدخول إليها.

وكانت ملابس هذا الرجل تشبه ملابس أولئك البحارة الذين يترددون على وينغ.

غير أن لون وجهه النحاسي وسواد عينيه، وتلك الحلقة الكبيرة التي كانت في أذنه كل ذلك كان يدل على أنه من أصل هندي.

فلما رآه نويل تمثل له أنه يعرفه، ولكنه لم يتذكره، فرأى أن يدخل في أثره إلى الخمارة عله يعرفه، ولا سيما وأن السير جورج لم يكن قد ذهب منها بعد.

فدخل الرجل إلى الخمارة فوقف على بابها هنيهة ينظر إلى الناس المحتشدين فيها، ثم ذهب إلى الطاولة التي كان جالسًا عليها السير جورج.

أما نويل فإنه دخل في أثره، وذهب إلى كالكراف صاحب الخمارة، وهو من أتباع روكامبول كما تقدم، فسأله: أتعرف اللغة الهندية؟

– إني أعرفها أتم العرفان.

– أرأيت هذا الرجل الذي دخل الآن؟

– نعم.

– افحصه جيدًا.

– إني أعرف الرجل الذي جاء يبحث عنه.

– وأنا أحب أن أعرف بماذا يتحدثان.

– طب نفسًا، وتعال نجلس حول تلك المائدة بقرب مائدتهما.

ثم ذهب كالكراف إلى الطاولة المجاورة لطاولة السير جورج بحجة أنه يريد قراءة جريدة الستندرد التي كانت عليها، وبعد حين جاء نويل وجلس معه.

وقد فتح كالكراف الجريدة وغطى وجهه بحيث لم يكن يراه السير جورج، ولا يعلم أنه كان مصغيًا لحديثهما.

فكان السير يكلم رفيقه باللغة الهندية، وكان كالكراف يترجم همسًا لنويل كل ما كان يسمعه من هذا الحديث، وهذه خلاصة حديثهما.

قال السير لرفيقه: أعدت من مهمتك يا أوسمانا؟

– نعم يا حضرة الرئيس.

– متى رجعت؟

– هذه الليلة نفسها.

– أنجحت في قضاء المهمة؟

– كلا يا مولاي.

فاتقدت عينا السير جورج ستوي، وقال: ويحك، أيها الشقي! ماذا تقول؟

– أقول الحقيقة يا مولاي.

– ألعلك تمزج يا أوسمانا؟

فاضطرب أوسمانا، وقال: يا نور الشرق! إني لا أقول غير الحقيقة بحضرتك المقدسة.

– إذًا لم تجدهم؟

– كلا بل وجدتهم.

– وإذا كنت قد وجدتهم، فكيف سلموا من قبضتك؟

– أيها النور! ذلك أن الإله سيوا يحارب الإلهة كالي.

فلما سمع السير جورج هذه الكلمات اهتز على كرسيه واصفر وجهه، وقال: كيف ذلك؟

– إن عباد الإله سيوا موجودون في فرنسا.

– هذا مستحيل؛ لأنهم لم يبرحوا الهند.

– إنك منخدع أيها النور.

وكانت لفظة النور ونور الشرق لقب السير ستوي.

فقال له السير: إذًا قص علي أمرك، فماذا جرى لبجور؟

– إنه دخل خادمًا في منزل والد ناديا متنكرًا باسم جواني.

– أعرف ذلك الرجل، فقد عهدت إليه أن يدخلك مع كيرشي إلى ذلك البيت، فماذا جرى بعد ذلك؟

– إن بجور وافانا في الوقت المعين، وكان قد أعد كل شيء، فذهبنا جميعنا في ليلة مظلمة إلى البيت الذي يقيم فيه الجنرال وابنته.

كان بجور قد لاقانا إلى المحطة، فمشى أمامنا حتى كدنا نشرف على البيت، فقال لنا: انتظروا هنا في ظل الأشجار وأنا ذاهب في طريق آخر لأفتح لكما باب البيت، فإذا سمعتما صفيري فتقدما من الباب.

بعد حين سمعنا صفيره، فما تقدمنا خطوتين حتى عثرنا بحبل مشدود بين شجرتين، فسقطنا على الأرض.

وفي الوقت نفسه سمعت وقع أقدام كثيرة، وشعرت برجل قد انقض علي قائلًا لي باللغة الهندية: إذا فهت بكلمة فأنت من الهالكين.

فاضطرب السير جورج وسأله: وبجور ماذا حدث له؟

– خنقوه.

– وكيرشي؟

– خاننا.

– والجنرال وابنته؟

– أنقذهما عباد الإله سيوا.

– وأنت؟

– أبيت أن أبوح بالأسرار، فألقاني زعيم أبناء سيوا في نهر يشبه بعظمته نهر التاميز، وهم يدعونه السين. ولكني تمكنت من النجاة لمهارتي في السباحة.

فضرب السير جورج الطاولة بيده قائلًا له بلهجة السيادة المطلقة: لقد حكمت على كيرشي، وسأنتقم منه باسم الإلهة كالي شر الانتقام، ويكون عبرة لسواه من الخائنين، وأما أنت فإذا عجزت أيضًا عن قضاء المهمة التي سأعهد بها إليك فإنك موتًا تموت.

فانحنى أوسمانا قائلًا: مر يا مولاي أطع.

– أريد أن تخنق رجلًا جريئًا تجاسر أن يخطب جيبسي النورية.

– سأخنقه.

فقال نويل، عندما ترجم له كالكراف هذا الكلام: نعم، سيخنقه إذا أردنا.

انتهت المحادثة بين السير جورج وأوسمانا، فنادى السير جورج أحد خدم الخمارة ودفع له الحساب، فعلم نويل أنه عزم على الانصراف، فسبقه وتربص له في الشارع في مكان مظلم.

أما السير جورج، فإنه ذهب بعد هنيهة من الخمارة، وجعل يسير سيرًا حثيثًا، ونويل يتبعه دون أن يراه، حتى وصل إلى جسر لوندرا، فرأى مركبة، وحاول الركوب فيها، فتردد السائق عن قبوله لما رآه من قذارة ملابسه، غير أن السير جورج طمأنه وأراه النقود في جيبه؛ فرضي السائق أن يذهب به.

وعند ذلك كان نويل أدرك المركبة، فاختبأ بين دواليبها، وسارت بالسير جورج وهو لا يعلم أن نويل يتبعه.

٢٦

ولم يكن لنويل أقل ريب، فقد ظهر له أن السير ستوي لم يتنكر بتلك الملابس إلا بغية الحضور إلى وينغ لمقابلة أوسمانا، وبعد أن قابله عاد إلى منزله كي يغير ملابسه.

وسارت المركبة حتى قربت من المنزل، فأوقفها السير ستوي على مسافة عشرين خطوة، وترجل منها، فدفع إلى السائق أجرته، ثم ذهب إلى المنزل، ففتح بابه بمفتاح كان معه، ودخل فأقفل الباب.

أما نويل فقد تخلص من المركبة، فرآه داخلًا إلى المنزل، وأنه أقفل الباب من ورائه، فقال في نفسه: إن الرئيس قد أمرني أن أتبع هذا الرجل إلى الصباح، وربما كان هذا المنزل الذي دخل إليه منزله الخاص.

وعلى ذلك فإما أن يظهر منه بعد تغيير ملابسه، وإما أن يبقى في البيت فينام، فإذا ذهب أتبعه وإذا بقي بقيت إلى الصباح، ثم ذهبت إلى الرئيس عند فاندا.

قال هذا في نفسه، وذهب فجلس مطمئنًّا على صخر قرب البيت.

وأقام ربع ساعة، فسمع ساعات الكنائس تدق مؤذنة بحلول الساعة الثانية بعد منتصف الليل. وعند ذلك رأى مركبة قادمة لم يكن فيها أحد، فوقفت عند باب البيت، وسمع نويل سائقها يتململ ويتضجر.

فدنا منه قائلًا له: أراك تتضجر من المهنة أيها الرفيق.

– وكيف لا أتضجر لاضطراري إلى الانتظار في هذا الخلاء، والبرد يهز الأجسام.

سأله نويل بعد أن أوهمه أنه سائق مثله: ألعلك تنتظر أسيادك؟

– إني أنتظر شخصًا من الأشراف يسكن في هذا البيت، وهو من كبار المقامرين، فأحضر إليه في كل ليلة في الساعة الثانية كي أذهب به إلى النادي.

وانتظار مثل هذا المقامر قد يروق لغيري من السائقين، أما أنا فإني أوثر النوم في مثل هذه الساعة على كل ربح.

فأجابه نويل: أما أنا أيها الرفيق، فإني أوثر الربح على كل نوم لا سيما وأني لا أشتغل منذ حين، فهل تشغلني الليلة مكانك؟

فنظر إليه السائق نظرة الفاحص، ثم سأله: أأنت خبير بالمهنة؟

– كيف لا أعرفها وأنا لا أشتغل بسواها؟

– عند من خدمت؟

فذكر له نويل جملة من أسماء الذين يؤجرون المركبات.

فسأله السائق: كم تريد أن أدفع لك مقابل شغلك عني الليلة؟

– شلنين.

– إني أدفع لك الشلنين وأنام ليلة على الأقل كما ينام الناس؛ لأن هذا الشخص لا يترك النادي قبل الساعة الثامنة من الصباح، فخذ وشاحي فإنه يقيك من البرد، وتعال اجلس مكاني.

ففعل نويل، ثم أخذ من السائق الشلنين وسأله: أين أجدك غدًا؛ لأرد لك المركبة؟

– سأحضر في الساعة الثامنة إلى ردهة النادي، فأراك فيها، ثم ودعه وانصرف.

وبعد ربع ساعة خرج السير ستوي من البيت، وقد خلع تنكره، ولبس خير الملابس، فصعد إلى المركبة دون أن ينتبه إلى السائق، وقال له: سر إلى النادي الهندي.

فامتثل نويل وسار به إلى ذلك النادي.

وقد ربح تلك الليلة أرباحًا طائلة، ولبث في ذلك النادي إلى الساعة السابعة من الصباح، فجمع ما ربحه من الأوراق المالية، ورأى تململ الذين خسروا، فقال لهم: أسألكم المعذرة لأني مضطر إلى الذهاب في هذه الساعة على غير عادتي لمبارزة رجل فرنسي.

فسأله أحد الحضور: أهو الفرنسي صاحب الكلب؟

– نعم هو بعينه، ثم تركهم وذهب.

وكان نويل لا يزال ينتظره، فركب المركبة وقال له: سر بي مسرعًا إلى البيت.

فقال نويل في نفسه: لقد خسر كل ما كان لديه وهو عائد لإحضار نقود.

ولكنه لما وصل إلى المنزل دخل إليه وعاد بعد هنيهة يحمل صندوقًا طويلًا وفيه سيفان، فقال نويل في نفسه: إنه ذاهب لمبارزة كما يظهر.

ولكنه لم يخطر في باله أن خصمه روكامبول.

٢٧

إن المبارزة نادرة في إنكلترا؛ لأن الشخصين إذا اختصما وهاجت بهما عوامل الغضب شفيا غلهما بالملاكمة.

غير أن السير ستوي لم يكن إنكليزيًّا إلا بالظاهر، وكذلك خصمه فإنه فرنسي.

وفوق ذلك فقد كان يحول دون المبارزة مصاعب أخرى وهي انتشار البوليس في كل مكان بحيث كانت تتعذر المبارزة إلا في الضواحي، فيذهب المتبارون إليها بالسكة الحديدية.

وقد اتفق السير ستوي وركامبول على المبارزة في ودستوك، التي كان يقيم فيها كرومويل الشهير زعيم الثورة الإنكليزية، التي قتل فيها الملك شارل الأول.

وكان لهذه الناحية طريقان: إحداهما طريق برمنجهام يذهب إليها بالسكة الحديدية، ويلزم لها ١٠ دقائق، ومن يسير بالمركبة يقتضي له ساعة.

كان السير ستوي يكره ركوب السكة الحديدية، فقال لنويل: إني أريد الذهاب إلى ودستوك بأشد ما يمكن من السرعة، فإذا تمكنت من الوصول إليها بمدة ثلاثة أرباع الساعة كافأتك خير مكافأة.

فقال نويل في نفسه: لينتظر السائق الحقيقي قدر ما يشاء، وليفتش عني في كل مكان، فلا بد أن نلتقي.

ولما كان روكامبول أمره أن لا يفارق السير ستوي دفع الجياد، فانطلقت تمرق مروق السهم في شوارع لندرا حتى اجتازتها إلى الخلاء.

وكان نويل ينظر من حين إلى حين إلى داخل المركبة، فيرى السير جورج مطبق العينين وفي فمه سيكار يدخن به، فيستدل من هيئته أنه يفكر في هواجس عظيمة.

ولبث على هذه الحالة إلى أن اجتازت المركبة شوطًا بعيدًا في الخلاء، فهب من تفكره وفتح عينيه، وجعل ينظر نظرات سريعة متلفتًا إلى يساره ويمينه كأنه يفحص الطريق ليعلم إلى أين وصل.

وبعد حين وصلت المركبة إلى ودستوك فأوقفها السائق قرب أشجار مكتظة في تلك الطريق، وترجل من المركبة بعدما أخرج منها سيفيه وغدارتيه.

فنظر في ساعته وقال لنويل: انظر إلى هذه البناية ذات القرميد الأحمر، فإنها محطة برمنجهام، وسيصل القطار إليها من لندن بعد خمس دقائق. اذهب وقف هناك بالمركبة؛ لأنه سوف يخرج من القطار خمسة أشخاص وهم خصمي وشاهداه وشاهداي، وحين خروجهم من القطار جئ بهم إلي؛ لأني بانتظارهم تحت هذه الأشجار.

فذهب نويل إلى المحطة، وبعد وصوله بهنيهة وصل القطار ونزل منه الأشخاص الخمسة الذين أشار إليهم السير ستوي.

فما نظر إليهم نويل حتى اضطرب وظن نفسه حالمًا؛ لأنه رأى روكامبول بين الخمسة، فلم يعلم أهو من الشهود أم هو الخصم.

وقد عرفه روكامبول فأشار له إشارة خفية.

وعند ذلك تقدم نويل من الخمسة، وأخبرهم أن السير ستوي ينتظرهم، وقد أمره أن يذهب بهم إليه.

فركبوا المركبة وساروا بها إلى حيث كان ينتظرهم السير ستوي، فحيى روكامبول خصمه، فرد له التحية بأحسن منها، غير أنه لم يلبث أن نظر إلى عيني روكامبول حتى اضطرب، وخطر له في الحال أنه رأى هاتين العينين في غير المكان الذي تصارع فيه الكلبان، لكنه لم يذكر ذلك، فكان ذلك التصور شبيهًا بحلم بعيد العهد.

أما روكامبول فقد كان متأنقًا بملابسه خير تأنق على عادة الفرنسيين حين يذهبون إلى المبارزات.

ولكن السير ستوي عرف بعد التحقيق بروكامبول أنه هو ذلك البحار الذي ذهب أمس مع جيبسي من خمارة الملك جورج.

فقال روكامبول في نفسه: لقد عرفني دون شك.

ثم اتفق الشهود على شروط المبارزة، وجرى الاقتراع على اختيار السلاح، فأصابت القرعة روكامبول فاختار السيف.

وأخذ الاثنان يخلعان ثيابهما، فخالف السير ستوي القواعد المألوفة وأبقى رباط الرقبة بشكل يحول دون فتح قميصه، فلم يحفل الشهود بهذه المخالفة لقلة خبرتهم بقواعد المبارزات.

وقد علم روكامبول السبب الذي يمنعه عن كشف صدره فخالف خصمه، وفك أزرار قميصه بحيث يكشف صدره حين الحركة خلال المبارزة.

أما نويل فكان جالسًا فوق كرسيه يتفرج وهو واثق من فوز روكامبول لوثوقه من براعته في قتال السيف.

وأمر أحد الشهود المتبارزين بالقتال، فاشتبك السيفان، وكان روكامبول هادئًا يتبسم خلافًا لخصمه فإنه كان شديد الاضطراب.

٢٨

لا بد لنا قبل استيفاء حديث المبارزة من ذكر حادثة لها تأثير عظيم على هذا القتال.

يذكر القراء أن روكامبول بعد أن وضع الحراس على منزل الجنرال البولوني وابنته ناديا منذ بضعة أسابيع ذهب بالقارب مع مريس وفيه الأسيران الهنديان مكبلان بالقيود.

فلما توسط القارب ذلك النهر استل روكامبول خنجره وتهدد به أوسمانا بالقتل إذا لم يبح له بأسراره، ففضل الموت على الإباحة خلافًا لكيرشي، فإنه خاف ورضي أن يبوح بكل شيء.

فحمل روكامبول أوسمانا وألقاه في النهر، ثم دنا من كيرشي وأعاد عليه الوعود.

أما كيرشي، فقد كان يعتقد أنه وقع في قبضة أعداء الخناقين الذين يلقبونهم بأبناء الإله سيوا.

فاعترف لروكامبول أنه من جمعية الخناقين في لندرا، وأنه خاضع لرئيس يدعى السير جورج ستوي وأنه هو نفسه قضي عليه أن يبقى عازبًا كل عمره؛ لأنه موشوم برموز الإلهة كالي.

ثم ذكر له كل ما يعرفه من أسرار هذه الجمعية، وأخبره أن السير ستوي زعيم الجمعية من المتعصبين في عبادة الإلهة كالي، وأنه واسع الثروة ولديه في لندرا عصابة سرية من الخناقين، تلقي الرعب كل يوم في عاصمة الإنكليز، وأخبره أن السير ستوي لا يخشى الملك، ولا يرهب القضاء نفسه، لكنه يضطرب خوفًا أمام أبناء الإله سيوا الذين لم يبرحوا الهند إلى الآن.

فخطر لروكامبول خاطر، رجا منه الفوز، وأحضر معه كيرشي إلى لندرا.

وقد تنكر كيرشي، وأقامه روكامبول مع فاندا في منزل واحد.

وفي تلك الليلة التي جرى فيها لروكامبول حادثة مصارعة الكلب وحادثة جيبسي، ترك الفتاة في منزل وذهب إلى فاندا.

وكان كيرشي نائمًا فأيقظه، فانذعر الهندي حين رأى الخنجر مشهرًا بيده.

فقال له روكامبول: أصغ إلي فإنك كنت تحسبني إلى الآن من أبناء سيوا، ولكني لست منهم كما تتوهم، وما أنا من أبناء الهند، بل إن لي أسبابًا خاصة سرية تدعوني إلى مقاومة الخناقين.

والآن اعلم يقينًا أنك إذا لم تبح لي بكل ما سأسألك عنه فإني أقضي عليك بطعنة واحدة من هذا الخنجر.

فذعر كيرشي وقال له: ماذا تريد أن تعلم؟

– أريد أن أعرف إذا كان لأبناء سيوا علامات خاصة يمتازون بها في أجسامهم كما يمتاز أبناء كالي بوشومهم.

– نعم، فإنهم عندما يكرسون الرجل لهذه الآلهة يشمون صدره وشمًا مؤلفًا من رسم حية وعصفور بحبر أزرق لا يمحى.

– أتستطيع أن ترسم هذه الرسوم؟

– دون شك.

– إذًا ابدأ بالعمل.

ثم أخذ روكامبول زجاجة من الحبر العادي الأزرق وقلمًا، وأعطاها للهندي، وكشف عن صدره قائلًا: أسرع ما استطعت.

فرسم الهندي على صدر روكامبول حية وعصفورًا، ثم قال له: يجب أن أوخز الرسم بدبوس حتى يسيل الدم، وأحرق فوقه نوعًا من الرشاش، كي لا يمحى.

فأبى روكامبول قائلًا: لا حاجة لي بذلك.

وبعد ذلك ببضع ساعات كان روكامبول يبارز السير ستوي، فشعر السير أنه يقارع خصمًا شديدًا، فاضطرب واصفر وجهه.

ولكن اضطرابه واصفراره لم يلبثا أن زالا بعد هنيهة قصيرة، وتغلبت عليه عاطفة الحذر.

أما روكامبول فقد كان على نقيضه باسم الثغر منبسط النفس يبارز خصمه ويحادثه في وقت واحد.

وقد طعنه السير ستوي طعنة حاذقة، فخلا منها روكامبول، وقال له وهو يبتسم: لا أنكر أنك ماهر في فن المبارزة، ولكني أعرف هذه الفنون التي تبارزني بها.

وكان روكامبول مقتصرًا إلى الآن على الدفاع، فقال لخصمه: ولكني أرى يمينك تضطرب على مهارتك في القتال، فاحذر وتشدد.

فحمل عليه عند ذلك السير جورج حملة منكرة وقد برقت عيناه حين علم أنه هو الذي سار مع جيبسي وطعنه طعنة هائلة.

غير أن الطعنة ذهبت في الهواء، فقال له روكامبول: احذر فقد أخطأت ولو شئت لاغتنمت فرصة خطئك وكنتَ الآن من الهالكين.

وفيما هو يتكلم هذا الكلام انكشف قميصه، فصاح السير ستوي صيحة رعب، ذلك أنه رأى رسم الحية والعصفور اللذين رسمهما كيرشي فوق صدر روكامبول.

وقد ذعر ذعرًا شديدًا حتى انكشف لروكامبول، فجرحه بسيفه جرحًا خفيفًا أسال بعض نقط من دمائه.

وعند ذلك خاطبه روكامبول باللغة الهندية: أما وقد عرفت الآن من أنا، كما اتضح لي من ذعرك، فاعلم أن عراكنا لا يجب أن يكون في هذا المكان.

فاضطرب السير جورح، ورأى الشهود قميصه ملوثة بالدماء، فتداخلوا بينهما وقالوا: كفى! لقد سلم الشرف بما أريق على جوانبه من الدم.

فأجابهم السير ستوي: كما تريدون.

وجعل ينظر إلى روكامبول نظرات ملؤها الرعب والانذعار.

٢٩

ولندخل الآن إلى منزل فاندا في لندرا، فإن روكامبول أنزلها حين قدومها في فندق دنبورغ، وفي اليوم التالي استأجر لها منزلًا في شارع سانت بول.

كانت فاندا تخفر كيرشي ليلًا ونهارًا في ذلك البيت.

أما الهندي فقد تمكن منه الرعب؛ لاعتقاده أن روكامبول من أبناء الإله سيوا؛ فباح له بجميع ما يعلمه من أسرار ستوي.

وكان روكامبول قد قال لفاندا: إني وعدت هذا الرجل بالإبقاء على حياته بحمايته من الخناقين؛ لشدة خوفه منهم بعد خيانته إياهم، ومع ذلك احرصي على مراقبته كل الحرص، واحذري أن يخرج خطوة من هذا المنزل.

وكان روكامبول واثقًا من مقدرة فاندا على ما عهد به إليها، فذهب مطمئنًّا بعد أن وشمه الهندي، غير حاسب حسابًا لكيرشي، وما يمكن أن يتنازعه من الأفكار.

أما الهندي فإنه كان شديد التمسك بدينه، ولهذه الديانة الهندية مبدآن، وهما: مبدأ الخير، ومبدأ الشر، ولهذين المبدأين إلهان: أحدهما الإله سيوا، والآخر الإلهة كالي.

وفي معتقد الهنود أن الناس جميعهم في قبضة هذين الإلهين، وأن الإلهين في معترك دائم، وأن الحرب سجال بينهما.

وقد قدم كيرشي من قلب الهند بمهمة دموية، فوجد في باريس قومًا يتكلمون بلغته الهندية، ويتغلبون عليه فجأة، فأيقن أنهم من عباد الإله سيوا، وأن النصر لهذا الإله، فاعتقد بالتالي أن الإله سيوا أشد من الإلهة كالي؛ فخضع لروكامبول لاعتقاده أنه من عباد ذلك الإله.

وقد كان له في أسر روكامبول ثلاثة أسابيع يحاول في خلالها عقد الصلح مع الإله سيوا، والتدرج على الكفران بالإلهة كالي، إلى أن جاءه روكامبول قائلًا له فجأة: «إني لا أعرف الإله سيوا، ولا عباده، وإني أقاتل الخناقين لأسباب خصوصية، ولكن من أغراضي أن أظهر بمظاهر أبناء سيوا، فإذا لم تشمني بوشوم عباده قتلتك بهذا الخنجر.»

فاضطر مكرهًا إلى إجابته حذرًا من الموت، ولكنه لم يلبث أن سمع منه هذا التصريح حتى زالت أوهامه، وذهب خوفه من الإله سيوا، وعاد له تعصبه القديم للإلهة كالي، فلم يعد يخطر في باله غير الفرار والذهاب إلى السير ستوي، والاعتراف له بكل شيء.

وكان كيرشي يعلم أنه مخفور، وأن التي تتولى خفارته امرأة، ولكنه كان يعلم أيضًا أن خديعة المرأة أصعب من خديعة الرجل.

وكانت مهنته ملاعبة الأفاعي، وهي مهنة كثيرة الشيوع بين الهنود، وكان يتعاطاها في مدينة مدراس قبل أن ترسله لجنة الخناقين من الهند إلى السير ستوي عميلها في لندرا.

وكان قد أحضر معه من مدراس صندوقًا ملآن بالأفاعي المختلفة الألوان والأنواع، وهو يحبها حبًّا عظيمًا، بل هي الشيء الوحيد الذي كان يحبه بعد الإلهة كالي.

فلما أرسله السير ستوي من لندرا مع أوسمانا لخنق الجنرال وابنته أخذ معه بعض تلك الأحناش، وقد شاهدوه يلاعبها في باريس أمام المتفرجين، فتسرح على جسمه، وتلتف حول عنقه.

وعندما أسره روكامبول أراد أن يعرف أين يقيم، فذهب به إلى غرفة حقيرة كان يسكنها، ففتشها روكامبول فلم يجد فيها شيئًا كما كان يرجو أن يجده، كأوراق ورسائل سرية وغيرها، بل وجد كيس الأحناش.

فحاول روكامبول أن يطرحها إلى النهر فجعل كيرشي يبكي ويتوسل إليه أن يبقيها له، فرضي وسمح له أن يأخذها معه إلى لندرا، فكان يداعبها للتسلية بها حين كان مسجونًا في منزل فاندا.

وقد أذن له روكامبول بإحضارها معه بعد أن تأكد أنه لا يوجد بينها حية قاتلة، فكانت تلك الأفاعي تسعى في غرفته، فيبيت بعضها على الأرض، وبعضها حول عنقه وعلى صدره.

ولم يكن بين هذه الأفاعي غير حنش واحد يؤذي، وهو صغير أصفر اللون عليه نقط سوداء، إذا لسع المرء لا يشعر بألم، ولكنه ينام نومًا عميقًا.

وقد عقد كيرشي كل رجائه منذ خطر له الفرار على هذا الحنش.

وكانت فاندا كلما ذهب روكامبول لقضاء مهمة في لندرا أو في ناحية وينغ تضع سريرًا في غرفة تتقدم غرفة كيرشي، ولم يكن للغرفتين غير مخرج واحد من غرفة فاندا، بحيث كان لا يستطيع كيرشي الخروج إلا إذا مر من فوق السرير.

ولم تنم فاندا تلك الليلة؛ لأنها كانت تنتظر روكامبول، فلما عاد إليها حضرت عملية الوشم، وكان الصباح قد طلع حين ذهب روكامبول لمبارزة السير ستوي.

فوضعت كرسيًّا عند مدخل غرفة كيرشي، وجلست عليها بحيث لا يستطيع الخروج من غرفته إلا إذا مر فوقها.

أما كيرشي فكان ملتحفًا في سريره، ويوهم أنه نائم، ولكنه كان يكشف اللحاف عن رأسه من حين إلى آخر، وينظر إذا كانت فاندا قد نامت.

وكان النعاس يجاذب عيني فاندا، إلى أن تغلب عليهما فأطبقتهما، ولكن يدها كانت قابضة على المسدس، الذي كانت تنذر به كيرشي في الليل والنهار.

فلما أيقن الهندي أنها نائمة، أخرج ذلك الحنش الأصفر من الكيس، وأطلقه على فاندا، فزحف حتى وصل إليها فصعد إلى ركبتيها، ثم تغلغل بين طيات ثوبها.

٣٠

ولنعد الآن إلى السير ستوي، فإن روكامبول ذهب مع شاهديه، وكان نويل لا يزال ينتظر في المركبة، فركب السير ستوي مع شاهديه، وأوصلهما إلى منزليهما، ثم أمر نويل أن يذهب به إلى منزله.

وكان مصفر الوجه، يضطرب اضطرابًا شديدًا بعد أن رأى تلك الوشوم على صدر روكامبول، وسمع لغته الهندية؛ فأصيب بما أصيب به كيرشي من الذعر يوم كلمه روكامبول بتلك اللغة، وجعل يقول في نفسه والمركبة سائرة به إلى منزله: إن سيوا قد انتصر، والإلهة كالي قد تخلت عنا.

فلما وصلت المركبة به إلى المنزل خرج منها وفتح باب البيت، فرأى نويل أن يده تضطرب، وسمعه يتنهد تنهدًا عميقًا.

فاجتاز السير جورج حديقة منزله بخطوات غير متوازنة لشدة اضطرابه حتى دخل إلى المنزل فرأى صينية من الفضة على طاولة وفوقها كتاب مختوم.

فأخذ الرسالة وتأمل بعنوانها، فرأى خطًّا لطيفًا احمرَّ له وجهه هنيهة؛ إذ علم أنه خط امرأة، ففض الرسالة، وقرأ ما يأتي:

سيدي العزيز

إننا لم نرك منذ يومين في هيد بارك، فماذا جرى لك؟ ألعلك نسيت أن أمي دعتك إلى شرب الشاي يوم الأحد أم أنت مريض؟

إن عمي اللورد شارنج في لندرا الآن، فاعترفت له بكل شيء وهو من أنصارنا، فاحضر إذن إلى هيد بارك؛ لأني سأتنزه في هذا البستان في الساعة الثانية.

حبيبتك
سيسيليا

فتنفس السير جورج تنفسًا طويلًا بعد تلاوة الرسالة، واتقدت عيناه، وظهر على وجهه علائم الرضا التام.

ولكن ذلك لم يطل فإن رسم روكامبول عاد فانطبع في ذاكرته وحل محل سيسيليا.

وكان هذا الرجل المتلبس بالمدنية قد خدع بجماله وبمدنيته الكاذبة تلك الفتاة الإنكليزية، ولكنه لم يحفل بها في تلك الساعة، ولم يخطر في باله غير مناجاة الإلهة كالي معبودته الوحيدة التي ظهر له أنها تخلت عنه في ذلك الحين، أو أن الإله سيوا قد انتصر عليها، وكان السير جورج ستوي يقيم وحده في منزله، فيأكل في النادي، ولم يكن لديه غير خادم واحد، كان لا يزال نائمًا حين عاد السير ستوي إلى المنزل.

فبعد أن قرأ الرسالة صعد إلى الدور الأول، وكان مؤلفًا من غرفة للنوم، وغرفة للكتابة، وغرفة للبس، والرابعة مقفلة فلا يدخل إليها سواه، وكان مفتاحها دائمًا معه، وقد ربطه بسلسلة وعلقه في عنقه مبالغة في الحذر.

وكان النور يصل إلى هذه الغرفة من السقف كسائر الهياكل الهندية، وجدرانها الأربعة معلقًا عليها قطع من القماش رسم فوقها رسوم غريبة، وفي كل زاوية قاعدة من الحديد عليها تمثال من النحاس يمثل إلهًا من آلهة الهنود.

وكانت أراضيها مفروشة بحصير عليها أيضًا كثير من الرسوم الغريبة، وفي وسطها رسم فيل عظيم.

غير أن أغرب ما كان في هذه الغرفة المقدسة عند السير جورج بركة من الرخام الأبيض يصل الماء إلى حافتها، وفي وسط هذه المياه سمكة جميلة حمراء تسير ذهابًا وإيابًا في غور المياه، وتصعد إلى سطحها من حين إلى حين.

وقد كتب على أربع جدران البركة بحروف ذهبية باللغة الهندية ما يأتي:

أوسمانا ابن راجوت الذي ينتهي نسب أجداده إلى بيح أمير ابن ويشنو ضحى نفسه للإلهة كالي إلهتنا، ومات في مياه نهر كنج حين كان يجتازه سباحة لخنق صبيتين رغبت الإلهة كالي أن تصعد روحهما إليها.

وإن حفيده رتجب الذي يسميه الإنكليز السير جورج ستوي عكف على الصلاة والتوسل إلى إلهة كالي أن ترد إليه روح العابد النقي أوسمانا، فأجابت إليه، وأذنت لروح أوسمانا أن تقيم في جسم سمكة حمراء أخذت من نهر كنج المقدس، ووضعت في هذه البركة.

وكان من عادة السير جورج قبل أن يدخل إلى هذه الغرفة المقدسة ويناجي فيها روح أبيه الكامنة في السمكة أن يدخل إلى غرفة اللبس فيخلع جميع ملابسه، ويلبس كلسونًا، ويتعمم بعمامة من الحرير الأبيض، ويبقى جميع جسده عاريًا، ثم يدخل إلى الغرفة المقدسة فيركع فوق الحصير، وينعكف على الصلاة.

وبعد أن يفرغ من صلاته يدنو من بركة الرخام، وينظر إلى السمكة الحمراء ويناجيها …

وقد دخل في ذلك اليوم بعد أن لبس ملابسه كما وصفناه، فصلى وقام إلى البركة فجلس على حافتها، ونظر إلى السمكة وهي كامنة في الغور، فقال يخاطبها: يا أبتي إني بحاجة إليك.

فلم تتحرك السمكة.

وعاد إلى مخاطبتها، وقال: أيتها الروح المجيدة، ألعلك طرت إلى الإلهة كالي تسألينها الأوامر التي يجب إصدارها إلى ولدك؟ فبقيت السمكة على حالها.

– يا أبي، إن أبناء سيوا قد جاءوا إلى لندره يضطهدون عباد الإلهة كالي، فقل لي ماذا يجب أن أصنع؟

وعند ذلك وضع يده في ماء البركة للتبريك بها، فاهتزت المياه وصعدت السمكة الصغيرة إلى سطحها.

– لقد علمت يقينًا أيتها الروح المجيدة أنك تسمعين ندائي وتقبلين على مساعدتي، فقولي ماذا أصنع، أأهرب وأعود إلى الهند أم أواصل العراك؟

فسبحت السمكة ببطء متوانية؛ فاضطرب السير جورج حين رأى تثاقلها، وتابع بلهجة القانط: لقد عرفت ما تريدين أيتها الروح المجيدة، فإنك تعنين أن النصر للإله سيوا.

وعند ذلك غاصت السمكة في الغور، ولبثت جامدة لا تتحرك.

فاستدل من غوصها وسكونها أنها أجابته على سؤاله بما أيد ظنه، فضرب صدره، ولطم خديه وهو يقول: لقد انتصر سيوا.

ثم خرج من غرفته المقدسة بعد أن مزق صدره بأظافره ليأسه.

وفيما هو داخل إلى غرفة النوم سمع جرس باب المنزل يدق، فأسرع إلى النافذة كي يرى الطارق.

٣١

وكان الخادم نائمًا كما قدمناه، ولما سمع صوت الجرس هب منذعرًا، وأسرع إلى الباب ففتحه.

أما السير جورج فقد كان واقفًا وراء ستائر النافذة كي يرى الداخل دون أن يراه، فصاح صيحة غريبة حين رأى ذلك الزائر الذي قرع الباب؛ لأنه كان كيرشي، ذلك الخائن الذي خان الخناقين، وانضم إلى أبناء سيوا، كما أخبره أوسمانا.

فهاج غضب السير ستوي، وتغلب على يأسه، فأخذ مسدسًا كان على المستوقد، وحاول أن يطلق النار على كيرشي من النافذة، ولكن كيرشي كان يجتاز الحديقة مسرعًا.

ورأى السير ستوي على وجهه علائم السرور، وأعاد المسدس إلى مكانه، ووقف ينتظر.

وكان الخادم يحاول أن يمنع كيرشي عن الدخول، غير أن الهندي لم يكترث له، فدفعه ودخل دخول الواثق من حسن القبول، وجعل يصعد سلم المنزل مسرعًا.

حتى إذا وصل إلى غرفة السير جورج، ورآه لا يزال بملابس الصلاة ركع أمامه قائلًا: أيها النور، إن حياتي لك تتصرف بها كيف تشاء باسم الإلهة كالي، ولكن أصغ إلي …

فقال السير ستوي: يا غبار الأرض وحشرة القبور من أين أتيت؟

– إني كنت في قبضة الأعداء.

– أي أعداء تعني … أبناء سيوا؟

فضحك كيرشي، وقال: لا يوجد أبناء لسيوا في لندرا.

ورجع السير خطوة إلى الوراء وقال: كيف ذلك؟

– أصغ إلي أيها النور إلى النهاية تعلم أننا خدعنا أنا وأوسمانا.

– ولكنك من الخائنين.

– إن حياتي بين يديك، ودمي يكفر عن خيانتي، إنما يجب أن تعرف كل شيء قبل أن تقتلني.

– تكلم …

ولبث كيرشي راكعًا، وقص على السير ستوي جميع ما عرفه من أوسمانا بشأن بعثة باريس، وكيف وقع الاثنان في قبضة رجل يتقن اللغة الهندية، وحسباه زعيم أبناء سيوا.

– إذن هذا الرجل الذي بارزته منذ ساعة لم يكن من أبناء سيوا؟

– كلا أيها النور …

– ولكنني أراهن أنه منهم.

فابتسم كيرشي، وأخبره بما جرى له مع روكامبول، وأنه هو الذي وشم صدره رموز أبناء سيوا.

ففرح السير جورج فرحًا لا يوصف، وقال له: إذن من هذا الرجل؟

– لم أعرفه …

– وماذا يريد منا؟

– لا أعلم …

– ولكني سأعرفه أنا؛ فإنه فرنسي بحت، أما وقد أيقنت الآن أنه ليس من أبناء سيوا فسوف يرى ماذا يكون بيننا.

ثم أخذ مسدسه فوضعه فوق صدغ كيرشي قائلًا له: يا غبار الأرض، إنك خائن في كل حال، فصل إلى الإلهة كي تدع نفسك هائمة في الفضاء إلى الأبد؛ لأني حكمت عليك بالموت.

فلم يجزع كيرشي وقال: أيها النور، إن حياتي بين يديك، فافتكر قبل أن تقتلني.

– بماذا؟

– بأني أنفعك في خصامك مع هذا الرجل.

فأرجع السير جورج مسدسه إلى مكانه، وقال له: قد تكون مصيبًا فيما تقول، فقل لي الآن ماذا تعرف عن هذا الرجل؟

– لا أعرف منه غير اسمه.

– ما هو اسمه؟

– روكامبول …

– أين يقيم؟

– في منزل أدلك عليه متى شئت.

– كيف نجوت من أسره؟

– بواسطة حنش أصفر.

– أيقيم هذا الرجل وحده؟

– كلا، بل إنه يقيم مع امرأة شقراء تطيعه طاعة العبيد لمواليهم.

– حسنًا تعال معي، فإني أحب أن أستشير أبي.

وإنما أذن له بالدخول معه إلى غرفته المقدسة؛ لأنه مثله من عباد الإلهة كالي خلافًا لخادمه؛ لأنه كان من الإنكليز.

ودخل السير جورج إلى الغرفة وتبعه كيرشي، ولكنه لم يلبث أن نظر إلى البركة حتى صاح صيحة فرح؛ لأنه وجد السمكة تسبح قرب سطح المياه بعظمة وجلال، فاتخذ ذلك دليلًا على الفوز وقال: لا شك أن روح أوسمانا قد فرحت لهذا التغيير، فبدت السمكة بمظاهر الخيلاء.

وكان كيرشي راكعًا أمام البركة بملء الخشوع، فدنا السير جورج من السمكة وقال: ماذا ترين يا روح أبي أأنتصر على هذا الفرنسي الذي يحاول إحباط ما أسعى إليه في خدمة الإلهة كالي؟

فسبحت السمكة كما كانت تسبح من قبل، وعلم أنها تجيبه بالإيجاب.

– قل لي يا أبي أيجب أن أحرص دائمًا على عفاف جيبسي النورية؟

وغارت السمكة عند ذلك في الغور.

وتحمس السير جورج لهذا الجواب وقال: الويل إذن لمن يتعرض لهذه الفتاة بالزواج.

ثم خرج الاثنان من هذه الغرفة المقدسة، وقال السير ستوي للهندي: اذهب الآن في شأنك.

وسأله كيرشي: متى تريد أن أعود أيها النور لأتلقى أوامرك.

– عد في هذا المساء إلى خمارة الملك جورج.

فانحنى كيرشي وانصرف، وخلع السير ستوي ملابسه المقدسة، ولبس رداء النوم، ثم كتب الرسالة الآتية:

إلى الآنسة الفاتنة مس سيسيليا

لم أنس شيئًا، ولا أزال أعبد جمالك الفتان، وسأمتثل لأمرك، فأذهب في الساعة الثانية بعد ظهر اليوم إلى بستان سانت جيمس، وتفضلي بقبول فائق الاحترام من خادمك المطيع مدى الحياة.

جورج ستوي

ثم ختم الرسالة بختمه الخاص، وأرسلها مع خادمه الإنكليزي.

٣٢

كانت مس سيسيليا التي علقت بشرك السير ستوي، فتاة غريبة الأطوار، لها فتنة النساء ونشاط الغلمان، تركب الجياد المطهمة، وتصافح الرجال في المنتزهات، ولها ثروة نادر أن تكون لسواها من أغنياء الإنكليز.

وكانت في ريعان الصبا لم تتجاوز تسعة عشر ربيعًا، وهي بارعة الجمال تلقب بالسمراء لسواد شعرها.

وكان أبوها قائد بارجة إنكليزية قدمت حديثًا من الهند الغربية، فكان يقيم في لندرا في عهد سياق هذا الحديث.

وكانت أمها تحبها حب عبادة وهي وحيدة أبويها، نشأت على الترف والدلال، وكانت تسمع الناس يقولون إنها لو جمعت أراضيها المتفرقة لبلغت مساحتها مساحة ولاية بجملتها، فجهرت بالقول منذ بلغت السادسة عشرة من عمرها أنها لا تتزوج إلا من تختاره، وتحن إليه نفسها.

فمر بها ثلاثة أعوام لم يبق في خلالها نبيل من أغنياء الإنكليز إلا خطب ودها، وطلب الاقتران بها، ولكنها رفضت جميع هذه المطالب حتى أدهشت الناس، وكثرت فيها الأقاويل.

وقد كانت ساحت في الشرق وإيطاليا، وتمرنت على ركوب الخيل ولعب السلاح والموسيقى والتصوير، وهو ما يندر إنفاقه عند الإنكليز.

وهي تقيم مع أمها في قصر لها في بيكاديللي، تحيط به حديقة غناء، غير أنه كان لهذا القصر مدخلان: أحدهما عام، والآخر خاص بالفتاة، حيث كان يزورها الناس من هذا المدخل، فتستقبلهم في المكان الذي أعدته للتصوير.

وقد اتفق أنها رأت يومًا السير ستوي في سباق سكوت فجذبت الأسمر السمراء، واختلجت حين رأت ذلك الرجل الذي تدل هيئته على أنه من ذلك النسل الجديد الذي أنشأه الإنكليز في بلاد الهند، فتعرفت به على الفور.

وبعد ثلاثة أيام قالت لأمها بصراحة: لقد وجدت الزوج الذي أتمناه.

فأنكرت أمها عليها هذا الاختيار كل الإنكار، وأنفت من تزويج ابنتها برجل يجول في عروقه دم هندي، فقالت لها الفتاة ببرود: إن أبي سيوافق على هذا الزواج لأني أرضاه.

وكان أبوها في لندرا كما قدمناه، فخيب ظنها، وأيد رأي أمها، وحكم باستحالة هذا القران.

غير أن مس سيسيليا لم تيأس، ولم تعتبر نفسها مغلوبة، فقد كان لها عم يدعى اللورد سارتج وافر الثروة يحبها حبًّا غريبًا، وقد جعلها وريثته الوحيدة، فكانت ترجو أن يكون لها خير نصير.

فذهبت إليه في اليوم الذي أرسلت رسالتها إلى السير ستوي، وقالت له: أرجوك يا عماه أن تحرمني من إرثك.

فذعر عمها، وقال لها: لماذا؟

– لأنهم لا يريدون أن يزوجوني بمن أهواه، فأرجوك أن تجعل هذا الإرث متعلقًا على هذا الزفاف.

ثم حكت له عن حبها للسير ستوي بشكل ألان قلبه، وأثار عواطف حنوه، فوعدها أن يكون لها خير نصير، فعادت مطمئنة راضية، فكتبت إلى السير تلك الرسالة التي تقدم ذكرها.

وفي الساعة الثانية بعد ظهر اليوم المعين للقاء، اجتمع السير ستوي بالمس سيسيليا، فقالت له: إن أمها لا تزال تعارض زواجها به، لكن عمها قد ضغط على أبيها حتى أوشك أن يرضى.

فقبل السير ستوي يدها، وجعل ينظر إليها نظرات تشف عن التدله بالغرام.

فقالت له الفتاة: ليس هذا كل ما أرجوه، فقد وجدت أيضًا نصيرًا آخر وهو ابن خالي آرثر نويل، فإنه طلب أن يقترن بي فأبيت كما تعلم، ولكنه يحبني حب الإخاء حتى جعلته مستودع أسراري.

فلم يظهر ستوي اكتراثًا للسير آرثر، وظل معها في تلك الحديقة يناجيها بأرق أحاديث الغرام، والناس من حولهما يعجبون لهذه الفتاة كيف استبدلت نبلاء الإنكليز بهذا الهندي.

إلى أن حانت ساعة الفراق فافترق العاشقان، وهي تقول له: إلى اللقاء في هذا المساء.

ثم انطلقت تنهب الأرض بجوادها، يسير وراءها خادمان على جوادين لحراستها.

فلما وصلت إلى المنزل وحاولت دخوله، رأت شابًّا قد تقدمها، فنادته قائلة: أهذا أنت يا آرثر؟

فحياها ابن خالها قائلًا: كنت أخشى أن لا أجدك هنا.

– إذا كنت لم تجدني في هذه الساعة، فإنك تجدني دون شك في ساعة العشاء.

– نعم، ولكني أحب أن أراك قبل العشاء.

– ماذا حدث؟

– حدث أنه يجب أن أحادثك الآن بشأن خطير، فهلمي بنا إلى مكان التصوير.

– ولماذا لا ندخل إلى المنزل؟

– لأني لا أحب أن تسمع أمك حديثنا.

فذهلت الفتاة وحسبته مازحًا، لكنها تبينت في وجهه ملامح الجد، فقالت له: إذًا اتبعني.

ثم سارت أمامه حتى وصلت إلى معملها التصويري، فجلست على كرسي وقالت له: قل إني مصغية إليك.

فأغلق السير آرثر الباب، وجلس بقربها فقال: إن الناس يلهجون بك كثيرًا يا سيسيليا حتى أصبحت مضغة في الأفواه في هذه الأيام.

– ولماذا؟

– لأنك عازمة على الاقتران بالسير جورج ستوي.

فلم تكذب سيسيليا هذا الخبر، ولكن علائم الضجر ظهرت على وجهها كأنها كانت تقول له: وأي شأن لك بهذا الأمر؟

غير أن السير آرثر لم يكترث لما أبدته من الملل، فقال لها: يجب قبل التوغل في الحديث أن أعترف لك بأمر لا بد لي من الاعتراف به إليك.

– لي أنا؟

– نعم، إني يئست منذ زمن بعيد من زواجك.

– ولكننا لا نزال صديقين؟

– بل أخوين، إني أحبك كما يحب الأخ أخته، ولأجل ذلك وجب علي تحذيرك!

– من أي شيء تحذرني؟

– من خطر عظيم يتهددك.

– أي خطر هذا؟

– هو خطر اقترانك بستوي.

فأجفلت الفتاة وقالت: ماذا تقول؟

– أقول الحقيقة؛ لأن هذا الاقتران يستحيل عقده بينكما.

فذعرت سيسيليا ذعرًا شديدًا، وحاولت أن تعترض عليه، لكنها وجدت بين عينيه ملامح الاعتقاد التام، فخافت وقالت: ماذا تعني بهذه الأقوال؟ أوضح كل شيء.

– سأبذل جهدي.

– كيف ستبذل جهدك؟

– لأن التصريح صعب، ويجب أن أذكر أمورًا، قد لا يحسن وقعها لديك.

– لا بأس، قل كل شيء. إني أريد.

– إذًا اعلمي أن السير ستوي غير مسيحي.

فقالت بلهجة المشكك: إذًا بأي دين يدين؟

– يدين بدين الهنود. فإنه يعبد الإله سيوا والإلهة كالي، وغيرهما من آلهة الهنود.

فهزت سيسيليا كتفيها قائلة: إن ما تقوله غير معقول.

– ولكنه الحقيقة.

– أية حقيقة هذه؟ إني واثقة كل الثقة من أن هذه الحكاية قد استنبطها أحد الذين رفضت الاقتران بهم.

– لا يخلو ظنك من بعض اليقين، فإن الذي علم هذه الحقيقة هو أحد خطابك السابقين، ولكنه لم يخترع هذه الحكاية اختراعًا، بل اكتشفها اكتشافًا.

– لم أفهم ما تقول؟

– أصغي إلي أيتها العزيزة، فإنك رفضت منذ حين السير رالف أوندربي.

– نعم، إني أبيت الاقتران به؛ لأنه أبله لا عقل له.

– ولكن هذا الأبله قد علم أنك تحبين السير ستوي.

– وبعد ذلك؟

– جعل يقتفي أثره.

– وإلى أين يذهب السير جورج كي يقتفيه.

– إنه يذهب في البدء إلى منزله فيغير ملابسه، ويتنكر بزي بحار، ثم يذهب إلى وينغ.

وكانت هذه الناحية مشهورة بفساد قومها عند جميع أهل لندرا، فما شاءت أن تصدق أن مثل السير ستوي يذهب إليها، فقالت: إن هذا الكلام نميمة لا صحة لها.

– اصبري أيتها العزيزة؛ إني لم أتم حديثي بعد.

– قل.

– إن السير رالف لم يقتنع باقتفاء أثره، بل إنه رشا خادمه بالمال، فعلم منه كثيرًا من الأمور.

– ماذا علم؟

– إنه رشاه بمائتي جنيه كي يدخله إلى منزل السير جورج في مدة غيابه، ففعل وعلم السير رالف عند ذلك أنه يوجد في منزل هذا الرجل غرفة خاصة لم يدخل أحد إليها سواه.

وكانت سيسيليا تنظر إليه مبتسمة إشارة إلى عدم تصديقه، ولكنها مع ذلك كانت مصغية إليه أتم الإصغاء، حتى إنها كانت تقطب جبينها بعض الأحيان إشارة إلى اهتمامها.

أما السير آرثر فقد مضى في حديثه قائلًا: وهذه الغرفة مقدسة عنده؛ لأنه يصلي فيها، ويوجد في وسطها بركة من الرخام تسبح في مياهها سمكة حمراء، يعتقد السير ستوي أن روح أبيه كامنة فيها.

فاصفر وجه سيسيليا وقالت: كيف علم السير رالف أنه يوجد سمكة في بركة الغرفة، وأنت تقول إنه لا يدخل إليها أحد؟

– ذلك لأن هذه الغرفة ينفذ إليها النور من السطح، وفي سقفها قبة من الزجاج الشفاف متصلة بهذا السطح.

وقد أصعد الخادم السير رالف إلى السطح، فكمن فوق القبة إلى أن عاد السير جورج إلى منزله، فأقام فيه هنيهة، ثم دخل إلى هذه الغرفة وهو عاري الصدر، وعلى رأسه عمامة من الحرير الأبيض، فركع أمام البركة، وجعل يخاطب تلك السمكة الحمراء، والسير رالف يراقبه من فوق الزجاج.

– أهو السير رالف نفسه الذي أخبرك هذا الخبر؟

– نعم.

– ألم يخبر أحدًا سواك؟

– نعم، فقد أخبر أيضًا البارون نيفلي، حين كنا أمس في نادي بال مال.

فقالت الفتاة ببرود: إذًا اعلم أن السير ستوي سيقتل غدًا السير رالف، وأنا أنصحك أن لا تقص هذه الحكاية المضحكة على أحد، وأن لا تدع لستوي سبيلًا إليك.

ثم نهضت، وأظهرت لقريبها إشارة أنها لا تريد أن تسمع بعد.

فنهض السير آرثر قائلًا: ليكن ما تريدين، فقد فعلت ما يجب علي، وستذكرينني إذا أصبت بمكروه.

فلم تجبه الفتاة، وذهب كل من باب، ولكن آرثر لم يتجاوز العتبة حتى عاد، وقال: لي كلمة أيضًا أيتها العزيزة.

فالتفتت وقالت: أية فائدة من الكلام في هذا الصدد؟

– كلمة واحدة فقط.

فغضبت الفتاة وقالت: لا ينقصك بعد ذلك إلا أن تتهم السير جورج بأنه زعيم لصوص. اذهب لا أريد أن أسمع شيئًا.

فانحنى السير آرثر، وذهب دون أن يفوه بحرف، فلما بلغ منتصف السلم التقى برجل عجوز يصعد ذلك السلم وعليه علائم الاضطراب الشديد.

وكان هذا الشيخ اللورد شارنج عم سيسيليا، فحياه آرثر باحترام قائلًا: ماذا أصابك، وما هذا الاضطراب؟

فأجابه بلهجة المنذعر: لقد علمت نبأً هائلًا، فأين هي ابنة أخي؟

– في معمل التصوير.

– أرأيتها؟

– إني تركتها الآن.

فأكره اللورد شارنج آرثر على أن يعود معه.

فلما اجتمع الثلاثة في المعمل، ذعرت سيسيليا لاضطراب عمها، وسألته عما أصابه.

فقال وهو يرتجف: لقد سمعت خبرًا غريبًا، أتعرفين السير رالف؟

– كيف لا أعرفه، وقد خطبني منذ حين فرفضت طلبه؟

– إذًا اعلمي أنك لو تزوجت به لكنت الآن أرملة.

فصاحت الفتاة صيحة انتصار، ونظرت إلى السير آرثر كأنها تقول: أرأيت كيف ينتقم السير جورج؟

وعاد اللورد إلى الحديث، فقال: إن السير رالف وجد مخنوقًا بعد ذهابه من النادي.

فصاحت سيسيليا صيحة أخرى، واصفر وجهها، وقال السير آرثر: لا شك أن اللصوص خنقوه ليسرقوه.

فقال اللورد: كلا؛ لأن نقوده وأوراقه وساعته كانت باقية معه.

عند ذلك تراخت عزيمة سيسيليا حتى أوشكت أن تسقط عن كرسيها، وخشيت أن يكون ابن خالها السير آرثر صادقًا في ما قاله عن ستوي.

٣٣

ولنعد الآن إلى السير ستوي، فإنه بعد أن فارق مس سيسيليا في حديقة هيد بارك عاد إلى نادي بال مال.

وكان النادي مزدحمًا بالمشتركين، وكلهم مجتمعون في قاعة واحدة، يقامرون حول مائدة طويلة بين وقوف وجلوس، لا ينصرفون إلى غير الورق، فلم ينتبه أحد لقدوم السير ستوي غير شاب يدعونه السير جمس نيفلي كان بين الواقفين.

وكان هذا الشاب أسمر اللون، متقد العينين بأشعة الذكاء، وهو من أب إنكليزي وأم هندية.

وقد مات أبوه على أثر ولادته، فتولت تربيته أمه.

فلما دخل السير ستوي إلى النادي، ورأى السير جمس نظر إليه نظرة سرية علم السير جورج منها أنه يريد مباحثته بشأن خطير، فقال له: أتريد أن تلعب بالورق؟

فأجابه السير جمس بالامتثال، ودخل الاثنان إلى غرفة من غرف النادي لم يكن فيها أحد لانشغال الأعضاء بالمقامرة، فأتاهما الخادم بالورق، فجعلا يتظاهران باللعب ويتحدثان.

فقال السير جمس بلهجة الاحترام: أيها النمر، يوجد في منزلك خائن.

– أتعني به كيرشي؟

– كلا، بل خادمك جون الإنكليزي.

– ماذا فعل هذا الخادم؟

– إنه خانك.

– كيف خانني؟

– أصغ إلي أيها النور أتم الإصغاء، إنك تحب مس سيسيليا أليس كذلك؟

– كلا، إني لا أحبها، ولكن أحب أن أتزوجها.

– كلاهما واحد عندنا، ولست هذا الذي أريد أن أقوله، بل أريد أن أقول: إن لهذه الفتاة كثيرًا من الملايين، وإننا في حاجة إلى ملايينها لقضاء مهماتنا، أليس كذلك؟

– دون شك، وبعد ذلك؟

– وإن هذه الفتاة قد خطبها معظم نبلاء لندرا.

– أعرف كل ما تقول.

– ولكنها تحبك حبًّا لم يرض عنه أولئك النبلاء الذين خابت أمانيهم في هواها، فرشا أحدهم خادمك فأهداه إلى سقف غرفتك المقدسة، ورآك من زجاجها تخاطب روح أبيك.

فاصفر وجه السير ستوي من الغضب، وقال: من هو هذا الرجل كي أقتله؟

– صبرًا أيها النور، فإن هذا الشخص قد أتى إلى هذا النادي مساء أمس، فأخبرني وأخبر السير آرثر بما رآه.

– السير آرثر ابن خال سيسيليا؟

– هو بعينه.

– ومن هو الشخص الذي أخبركما؟

– السير رالف أوندربي.

– إذن سيموت.

– لا فائدة من ذلك.

– لماذا؟

– لأني ذهبت أمس وإياه من النادي، فأوصلته إلى باب منزله، وهناك خنقته فلا يعود بعد ذلك إلى الكلام.

– والآخر؟

– أصدرت أوامري بشأنه.

– أتظن أني لا ألقاه الليلة في منزل سيسيليا؟

فابتسم السير جيمس، وقال: هذا ما أتمناه.

وعند ذلك نهض السير ستوي، فقال له السير جمس: إلى أين أنت ذاهب أيها النور؟

– لأقضي على الخادم الذي خانني.

– لقد افتكرت بعقابه.

– كيف ذلك؟

– ذلك أني سأعود إلى منزلي، وأنت تعلم أني مقيم في منزل معتزل في شارع سانت جمس.

– نعم.

– إذًا اعلم أنه يوجد في هذا المنزل بئر عميقة.

– لقد فهمت كل شيء.

– أرسله إلي بحجة من الحجج، وأنا أتكفل به، فلا يدل بعد الآن أحدًا على طريق السطح.

– إذًا هلم بنا الآن لنتعشى، وسأرسله لك بعد العشاء.

وذهب الاثنان من قاعة اللعب في النادي إلى قاعة الطعام، فتعشيا ثم خرجا، فقال له السير جمس: إني ذاهب إلى منزلي لانتظار خادمك.

– حسنًا سأرسله في الحال، إنما قبل أن نفترق قل لي: ما هي الأوامر التي أصدرتها بشأن هذا الأبله السير آرثر؟

– إني استعلمت عنه في الصباح فعلمت أن له خليلة.

– أين؟

– في وايت شابل، وأنا أقول الآن على سبيل الافتراض، إذ لم أتحقق بعد هذا الأمر، ولكن الذي علمته أنه في كل يوم بعد أن يفرغ من عمله في الأميرالية البحرية يذهب إلى تلك الناحية الهائلة، وسيقتفون أثره اليوم، فإذا لم يكونوا قد خنقوه الآن فسيخنقونه الليلة.

فقال له ستوي ببرود: حسنًا فعلت.

ثم افترقا، وذهب كل إلى منزله.

ولما وصل السير جورج إلى منزله وجد خادمه ينتظره، فدخل إلى غرفته، وبعد هنيهة ناداه وقال له: أتعرف منزل السير جمس نيفلي؟

– نعم.

– إذًا اذهب بهذه الرسالة فسلمها إليه يدًا بيد، وعد إلي بالجواب.

ثم أعطاه غلافًا مختومًا عليه عنوان السير جمس، فأخذه المسكين وسار به، وهو لا يعلم أنه يحمل بيده الحكم عليه بالموت.

وبعد انصرافه أخذ السير جورج يغير ملابسه، ولم يكد يبدأ حتى سمع جرس المنزل يقرع.

فنزل السير جورج نفسه لغياب الخادم وفتح الباب، ولكنه لم يكد يفتحه حتى تراجع منذهلًا إلى الوراء، وسقط المصباح من يده لفرط دهشته.

ذلك لأن هذا الزائر كان امرأة، وهذه المرأة كانت مس سيسيليا.

ثم مشى السير جورج معها في الحديقة، التي كان يكتنفها الظلام لسقوط مصباحه، وقد أراد أن يأخذ يدها فمنعته، وقالت له بلهجة التعنيف والتهكم: إني آتية لأتفقد السمكة الحمراء التي تقيم فيها روح أبيك.

ثم تقدمت بعزم ثابت إلى المنزل بينما كان السير جورج واقفًا، وقد تضعضع عقله كأنما الصاعقة قد انقضت عليه.

٣٤

ولبث السير جورج هنيهة على تلك الحالة من الاضطراب ناظرًا لسيسيليا، فإنها ذهبت إلى ردهة المنزل، وكان مصباح معلقًا في سقفها، فجلست على موقد تنتظر قدومه.

غير أن السير جورج قاوم نفسه مقاومة الحالم أصيب بكابوس، وسار لمقابلة الفتاة وقد عاد إليه رشده في هذه الآونة اليسيرة، حتى إنه حين وصل إليها تمكن من أن يبتسم ابتسام الرجل السعيد، وقال لها: ما أبهج هذا اللقاء أيتها الحبيبة، فإني أحسب نفسي من الحالمين.

فقالت بلهجة عنيفة: إني أتيت لأبحث معك في شأن خطير.

فأنار السير جورج مصباحًا، وسار أمامها إلى قاعة الاجتماع، فتبعته وجلست على كرسي وهو واقف أمامها، فقالت ببرود: إني كنت أحبك منذ ساعتين يا سيدي.

فاصفر وجه السير جورج، واستدلت الفتاة من اصفراره أنه يحبها، فلطفت لهجتها، وقالت: أتريد أن تقول لي أين ولدت؟

– إني ولدت في كلكوتا يا سيدتي.

– بأي دين تدين.

فاضطرب السير جورج لهذا السؤال الفجائي، وقال لها: إن أبي كان هنديًّا وأمي إنكليزية، والحق أني لم أهتم يومًا بالأمور الدينية.

– ألا تعبد الإله وشنوا؟

– إن هذا الإله يعبده عامة الهنود يا سيدتي، وما أنا منهم.

– أتؤمن بالمسيح؟

– لا أعلم.

– تريد أن تقول إنه لا دين لك؟

وكان السير جورج قد عاد إليه رشده في تلك المدة، فقال لها: إني أحبك أيتها الحبيبة حبًّا صادقًا يدعوني أن أقص عليك حقيقة أمري.

– قل إني مصغية إليك.

– لقد قلت لك إن أبي كان هنديًّا وأمي كانت إنكليزية، فكانوا يعلمونني في حداثتي مبادئ الديانات الهندية، فعبدت ما استطعت من هؤلاء الآلهة الكثيرين دون أن أفرق بين إله وآخر.

وبينما كان أبي يعلمني ديانة وشنوا كانت أمي تعلمني ديانة المسيح، فخرجت من تلك المعركة لا بوذيًّا أعرف ولا مسيحيًّا أوصف، أي إني لست على دين، على أنني لو تلقيت الآن أسرار الديانة المسيحية من كاهن لاعتنقت شاكرًا راضيًا هذا الدين.

– أتقول الحق؟

– إنك تعلمين قدر حبي لك، فلا يرضيني إلا ما يرضيك.

– ولكنك أعددت في منزلك غرفة، فبنيت فيها بركة؟

– نعم.

– ووضعت في البركة سمكة؟

– نعم.

– واعتقدت أن السمكة تضم في جسمها روح أبيك؟

فضحك السير جورج وقال: إن أرواح الناس لا تدخل في الأسماك، والحقيقة أن كل من ربي في الهند يتفاءل بسمك نهر الكنج خيرًا، وأنا قد وضعت هذه السمكة، وهي من ذلك النهر في منزلي لما دعوته من حسن التفاؤل ليس إلا.

– ولكنك تعبدها.

– ومتى كانت الأسماك من المعبودات؟

فنهضت سيسيليا وقالت: إذًا أنت تغير دينك، وتعتنق الدين المسيحي؟

– دون شك.

– وإذا رضيت أنا بزواجك، أترضى أن يعقد زواجنا في كنيسة لندرا الكاتدرائية؟

– كل الرضا.

وكان السير جورج قد تكلف هيئة تدل على ملء الحرية والبساطة، فلما رأى أن الفتاة فرغت من جميع أسئلتها، قال لها: وكيف عرفت كل ذلك؟

فارتعشت سيسيليا وقالت: أتعرف السير رالف أوندربي؟

فلم يظهر عليه شيء من آثار الاضطراب عند ذكر هذا الرجل الذي قتله عامله، وقال: كلا لا أعرفه.

– إن السير رالف طلب أن يقترن بي منذ عامين، فرفضت طلبه، وكان يعلم أنك تحبني فغار علي منك، وجعل يقتفي أثرك.

– أهو الذي أخبرك؟

– لم يخبرني أنا، بل أخبر صديقًا له فنقل إلي الحديث.

– إذًا سأدعوه اليوم إلى المبارزة، وسيكون لي معه شأن.

فنظرت سيسيليا إليه محدقة به، وقالت في نفسها: يستحيل أن يكون مخادعًا لي، ولا شك أنه لا يعرف السير رالف.

ثم أجابته قائلة: لا سبيل إلى المبارزة.

– لماذا؟

– لأن السير رالف مات في الليلة الماضية.

فأظهر السير جورج دهشة صادقة أزالت من فؤاد الفتاة كل ريب، فمدت يدها إليه، وقالت له: أتصفح عني فقد كنت فاقدة الصواب؟

– ماذا تعنين؟

– لا شيء.

فضم يديه وقال لها بلهجة المتوسل: بالله قولي لي ماذا تعنين، فقد شغلت بالي؟

– عفوًا أيها الحبيب فقد كرهتك واحتقرتك عدة ساعات.

– أنا؟

– نعم؛ لأني كنت أعتقد أنك أنت قاتل السير رالف.

فرفع السير جورج يديه وقال لها: أقسم لك بشرفي، إني بريء من دم هذا الإنسان.

– وأنا صدقتك، وسأكون امرأتك.

ثم أفلتت من يديه، وذهبت فاجتازت الحديقة، وخرجت إلى الشارع والسير جورج واقف ينظر إليها حتى توارت عن أبصاره، فتنهد تنهد المنفرج، وقال: سيرى آرثر نويل أنه لا يستطيع وشاية بعد اليوم.

وفيما هو يتوعد آرثر نويل هذا الوعيد دخل رجل مسرعًا إلى غرفته، وقال له: أيها النور، إن الإلهة كالي قد خدعت وأهينت؛ لأن جيبسي النورية لها عشيق.

٣٥

ولنذكر الآن شيئًا عن آرثر نويل الذي يتوعده السير جورج بالقتل، فقد كان هذا الرجل من نبلاء الإنكليز، وهو شاب لا يتجاوز الخامسة والعشرين من سنيه، جميل الوجه، وافر الأدب، فتنت به كثيرات من فتيات قومه، غير أنه كان يأبى الزواج كل الإباء.

وكان الناس على اختلاف بسبب نفوره من الزواج، فيرى بعضهم أنه قد يئس بعد أن أبت مس سيسيليا الاقتران به، ويرى آخرون أنه كان يمتنع عن الزواج؛ لأن ثروته لا تناسب مقام أسرته، إنه ينتظر أن يرث إرثًا كبيرًا أو تهبط إليه ثروة من السماء، يقول بعضهم — وهم قلائل: إن السير آرثر يحب حبًّا سريًّا.

وما دعاهم إلى هذه الأقوال غير ما رأوه من تغير أخلاق هذا الرجل، واختلاف عاداته مع أصحابه منذ عامين، فقد كان كثير التردد على منتدياتهم، ثم انقطع عنهم فجأة، فلا يرونه فيها إلا في القليل النادر.

وكانت عادته الجديدة أنه يخرج في الساعة السادسة كل يوم من دار الأميرالية التي كان موظفًا بها، فلا يرونه إلا في ظهر اليوم التالي.

وكان مقيمًا في منزل بديع في شارع بيكانيلي، لكن الذين دفعهم الفضول إلى اكتشاف أسراره بعد أن تغيرت أخلاقه، كانوا يراقبون منزله فيجدونه مقفلًا على الدوام، ولا أثر للنور فيه.

وذلك أن السير آرثر لم يكن يقيم في هذا المنزل إلا ظاهرًا، فكان يخرج من مكتبه في الساعة السادسة من مساء كل يوم إلى شاطئ التايمز، فيمشي في شارع يكثر فيه تردد الناس، ويلتفت في كل حين يمنة ويسرة كأنه يخشى أن يتبعه أحد، ويلبث سائرًا حتى يقف عند منزل صغير مؤلف من دور واحد.

ويحمل في جيبه مفتاحًا يفتح به باب المنزل ويدخل، ولكنه لا يكاد يدخل حتى تسرع إلى استقباله امرأة كهلة فتأخذ ثوبه وعصاته فتضعهما في موضعهما، وتعود إلى المطبخ.

وكانت هذه المرأة تدعوه المسيو فيليام؛ لأنه كان يبالغ في التنكر، فلا يريد أن يعرف باسمه الصحيح، ولا أن تعرف تلك المرأة وجيرانها أنه من الأشراف، ولولا ذلك لكانت دعته السير فيليام.

وكان يظهر من حديثه معها أنه هو صاحب المنزل، وأنها تخدمه فيه، فإذا وصل ذهب توًّا إلى قاعة الطعام فيجد المائدة مهيأة فيأكل ويدخل إلى غرفة الكتابة، وهناك منضدة تكدست فوقها الكتب والأوراق، فينعكف على المطالعة، ولكن جسمه كان يرتعش لأقل حركة يسمعها، فيدنو من النافذة وهي لا تعلو أكثر من مترين عن الأرض، ويصغي إصغاءً تامًّا، ثم يعود إلى شأنه الأول.

ويلبث على هذه الحال إلى منتصف الليل، فيسمع قرعًا على النافذة المغلقة، فيختلج ويسرع إلى المصباح فيطفئه، ثم يفتح النافذة بيد تضطرب، فيشعر بجسم لطيف قد انسل من النافذة، ويحس بمعصمين ناعمتين طوقا عنقه، وشفتين رقيقتين قبلتا شفتيه، ويسمع كلمات حنونة تسحر عقله وتجذب فؤاده.

ويلبث العاشقان أحيانًا إلى مطلع الفجر، فتفارقه وتذهب كما أتت، وهي تقول: إلى اللقاء غدًا …

وكان السير آرثر يعيش هذه العيشة منذ عامين، تزوره تلك الفاتنة كل ليلة إلا ما ندر دون أن تدري الخادم العجوز بشيء من أمره، وهي تحسبه من أهل الكمال.

وكان يتفق له بعض الأحيان أنه يتأخر في النادي، فتنتظره العجوز إلى الساعة العاشرة، ثم تنام فيأتي السير آرثر دون أن تراه أو تشعر بقدومه.

ففي المساء السابق لذلك اليوم الذي قدم فيه إلى مس سيسيليا، وأخبرها بما علمناه من السير جورج ستوي تعشى في النادي خلافًا لعادته، فالتقى بالسير رالف، وهناك أخبره وأخبر السير نيفلي بما عرفه القراء.

وكانت تلك الليلة محصية الحوادث، فقد حدثت فيها مصارعة الكلبين، واقتفاء روكامبول ونويل أثر السير جورج إلى وينغ.

وفي تلك الليلة قصت الإرلندية في خمارة الملك جورج حكايات أزواج جيبسي الستة، وخطب روكامبول تلك الفتاة، وذهب بها إلى منزلها.

وفي تلك الليلة نفسها عاد السير آرثر إلى التسمي باسم المستر فيليام، وأقام ينتظر في منزله بفارغ الصبر قدوم العشيقة، ولكن العشيقة لم تحضر.

وقد انتصف الليل ومضت الساعة الأولى والثانية ثم الثالثة بعد انتصاف الليل، ولم يسمع نقيرها على النافذة، فكان عرضة للاضطراب والقلق الشديد من اضطرابه إلى أن فرج الله كربته، وسمع الصوت فأطفأ المصباح، وقام إلى النافذة وهو يرتجف، ففتحها ودخل منها غلام لابس ملابس البحارة، وقبعة كبيرة من القش بحيث لا يسع من يراه لأول وهلة إلا أن يحكم بأنه من البحارة.

ولكنه لم ينزع تلك القبعة حتى انسدل من تحتها شعر جيبسي على كتفيها؛ لأن هذه العاشقة المتنكرة لم تكن سوى جيبسي النورية.

٣٦

ولنذكر الآن كيف تعارف الاثنان وتعاشقا، فإن هذا الحب بينهما متصل منذ عامين.

وتفصيل ذلك أن السير آرثر حين أبت ابنة خاله مس سيسيليا أن تتزوجه حزن حزنًا شديدًا، وقد محق هذا الرفض قلبه؛ لأنه كان يحبها حبًّا صادقًا، وخشي أن يتهمه الناس بأنه إنما أراد أن يتزوجها طمعًا بمالها.

وكبر عليه الأمر، وأشار عليه أصدقاؤه بالسفر ترويحًا للنفس، والتماسًا للسلوى، فنال إجازة من الأميرالية وسافر إلى فرنسا.

غير أن هذه السياحة لم تشفه من وله غرامه، بل زادت من شدة دائه، وعاد إلى لندرا واليأس ملء قلبه، فإن داء الحب لا يدفعه غير الحب، ولبث على هذا الهيام إلى أن نفذت إلى قلبه أشعة حب جديد بالصدفة والاتفاق.

والحكاية أنه ذهب يومًا من الأميرالية قبل غروب الشمس، وجعل يطوف هائمًا في شوارع لندرا المقفرة إلى أن انتبه لنفسه، فوجد أنه واقف عند باب مقبرة في ناحية وايت شابل.

وكانت أبواب تلك المقبرة مفتوحة، وليس فيها شيء يدل على العظمة؛ لأنها كانت خاصة بطائفة الفقراء، إذ لم يكن فيها ضريح كبير، أو عمود من الرخام كتب فوقه اسم الميت بحروف ذهبية، بل كان يوجد فيها صلبان من الخشب الأسود عليها كتابة محت الأمطار نصفها، وفي الجملة فإن جميع مظاهرها كان يدل على أنه لا يدفن فيها غير الفقراء.

ودخل السير آرثر إلى المقبرة، وجعل يمشي فيها دون قصد إلى حيث يدفعه فكره المضطرب ونفسه القانطة.

وكان يظهر له أن المقبرة منفردة ليس فيها أحد من الناس، غير أنه نظر شبحًا أسود في إحدى زواياها، وتحقق أنه شبح امرأة راكعة فوق قبر، واقترب منها.

ولما أحست المرأة وهي بملابس السواد بقرب الرجل منها نهضت منذعرة، ووقف السير آرثر باهتًا منذهلًا؛ لأنه رأى المرأة، بل تلك الفتاة، تذرف الدمع السخين، وهي لا تتجاوز السابعة عشرة من عمرها.

ولكن هذه الفتاة كانت تشبه بدموعها ذلك الوادي المنفرش بخضرة الربيع، تسقط عليه الأمطار ساعة، ثم تسطع الشمس فوقه، ويبتسم لدموع الغيث التي تستحيل إلى لؤلؤ.

ولما نظرها السير آرثر جزم أن مس سيسيليا التي كانت ملء قلبه تعد قبيحة بالقياس إلى هذه الفتاة الحسناء.

أما تلك الفتاة فقد صاحت صيحة رعب حين رأته، وحاولت في البدء أن تهرب مما أصابها من الخوف، لكنها عادت إلى صوابها، وقالت للسير آرثر بلهجة اضطراب شديد: ألعلك تعرفني يا سيدي؟

أجابها: هذه المرة الأولى التي تشرفت فيها بلقائك يا سيدتي.

وكأنما ظواهر النبل المرتسمة على محيا السير آرثر قد سكنت من روع الصبية، وحملتها على الثقة به، وأخذت يده بيدها، وقالت له بلهجة المتوسل: أترفض ملتمسي يا سيدي إذا عرضت عليك التماسي؟

قال لها بلسان يتلعثم: قولي يا سيدتي.

– أتعدني يا سيدي أنك إذا لقيتني بعد الآن، وإذا ذكروا لك اسمي أن لا تقول أمام أحد أنك شاهدتني في هذا المكان.

– إني أقسم لك على الكتمان.

فشكرته، ومضت مسرعة في سبيلها.

أما هو فبقي واقفًا قرب ذلك الضريح الذي لم يكن فوقه صليب، ولا أثر من آثار الكتابة، وجعل ينظر إلى تلك الفتاة تبتعد عنه، ويشعر بارتعاش كأنما أوحي إليه أن هذه الفتاة سيكون لها شأن عظيم في مقتبل حياته.

وبعد أن احتجبت عن أنظاره خرج من المقبرة، وهام بقية الليل في تلك الشوارع المجاورة للمقبرة، ولم يجد أثرًا للصبية.

وفي اليوم التالي كان السير آرثر مجهم الوجه، منقبض الصدر، وقد شعر أنه أصيب بداءين وتنازع قلبه غرامان لا يعلم إلى أيهما يخضع.

وفي اليوم الثالث عاد إلى المقبرة في الساعة نفسها التي لقي فيها الفتاة ولم يجدها، وعاد في اليوم الذي تلاه، وفي الأيام التابعة ولم يرها.

وجعل يتردد كل يوم إلى أن رأى ذات يوم آثار أقدام صغيرة عند باب المقبرة؛ ففرح كثيرًا لاستدلاله من خطواتها على حضورها، ولكنه لم يرها.

وذهب إلى الحفار وهو يقيم في غرفة عند مدخل الباب الكبير، فأعطاه جنيهًا، وسأله أن يخبره عن صاحب القبر الذي رأى الفتاة راكعة عليه.

وحكى له الحفار هذه الحكاية الغريبة، وهي أن هذه الفتاة جاءت منذ ستة أشهر إلى كاهن هذا الشارع، وهو رجل عجوز من أهل الصلاح، وخلت معه ساعة، ثم خرجت وإياه، وناداني الكاهن وأمرني أن أسير معه، فركبنا مركبة مقفلة، وسرنا بها إلى خارج لندرا.

وما زلنا نسير من قفر إلى قفر حتى انتهينا إلى مقبرة النور، وهي خاوية خالية لا ناس فيها ولا حراس، وأوقفت الفتاة المركبة، وذهبت بي وبالكاهن إلى قبر يظهر من ترابه أنه حديث الحفر، وقالت للكاهن: هذا هو القبر.

وأمرني الكاهن أن أنبشه، فامتثلت وأخرجت منه تابوتًا لا أعلم إذا كان دفن فيه جثة رجل أو امرأة، ثم ساعدني الكاهن ونقلنا التابوت إلى المركبة، وجئنا به إلى هذه المقبرة، ودفناه في هذا القبر الذي رأيت الصبية راكعة عليه.

ويظهر أن هذه الفتاة شديدة الفقر، حتى إنها لم تستطع أن تضع صليبًا فوق الضريح، غير أن الكاهن بارك التابوت، وصلى على من فيه، وهو الآن في أرض مقدسة.

أما هذه الفتاة فإنها تزور الضريح مرة في الأسبوع، وتبكي البكاء الشديد، ولكنها لا تأتي في يوم معين وساعة محدودة؛ لأنها تخشى المراقبة.

ونفح السير آرثر هذا الحفار بجنيهين وانصرف.

وفي اليوم التالي عاد إلى المقبرة، ووضع صليبًا فوق القبر، وعلق عليه إكليلًا من الزهر.

ثم جعل يتردد على المقبرة كل مساء دون أن يراها إلى أن جاء يومًا ورأى إكليلًا موضوعًا بإزاء إكليله ففرح فرحًا عظيمًا، وعلم أن الصبية قد وضعته.

وبينما هو خارج في ذلك اليوم من المقبرة التقى بالفتاة داخلة إليه، وصاح كلاهما صيحة واحدة، ودنت منه الفتاة وقالت: ألست أنت الذي وضعت الصليب والإكليل؟

واعترف السير آرثر بصوت يتهدج من الاضطراب، وشكرته الفتاة، وذهب كلاهما إلى القبر وركعت فوقه وركع السير آرثر مقتديًا بها، وجعلت تصلي بلغة غير مفهومة.

ولما فرغت من صلاتها نهضت ونظرت منذعرة إلى السير آرثر وقالت: رباه ماذا أفعل إذا وجدنا في هذا المكان؟

وقال لها: انظري ألا تعلمين أنه لا يوجد سوانا؟

وكانت المقبرة صغيرة، فأجالت نظرها في أطرافها، ولم تجد أحدًا، وقالت بلهجة الرعب: إنهم لو رأونا هنا …

فانذهل وقاطعها قائلًا: ماذا علينا، ألا يحق للمرء أن يبكي على من يحبه؟

– ليس كل حين يا سيدي.

ثم ودعته شاكرة، وانصرفت مسرعة.

غير أن السير آرثر تبعها هذه المرة وخرج في أثرها.

٣٧

وجعلت الفتاة تسير بخطوات سريعة دون أن تلتفت إلى ما وراءها.

وكان الليل قد أرخى سدوله، ولكن الشوارع كانت لا تزال مقفرة في تلك الساعة لعدم انصراف العمال من معاملهم، ولم تكن المصابيح قد أنيرت بعد، فكان يصعب تمييز الناس.

وكانت الفتاة لابسة رداءً أبيض، وعلى كتفها شال من الصوف، فوضعته على رأسها كي لا يراها أحد.

إلا أن السير آرثر كان يجد السير بغية اللحاق بها، وإذا اختلطت بين الناس عرفها من ثوبها الأبيض.

ولكنها كانت تريد أن لا يهتدي إلى مكانها، وجعلت تسير من زقاق إلى زقاق وهي تحاول الاختفاء عنه، ولم تجد إلى ذلك سبيلًا إلى أن أدركها في زقاق، ولم يكن فيه أحد من المارة وناداها.

فالتفتت الفتاة عند ذلك، وقالت له بلهجة المؤنب: أرجوك أن لا تتبعني يا سيدي، لقد أسأت إلي بعد ذلك الإحسان.

غير أن لهجة تأنيبها كانت عذبة لطيفة، وكانت نظراتها تدل على الرضا.

فقال لها: أتعدين يا سيدتي من الذنوب أن أتبعك وأنت على ما رأيتك به من الكآبة لا سيما وقد علمت بعض أمرك من الحفار؟

فاضطربت لهذا القول اضطرابًا شديدًا، وقالت: رباه لقد خفت.

– وممَّ تخافين يا سيدتي؟ تأبطي ذراعي لأني من الأشراف، ومتى كنت معي فلا خوف عليك.

ونظرت إليه الفتاة محدقة، فرأت الإخلاص يجول بين عينيه، ثم رأت علائم الحب الصادق بادية بين ثناياه، فسرت إلى فؤادها تلك العاطفة السريعة التي تضيء أشعتها نفسين كما تضيء أشعة الكهرباء، فتجمع بينهما جامعة الإخاء، وقالت: لقد صدقت يا سيدي، وركنت إليك.

ثم تأبطت ذراعه، وقالت له وهي ترتجف: إنك كلمتني عن الحفار؟

– نعم فإني أعترف لك بما جنيت، وألتمس منك الغفران.

– ألعله أخبرك بكل شيء؟

– إنه أخبرني بما يعلمه على الأقل.

– إذن لنذهب إلى شاطئ التاميز؛ إذ لا نجد هناك من يعرفني، فإني معرضة لخطر شديد، إلا أني رأيت بين عينيك النبل وصدق الطوية، فأحببت بأن أخبرك بكل شيء، إني وحيدة في هذا الوجود، وقد لقيتني جاثية على ضريح آخر من أحبتهم نفسي.

وكانت تحادثه وصوتها يضطرب حتى وصلا إلى شاطئ النهر.

لم يكن هناك أحد تخشى أن يعرفها، فاستأنفت حديثها وقالت: إن هذا الميت الذي أبكيه هو الرجل الذي رباني، وقد كان مثلي يتظاهر أنه يدين بدين النور، لكنه كان مثلي أيضًا يعتنق الديانة المسيحية بالسر.

ولما ذهبت في الليل إلى ذلك الكاهن، واعترفت له بحكاية هذا الرجل الذي كان يدعى فارو، فأخرجناه من مقبرة النور ودفناه في أرض مقدسة.

على أن قبيلة النور إذا عرفت هذا السر تقضي علي القضاء المبرم، وتعاملني دون إشفاق.

– لقد فهمت ما تريدين، وقد عاهدتك على الكتمان، فلا أبوح بسرك ما دمت حيًّا.

– أشكرك يا سيدي، والآن أرجو أن تنساني، فإننا ما خلقنا لنتفق.

فاصفر وجهه عند سماعه هذا القول، وشعرت الفتاة أنه أوشك أن يسقط لارتعاشه، ثم سمعته يقول لها: أواه لو تعلمين حبي لك.

وكأن الفتاة قد حنت عليه، أو أصيبت بما أصابه، فقالت له: إذن سنلتقي هنا بعد ثلاثة أيام في مثل هذه الساعة.

ثم تركته فجأة، وانصرفت في سبيلها.

أما السير آرثر فإنه عاد إلى منزله، وقد امَّحت مس سيسيليا من فؤاده، وحلت تلك الفتاة محلها فيه، وشعر أنه يحب تلك الفتاة المجهولة التي رآها أول مرة تبكي فوق ضريح حبًّا أنساه كل حب.

ومرت الأيام الثلاثة به كانت كالأجيال إلى أن حانت الساعة المعينة للموعد، فأتت الفتاة وجاء السير آرثر.

وكانت السماء تمطر إلا أن الأمطار لا تحول دون اجتماع العشاق.

ووضع يده بيدها، وجعل يقبل تلك اليد الناعمة، فتدعه يفعل ولا تجذب يدها.

ولكنها نظرت إليه نظرة ملؤها الشغف، وقالت له: إني لا أعرف اسمك إلى الآن، ومع ذلك إني أثق بك كما يثق المؤمن بالله؛ إذ لم يعد في الوجود من يحبني، وأنا لم أحب أحدًا على أني كنت أعد الدقائق منذ ٣ أيام وأنا لا أعرف منك حتى اسمك.

فتأثر السير آرثر لكلامها، وقال لها: أتريدين أن أكون لك زوجًا؟

ولكن كلامه أثر عليها تأثيرًا شديدًا لم يكن ينتظره، فإنها قالت له وقد ظهرت عليها ملامح الرعب الشديد: كلا، إن ذلك لا يكون.

ثم جعلت ترتعش، وحاولت أن تفر منه.

فانذهل ومنعها من الفرار، وهو يقول: بماذا أسأت إليك، ولماذا هذا الاضطراب؟

– لأنك إذا تزوجتني يحكم عليك بالموت، وربما حكم علي به أيضًا.

– ماذا تريدين بهذا القول، فإني لا أفهم شيئًا.

– إذن أصغ إلي، إنك تحبني وأنا أحبك أيضًا، وقد رفع الموت رايته الخفية علينا منذ الآن … على أن الوقت لا يزال فسيحًا لدينا، فاهرب مني، ولنجتهد بنسيان ما مضى.

– وإذا لقيت أنا هذا الموت الخفي غير هياب أتقتدين بي وتخاطرين مثلي؟

فطوقت عنقه بذراعيها، وقالت: نعم نعم، إني أحبك، ولكني أخاف عليك.

– لا تخشي أيتها الحبيبة، فإن للعشاق إلهًا يرعاهم.

وفي اليوم التالي عادا إلى الاجتماع في نفس المكان، فقالت له: اعلم أيها الحبيب أني لا أستطيع أن أندفع لتيار هواك إلا بشرط واحد.

– ما هو هذا الشرط؟

– هو أن لا تحاول أن تعلم شيئًا من ذلك السر الرهيب الذي يمنعني عن الزواج بك، ويجعلنا معرضين لخطر الموت.

– أقسم لك أجل قسم على الامتثال.

– وأنا أتسمى باسم حنة، وهو غير اسمي، فعدني أن لا تبحث عن اسمي الحقيقي، ولا تحاول كشف أسرار حياتي.

– أعدك وعد شريف لا يحنث بيمينه.

عدني أيضًا أنك لا تعود إلى تلك المقبرة التي لقيتني فيها، وأنك لا تذهب إلى ناحيتي ويت شابل ووينغ.

– إذن أين أراك؟

– أين تقيم؟

– في شارع بيكاديللي.

– إنه شارع يكثر فيه مرور الناس، فلا يسعني الذهاب إليك فيه، فابحث عن منزل صغير في شارع مقفر، ثم استأجره باسم غير اسمك الحقيقي فيكون محل اجتماعنا.

– أتزورينني فيه كل يوم؟

– كلما استطعت للزيارة سبيلًا.

•••

في هذا المنزل الذي رأينا السير آرثر فيه متنكرًا باسم ويليم، كانت جيبسي تجتمع بحبيبها كل ليلة منذ عامين.

وكان السير آرثر من الأشراف، فوفى بجميع تعهداته، ولم يحاول أن يكشف شيئًا من أسرار النورية، لكنه كان يثق بها ثقة لا حد لها، فلو قالت له إني ملاك هبطت إليك من السماء لصدق ما تقول.

هذه هي أسرار هذا الرجل الذي كانت تأتيه جيبسي متنكرة بملابس بحار، وقد أقام معها عامين لم يعرف من أمرها غير أنه يهواها، ولا يعرف سواهما أسرار هذا الحب.

٣٨

وفي الليلة التي نقص حوادثها كان السير آرثر يعانق جيبسي، ويقول لها: لقد كاد يفرغ صبري لطول الانتظار، فأين كنت وما هذا الغياب؟

– آه لو كنت تعلم …

– ماذا حدث؟

– أظن أن الخطر الذي يتهددنا أوشك أن يزول.

– كيف ذلك؟

– سأخبرك بكل شيء حين تنقضي أسباب الخوف كلها، وأكتفي بأن أقول لك الآن إنه يوجد عصابة في لندرا أقسمت على قتلي إذا أحببت رجلًا، وعلى قتل الرجل الذي يحبني.

– وبعد ذلك؟

– وجدت حاميًا يقيني ويقيك شر هذه العصابة.

وكأنما قد مست كبرياؤه، فقال بلهجة المنكر: ما هذا القول وأين أنا، ألا أستطيع أن أحميك؟

– كلا …

وقد لفظت جيبسي هذه الكلمة بلهجة الواثق المعتقد كل الاعتقاد فيما يقول.

فأطرق السير آرثر برأسه وقال: لقد صدقتك.

أجابت: وغدًا، إذا أتيت إليك، فإني أحضر متأخرة كما حضرت هذه الليلة.

وكان السير آرثر قد تعود أن لا يعترضها في شيء، ولا يسألها عن أمر، ولكن عقرب الغيرة لسعته عند هذا الكلام، فقال لها: أتعلمين يا حنة أنه يمر ساعات أحسب نفسي في خلالها من المجانين؟

– كيف ذلك ولماذا؟

– لأني صرت أغار عليك.

فضحكت جيبسي ضحكًا عاليًا دلت به على السلامة والصدق، ثم طوقت عنقه بذراعيها، وقالت له: لقد قلت الحق فإنك من المجانين لا محالة، ولكني لو أقسمت لك بهذا القبر الذي رأيتني أبكي عليه، أول مرة رأيتني فيها، إن شفتي لم يقبلهما رجل سواك منذ خلقت إلى الآن، أتصدق بهذه اليمين؟

– لا أحتاج إلى اليمين؛ لأني صدقتك دونها.

– ومع ذلك إني أقسم لك بهذا القبر إن قلبي لم يمتلكه سواك.

فركع السير آرثر أمامها وقال لها: أيها الملاك الهابط من السماء، أتتزوجين بي زيجة طاهرة أمام الله والناس إذا زالت هذه الأخطار السرية التي تتهددنا؟

فلم تصح الفتاة صيحة سرور حين سماعها كلامه، ولم تبرق عيناها بشعاع من أشعة الفرح، بل ظهرت على وجهها ملامح الحزن العميق، وقالت: كلا إني غير جديرة بك، وإنك لا تعلم من أنا.

– وماذا يهمني أن أعرفك إذا كنت أحبك؟

– أصغ إلي أيها الحبيب، إني عشت كما تعيش الفراشة بين الحشرات الكريهة، وأنفقت زمن حداثتي نقية كالسماء الخالية من الغيوم بين قوم أسافل، فكنت كأشعة الشمس المشرقة فوق الوحول.

فإذا دعيت يومًا بلقب اللادي أخشى أن يراني أحد من أولئك القوم فيشير بإصبعه ويقول: هذه فلانة.

– إذن من أنت؟

– أنا امرأة لم تحب سواك، ألا ترى أننا سعيدان بهذا الحب؟

– لقد أصبت.

ثم أطرق برأسه، وسقطت دمعة على خده، فمسحتها جيبسي بقبلة وقالت: ربما عرفت سر حياتي يومًا من الأيام.

فنظر إليها دون أن يجيب.

وظهرت علائم التردد على الفتاة هنيهة، ثم قالت: ولكني مع ذلك لست من زمرة أولئك الناس الذي أعيش بينهم، فانظر يدي وانظر إلي.

فنظر إليها بإعجاب، وقال: إنك تشبهين بنات الملوك.

– إن أمي لم تلبس التاج، بل كانت من النبيلات.

– أمك أنت؟

– نعم، وقد ماتت الآن وكنت السبب في موتها.

ثم نهضت مسرعة كأنها خافت أن تتسع في البحث، وتبوح بما لا تريد أن تبوح به، فودعته وقالت: إلى الغد.

فلم يمنعها السير آرثر عن الرحيل، وجعل يشيعها بالنظر وهو مفكر حائر مبهوت.

وفي اليوم التالي عاد السير آرثر إلى ذلك المنزل حسب عادته، ودخل إلى غرفة القراءة، فجعل يقرأ ويكتب إلى الساعة العاشرة.

وفي تلك الساعة دخلت الخادمة إلى غرفته تقدم له الشاي، فوضعته على المائدة، وبدلًا من أن ترجع حسب عادتها لبثت واقفة وعليها مظاهر التردد كأنها تريد أن تقول للسير آرثر شيئًا لا تجسر على قوله.

فأنكر السير وقوفها وترددها، وقال لها: ما بالك؟

فكلمته العجوز بألقاب التعظيم على غير عادتها، وقالت له: إنهم سألوا عنك اليوم.

فأجفل وقال: سألوا عني أنا؟

– نعم يا سيدي، وقد ذكروا لك اسمًا غير اسمك الذي أعرفه.

– ماذا تعنين بذلك؟

– إن اثنين من الشرفاء قدما إلى منزلك في الساعة الرابعة بعد ظهر اليوم، وقالا لي: هل السير آرثر نويل في المنزل؟

فقلت لهم: لا يوجد في هذا المنزل رجل يدعى بهذا الاسم، وإن الذي يقيم فيه ليس له شيء من الألقاب، وهو موظف في أحد البيوت المالية يدعى المستر وليم.

فضحك الاثنان ضحكًا عاليًا، وقال أحدهما: لسنا نحن المنخدعين، بل أنت المنخدعة.

ثم وصفا لي أوصافك، فكانت منطبقة عليك كل الانطباق.

فاصفر وجه السير آرثر وقال: أتمي حديثك.

فقالت العجوز: إني لم أجادلهما فيما قالا، ولكني قلت لهما إنك لم تعد بعد فانصرفا.

– ألم يقولا شيئًا حين انصرافهما؟

– نعم قالا إنهما سيعودان في الغد.

فصرفها، وبعد أن مضت العجوز خلا في غرفته، وجعلت الأفكار تتنازعه، فخطر له في بدء الأمر أن أعداء جيبسي قد عرفوا منزله، واطلعوا على سره، فوجف قلبه وخاف على حبيبته خوفًا شديدًا.

ثم خطر له أن ذلك قد يكون من صنع أصدقائه الذين أشكل عليهم أمر انقطاعه عنهم، فجعلوا يتبعونه خفية حتى علموا موضعه.

وقد تكدر حين خطر له هذا الخاطر؛ لأنه سيضطر في كل حال إلى تغيير المنزل، والتنكر باسم آخر حذرًا من أن يراقبوه، فيعلموا سر غرامه.

وقد مضى قسم كبير من الليل وهو عرضة لعوامل الاضطراب.

ومما زاد في انقباض نفسه أنه سمع الساعة الثالثة تدق دون أن تحضر جيبسي، ولكنها كانت أخبرته في الليلة السابقة أنها ستتأخر في الغد.

وفيما هو يفكر في أمره تفكير المهموم إذ سمع القرع على النافذة، فطار فؤاده سرورًا، وأسرع إلى المصباح فأطفأه، ثم بادر إلى النافذة ففتحها بيد تضطرب وهو يقول: لقد أتيت أخيرًا فأهلًا بك.

وفيما هو يفتح ذراعيه ليضمها، وقد رأى أنها دخلت إلى الغرفة شعر بيدين قويتين كأنهما من الحديد قد ضغطتا على عنقه، ثم شعر بيد أخرى ألقته على الأرض، فكبلت يداه ورجلاه وسد فمه قبل أن يتمكن من الاستغاثة.

وبعد ذلك سمع صوت رجل يقول له بلهجة الهازئ المتهكم: إنك تجاسرت على حب جيبسي النورية، وسترى إلى أين يقودك هذا الحب بل هذا الجنون.

٣٩

ولنعد الآن إلى روكامبول، فقد غادرناه مع السير جورج، وقد ملأ فؤاده ذعرًا حينما رأى صدره وما عليه من الوشوم الدالة على أنه من عباد الإله سيوا.

وكان الشهود حكموا بانتهاء المبارزة بعد جرح السير جورج، ورضي الفريقان بحكمهم، فافترقا وذهب السير جورج مع شاهديه بمركبة نويل إلى لندرا، وسار روكامبول إليها مع شاهديه بالسكة الحديدية.

وكان روكامبول قد ترك فاندا بحراسة ميلون، وترك كيرشي بحراسة فاندا، ولما وصل إلى المنزل وجده بظواهره العادية، فإن نوافذه كانت لا تزال مقفلة؛ لأن الساعة لم تكن تجاوزت التاسعة ونصف، ولا تفتح النوافذ قبل هذا الوقت في تلك العاصمة التي جعل ليلها نهارًا.

فأخرج روكامبول مفتاحه من جيبه ففتح الباب ودخل، وصعد إلى الدور الأعلى، فدهش حين رأى باب غرفة فاندا مفتوحًا على غير عادة.

وناداها فلم تجب، ونادى ميلون وكان لا يزال نائمًا، فصحا من رقاده منذعرًا، وأسرع إلى تلبية رئيسه وهو لا يزال بملابس النوم.

غير أن روكامبول كان قد دخل إلى غرفة فاندا، فما أصاب نظره داخلها حتى صاح صيحة هائلة، ذلك أنه رأى فاندا ساقطة عن الكرسي الذي كانت نائمة عليه.

وكان روكامبول قد ناداها ثلاث مرات فلم تجب.

فوقف وقد جمد الدم في عروقه، وانصب العرق البارد من جبينه، ولم يجسر على الدنو منها ولمسها إذ كان يظهر له أنها ميتة.

ثم التفت لسماعه صوت ميلون الذي أسرع إليه وهو يقول: ماذا تريد يا حضرة الرئيس؟

غير أن ميلون ما لبث أن رأى روكامبول على ما كان فيه من الاصفرار والاضطراب، حتى سكت ووقف في مكانه لا يجسر أن يخطو خطوة واحدة.

أما روكامبول فإنه ما لبث عشر ثوان، مرت كالأجيال، ثم صاح صيحة أخرى؛ وذلك لأنه رأى صدر فاندا يهبط ويرتفع بنفس هادئ منتظم.

فدنا منها ووضع يده على قلبها، فوجده ينبض، فناداها فلم تجب.

وعند ذلك أمسكها وهزها بعنف بغية إيقاظها، فسمع فحيح الأفعى، ثم رأى ذلك الثعبان قد انسل من صدرها إلى الأرض، فداسه روكامبول بقدمه وسحقه وهو يقول: لقد علمت الآن كل شيء.

ثم أزاح الكرسي ودخل إلى غرفة كيرشي فوجدها خاوية خالية، وعاد إلى سكينته التي لا تفارقه إلا في الأخطار، وقال: لا يجب أن أبحث عن السر؛ لأني أردت أن أخيف السير جورج، فطمأنت كيرشي، والغلط غلطي، فلا ينبغي أن يؤاخذ به أحد.

وكان ميلون واقفًا أمام فاندا وقد وقف شعره من الخوف عليها، ولكنه لم يجسر أن يسأل عنها، فقال له روكامبول: اذهب أيها الأبله إلى قاعة الطعام، وائتني منها بصندوق العقاقير.

فامتثل ميلون ونزع روكامبول قميص فاندا، فوجد فوق ثديها الأيسر أثر لسع الأفعى، فضغط اللحم الملسوع ضغطًا شديدًا بأصبعه؛ فخرجت نقطة سوداء من الدم لا يزيد حجمها عن رأس الدبوس.

فاطمأن روكامبول، وقال: إن الأفاعي الصفراء لا تقتل لحسن الحظ، ولكن كيرشي سيدفع غاليًا ثمن هذه الخيانة.

وعند ذلك عاد إليه ميلون بصندوق الأدوية، فاختار زجاجة ووضع منها بضع نقط في فم فاندا، فما وصلت إلى جوفها حتى فتحت عينيها، ونظرت إلى روكامبول نظرة المنذهل وقالت: أين أنا، وماذا حدث؟

– لا شيء سوى أن كيرشي قد عبث بك وبميلون.

فأجفلت فاندا وقالت: أهرب كيرشي؟

ففتح روكامبول الباب وقال: انظري ألا تجدين غرفته خالية؟

فصاحت فاندا صيحة منكرة وقالت: تبًّا لي من شقية.

– ليس الخطأ منك بل مني، والآن فلندع هذا البحث ولنصلح الخطأ.

فقال ميلون: ماذا ينبغي أن أعمل؟

– يجب أن تجمع كل أعضاء العصابة.

– متى؟

– اليوم لأني محتاج إليهم في المساء.

– سأجمعهم، ولكن أين يكون الملتقى؟

– في خمارة الملك جورج.

– في أي ساعة؟

– في الساعة الثامنة من المساء، فاذهب في الحال؛ لأن الوقت غير فسيح.

ولبس ميلون ثيابه، وانطلق مسرعًا إلى حيث أمره الرئيس.

ولما خلا روكامبول بفاندا قال لها: إني سأمثل الليلة أول رواية مع الخناقين، وقد كنت أيقنت من الفوز النهائي قبل فرار كيرشي، أما الآن فقد تجدد كل شيء.

– ألا تحتاج إلي في هذا المساء؟

– كلا وربما احتجت إليك غدًا، فأودعتك امرأتي.

فقالت له وقد اصفر وجهها: امرأتك؟

فابتسم روكامبول وقال: اطمئني لأني سأتزوج حسب طريقة النور.

– ولكن لم أفهم شيئًا بعد.

– إذًا اعلمي أنه ليست ناديا ابنة الجنرال هي وحدها ضحية الإلهة كالي، لقد وجدت فتاة أخرى من أحسن الأسرات جعلت ضحية لتلك الإلهة، وخبأها أهلها بين النور.

ثم حكى لها جميع ما يعلمه من حكاية جيبسي.

ولما أتم حكايته قالت له فاندا: ألا ترى أنك معرض لأخطار هائلة؟

– ربما.

– وهذه النورية، أبلغ من عنايتك بها أن تخاطر بنفسك إلى هذا الحد بغية إنقاذها؟

– يجب أن أبدأ بالعراك مع الخناقين.

ثم سكت سكوتًا قصيرًا كانت فاندا تنظر إليه في خلاله نظرات الإعجاب، وقال: أتحسبين أني رضيت بالعودة إلى الحياة، أنا الذي لا أطمع إلا بالراحة الأبدية؛ كي أعيش عيشة المتنعمين؟

فتنهدت فاندا وقالت: هو الحق ما تقول.

أما روكامبول فإنه أطرق برأسه إلى الأرض، وسقطت دمعة من عينه على يد فاندا، فارتعشت وقالت له بصوت يتهدج: ألا تزال تشكو ذلك الغرام القديم؟

ولما سمع روكامبول قولها برقت عيناه ورفع رأسه وقال: إن الحزن يطهر النفوس من الآثام.

فلم تجبه فاندا بحرف، ولكنها قالت بصوت منخفض كأنها تناجي نفسها: رباه، لماذا لقي مدلين وأحبها ذلك الحب الذي لا رجاء فيه؟

٤٠

في الساعة الثامنة من الليلة نفسها كانت خمارة الملك جورج غاصة بالناس كما يتفق في أيام الأعياد من خباز ونجار ومتشرد وبحار إلى غيرهم من زبائن تلك الخمارة الذين عرفوا أمس ما حدث لزوج جيبسي السادس مما قصته عليهم المرأة الإرلندية.

فجعل الحاضرون يتساءلون ويقولون: أيصيب هذا الزوج السابع ما أصاب الأزواج الستة من قبله؟ ومن عسى أن يكون هذا الزوج؟ ومن أين أتى؟ فإنهم لم يروه قبل هذه المرة في ناحية وينغ، وأخيرًا أين يعقد هذا القران؟

هذه هي المسائل التي كانت دائرة على الألسن في خمارة الملك جورج.

فكانت الإرلندية رائدة القوم في حل هذه المشكلات، فقالت: أتعلمون أن النور لا يتزوجون كما نتزوج نحن؛ لأنهم يجتمعون في مكان معتزل، فيوقدون نارًا عظيمة، ويجعلون يقفزون من حولها بينما يكون الخطيبان واقفين في وسط حلقة هذا الجمع.

ولما يفرغون من الرقص يأتون للعروسين بفطيرة من الدقيق معجونة بالزبدة والعسل وبإبريق من النبيذ.

فيأكل العروسان الفطيرة، ويشرب كل منهما جرعة من الخمر بالتوالي حتى يفرغ الإبريق.

وعند ذلك يدنو منهما شيخ القبيلة، ويقول لهما: ألا تزالان عازمين على الاقتران؟

فيقولان: نعم.

فيقول لهما الشيخ: إذًا اكسرا هذا الإبريق.

فيأخذ العروسان الإبريق، ويمسكه كل منهما بيد ويرفعانه إلى ما فوق رأسيهما، ويقذفان به إلى الأرض فيتحطم، وعند ذلك تتم الحفلة ويصبح هذا الاقتران شرعيًّا نظاميًّا لا شك فيه.

فقال أحد الحاضرين: أتظنين أن عرس جيبسي سيكون هذه الليلة؟

– دون شك.

– كيف عرفت ذلك؟

– إني لقيت الفتاة اليوم فأخبرتني.

– ولكن أين يعقد هذا القران؟

– هذا ما يصعب معرفته؛ لأن النور يبالغون في إخفاء أماكن حفلاتهم.

– إني أدفع نصف راتبي لمن يرشدني إلى ذلك المكان.

– وماذا يفيدك حصور حفلات أولئك النور، وفوق ذلك فإن كل غريب يحضر حفلاتهم يخاطر بنفسه، وقد لا يسلم من هذا الخطر؛ لأنهم لا يتساهلون بحفلاتهم الدينية.

وهم في حفلات أعراسهم كما هم في حفلات مآتمهم، فإنهم يدفنون موتاهم أيضًا في أماكن لا يعلمها أحد.

وكان قد دخل في ذلك الحين بحار ضخم، وسمع الحديث فقال: من هو هذا العريس؟

فقالت الإرلندية: بحار.

– وما هي هويته؟

– إنكليزي.

وهنا اختلف الحاضرون، فقال أحدهم: بل هو إيكوسي.

وقال سواه: أراهن أنه إيرلندي.

وقال كلكراف صاحب الخمارة بصوت عالي: بل هو فرنسي.

فأجفل القوم لكلام كلكراف لاعتقادهم بصحة روايته، وتنبه فيهم ذلك الحقد القديم، وبعد أن كانوا مشفقين على ذلك الشخص الذي تجاسر على الاقتران بجيبسي أصبحوا غير مكترثين له بعد أن علموا أنه فرنسي حتى إن بعضهم بات يتمنى له الهلاك.

وبينما هم يتباحثون في هذا الشأن، دخل شخصان إلى الخمارة وأعطى كل منهما قطعة من النحاس لكلكراف، فأخذ كلكراف القطعتين وقال همسًا باللغة الفرنسية: في الساعة العاشرة، وراء كنيسة سانت بول.

وكان أحد هذين الشخصين الفتى مرميس، والآخر مورت، فقال مرميس: حسنًا سنذهب في الوقت المعين.

ثم جاء بعدهما بقية أفراد العصابة التي جمعها روكامبول في باريس، فكان كل واحد منهم يقدم لكلكراف القطعة النحاسية، فيقول له صاحب الخمارة ما قاله لمرميس.

وبعد أن عرفوا المكان المعين للاجتماع شربوا كأسًا من الوسكي، وذهبوا واحدًا إثر واحد بعد أن تبادلوا نظرة سرية مع ميلون الذي كان متنكرًا مثلهم بملابس البحارة.

ولو كان زوار الخمارة غير منهمكين بحكاية عرس النورية لانتبهوا إلى محادثة أولئك البحارة السرية مع كلكراف، غير أن حديثهم عن ذلك الشخص الجسور شغلهم عن كل ما سواه.

وقد عادوا إلى المباحثة في هوية هذا العريس، فقال لهم كلكراف: أؤكد لكم ما قلته إنه فرنسي.

فقال أحدهم: إذًا فهو نوري فرنسي؟

– دون شك.

– وهل يوجد نور فرنسيون؟

– كما يوجد منهم عند الإنكليز والألمان والترك والعرب، فإنهم منتشرون في كل مكان.

ولما عرف الحاضرون أن هذا العريس من قبائل النور خفت وطأة حقدهم، وباتوا يتمنون له السلامة من الخطر المحدق به.

فقال ميلون: نعم إنه نوري مثلي.

وقالت الإرلندية: أأنت نوري؟

– نعم.

– إذًا تعال أعانقك، فقد كنت أحسبك فرنسيًّا من قبل.

وانكبت على عنقه تقبله، ولكنها لم تلبث أن عانقته حتى صاحت صيحة ألم، وسال الدم من يدها، فنظرت إلى عنقه فوجدت عليه طوقًا من جلد التمساح تحيط به قطعة ناتئة من الفولاذ دقيقة الرءوس كالإبر.

ولما رأى ميلون أن الناس قد احتشدوا من حوله وهم يعجبون لهذا الطوق الغريب، قال لهم: إذا كان لزوج جيبسي الجديد مثل هذا الطوق لا تجزعوا عليه؛ إذ لا يستطيع أعداؤه خنقه في هذه الليلة.

ثم تركهم منذهلين وانصرف، فكان كلكراف يبتسم وينظر إلى الدماء التي كانت تسيل من يد الإيرلندية.

٤١

كان السرور سائدًا في تلك الليلة على النور في لندرا، وكان البوليس يرحم تلك القبائل ويتغاضى عنها، حتى إنه كان يساعدها ويحميها عند الاقتضاء.

ومن عادة النور أنهم يقيمون في خيم قرب أبواب المدن الكبرى، غير أن بعضهم كانوا يلتمسون الإذن من ملكتهم فتأذن لهم بالمبيت في لندرا إذا كانت مهنتهم تقضي عليهم بالمبيت فيها على شرط أن ينقطعوا عن القبيلة كل الانقطاع.

وإنما قلنا ملكتهم؛ لأن النور لا يختارون زعماءهم عادة إلا من النساء، فصدر أمر ملكة النور منذ أمس إلى القبيلة أن تذهب بخيامها إلى المكان الذي كانت فيه منذ عدة أشهر، فسارت بخيامها وجيادها وكلابها في ستر ليلة حالكة الظلام دون أن يشعر بها أحد إلى مكان خفي، ونصبت فيه الخيام، وكانت تقيم من قبل في ضواحي سانت بول.

وكانت تلك الليلة التي حدثت فيها هذه الحوادث، شديدة الظلام، كثيفة الضباب، فلم يكن يهتدى إلى أولئك النور إلا بأنوارهم التي كانت تنبعث من الخلاء خارج أبواب لندرا.

وفي هذه الليلة خرج اثنان من باب لندرا، واتجها إلى مكان ذلك النور وهما روكامبول وجيبسي.

فكانت الفتاة تقف من حين إلى آخر، وتقول: رباه، إني خائفة، ويخال لي أنهم يقتفون أثرنا.

– كيف تخافين وأنا معك؟

– أصبت إن ثقتي بك لا حد لها، غير أن قلبي ينذرني بمصاب جلل، وندر أن تخطئ هواجس قلبي.

فطمأنها روكامبول ما استطاع، وسار الاثنان يتقدمهما شخص من القبيلة كان يسير على مسافة شاسعة بعيدًا عنها.

وكان هذا الشخص قد أرسلته القبيلة إلى منزل الفتاة في ويت هايل؛ كي يخبرها أن القبيلة نقلت خيامها من مكانها القديم في سانت بول، وأنه أتى كي يذهب بها ويرشدها إلى المكان الجديد.

فاستاء روكامبول لهذا الانتقال؛ لأنه واعد عصابته على اللقاء بجوار سانت بول، فهي تنتظره في ذلك المكان برئاسة ميلون، وهو يتعرض وحده لفتك الخناقين في مكان خفي لا تعرفه العصابه.

غير أن روكامبول لم يخف، ولم يظهر لجيبسي شيئًا من علائم قلقه.

ولبثا يمشيان مقتفين أثر النوري حتى اقتربا من القبيلة، وسمعا صوت الطبول، فرأى روكامبول نارًا مشبوبة ينبعث دخانها الكثيف فيمتزج بالضباب، ورأى خيام مضروبة حول تلك النار، والرجال والنساء يرقصون حول هذه النار.

ولما وصل روكامبول وجيبسي انقطع الرقص وسكتت الطبول، وساد السكوت على الجميع.

وعند ذلك نزلت امرأة حسناء عن دكة عالية كانت جالسة فوقها، فمشت لاستقبال العروسين يحيط بها أهل القبيلة بمظاهر الاحترام؛ لأنها كانت ملكة النور.

وكان روكامبول مرتديًا تلك الثياب التي كان يلبسها في خمارة الملك جورج، فدنت منه الملكة وقالت له: أيها الغريب، أتعلم الخطر الذي يتهددك؟

– نعم.

– إن جميع أزواج جيبسي قتلوا.

– أعرف ذلك.

– ولا يزال الوقت فسيحًا لديك الآن، فإذا شئت الرجوع عن زواجها لا نعترضك.

– كلا لا أرجع أبدًا.

– تأمل قليلًا، واعلم أنه عندما تغدو جيبسي امرأتك لا نستطيع أن نحميها؛ لأنك غريب عنا، ولست من قبيلتنا.

– لا بأس أنا أحميها.

فالتفتت الملكة إلى جيبسي وقالت لها: وأنت أيتها الفتاة ألا تزالين مصرة على الزواج بهذا الغريب؟

فقالت بلهجة تدل على الثبات: نعم، إني لا أتزوج سواه.

ردت الملكة: إذًا ليكن ما تريدان.

ثم أشارت بيدها فعاد الراقصون إلى الرقص، وغنى المغنون بلغة سرية وهم يطوفون حول روكامبول وجيبسي.

حتى إذا انتهى الرقص جاءوا بفطيرة من الدقيق معجونة بالعسل فقسمها روكامبول قسمين، فأكل قسمًا، وأعطى قسمًا لجيبسي فأكلته.

ثم جاءوها بالإبريق فشربا ما فيه، ورفعاه ثم ألقياه على الأرض فتحطم، فصاح جميع النور عند ذلك صياحًا واحدًا خلاصته الدعاء للعروسين بالتوفيق.

فشكرهم روكامبول، وعادوا إلى الرقص والغناء.

وكان روكامبول قد عرف عادة القوم من جيبسي، فلما تم القران ورآهم عادوا إلى الرقص حملها على كتفه عادة الأزواج عند النور، وذهب بها من بين الخيام وهو يقول: إنها امرأتي.

٤٢

وكان يسير بها مستعجلًا وهو يقول في نفسه: لا شك أن النور لم ينقلوا خيامهم في الليلة الماضية إلا لحكمتهم ولحذرهم من أعداء الفتاة إشفاقًا عليها، ولكن هل فازوا بما يريدون؟ … إنهم لو بقوا بجوار سانت بول لما خشيت أمرًا؛ لأن ميلون ورفاقه يقاومون جيشًا، أما الآن فإني فرد.

وقد كان يحدث نفسه بهذا الكلام دون خوف، فإنه بعد أن ألقى في أيام غروره أستاذه أندريا في تلك الهوة لم يعد يخاف على نفسه، بل على من يتولى حمايته؛ ولذلك كان كل خوفه على الفتاة.

ولما خرج بها من القبيلة سار توًّا في ذلك إلى الخلاء إلى لندرا مسترشدًا بمصابيحها البعيدة التي كانت تبدو لعينيه كالنجوم خلال الضباب الكثيف.

على أن قلقه كان يتزايد كل حين، ولم تكن جيبسي أقل منه اضطرابًا، فكانت تقول له: دعني أمشي، فيأبى روكامبول ويقول لها: كلا، إنك لا تستطيعين الإسراع بالسير، وخير لنا أن أحملك، فتعود إلى الرجاء وتقول: رباه، لقد خفت فيسرع بالسير بها دون أن يجيب.

ولبث على ذلك وهو ينظر من حين إلى حين إلى نار القبيلة حتى تباعدت عنه، ولم يعد يرى منها غير القليل، فقالت له: كفى دعني أمشي.

– كلا حتى نصل إلى أبواب لندرا.

ثم جعل يسير بها سيرًا مستعجلًا غير مكترث بثقلها، وفيما هو يسير هذا السير شعر بأن ساقيه قد اصطدما بحبل مشدود فعثر به، وسقط على الأرض وجيبسي بالقرب منه.

وصاح روكامبول صيحة غضب، وصاحت جيبسي صيحة ذعر، وهجم عليهما في الحال رجلان كانا مختبئين وراء الأدغال، وأسرع روكامبول إلى النهوض، ولكنه ما لبث أن وقف حتى شعر أن حبلًا قد التف على عنقه فضغط عليه، وأن يدًا جذبت ذلك الحبل فسقط روكامبول على الأرض، وقد فعل به أعداؤه نفس ما فعله بالهندي الذي كان في منزل والد ناديا.

وكان الحبل ملتفًا على عنقه، فلم يستطع أن يقول غير كلمة واحدة قالها بصوت مختنق لجيبسي، وهي لا تخافي.

وعند ذلك انقض أحد الرجلين على جيبسي وهي توشك أن يقضى عليها من الرعب، وحملها وسار بها.

ودنا الرجل الآخر من روكامبول وهو ممدد على الأرض لا حراك به، تدل ظواهره على أن الحبل قد قضى عليه، فقال باللغة الهندية: إن حبل أوسمانا لا يخطئ الغرض، فإذا أصاب به عنق عدوه أماته في الحال، وقد علمتنا أيها الفرنسي اللعين كيف ننصب لك الشرك حين نصبت لنا الحبل بين الأشجار لتغتال عباد الإلهة كالي، وأوهمتنا أنك من أبناء سيوا.

ثم ضحك ضحكًا عاليًا، وجعل يقلب روكامبول ظهرًا لبطن، فرآه نائمًا نوم الموت، فصاح صيحة انتصار وقال: ادع الآن إلهك سيوا لنجدتك، فإن سيوا لا يساعد غير عباده، وأما أنت فإنك مسيحي ضال، بل أنت لا شيء؛ لأني أظن أن روحك قد فارقت جسمك، وهامت في الفضاء.

وكان يقول هذا القول ويفحص روكامبول كي يتأكد موته، ففتح صدرته، ووضع يده على قلبه كي يرى إذا كان ينبض أو بقيت فيه آثار الحياة.

وفيما هو على ذلك إذ شعر فجأة بيد قوية قد ضغطت على عنقه؛ لأن روكامبول الذي كان يحسبه ميتًا قد انبعث ودبت فيه الحياة، وانقض عليه على غرة انقضاض الصاعقة، فركع فوق صدره وهو يقول له: إنك كدت تخنقني أيها الأبله لولا هذا الطوق الذي يحيط بعنقي من جلد التمساح.

ثم استل خنجره وأغمده في صدر الهندي، فسقط قتيلًا دون أن يفوه بكلمة …

وعند ذلك نهض روكامبول فرفص الهندي الأثيم برجله، وقال: يجب الآن إنقاذ جيبسي.

وقد مرت هذه الحادثة في زمن وجيز يوازي زمن حكايته، فقال روكامبول في نفسه: لا بد لي من إدراك الهندي الآخر، فإني أعدو في أثره حرًّا مطلقًا وهو حامل جيبسي.

ثم سار في أثره يعدو عدوًا سريعًا حتى ظهر له بعد بضع دقائق ثوب جيبسي الأبيض يتماوج في الهواء فوق كتف الرجل الهندي الذي كان يعدو بها أيضًا دون أن يبدو منها ما يدل على الممانعة.

فاستنتج روكامبول من سكونها أنها مغمى عليها، وأنه لو كان خنقها لما تكلف حملها، بل تركها مكانها.

فأسرع في عدوه بغية إدراكه قبل أن يدخل بها إلى لندرا، وقبل أن يصل إليها رأى قبسًا قد لمع، ثم تلاه دوي شديد تلته صيحة عظيمة بلغت إلى أذن روكامبول، ورأى ثوب جيبسي الأبيض قد تحرك فجأة، ثم استقر على الأرض دون حراك.

فأسرع أيضًا وهو يعدو، ورأى رجلًا وقف بجانب الثوب الأبيض، ووضع إحدى رجليه على صدر ذلك الرجل الذي كان صريعًا يتحرك حركات النزع.

وكانت لندرا قريبة من مكان الحادثة، وقد بددت مصابيحها المشرقة ظلام تلك الليلة الكثيف، فرأى روكامبول أولئك الثلاثة وفهم كل شيء.

فكانت جيبسي ملقية على الأرض مغميًّا عليها، والرجل الصريع الهندي الذي اختطفها، أما الرجل الذي كان واضعًا رجله فوق صدره ولا يزال المسدس في يده فقد كان مرميس، ذلك الغلام الهائل الذي قتلت رصاصته الهندي دون أن تصيب جيبسي.

ولما رأى مرميس روكامبول صاح صيحة فرح وقال: ألا توافق أيها الرئيس على أني أتيت حين الحاجة إلي؟

٤٣

وقد عظم مرميس في عيني نفسه حين رأى رضا الرئيس عنه، فكان يضطرب لدى نظراته اضطرابًا ممزوجًا بالكبرياء.

وكان هذا الغلام في الثامنة عشرة من عمره، ولكنه كان غض الشباب، متوقد الذكاء، يجول ماء النشاط بين عينيه، فيحسب الناظر إليه أنه لم يبلغ هذا السن لغضاضة شبابه.

وقد كان أبوه سكيرًا مقامرًا، وأمه سارقة شريرة، فنشأ فاسد التربية لا يعرف غير اللصوص، ولا يخالط غير الأشرار، ولكنه كان على فساد سيرته كريم الأخلاق، فكان يسرق بيد ويتصدق بيد على المساكين، لو لم يدركه روكامبول لكانت تغلبت العشرة الفاسدة على تلك الأخلاق الكريمة، وقضي عليه أن يكون من اللصوص.

غير أن روكامبول أدرك تلك العاطفة الكريمة فيه فمال إليه، ورجا إصلاحه، وصرفه إلى الخير، وسمع مرميس بعجائب روكامبول، ورأى بعض أعماله المدهشة؛ ففتن به، ومال إليه كل الميل.

هذه هي حالة مرميس الذي قدر له أن يلقى خير مرشد يصرفه عن الشر قبل استحكام ملكته من قلبه الطري الصغير، فلما رآه روكامبول واضعًا رجله فوق صدر الهندي الذي قتله، ابتسم له ابتسام الرضا، وحسب أن ميلون قد جاء بجميع العصابة لنجدته، غير أن مرميس كان وحده، وهذا بيان ما جرى.

عندما أمر روكامبول ميلون أن ينتظره بالعصابة قرب سانت بول لم يكن عالمًا أن قبيلة النور غيرت مكانها، فكان يحسب أن زواجه بجيبسي سيتم في ذلك المكان.

ولم يعرف هذا التغيير إلا حين وصوله مع جيبسي إلى منزلها في ويت شابل، ورأى النوري ينتظرها فيه لإرشادهما إلى المكان الذي انتقلت إليه القبيلة، فلم يكن لديه فرصة للذهاب إلى ميلون وإخباره بهذا التغيير.

أما ميلون فقد كان شديد الخضوع لروكامبول، فسار بالعصابة كما أمره إلى سانت بول، وكان كل واحد من رجالها مسلحًا بمسدس وخنجر، وفي عنقه ذلك الطوق من جلد التمساح الذي اخترعه روكامبول للوقاية من الخناقين.

فلما وصلوا إلى المكان المعين قال لهم ميلون: أتعلمون أيها الرفاق لماذا اجتمعنا هنا؟

قال شانوان: أظن أن الرئيس أراد أن نحضر زواجه.

وكان جميع رجال العصابة يخضعون لروكامبول، وينفذون أوامره دون أن يسألوه عن قصده أو يدركوا المراد منها ما خلا مرميس فإنه كان يعمل الرؤية، ويدقق في كل أمر، فقال لميلون: أين يعقد هذا الزواج؟

– في قبيلة النور.

– ولكني لا أجد أثرًا للقبيلة.

– لا بأس، فإن الرئيس أمرنا أن نحضر إلى هذا المكان.

فحاول مرميس أن يعترض، ولكن مورت انتهره، وقال: هذا أمر الرئيس، لا سبيل إلى الجدال فيه.

غير أن مرميس لم تقنعه هذه الأقوال، وقال: ستعلمون أني غير مخطئ، فما دامت القبيلة قد رحلت فلا فائدة من وجودنا هنا؛ لأن الزواج سيعقد في غير هذا المكان.

فغضب ميلون مما رآه من إلحاحه، وقال له: إذا أبيت البقاء معنا فاذهب إلى حيث تشاء.

وكان مرميس ينتظر أن يسمع مثل هذا الكلام، فقال: سوف ترون أن الرئيس يستصوب ما قلته، ثم تركهم وانصرف.

ولم يكن مرميس يعرف اللغة الإنكليزية، وفوق ذلك فقد لاحظ أن الإنكليز لا يكرمون الفرنسيين في بلادهم، فقال في نفسه: إني أجهل لغة القوم، ولا أعرف من اللغات غير الفرنسية، إذا تكلمت بها هزأوا بي، وربما أساءوا إلي، فخير لي إذن أن أدعي الخرس، فإن الأخرس لا يحاسبونه عن موطنه؛ إذ لا يعرفونه، ولا يحتقرونه للغته إذ لا لغة له، فلما وصل إلى شوارع لندرا صار يتكلم بالإشارة.

ذهب في البدء إلى منزل جيبسي، فوجد أنها قد برحته فسار إلى خمارة قريبة، فطلب كأس شراب بالإشارة، ورأى فيها كثيرًا من الناس، وسمع اسم جيبسي تتداوله الألسنة، فأصغى إلى الحديث.

وكان بين الذين رآهم اثنان من الهنود سمعهما يذكران أيضًا اسم جيبسي، وبعد ربع ساعة خرج الهنديان من الخمارة.

فاقتفي مرميس أثرهما حتى إذا وصلا إلى منعطف الشارع انضم إليهما هندي لم يلبث مرميس أن رآه حتى ارتجف إذ عرف أنه أوسمانا، فقال في نفسه: لقد بلغت المراد، وإني لا أفارق هذا الإنسان.

ثم انفصل أحد الثلاثة عن رفيقيه، فتبعهما مرميس إلى أبواب لندرة، ثم سارا في تلك الخلاء وهما يتحدثان بلغة لا يفهمها، ويشيران إلى نار القبيلة، فأدرك قصدهما.

وكان يتبعهما على مسافة بعيدة حتى رآهما اختبآ بالأدغال، فاختبأ مثلهما، وبقي كامنًا إلى أن رأى الهندي يختطف جيبسي ويعدو بها، فأطلق عليه مسدسه وقتله كما تقدم.

أما روكامبول فإنه انحنى على الصبية، وجعل يفحصها بقلق شديد، وهو يخشى أن يكون قد أصابها رصاص المسدس، ولما علم أنها مغمي عليها اطمأن، وقال لمرميس: لقد أحسنت، وأنت وحدك الذكي الفؤاد بين أفراد العصابة.

أما روكامبول فكان يحمل دائمًا قنينة صغيرة من الخل في عنقه، فعالج بها جيبسي حتى استفاقت، وحكى لها ما حدث فأعجبت به إعجابًا شديدًا، وباتت ثقتها به لا حد لها لا سيما بعد أن علمت منه أنه لا يعتبر هذا الزواج الذي عقد، وأنه إنما فعله بالظاهر لمقاومة الخناقين.

ثم ساروا جميعهم حتى وصلوا إلى منزل جيبسي، وكان مرميس قد حكى لروكامبول جميع ما اتفق له مع العصابة، فقال له روكامبول: لقد عينتك رئيسًا عليها بدلًا من ميلون، فاذهب إليهم وعد بهم، فقفوا في الشوارع المحيطة بمنزل جيبسي، وكونوا متأهبين لكل طارئ.

– وأنت أيها الرئيس؟

– إذا احتجت إلي تجدني دائمًا على السلم قرب باب غرفة جيبسي.

فامتثل مرميس، وذهب معجبًا بسيادته الجديدة إلى سانت بول حيث كانت العصابة.

أما روكامبول فإنه دخل مع جيبسي إلى منزلها، وقال لها: ادخلي إلى غرفتك ونامي مطمئنة، أما أنا فسأحرسك وأنام خارج الباب.

فدخلت الفتاة وتظاهرت أنها تحاول الرقاد، فأطفأت المصباح، وصعدت إلى سريرها، ثم قالت: يجب أن أذهب إلى السير آرثر نويل، فقد وعدته بالذهاب إليه.

وبعد أن أقامت في سريرها نحو ساعة، ووثقت أن روكامبول نائم نهضت وتنكرت بملابس البحارة حسب عادتها في كل ليلة، وخرجت من النافذة إلى السطح ونزلت منه إلى الشارع.

٤٤

وكانت تسير هنيهة، ثم تقف موقف المتردد الوجل، كأن قلبها يحدثها بنكبة، وكانت تارة تذكر السير آرثر فتثور عوامل غرامها، وتندفع في سيرها غير خائفة، وتارة ينكمش قلبها لمخالفتها روكامبول، فتقف حتى خطر لها لفرط ثقتها بروكامبول أن تعود إليه، وتلتمس منه أن يوصلها إلى منزل حبيبها.

لكنها لم تجسر على شيء من هذا.

إلى أن تغلبت عليها عواطف الغرام، فاندفعت في سيرها غير مكترثة بشيء، وغير مبالية بالخطر.

وبينما هي تسير مرت بخمارة على الطريق، فحانت منها التفاتة فرأت غلامًا جالسًا على طاولة وأمامه قدح من الخمرة، فارتعشت وعلمت أن هذا الغلام مرميس الذي أنقذها من الهندي، وقد كان مقيمًا في الخمارة خلافًا لما أمر به روكامبول من التفتيش على العصابة.

ولما رأته جيبسي خافت خوفًا شديدًا أن يعرفها، فمرت بسرعة البرق حتى إذا وصلت إلى الخارج سارت بطريق التايمز، واجتازت واترلو فجعلت تتلفت يمنة ويسرة كالغزال الشارد من الصياد.

ولكنها لم تر أحدًا يقتفيها، ولم تفطن لامرأة كانت تتقدمها وهي بملابس الإرلنديين؛ لاعتقادها أنها إذا كانت جاسوسًا حقيقة لا تتقدمها بل تسير في أثرها.

وما زالت تسير والمرأة تتقدمها كأنهما يسيران إلى شارع واحد حتى انتهت إلى الشارع الذي يقيم فيه السير آرثر.

وكان هذا الشارع مقفرًا لندور مرور المتسولين فيه، وفيما هي تسير رأت أن الإرلندية قد وقفت أمام منزل، وجعلت تنظر إلى كتابة منقوشة عليها كأنها تريد أن تقرأها، فواصلت النورية سيرها حتى وصلت إليها.

وعند ذلك دنت منها الإرلندية، ومدت إليها يدًا تطلب إحسانها، وبينما كانت تفتش في جيبها على قطعة نقود هجمت عليها الإرلندية فألقتها على الأرض بسرعة، ثم ضغطت بإحدى يديها على عنقها كي تمنعها من الاستغاثة، وأدخلت أصبعيها في فمها وصفرت، ففتح للحال باب المنزل وخرج منه رجلان شديدان، فانقضا عليها وهما يقولان: لقد ظفرنا بها أخيرًا.

ثم وضعا كمامة في فمها، وأوثقا يديها ورجليها وحملاها، فسارا بها إلى ناحية جسر لندرا.

•••

ولا بد لنا من إيضاح السبب في اختطاف جيبسي أن نعود بضع ساعات إلى ما حدث قبل هذا الاختطاف، أي بعد أن ذهبت مس سيسيليا من منزل السير جورج ستوي، فإن السير نيفلي دخل إليه بعد ذهابها، فأقفل باب الغرفة ووقف أمام رئيسه السير ستوي.

وكان السير جورج رئيس الخناقين في لندرا يحكم حكمًا مطلقًا على جميع أعضاء تلك الجمعية الهائلة، ولا يتلقى الأوامر إلا من الرئيس العام المقيم في غابات الهند.

وكان السير نيفلي مساعده ويده اليمنى في تنفيذ أغراضه، ولما رآه السير جورج واقفًا بحضرته قال له: تكلم.

فقال له السير نيفلي: لقد قلت لك أيها النور منذ بضع ساعات إني أرسلت من يقتفي أثر السير آرثر نويل، فعلمت أنه يقيم في شارع سوتوراث متنكرًا باسم وليم.

– لماذا تنكر بهذا الاسم؟

– كي يستقبل فتاة تزوره كل ليلة منذ عامين.

– ومن هي هذه الفتاة؟

– هي جيبسي.

فذعر السير جورج وقال: هذا محال، لقد راقبت جيبسي في الليل والنهار، وخنق أعواني جميع من تعرض للزواج بها، وسيخنقون أيضًا في هذه الليلة ذلك الفرنسي الجريء الذي تجاسر على الزواج بها.

غير أن السير نيفلي كان متسلحًا بالبراهين، فأوضح لرئيسه كيف أن الفتاة تخرج من نافذة غرفتها، متنكرة بملابس الغلمان، وكيف أن رجلين كانا كامنين أمام منزل السير آرثر رأياها تدخل إليه من النافذة.

فغضب السير ستوي غضبًا شديدًا، وقال: احذر أن تكون كاذبًا فيما تقول.

– إني لا أكذب أيها النور ولا سيما عليك.

– إذن إنها عاشقة؟

– نعم، وهي تزور عشيقها كل ليلة، فبماذا تأمر أيها النور؟

– بقتل العاشقين، فإن كل فتاة تضحى للإلهة يجب أن تبقى بتولًا عذراء مدى الحياة، فإذا مست شفتاها شفتي رجل وجب أن تموت.

– أعرف ذلك يا حضرة النور، ولكن كيف تريد أن يكون موتها أبالخنق حسب العادة؟

– كلا بل أريد أن تموت على المحرقة.

– أي يوم تعينه للتنفيذ؟

– يوم غد.

– سيكون كما تريد، ثم ماذا نفعل بعاشقها السير آرثر؟

– لا يجب أن يخنق، بل يجب أن يحرق معها على محرقة واحدة.

– ومتى أراك أيها النور؟

– متى وقع الاثنان في قبضتك.

– والفرنسي ماذا تريد أن نصنع به؟

فقطب السير ستوي حاجبيه، وقال: لقد أرسلت أوسمانا لخنقه، فإذا لم يفلح بمهمته فلا يجب الاهتمام به.

– لماذا؟

– لأني أنا أتعهد بأمره، والآن اذهب في شأنك، واعلم أنه غدًا يجب إحراق جيبسي وآرثر على محرقة واحدة.

فانحنى نيفلي ممتثلًا وذهب، أما السير جورج ستوي فإنه دخل إلى غرفته المقدسة كي يستشير روح أبيه.

٤٥

ولنعد إلى جيبسي فإنها حين قبض عليها الرجلان وقيداها حملها أحدهما على كتفيه، وسار بها يتبعه رفيقه والإرلندية حتى بلغا جسر لندرا.

وكان هناك مركبة كانت تنتظرهم دون شك بدليل عدم اكتراث السائق لما رآه، فوضعها جيبسي في المركبة، وتكلما بلغة غير مفهومة، وسار أحد الرجلين والمرأة عائدين، ودخل الرجل الآخر إلى المركبة، فقال للسائق باللغة الإنكليزية: سر بي إلى هامبستد فانطلق السائق بسرعة ممتثلًا للأمر.

وعند ذلك فك الرجل الكمامة عن فم النورية كي تتمكن من التنفس، وقال لها: إذا فهت بكلمة، أو خطر لك أن تهربي أو تستغيثي قتلتك في الحال دون إشفاق.

ولم يكن الفرار قد خطر في بال هذه المسكينة لشدة ما تولاها من الرعب، فسكتت ولم تجب بحرف.

وبعد نصف ساعة وصلت المركبة إلى تلك القرية التي سارت إليها، ووقفت عند باب منزل تحيط به حديقة عالية الأشجار.

وكان هذا المنزل داعيًا إلى بحث كثير من أهل الفضول، فإنه بني حديثًا في تلك القرية بشكل غريب، وقد ارتفعت أسوار حديقته، حتى إن الناظرين لا يستطيعون أن يروا شيئًا من داخله.

لذلك اختلفت الأقاويل، فذهب بعضهم إلى أنه سكنه أحد الهنود الهاربين من شمسها المحرقة، وقال آخرون: إنه منزل قائد خدم في الهند؛ لأن بناءه كان على الطريقة الهندية، فكانوا يلقبونه بالمنزل الأحمر؛ إشارة إلى لون جدرانه، ولكنهم لم يروا مرة ذلك الرجل السري الذي يقيم فيه.

غير أنهم كانوا يرون بعض الأحيان أنوارًا تنعكس أشعتها من نوافذ المنزل إلى الأشجار الباسقة التي كانت أكثر ارتفاعًا من الأسوار، وكانوا يرون أيضًا — وذلك في القليل النادر — مركبة مقفلة تدخل إليه وتخرج دون أن يروا من فيها، فيقفل الباب حالًا عند دخولها أو خروجها.

إلا أن أحد القرويين في تلك القرية أوعز أنه سمع مرة من ذلك المنزل الأحمر أصوات آلات موسيقية غريبة تعزف ألحانًا غير مألوفة، وأصوات غناء بلغة غير مفهومة، ثم صوت امرأة تستغيث وتصيح صيحات اليأس، وأتم روايته بقوله إنه رأى بعد هذا الصراخ لهبًا عظيمًا عقد عمودًا كثيفًا من الدخان.

فانتشرت هذه الرواية بين أهل القرية، وأصبحوا يخشون هذا المنزل، ويبتعدون عنه، ويدعونه بالمنزل الشرير.

فلما وصلت المركبة إلى بابه وقفت ونزل السائق، فأمره الرجل الذي كان في المركبة أن يقرع الباب ففعل، وللحال سمع صوتًا من الداخل يقول: من الطارق؟

فقال له الرجل من المركبة: أنا رسول النور.

وقد قال هذا القول وهو واضع خنجره فوق صدر جيبسي ينذرها به حذر صياحها، ففتح الباب وأسرع الرجل، فأخذ جيبسي وهي تكاد يضيع رشادها لما أصابها من الرعب، ودخل بها فأقفل الباب أثر دخولهما، وذهب السائق في شأنه دون أن يطالب بأجرة؛ مما يدل على أنه من أتباع العصابة.

ونظرت جيبسي نظرة رعب إلى ما حولها، فرأت حديقة متسعة، باسقة الأشجار، عالية الجدران، ثم نظرت إلى الذي فتح لهم الباب فرأت أمامها امرأة بارعة الجمال، محلاة بالذهب، فعرفت من لونها أنها من الهنود.

أما تلك المرأة فإنها نظرت إلى الفتاة نظرة الفاحص، ثم نظرت إلى الرجل وقالت له بالإنكليزية: ما هذا الفتى؟

– إنها ليست فتى، بل هي من الفتيات.

ثم نزع قبعتها؛ فانحل شعرها، وسقط على كتفيها.

فقالت المرأة: ماذا تدعى؟

– جيبسي.

– وماذا يريد قدس النور؟

– يريدون أن تلتمس هذه الفتاة الغفران عند هيكل الإلهة كالي.

فلم تفهم جيبسي المراد من هذا القول، ولكنها نظرت إلى المرأة فرأتها تبتسم ابتسامًا هائلًا؛ فارتعشت وأيقنت أنها مقدمة على خطر عظيم.

٤٦

وأخذت تلك المرأة الفتاة بيدها، وقالت لها: تعالي معي.

فامتثلت وهي لا تعلم مرادها، لكنها على عرفانها بأنها معرضة لخطر مجهول اطمأنت حين رأت المرأة تكلمها بصوت رخيم بدلًا من ذلك الرجل العاتي الذي كان يتهددها بالخنجر.

وكانت جيبسي قد نشأت بين النور، فتعلمت منهم مبدأ الاتكال على الأقدار، فكانت تقول في نفسها: أنا الملومة، فلو لم أخدع روكامبول وأخرج من غرفتي دون أن أخبره لما أصبت بما أصابني الآن.

ثم أطرقت برأسها إلى الأرض، واستسلمت للقضاء، وسارت مع تلك المرأة إلى حيث كانت تقودها.

فاجتازت بها الحديقة، وأدخلتها إلى قاعة مفروشة حسب اصطلاح الإنكليز، فاطمأنت الفتاة بعض الاطمئنان لهذا المنظر.

ثم رأت تلك المرأة الهندية قد وضعت المصباح على طاولة ودنت من الفتاة، فسألتها عن اسمها، وعن الساعة التي قبضوا عليها فيها، ثم سألتها إذا كانت جائعة فزاد اطمئنان الفتاة، وأبت أن تأكل.

فقالت لها الهندية: خير لك أن تأكلي، فإنك متى دخلت إلى الهيكل لا تستطيعين أن تأكلي وتشربي.

وأبت الفتاة أن تأكل أيضًا، وعند ذلك سارت بها الهندية في دهليز طويل حتى إذا انتهت إلى باب ففتحته ودخلت بجيبسي، ثم أغلقت الباب، فلم تستطع الفتاة أن ترى شيئًا لشدة الظلام.

ولكنها علمت بعد هنيهة أنها وحدها فوجف قلبها، ولبثت في مكانها لا تجسر على التقدم أو الرجوع، فركعت وذكرت اسم شخص استغاثت به، ولكن هذا الشخص لم يكن السير آرثر، بل روكامبول، فلم يجبها أحد، وأين لروكامبول أن يلبيها في هذا المكان؟

ثم ظهر شعاع شق حجاب الظلام، وقد بدأ الشعاع بلون مصفر يكبر ويتسع، حتى أصبح شبيهًا بالشمس، فرأت جيبسي أنها في محل متسع، وأن هذا النور ظهر من السقف، فجعلت تنظر إلى ما حواليها فرأت الجدران العالية رسمت عليها رسوم ما رأت أغرب منها، ثم رأت تمثالًا هائلًا من البرونز، وعند ذلك بزغت أنوار كثيرة من ثقوب في السقف كانت تشبه النجوم حول تلك الشمس، فانجلى التمثال لجيبسي، وعلمت أنه تمثال الإلهة كالي التي يعبدها الخناقون، وأنها مسجونة في معبد الهنود.

ثم سمعت صوت باب قد انفتح، فالتفتت فرأت أربع نساء لابسات ملابس بيضاء دخلن من ذلك الباب ومشين ببطء إلى جيبسي، حتى إذا وصلن إليها وضعت إحداهن يدها على كتفها، وقالت لها: إنك سعيدة؛ فإن روحك سترف على قدمي الإلهة كالي.

فطاش رأس الصبية، وشعرت أنها لم يعد لها خطوة بينها وبين الموت.

وكانت جيبسي قد علمت بما أعد لها من العقاب لا سيما حين قالت لها إحدى تلك النساء: إنك لا شك من أسعد النساء؛ لأنك ستصعدين إلى عرش الإلهة كالي حيث ترين مجدها وجلالها، ولكن يجب أن تستعدي.

وقد أشارت إشارة حين قالت هذا القول، فأسرع النساء الثلاث إليها، وجعلن ينزعن ملابسها، فلم تعترض بشيء؛ لأنها كانت شبيهة بالأموات لما أصابها من الرعب، فلم تجد قوة للدفاع، ولكنها كانت تردد من حين إلى آخر اسم روكامبول.

فلما تم تجريدها من ملابسها تقدمت رئيسة النساء إلى العرش، وكان يوجد على قاعدته — وهي من المرمر — مصباح فأضاءته، ثم عادت إلى جيبسي فجاءت بها إلى ذلك العرش وأكرهتها على الركوع وهي عارية.

فأخذ النساء عند ذلك ينشدن الأغاني الغريبة، ويرقصن حولها وهي حائرة ولهانة لا تفهم شيئًا مما يجري حولها.

ودام الرقص والغناء ساعة، فلما فرغن فتحت الرئيسة خزانة فأخرجت منها ثوبًا كبيرًا لا أكمام له، وهو من الحرير الأصفر عليه نحو ألف رسم من رسوم عباد وشنو، وفي صدر الثوب رسم الفيل الأبيض العظيم الذي يعبده بعض الهنود، فأكرهوها على لبس هذا الثوب.

ولما لبسته قالت لها إحدى النساء: تأهبي للصوم والصلاة والظهور أمام الإلهة كالي، فإن روحك ستفارق جسمك مساء غد حين تظهر النجوم في قبة السماء، فتسافر تلك الروح سفرها الطويل.

فردد النساء بعدها: صومي أيتها الفتاة واستعدي.

ثم أشارت الرئيسة إشارة للنساء فخرجن جميعهن، ولبثت جيبسي جالسة على قاعدة التمثال تشيع النساء بنظرات تائهة تشبه نظرات الجانين إلى أن خرجن وأقفل باب المعبد.

وكانت الأنوار لا تزال منبعثة من ثقوب القبة، ثم جعلت تضعف وتنطفئ الواحد بعد الآخر حتى لم يبق غير ذلك التمثال الموضوع على المثال.

أما جيبسي فكانت تنظر نظر الذعر إلى مثال تلك الإلهة، فلما رأت أن الأنوار قد انطفأت، ولم يبق غير التمثال انجذبت إليه بقوة عظيمة، فدنت منه فجعلت تنظر رسومه الغريبة، فرأت على ساقه الأيسر رسم فتاة ترقص وتحيط بها عائلتها بين الأشجار، والعبيد السود يعزفون حولها بآلات الطرب، وبعضهم يقرعون الطبول، وتحت أقدامهم زهور متناثرة تشبه الزهور التي كانت متناثرة أيضًا تحت قدميها، فخيل لجيبسي أن هذه الفتاة تشبهها.

ثم نظرت ساق المثال الأيمن فرأت تلك الفتاة نفسها، ولكن على غير ما رأتها مرسومة في الساق الأخرى، فإنها كانت موثوقة اليدين والقدمين، محمولة على جواد وهي مرعوبة منذعرة، والفارس ينظر إليها ويضحك ضحك الساخر المنتقم بما يدل على أنه قد اختطفها من عائلتها.

ووراء هذا الفارس فرسان آخرون مسلحون بالسهام وبأيديهم تلك الحبال الهائلة التي يستخدمها الخناقون.

وكان الرسم ممثلًا أبدع تمثيل، وكانت جيبسي تتمثل لها تلك الفتاة حتى إنها أوشكت أن تسمع صوت استغاثتها.

ثم نظرت إلى ذراع التمثال الأيسر وعليه بقية حكاية الفتاة، فرأت رسمًا غريبًا يدل على أن حكاية جيبسي نفسها رسمت على هذا المثال، فإنها رأت الفتاة واقفة بين أربع نساء وهن يخلعن ثيابها عنها، ويلبسنها ثوبًا كالثوب الذي ألبسنه لجيبسي.

فوجف قلبها، وانصب العرق البارد من جبينها، ونظرت إلى الذارع الأيمن كي تعلم بقية الحكاية، فرأت الفتاة مقيدة، ورأت رجالًا يدخلون إليها وهم يحملون على أكتافهم حطبًا وآلات الوقود.

فصاحت صيحة منكرة كأنها أدركت مصيرها، وأرادت أن تصرف نظرها عن التمثال لهول ما رأت، ولكنها لم تستطع، بل أرادت أن تعرف تتمة حكاية الفتاة، فنظرت إلى صدر التمثال فرأت الفتاة منطرحة فوق محرقة، وحول المحرقة أولئك النساء اللواتي ألبسنها الثوب بلا قميص، وقد تصاعد اللهب، وعلق بأطراف الصبية، وقد حضر هذا المشهد كثير من الناس.

فلما رأت جيبسي ما رأته أيقنت أنها ستموت محروقة كما ماتت تلك الفتاة، فنزلت عن التمثال وملأ الذعر قلبها، وخطر لها الانتحار فرارًا من مثل هذا الموقف الرهيب.

وفيما هي تنظر إلى ما حواليها سمعت صوت باب المعبد قد فتح، فالتفتت وصاحت صيحة دهش، ذلك أنها رأت رجلين هنديين يدفعان إلى داخل المعبد ثالثًا كان يحاول مقاومتهما دون فائدة.

أما سبب صياحها فهو أنها عرفت هذا الرجل الثالث وهو عشيقها السير آرثر نويل.

٤٧

ولنعد بالقراء ساعة كي يعلموا ما مضى وجرى للسير آرثر، وكيف وصل إلى هذا المعبد، فقد تقدم لنا القول إن هذا النبيل الإنكليزي بينما كان ينتظر عشيقته جيبسي في منزله، وقد أطفأ المصباح حين سمع قرع النافذة وفتحها دخل عليه رجلان فأوثقا يديه ورجليه، ووضعا كمامة على فمه بحيث لم يعد يستطع الدفاع والاستغاثة.

وقد جرى ذلك بسرعة غريبة ودون حركة، حتى إن الخادمة العجوز لبثت تغط في نومها دون أن تسمع حسًّا.

وقد غطى أحد الرجلين وجه السير آرثر كي لا يرى إلى أين يذهبان به، ثم حملاه وخرجا به من منزله، فوضعاه في مركبة مقفلة، وأمرا السائق أن يسير مسرعًا.

فسارت بهم المركبة نحو ساعة حتى وقفت، ففك الرجلان قيد رجلي السير آرثر وأخرجاه من المركبة، ثم أمراه أن يمشي أو يقتل، فامتثل ومضى معهما عدة خطوات على رمل، وهو لا يرى شيئًا من العصابة التي كانت على عينيه، ثم قال له أحدهما: لقد وصلنا إلى سلم فاصعد.

فامتثل وصعد عدة درجات، ومشى بعد ذلك في دهليز طويل انتهى بعده إلى غرفة مفروشة خير فرش.

فأمره أحدهما أن يجلس على كرسي فامتثل، وعند ذلك نزعت العصابة عن عينيه، والتفت منذعرًا فلم ير الرجلين، ورأى أنه مقيم وحده في هذه الغرفة.

فحار في أمره، وأخذ يفحص فرش الغرفة، فرآه إنكليزيًّا، وكانت يداه لا تزالان موثوقتين، فدنا من الباب، ونظر فيه فرآه محكم الإقفال، ثم رأى نافذة عليها ستار، فدنا منها وأزاح الستار بكتفه، فرآها مقفلة، فوقف وقفة الحائر المبهوت لا يعلم أين هو وما يريدون من أسره.

ولكنه ما لبث على هذه الحال بضع دقائق حتى فتح الباب ودخل منه رجلان، أحدهما بملابس الإنكليز، والآخر بملابس الهنود، فلما وصلا إلى السير آرثر أمر الإنكليزي الهندي بإشارة أن يخرج، فانحنى بملء الاحترام وامتثل.

وكان على وجه الرجل قناع، فقدم كرسيًّا للسير آرثر باسمه، فانذهل السير آرثر حين سمع هذا الرجل المقنع يناديه باسمه.

فقال له: ماذا تريدون مني وبأي حق دخلتم إلي، ولماذا جئتم بي إلى هنا؟

فقال له المقنع: أصغ إلي، إنك تدعى السير آرثر نويل، وأنت ابن خال مس سيسيليا، وقد كنت مقيمًا في المنزل الذي اختطفناك منه متنكرًا باسم ويليم كي تستقبل فتاة تزورك فيه.

فانتفض السير آرثر وقال له بجفاء: ماذا يعنيك هذا الأمر؟

– إنك مخطئ كل الخطأ، ألم تقل لك الفتاة التي كانت تزورك أنها معرضة في حبك لخطر شديد؟

فظهر السير آرثر ما كانت تظهره جيبسي من الرعب، وقال: نعم.

فقال الرجل المقنع: أتعلم من هي هذه المرأة؟

– … كلا!

– ولكنك كنت تحبها.

– حبًّا لا يوصف أضحي من أجله حياتي.

– إذن أنت لا تخشى الموت، فإن هذه الفتاة التي كانت تهواك لم تكن تخاطر بحياتها فقط، بل بحياتك أيضًا، ولكن هل علمت اسم هذه الفتاة الحقيقي؟

– كلا …

– أعلمت مهنتها؟

– كلا، أكان لها مهنة؟

فضحك الرجل المقنع ضحكًا عاليًا، وقال: إنك أنت النبيل وابن خال مس سيسيليا تحب منذ عامين راقصة من الراقصات في الطرق، وفتاة من فتيات وينغ تدعى جيبسي النورية …

فصاح السير آرثر صيحة منكرة، وهاجت به عواطف الكبرياء، وصبغ وجهه بحمرة الخجل، فلو لم تكن يداه موثقتين لغطى بهما وجهه إخفاءً لذلك الخجل.

ومن يعلم ما فطر عليه نبلاء الإنكليز من حب الذات، والمحافظة على التقاليد، واحتقارهم للنور يتمثل تلك العواطف الهائلة التي ثارت في نفس السير آرثر حين علم بأنه كان يهوى راقصة نورية في أقذر محلات لندرا.

فقال له المقنع: ألم تر على صدر تلك الفتاة رسومًا عجيبة؟ فاعلم أن هذه الرسوم هندية، وإذا كنت تريد أن تعلم السبب الذي وجدت من أجله في هذا المكان فأصغ إلي.

– قل فإني مصغ إليك.

– إن هذه الفتاة ولدت في الهند وكرست للإلهة كالي.

وماذا يهمني جميع ذلك.

– أصغ إلي … فإن كل فتاة تضحى للإلهة كالي، يقضى عليها أن تموت بتولًا.

– فابتسم السير آرثر وقال: إن الإلهة كالي قد خدعت هذه المرة.

– نعم، لكنها ستنتقم عن هذا الخداع بالموت.

– ماذا تريد أن تقول؟

– إن جيبسي حكم عليها بالموت.

– ومن حكم عليها؟

– نحن …

– ومن أنت؟

– أنا في لندرا من أعيانها وكبرائها، أما في الهند فإني رئيس جمعية الخناقين أعرفت الآن من أنا؟

فارتعش السير آرثر، أما المقنع فعاد إلى حديثه، وقال: إن ما تأمر به الإلهة كالي يجب على خدامها الأمناء تنفيذه، ولهذا فإن جيبسي ستحرق وهي في قيد الحياة، وسيكون لرفيقها بالجريمة — أي أنت — نفس العقاب.

فذعر السير آرثر ذعرًا شديدًا، وولد له الرعب قوة شديدة تمكن بها من قطع قيود يديه، لكن الرجل المقنع صفر بصفارة كانت معه ففتح الباب في الحال، ودخل منه عشرة رجال أشداء من الهنود، فأحاطوا به ومنعوه عن كل دفاع.

ولما رأى السير آرثر موقفه، وعلم ما يتهدده صاح بهم يقول:

– أيها الأشقياء، إنكم تستطيعون أن تحرقوا راقصة نورية لا تهتم الحكومة بالبحث عنها، أما أنا فإني من أشراف الأسرات النبيلة في بلاد الإنكليز.

وقال لهم المقنع: إنه ابن خال مس سيسيليا.

ثم أزاح القناع عن وجهه، فانتفض السير آرثر وقال: من أرى أأنت السير جورج؟

– نعم أنا هو السير جورج الذي سيتزوج مس سيسيليا، ولا بد له من إبعاد السير آرثر إلى الأبد.

ثم التفت إلى الهنود وقال لهم: كبلوه الآن، وادخلوا به إلى حيث تقيم جيبسي النورية كي يتأهب وإياها للموت، فإنهما يعيشان أربعًا وعشرين ساعة بعد.

هذا هو السبب في قدوم السير آرثر إلى المعبد الذي سجنت فيه جيبسي، فلما رأته تلك الفتاة صاحت صيحة فرح، ونسيت موقفها الهائل، وحسبت أنها في الفردوس.

إلا أنها رأت ما لم تكن تتوقعه مما يدل على الضعف الإنساني، فإن السير آرثر خاف من الموت، ويئس يأسًا لا يوصف حين علم أنه سيحرق حيًّا مع خليلة من النور، وقد أيقن مما رآه بين عيني السير جورج أن الحكم عليه بالموت لا بد من إنفاذه، وأنه لا يشفق عليه، فأوشك أن يجن من يأسه؛ لأنه لا يريد أن يموت هذه الميتة الشنعاء، ولما رأى جيبسي قادمة إليه صاح بها يقول بملء الغضب: إلى الوراء أيتها النورية الشقية، ارجعي فإنك علة شقائي، وأنت السبب في ما سألاقيه من الموت الذريع.

وسقطت جيبسي على ركبتيها وقد هالها هذا الانقلاب، حتى لم تعد تعلم ما تقول.

وكان الهنود قد خرجوا من المعبد بحيث لم يبق فيه سوى العاشقين، وجعل آرثر يشتم جيبسي أقبح شتم حتى جمد الدم في عروقها، فنظرت إلى ذلك الذي طالما أحبته نظرة احتقار، وقالت: إنه نذل جبان، فأهلًا بالموت الآن؛ لأني لم أعد أخشاه.

٤٨

وكانت جيبسي مطلقة اليدين والرجلين خلافًا للسير آرثر، فإنه كان مقيدًا، ولكل إنسان ساعة بسالة وساعة خوف، وقد حلت ساعة الخوف لدى هذا الرجل، فإنه رهب الموت رهبة شديدة أزالت من قلبه كل حب لتلك الفتاة البائسة.

وقد ألقى بنفسه إلى الأرض، وعاد إلى شتم تلك المسكينة التي طالما أحبها، وأراد أن يضحي حياته في سبيلها، ثم مل هذا الشتم وانقلب على ظهره، فجعل ينظر إلى القبة والتمثال، وما يحيط به في هذا المعبد إلى أن استوقفت نظره، فرأى أن التمثال الهائل يكاد يصل إليها بحيث لو وقف شخص على قمته يبلغ إلى سقفها.

وقد رأى في تلك القبة فوق رأس التمثال نافذة من الزجاج ينفذ النور منها إلى المعبد، فاتقدت عيناه بأشعة الأمل، وخطر له خاطر الفرار من تلك النافذة، وذلك أنه يتسلق التمثال حتى يبلغ قمته فيكسر الزجاج، ويخرج منها إلى السطح.

غير أنه لا يقدر أن يتسلق التمثال وهو موثق اليدين والرجلين، ومن يفك له وثاقه غير جيبسي.

ولكن هذا الرجل الذي خاف من الموت حتى إنه أهان فتاة خاطرت في سبيل حبها إياه بالحياة خطر له أن يلتجئ إليها.

وكانت الفتاة منطرحة على أقدام التمثال وهي شبيهة بالأموات؛ لما لقيته من قسوة حبيبها، ودناءته، حتى إنها خجلت لحبها هذا الإنسان بمقدار خجلها حين قيل لها من قبل إنها من النور.

أما السير آرثر فإنه لم يكن يخطر في باله غير الفرار، فالتفت إلى الفتاة وناداها باسمها بصوت منخفض، فلم تجب وأعاد النداء فارتعشت، ونظرت إليه نظرًا باهتًا جامدًا، فقال لها: أأنت مصممة يا جيبسي على الموت؟

فأشارت برأسها إشارة المصادقة، وعادت إلى ما كانت عليه من ظواهر اليأس.

فقال لها: إننا نستطيع النجاة إذا أردت.

فلم يظهر على الصبية شيء من دلائل الاهتمام بهذه النجاة، وقالت له: كيف تنجو؟

– انظري إلى هذه القبة، ألا تجدين فيها نافذة فوق التمثال؟ فإذا فككت وثاقي، فإننا نتسلق التمثال ونهرب من النافذة.

وكان هذا الرجل يكلمها بلهجة المتوسل المستعطف بعد أن كان يشتهما أقبح شتم.

فدنت منه جيبسي وقالت له: أدر كتفيك لأحل وثاق قدميك ووثاق يديك.

وكان السير آرثر نائمًا على ظهره فانقلب على بطنه، وبدأت الصبية تفك وثاقه عقدة عقدة، حتى فكت وثاق يديه، ففك هو وثاق قدميه وصاح صيحة فرح.

أما جيبسي فإنها عادت إلى النوم تحت قاعدة التمثال، وقد عاد إليها يأسها، فلم ينتبه آرثر إليها، وأسرع إلى التمثال فتسلقه حتى بلغ قمته، فوقف على رأسه ومد يده إلى تلك النافذة فرأى أنها لا تفتح وهي من الزجاج الشفاف مشبكة بحيث لو كسر الزجاج لأمكن الإنسان أن يهرب من خلاله دون أن يعيقه الحديد.

وكان السير آرثر يخشى إذا كسر الزجاج أن يصل صوت كسره إلى الهنود، ففطن إلى خاتم من الماس كان بإصبعه فقص به الزجاج بهدوء، وأخذ القطعة التي قصها وضعها على رأس التمثال، ونادى الفتاة بصوت ضعيف قائلًا: تعالي واتبعيني.

غير أنها لم تتحرك، وبقيت في موضعها.

فقال لها: ما بالك تعالي، ألا تريدين الفرار؟

فهزت جيبسي رأسها دون أن تجيب.

وعند ذلك بلغ آرثر بنذالته إلى أقصى حدودها، فامسك بالقضيب الحديدي، وهرب من النافذة فتوارى عن الأبصار، فأدارت الفتاة رأسها وقالت: أين أنت يا موت، ومتى تأكلني النار؟

أما السير آرثر فإنه صعد إلى سطح المعبد، وكان الفجر قد بدأ ينبثق، فعلم أنه في قرية همستد، ورأى شجرة باسقة اتصلت أغصانها بالسطح، فنزل عليها إلى الحديقة، ثم مشى إلى سورها فتسلق شجرة حتى انتهى إلى الجدار، فألقى نفسه منه إلى خارج ذلك المنزل الهائل، وتنفس نسيم الحرية.

وكان في وسعه أن يسرع في الحال إلى البوليس، فيخبره بما حدث في ذلك البيت، ولكنه إذا فعل ذلك أنقذ الفتاة من الحريق، وإذا أنقذها فقد تقابله ويضطر إلى الخجل منها، فشعر عند ذلك أنه من أدنى خلق الله، ولكنه على هذا الشعور لم ينثن عن عزمه، وانطلق مسرعًا في طريق لندرا، مغادرًا تلك التي طالما أحبها تحترق وهي في قيد الحياة، بعد أن أنقذته من ذلك الموت الهائل المخيف.

٤٩

ولنعد الآن إلى روكامبول، وإلى مرميس الذي أرسله روكامبول لإحضار ميلون والعصابة، وقد كان مرميس شديد الذكاء، كثير المطامع، وأخص مطامعه أن تروق أعماله لروكامبول. ولما أمره روكامبول بالذهاب إلى العصابة أسرع لتنفيذ أمره، فمر بالخمارة التي لقي فيها الهنديين منذ ساعتين، وحانت منه التفاتة فرأى امرأة إرلندية لم يكن رآها من قبل في المكان، فحدثه قلبه أن لهذه المرأة علاقة بأعداء جيبسي، ودخل فجلس بالقرب من طاولتها، وطلب بالإشارة كأسًا من الشراب.

وكان جالسًا مع هذه المرأة رجل إنكليزي وهما يتحدثان، ولم يكن مرميس يعرف اللغة الإنكليزية، غير أنه يوجد كثير من ألفاظ تلك اللغة تشبه الألفاظ الفرنسية، فأصغى إليهما وسمعهما يذكران جيبسي وآرثر نويل، وجسر واترلو، فأيقن أن حديث قلبه كان صادقًا، وعول على الصبر إلى النهاية.

وفيما هو على ذلك رأى جيبسي قد مرت قرب الخمارة فعرفها، بالرغم من تنكرها، ثم رأى أن الإرلندية قد رأتها أيضًا، وأنها اضطربت اضطرابًا شديدًا، وأسرعت إلى الخروج من الخمارة، وهي تقول للرجل: جسر واترلو.

فذهب في أثرها، وذهب مرميس في أثرهما، فرأى الرجل قد صعد إلى مركبة كانت تنتظره هناك، وجلس في مجلس السائق، فعلم أنهم عزموا على اختطاف جيبسي، وأنهم عهدوا إلى هذا السائق بانتظارهم في جسر واترلو لنقلها إلى المكان الذي أعد لسجنها.

فحار في أمره وهو لا يدري أيقتفي أثر الإرلندية أم أثر السائق؟ ثم نظر فرأى الإرلندية قد توارت عن أبصاره، ورأى السائق دفع المركبة إلى المسير، فأسرع إليها وتعلق بين دواليبها، وسارت تنهب الأرض حتى استقرت عند جسر واترلو.

ولم يمض على وقوفها نصف ساعة حتى رأى مرميس تلك الإرلندية ومعها شخصان يحمل أحدهما جيبسي، فوضع يده على مسدسه، وحاول أن يهجم عليهم، غير أنه لم ير من الحكمة مهاجمة أربعة وهو فرد، فلبث مختبئًا بين الدواليب، وحاول الصبر إلى النهاية وهو يقول في نفسه: إنهم لم يختطفوا الفتاة إلا كي يبحث عنها روكامبول، ويسقط في الفخ الذي ينصبونه له، فلأرى إلى أين يذهبون بها.

وقد خدع مرميس بهذا الظن، غير أن انخداعه أسفر عن نتيجة صالحة كما سنرى، فإنه حين بلغت المركبة إلى ذلك المنزل وفتح بابه أدخلوا جيبسي إليه، وسمع صوتًا يقول للسائق: آرثر نويل.

وكان مرميس قد سمع هذا الاسم بالخمارة. وهو لو كان يعلم أنهم سيحرقون الفتاة في ذلك المنزل لدخل إليه، ودافع عنها بمسدسه، غير أنه كان يعلم مما سمعه في خمارة سانت جورج عن حكايات جيبسي أن الفتاة لا يحق لها الزواج وإذا تزوجت قتلوا زوجها، وأما هي فلا ينالونها بسوء.

وكان هذا كل ما يعلمه من حكايات الفتاة، ولما عادت المركبة بقي مختبئًا بين دواليبها حتى وصلت إلى جسر واترلو، فصعد إليها شخصان كان ينتظرانها هناك، وسمع للمرة الثالثة اسم آرثر نويل.

ثم سارت المركبة حتى اقتربت من منزل آرثر، فخرج منها الرجلان، وعادا بعد حين بالرجل مكبلًا، فوضعاه في المركبة، وأمرا السائق أن يسير إلى همستد، فعلم مرميس أنهما أسرا آرثر نويل، وأنهما ذاهبان به إلى حيث سجنت الفتاة، فلما وصلت المركبة إلى جسر واترلو أفلت منها وهو يقول في نفسه لقد عرفت كل شيء، ولم يبق علي إلا أن أخبر الرئيس، ثم انطلق يعدو في شوارع لندرا إلى ويت هايل.

وكان روكامبول لا يزال ملتفًّا بردائه، وهو جالس على باب غرفة جيبسي يحرسها، ويحسب أنها لا تزال فيها، وأن العصابة تحرس البيت؛ لأنه مضى ساعتان ولم يعد مرميس إليه، فلم يعد لديه شك أنه عاد بالعصابة وأقام معها.

وفيما هو جالس وقد خاض في بحار التأملات إذ رأى مرميس قادمًا وعليه دلائل الاهتمام، فسأله: ماذا حدث ألم تجد العصابة؟

– إني لم أذهب إليها؛ لأني اهتممت بما هو أهم منها، فإني أعرف إلى أين ذهبوا بجيبسي؛ لأنك تحسب أنها في الغرفة، ولكنها ليست فيها.

فاضطرب روكامبول وقال: ويحك ماذا تقول، وكيف تخرج جيبسي من هذه الغرفة وأنا أحرسها؟

– لا أعلم، ولكني على يقين مما نقلته إليك.

فذعر روكامبول ودفع الباب بيده ففتح ولم يجد الفتاة في سريرها، ولكنه رأى نور القمر ينبعث من نافذتها، فانتبه إليها، وعلم أنها خرجت منها، فأسف أسفًا شديدًا، وقال: إنها تركن إلي كل الركون، فليأخذ الله بناصرها؛ لأني غير مسئول عن خطئها.

فقص عليه مرميس جميع ما اتفق له، فافتكر روكامبول هنيهة، وقال: إما أن يكون الوقت فسيحًا لدينا فنستطيع إنقاذها، وإما أن يكون فات الأوان؛ لأنهم لم يذهبوا بحيبسي وعشيقها السير آرثر إلى ذلك المنزل إلا ليقتلوهما سوية، ولكن للخناقين عادة أن يصوموا ضحاياهم أربعًا وعشرين ساعة قبل قتلهم، وإذا كانت هذه العادة لا تزال متبعة عندهم إلى الآن فلا بد لنا من إنقاذ الفتاة، والآن هلم معي.

ثم ذهب روكامبول من ذلك المنزل يتبعه مرميس، فسارا في الشارع حتى مرا بالخمارة المعهودة، فهز مرميس ذراع روكامبول، وقال له: هذه هي الإرلندية والسائق الجالسان على الطاولة الأولى، وهما يتحدثان بما فعلاه دون شك.

فقال له روكامبول: إذن لنجلس بجانبهما؛ لأني أعرف لغتهما، ولا يفوتني حرف من حديثهما.

ودخل الاثنان فطلب مرميس بالإشارة كأسين من الخمر، وجعل روكامبول يحادثه بالإشارة أيضًا وهو يسمع حديث الإرلندية والسائق، وكان السائق يطلب إليها أن تقترن به وهي تعتذر لفقرها، فيعللها بما سيقبضه من الذين دفعوها إلى اختطاف جيبسي وآرثر، وظهر لروكامبول من حديثهما أنهما كانا يأملان أن يقبضا ١٠ جنيهات، وقد ختم حديثهما بقول السائق: أتعديني بالزواج متى قبضنا هذا المبلغ؟

– سوف نرى.

ودفع السائق ثمن ما شربا، وخرجا من الخمارة.

وبينما هو يدفع ثمن الشراب قال روكامبول لمرميس: اذهب واكمن في ضواحي ذلك المنزل الذي حبست فيه الفتاة، وانتظرني هناك، وانتبه لكل ما يحدث، وإذا رأيت أحدًا خرج من المنزل اقتفي أثره حتى تعرف الطريق التي يسير فيها.

ثم ذهبا، فسار مرميس إلى تلك القرية، وذهب روكامبول في أثر السائق فأدركه على مسافة مئة خطوة من الخمارة، ووضع يده على كتفه وباغته بقوله: أتحب الإرلندية حبًّا صادقًا؟

فانذهل السائق، ولكنه ما لبث أن ثاب إلى رشده فقال: إني أحبها أصدق حب، ولكنها تأبى الاقتران بي لفقري.

– وإذا كان لديك مئة جنيه أترضى بك بعلًا؟

اندلع لسان السائق؛ لأنه لم يحلم في حياته بمثل هذه الثروة، وقال: إنها ترضى بي دون شك، ولكن من أين لي هذا المبلغ؟

– إنك تستطيع نيله متى أردت إذا فعلت ما أريد.

ثم سار به إلى زاوية الشارع، وأخرج من جيبه محفظة مملوءة بالأوراق المالية، ففتحها وقال له: انظر، فإني أعطيك مائة جنيه متى أردت.

– ماذا يجب أن أصنع؟

– لا شيء، سوى أن تذهب بي إلى المكان الذي ذهبت إليه بجيبسي والسير آرثر.

فعلم السائق أنه مطلع على كل شيء، ووازن بين العشرة التي كان يتأمل أن يقبضها من الخناقين وبين المائة جنيه التي سيقبضها من روكامبول؛ فرأى أن خدمة روكامبول أوفق له، فقال: رضيت بما تريد.

فتأبط روكامبول ذراعه ومشى وإياه، وأخذا يتحدثان.

أما مرميس فقد ذهب كما أمره الرئيس إلى المنزل الذي سجنت فيه الفتاة، وبينما هو يفتش عن زاوية يكمن فيها رأى رجلًا قد وثب من سور الحديقة، وانطلق يعدو فعدا في أثره حتى أدركه، فقال له: عفوك يا سيدي، أما أنت السير آرثر نويل؟

فتعلثم السير آرثر، وكان هو بعينه، وقال له: كلا، إني لا أسمى بهذا الاسم.

ثم حاول المسير، فحال مرميس دونه، وحاول أن يمنعه فضم السير آرثر قبضته وأراد ضربه، ولكن رأى رجلًا دخل بينهما وقال له: يجب يا حضرة السير آرثر أن تخبرنا بما حدث لجيبسي النورية؟

وكان هذا الرجل روكامبول أتى به السائق إلى همستد ليرشده إلى ذلك المنزل الذي سجنت فيه الفتاة.

٥٠

بعد أن هرب السير آرثر من المعبد بقيت جيبسي فيه لا تتوقع الخلاص إلا بالموت بعد أن مكر بها عشيقها، وأيقنت أنه نذل جبان حين علم بموته، فأهانها وغادرها في ذلك المعبد، وهي التي أنقذته منه، فكانت تنتظر الموت بفارغ الصبر، ولكنها كانت بعد يأسها غير جازعة منه.

وأقامت في ذلك المعبد بعد هربه عدة ساعات، فانطفأت الأنوار، وبزغت أشعة الشمس من نافذة المعبد فانجلت لها رموز هائلة.

وبقيت منطرحة على قاعدة التمثال، فأحست بالجوع، وقامت تتفرج على النقوش كي تتسلى عن ذلك الجوع.

وفيما هي على ذلك فتح الباب ودخلت النساء الأربع فدنون منها، وهن ينشدن الأناشيد باللغة الهندية، ثم انقطعن فجأة عن الغناء وعليهن مظاهر الاضطراب؛ لأنهن رأين أن السير آرثر غير موجود في المعبد، فعلا صياحهن، ودخل على أثر ذلك الصياح رجلان، فوقفا على العتبة منذهلين، ثم دنا أحدهما من جيبسي وقال لها: أين الرجل الذي كان حكم عليه أن يموت معك؟

فرفعت الفتاة يدها مشيرة إلى سماء القبة دون أن تفوه بحرف، فحسب الحاضرون أنها تشير إلى السماء، ولم يفطن أحد منهم إلى زجاج النافذة؛ لأنها كانت عالية جدًّا، فسألها أحد الرجلين: أين هو السير آرثر؟

وكأن الفتاة على فرط نفورها من عشيقها كانت لا تزال مشفقة عليه، فما أرادت أن تخبرهم كيف هرب، وقالت لهم بملء السكينة: إن الإلهة قد استجابت توسلي بعد صلاتي، فأرسلت ملاكين اختطفاه.

وكان تعبد الخناقين لإلهتهم كالي شديدًا، فجعلوا اختفاءه على محمل مقدس تمجيدًا للإلهة وركعوا.

وجعل النساء يتلاثمن أطراف ثوب الفتاة لحدوث هذه الأعجوبة ببركة صلاتها، وقالت لها إحداهن: ليتمجد اسمك؛ لأن الإلهة لم تجب نداءك إلا لأنها غفرت لك، واعتبرتك من الصالحات.

ثم تعاقد الرجال والنساء بالأيدي وأخذوا يرقصون حول جيبسي.

وبينما هم على هذا الرقص والغناء دخل السير ستوي والسير نيفلي، فرأيا أن السير آرثر قد نجا، وعلم السير ستوي في الحال كيف كانت نجاته، فقال لرفيقه: إنه هرب من النافذة، وسيدعو البوليس دون شك، وإذا لم نسرع بإحراق الفتاة باغتنا البوليس وأنقذها.

– هو ما تقول يا حضرة النور، فأمر بالإسراع.

وأشار إليهم السير ستوي إشارة رمزية، فذهب جميع من كان في المعبد، ثم عادوا بعد هنيهة وهم يحملون معدات الوقيد، ووضعوها على المحرقة، وعاد النساء إلى الرقص والنشيد، والسير ستوي واقف مع رفيقه وقفة الاحترام.

ثم أشار السير ستوي إشارة أخرى، فهجموا على الفتاة فقيدوها، ووضعوها فوق المحرقة، فجعلت تصيح صياحًا يقطع القلوب، فكان صياحها يضيع بين نشيد النساء.

وعند ذلك أخذ السير ستوي مشعلًا، وأوقد بلهيبه الحطب الموضوع تحت المحرقة، فاشتعل وأخذ لهيبه يتصاعد حتى أوشك أن يصل إلى جيبسي، كل ذلك والنساء ينشدن، والسير ستوي ينظر إلى هذا المنظر الهائل نظر الرضا، وقد أغمي على الفتاة لما نالها من الخوف، فانقطع صوتها، ولم تعد تستغيث.

وكان الهنود يدورون حول المحرقة، وينشدون هذا النشيد:

سلام على تلك التي تطهرها النار، وسترى الإلهة بجلالها.
سلام على جيبسي التي اختارت لها الإلهة خطيبًا من الخناقين في السماء.
إن سماء الهند الصافية، وزرقة مياه البحر، وأشعة الكواكب الذهبية جميع ذلك إليها لا يذكر بإزاء فردوس الإلهة كالي.
إن قصر الإلهة كالي مشيد بالذهب والفضة والرخام والمرمر، ورصعت جدرانه باللؤلؤ واليواقيت، ورقصت فيه الحور والولدان، فالمجد للإلهة كالي.
إن في هذا القصر يقيم اللواتي يمتن عذارى، ويضحين للإلهة كالي فينعمن بنعيم الخلود.
السلام عليك يا جيبسي، فإن روحك ستصعد قريبًا إلى أقدام الإلهة كالي فتبعثها في أجمل جسم.

وبينما كان النساء ينشدن الأناشيد طائفات حول المحرقة، وبينما كان السير جورج والسير نيفلي يسمعان الأناشيد باحترام، وينظران إلى النار يتزايد ضرامها دون إشفاق، وبينما جيبسي مغمى عليها، وقد ارتفع اللهب حتى اتصل بطرف ثوبها، سمع دوي شديد، وصفير رصاصة خرجت من مسدس، فأصابت السير نيفلي بدلًا من أن تصيب السير جورج، فسقط على الأرض.

ثم رأوا أن زجاج النافذة الكبيرة في سقف القبة قد تحطم، وأن كثيرًا من الرجال قد اندفعوا منها إلى التمثال، وسقطوا إلى المعبد، فغصت بهم رحبته.

وكانوا جميعهم عراة الصدور، وفوق صدورهم وشوم تدل على أنهم من أبناء الإله سيوا.

فأسرع أحدهم الذي كان يظهر أنه رئيسهم، فانتشل جيبسي من فوق المحرقة، وأطفأ النار العالقة بثوبها دون أن تلحق جسمها.

وقد انخدع الهنود بوشوم أولئك الرجال، وحسبوا أن الإله سيوا قد انقض عليهم، فركعوا جميعهم كأنهم قد صعقوا، فتركهم الرئيس وشأنهم، وصعد بجيبسي إلى التمثال، فخرج بها من النافذة، ثم تبعه جميع من كان معه، وجعلوا يتسلقون التمثال واحدًا بعد آخر.

ولم يبق ريب لدى جميع من كان في المعبد أن أولئك الرجال من أشياع سيوا، فكانوا لا يجسرون أن ينظروا إليهم من المهابة خلافًا للسير جورج، فإنه كان يعض كفيه من اليأس؛ لأنه علم أن هذا الرجل الذي اختطف جيبسي هو روكامبول، ولم يكن يستطيع مقاومته لكثرة رجاله، فاضطر إلى الهرب من المعبد حين رآه داخلًا بهذه القوة.

٥١

مضى ثلاثة أيام على هذه الحادثة كان في خلالها رجلان من رجال هذه الرواية مقيمين في منزلهما لا يخرجان منه، وهما السير نيفلي، والسير آرثر.

وأما السير ستوي فإنه خاف خوفًا شديدًا من روكامبول، فهرب من المعبد، واختبأ مدة بين أدغال القرية؛ كي لا يهتدوا إلى أثره، ثم عاد إلى منزله في لندرا، وكان يرجو أن يرى كيرشي فيه؛ لأنه هو وحده يستطيع إقناع عصابة الخناقين أن الذين هاجموهم في المعبد لم يكونوا من عباد الإله سيوا، فإن انتصار هذا الإله على الإلهة كالي يضعف عزائمهم، ويحط من منزلة ستوي في عيونهم، ولكنه لم يره في المنزل فأيقن أنهم اختطفوه؛ لأنه كان واثقًا من وفائه فلا يمكن أن يهرب.

وكان معظم خوفه من مس سيسيليا، فإنه كان يخشى أن يكون السير آرثر أخبرها بما اتفق له، وأن تكون صدقت كلامه، فإنها لم تكتب إليه كلمة منذ ثلاثة أيام بعد أن وعدته في مقابلتها الأخيرة بالزواج به، فلم يعد لديه شك أن السير آرثر أخبرها بجميع ما اتفق.

أما السير آرثر فإن خوفه من الخناقين كان أكثر من خوف السير جورج من فقد خطيبته، ولذلك فإنه بعد أن أخبر روكامبول بجميع ما حدث له مع السير جورج، وقص عليه حكاية فراره من النافذة بمساعدة جيبسي تنكر باسم آخر، وأقام في فندق مبالغة في التنكر لشدة خوفه من الخناقين، وقد تجسم الخوف في نفسه حتى إنه هجر الأميرالية، فلم يعد يذهب إليها، وعول على مغادرة إنكلترا إلى خلكيدونيا الجديدة، فأرسل خادم الفندق فقطع له تذكرة السفر في سفينة تسافر بعد ٣ أيام، وأعد معدات الرحيل.

وفي اليوم الثالث بينما هو يتأهب للسفر إذ سمع قرع بابه فلم يجب، فأعاد الطارق مرة ثانية فلم يجب أيضًا، وعند ذلك فتح الباب ودخل رجل عرفه السير آرثر لأول نظرة إنه روكامبول، بالرغم عن تغيير زيه فإنه كان بملابس البحارة حين لقيه المرة الأولى بجوار المنزل الأحمر، وهو الآن مرتدٍ بملابس الأعيان، فأقفل روكامبول الباب بعد دخوله، وقال له: أسألك المعذرة يا سيدي، فإني لم أعلم أنك مسافر صباح غد إلى خلكيدونيا، ولا تتوهم يا سيدي أني أريد بك شرًّا، فإني لست من رجال الشر، ولا مأرب لي بانثنائك عن قصدك إلا أني أتيت أسألك قضاء أمر يسير.

ثم أخرج مسدسًا من جيبه، وقال: إن جيبسي أخبرتني بكل شيء، وعلمت أني أستطيع أن أنال منك ما أريد متى حملتك على الخوف مني، واعلم الآن أنك إن لم تكتب الكتاب الذي سأمليه عليك في الحال … وكنت أود إنقاذك من الخناقين، إلا أني أحتقرك، فلا أمد لك يد المساعدة فاهرب متى شئت، ولكن اجلس على هذه المائدة قبل فرارك، واكتب ما أمليه عليك.

فتنهد السير آرثر تنهدًا طويلًا، وامتثل لما أراد روكامبول.

•••

ولنعد الآن إلى مس سيسيليا، فإنها كانت قد تولهت بحب السير جورج ستوي لا سيما بعد اجتماعها به في منزله، واعتقادها الراسخ في ذهنها أن كل ما قيل عنه من وشايات المفسدين.

وكانت قد التجأت إلى عمها اللورد شارنغ فوعدها خيرًا، فاجتمع بالسير جورج، وراقت له عشرته، وأعجب بحسن أدبه، وقال له: إنك تحب ابنة أخي وهي تحبك إلا أن أخي لا يزال معارضًا لهذا الزواج، فاتكل علي واصبر.

فاطمأنت مس سيسيليا لوعد عمها، ولكنها كانت منشغلة البال، مضطربة الحواس؛ لأن السير جورج لم يرها، ولم يكتب لها كلمة منذ أربعة أيام؛ وذلك لأنه كان يعتقد أن السير آرثر نويل أخبرها بما اتفق له، فلم يجسر على مكاتبتها.

وبينما هي جالسة في معملها التصويري، وهي مفكرة مهمومة بمناجاة السير جورج إذ دخل عليها الخادم يحمل رقعة زيارة مكتوبًا عليها روكامبول.

فنظرت الفتاة إلى الرقعة، ولم تعرف صاحبها، فقرأت سطرًا كان مكتوبًا تحت الاسم بالقلم الرصاص خلاصته: إن هذا الزائر قادم بشأن خاص بالسير جورج ستوي.

فأمرت الخادم بإدخاله في الحال.

ودخل روكامبول وحياها، وبعد أن دعته إلى الجلوس، قال لها: إني قادم أولًا لأحمل إليك وداع ابن خالك السير آرثر، فإنه سافر في هذا الصباح إلى لفربول، ومنها إلى خلكيدونيا الجديدة.

فانذهلت الفتاة، وقالت: كيف سافر؟ ولماذا؟

– إنه سافر يا سيدتي وقاية لنفسه، فقد حكم عليه منذ أربعة أيام بالإحراق حيًّا مع خليلته النورية، لكنه تمكن من الفرار بعد القبض عليه؟

فارتعشت لهذا الخبر الغريب، وقالت له: ما هذه الأنباء التي أسمعها أفي يقظة أنا أم في منام؟

– كلا يا سيدتي لست حالمة، وما أقوله لك هو الحقيقة بعينها، فإنه يوجد في قلب العاصمة الإنكليزية محكمة سرية حكمت على السير آرثر أن يحرق حيًّا، ورئيس المحكمة يا سيدتي هو ذلك الرجل الذي قرأت اسمه على رقعة زيارتي، أي السير جورج ستوي.

وصاحت الفتاة صيحة إنكار، ولكن نظرات روكامبول السحرية ضغطت عليها، فتذكرت حديث ابن خالها القديم.

وعند ذلك قال لها روكامبول: إنك قد تشكين بكلامي يا سيدتي؛ لأنك لا تعرفينني من قبل، ولكنك لا تستطيعين الشك بأقوال ابن خالك.

ثم دفع إليها ذلك الكتاب الذي أملاه على السير آرثر في الفندق، وقد اعترف به لسيسيليا بجميع حوادثه بالتفصيل منذ بدء حبه لجيبسي إلى حين نجاته من معبد الهنود.

وكانت لهجة كتابه تدل على حقيقة لا ريب فيها، فصاحت الفتاة عند تلاوتها.

ولكن عواطف حبها تغلبت على إرشاد عقلها، فالتفتت إلى روكامبول وقالت له: أتعلم يا سيدي أن السير آرثر كان يهواني؟

– نعم يا سيدتي.

– إذن ألا يمكن أن يكون كتابه هذا نميمة دفعته إليها الغيرة؟

وعلم روكامبول أن صوت قلبها أشد من صوت عقلها، وأن إقناعها بالكلام محال، فقال لها: إنك إذا أمهلتِني ٣ أيام أريك السير جورج ستوي يرأس مجتمعًا للخناقين مرأى العين.

فأهاجت هذه الكلمات الفتاة، وقالت له: إنك إذا أريتني إياه على ما تمثله الآن فإن حبي له يستحيل إلى كره شديد لا حد له، فلا تهنأ لي حياة إلا حين يعاقب على جرائمه بالموت.

– هي ٣ أيام يا سيدتي، فاصبري وكل آت قريب.

ثم تركها وانصرف.

٥٢

مضى خمسة أيام على حوادث المعبد والسير جورج مقيم في منزله دون أن يرده كتاب من سيسيليا، ولم يكن يجسر على الخروج لاعتقاده أن حادثة المعبد وقتل السير نيفلي لا بد من ظهورها، فكان يتوقع قدوم البوليس الإنكليزي إلى منزله من حين إلى حين، ولكنه لم يحدث شيء من ذلك.

وفي اليوم الخامس اطمأن بعض الاطمئنان، وخرج من منزله إلى النادي الهندي.

واستقبله أصحابه فيه حسب العادة إلا أن بعضهم عجب لغيابه، فقال له: إنه كان يصطاد الضواني.

وسأله آخر عن السير نيفلي، فقال له: ربما سافر مع الجيش إلى الهند.

ودار الحديث أمامه عن الخناقين بمناسبة خنق ذلك الرجل الذي خطب مس سيسيليا، فأجمع الحاضرون على أنهم طائفة من اللصوص بحيث اطمأن السير جورج، وعلم أن تلك الحوادث لم تنفضح أسرارها بعد.

وبعد أن أقام معهم مدة خطر له أن يذهب إلى المعبد ليتفقد الأحوال، فركب مركبة وسار إلى قرية همستفاد، فأطلق سراح المركبة، ودخل إلى خمارة كي يتجسس من قبيل الحذر، واختلط بين الحضور، فسمعهم يتحدثون بالانتخابات، وغير ذلك من الحوادث العمومية.

وسار عند ذلك مطمئنًّا إلى باب المعبد، ففتحه بمفتاح خاص، وبرزت تلك المرأة الهندية، واستقبلته بما تعوده من الاحترام، ثم قالت له: إن السير نيفلي ينتظر قدومك بفارغ الصبر يا حضرة النور.

فانذهل وقال: ماذا تقولين، ألا يزال حيًّا؟

– نعم يا سيدي، فإن الرصاصة لم تصب منه مقتلًا، بل جرحته في الصدر جرحًا خفيفًا كان سريع الاندمال.

فتنهد السيد جورج تنهد المنفرج، وسار في أثر المرأة إلى الغرفة التي يقيم فيها السير نيفلي.

ولما خلا به قال له السير نيفلي: إني كنت أنتظر عودتك بفارغ الصبر، فإن جماعة الخناقين قد ضعفت عزائمهم لحسبانهم أن الذين هاجموهم من أبناء سيوا، ولكني تمكنت من إقناعهم وإعادة الحمية إليهم.

– إذن لم يحدث شيء هنا؟

– كلا، وأرجو أن تكون بددت ذلك الفرنسي الجريء وعصابته.

– لم أفعل شيئًا من ذلك؛ لأني ما رأيت أحدًا منهم إلى الآن.

– ألم تستعد جيبسي؟

– كلا …

– ولكنك قبضت على السير آرثر على الأقل؟

– كلا …

– وماذا فعلت بقرانك، ومتى يتم العقد؟

– لم أرها منذ ذلك العهد، وقد كتبت لها فلم تجب.

فأظهر السير نيفلي عند ذلك انذهالًا شديدًا، وقال: إذن ماذا فعلت في هذه الأيام الخمسة؟

وقد نظر إليه حين قال هذا القول نظرة غريبة ما تعود أن يراها من حاشيته؛ لأنه كان الرئيس المطلق لطائفة الخناقين في لندرا، وله الحق في أن يعامل جميع رجال تلك الطائفة معاملة العبيد، فلما سمع هذا القول من نيفلي نظر إليه نظرة إنكار وتأنيب، فلم يحفل به، وقال له: كيف أنك لم تفعل شيئًا من مدة أسبوع كامل، ألعلك خفت أعداءك؟

فاحمر وجه السير جورج من الغضب، وقال له: ويحك أيها العبد، أنسيت من أنا فتجرأت على مخاطبتي بهذا الكلام؟

– كلا، ولكنك أصبحت أنت العبد وأصبحت أنا السيد بما ورد لي من السلطة السرية.

ثم أخرج من جيبه ورقة مختومة بأختام سرية وأطلعه عليها، فلم يكد السير جورج يقرؤها حتى صاح صياح القانطين، ثم ركع أمام السير نيفلي، وقال له: ألتمس منك الغفران، فإن النور قد انتهى إليك، فلك الأمر وعلي الطاعة.

ولا بد لنا لإيضاح أسرار هذا التغيير الفجائي أن نذكر بالإيجاز شيئًا عن تلك الجمعية الهائلة التي يدعونها جمعية الخناقين، فإنها لم تكن دينية كما كان يتوهم الأكثرون، بل كانت سياسية محضة يديرها كبار الرجال، فيسترون مقاصدها بحجاب الدين، وإنما كانوا يريدون بها مقاومة الإنكليز، والخروج عليهم تخلصًا من نير أحكامهم.

ولم يكن أحد يعرف رئيس هذه الجمعية، وأما أعضاؤها فكانوا مختفين، ومعظمهم من المتعبدين المتشيعين للإلهة كالي، فكانوا إذا أرسلوا رئيسًا من أولئك المتعصبين يرسلون معه رجلًا حاذقًا، يخضع له بالظاهر، ويراقب جميع أعماله حتى إذا رأى منه بادرة، أو رآه مقصرًا في واجباته خلعه من منصبه، وتولى عنه الرئاسة بما يكون لديه من الأوامر السرية، لذلك أرسلوا مع السير جورج السير نيفلي، وزودوه بتلك الأوامر، فلما رآه مقصرًا تولى عنه الرئاسة وعزله.

وكان السير جورج شديد التعصب في عبادة الإلهة كالي، يعتقد بفردوسها كما يعتقد عامة الهنود خلافًا للسير نيفلي كما سيجيء، فإنه كان من أعضاء الجمعية السياسيين.

فلما نزع السير نيفلي الرئاسة من السير جورج كما تقدم قال له: أصغ إلي الآن لأخبرك عن السبب في عزلك، فإني كنت واثقًا حين برحنا الهند أنك غير كفء للرئاسة، وقد أيدت الحوادث ظني، وماذا فعلت منذ قدومنا إلى لندرا؟ إنك أرسلت أوسمانا وكيرشي لخنق ابنة الجنرال الروسي فلم تفلح، وكان لجيبسي خليل منذ عامين وأنت لا تعلم، وقدر الاتفاق أن يكون خليل هذه الفتاة ابن خال خطيبتك، الذي يستطيع أن يمنع زواجك بها ويحرمنا من أموالها، فنجت جيبسي، ونجا السير آرثر وأنت مقيم في منزلك آمنًا مطمئنًّا تنظر الحوادث.

فاقرأ الآن هذه الأوامر التي زودتني بها الرئاسة العليا، فإني منحت بها السلطان المطلق، وإذا أشرت إشارة سرية إلى رجال هذا المعبد هجموا عليك وقتلوك، إذ يحق لي قتلك، ولكني لا أقتلك إذ لا بد من بقائك حيًّا، وإذا كنت لا تعرف أن ترأس، فقد تعرف أن تطيع.

والآن فأصغ إلي فإنك ألهبت صدر مس سيسيليا بغرامك، وهي أغنى غنيات الإنكليز، ويجب أن نرجع للهند تلك الأموال التي يأخذها الإنكليز من الهند؛ ولذلك يجب أن تتزوج سيسيليا.

ثم أحب أن أكشف لك سرًّا جديدًا وهو: أتحسب أن الجمعية تأمر بوشم صدور الفتيات، وتقضي عليهن بالبتولية الأبدية لمجرد إرضاء الإلهة كالي؟

فارتعش السير ستوي لهذا القول، ولكن السير نيفلي لم يحفل به ومضى في حديثه، فقال ببرود: إن شرائعنا الدينية الهندية هي من أوضاع الناس، وإنما وضعوها لتساعد الحكومات في السيطرة على الشعوب، أما أنت فإنك من المتعصبين في الدين، ولا تزال تعتقد إلى الآن بوجود الإلهة كالي.

فانقضت هذه الكلمات على السير ستوي انقضاض الصاعقة، وأخذ ينظر إليه نظرات البله، ويقول في نفسه: كيف يكفر هذا الكفر بالإلهة وهي لا تصعقه؟

أما السير نيفلي فإنه عاد إلى تتمة حديثه فقال: إن جمعيتنا تأسست منذ ستين عامًا، ولها مبدآن تجمع بأحدهما العامة أمثالك، وهو مبدأ عبادة الإلهة كالي، وتجمع بالآخر العقلاء الراشدين، وهو مبدأ كره إنكلترا وإبادتها، أعرفت الآن حقيقة أسرارها؟

ثم اعلم أنه حين افتتحت إنكلترا الهند اجتمع أمراؤها وزعماء قبائلها وعلماؤها فقرروا مقاومة الإنكليز، وارتأوا أن يفعلوا من الفعال الهمجية ما يوافق مدنيتهم المموهة، ولهذا فإن جميع الذين لا يعتقدون بالإله وشنو، وأمثاله، وإلهة الشر كالي، وإله الخير سيوا، بل يريدون أن تكون الهند للهنود من البحر الأحمر إلى منابع الكنغ يعتمدون في تنفيذ مآربهم على تعصب المتعصبين، فأنشئوا طائفة الخناقين، وبثوها في جميع أنحاء البلاد، ولنا كثير من الأحزاب من غير هذه الطائفة بعضهم يخدموننا كرهًا للإنكليز، وبعضهم لأغراضهم الخاصة، وإذا أردت البرهان فاسمع.

إنك تعرف حكاية ناديا التي تزوجت أمها مس أنا هاريس وهي مكرسة للإلهة كالي، فخنقت يوم ولادتها لابنتها ناديا، وأنت تعلم أن ناديا وابنتها محكوم عليهما بالموت، ولكنك لا تعلم لماذا حكم عليهما هذا الحكم؟

فقال السير ستوي متحمسًا: لأن الإلهة كالي أرادت لهما الموت.

– كلا، فإن هذه الإلهة لا تريد إلا الذي تريده، والحقيقة أن والدة ناديا كانت ابنة الجنرال هاريس حاكم كلكوتا، وكان يعذب الهنود، فأراد الخناقون أن ينتقموا منه، وكان بوسعهم أن يكتفوا بقتل الأب والإبقاء على البنت، إلا أنه كان لها أخت، وكان لأبيها أخ يدعى اللورد هارنس، وهو من جمعيتنا، فأراد هذا الأخ أن يقتل أخاه الحاكم، ثم يتزوج ابنته الصغرى، فإذا قتل ابنته الكبرى تدفقت ثروة أخيه بجملتها إلى خزائنه.

ثم تزوج ابنة أخيه الصغرى بعد قتل أبيها، وقتلت ابنة أخبه الكبرى إلا أنها ولدت قبل مقتلها بنتًا وهي ناديا، فإذا لم تقتل ناديا وابنتها فإنها تطالب بثروة أمها أمام المحاكم الإنكليزية، وتنقض كل ما بناه اللورد هاريس، ولهذا يجب قتل ناديا وابنتها صيانة لثروة اللورد هاريس؛ لأنه من جمعيتنا، أعلمت الآن؟

فاضطرب السير ستوي وقال: إذا كانت البنات توشم وتقتل لهذه الأغراض، فلماذا حاولنا إحراق جيبسي النورية، ومنعها عن الزواج؟

– ذلك لأن لها حديثًا آخر ليس موضعه الآن؛ إذ لدينا من المهام ما هو أهم منه، فاعلم إذن أني رئيسك المطلق، ولكن لا يجب أن تعلم الطائفة شيئًا من هذا التغيير، فإنك تبقى الرئيس المطلق أمامها، ويبقى لديك النور، ولكنك تتلقى الأمر مني بالسر، وتكون لي أطوع من العبيد. والآن قل لي: من هذا الفرنسي الذي تجاسر على مهاجمتنا؟

– إني لا أعرف من أمره أيها النور سوى أنه يقيم في هاي ماركت مع امرأة بارعة في الجمال.

– حسنًا سأراها، أما أنت فلا تهتم بهذا الرجل، ولا تبحث عن جيبسي بعد الآن، فإني سأتولى هذه المهمة.

فقال السير جورج: ولكني أقسمت بأن أنتقم من هذا الفرنسي.

فأجابه ببرود: إن الانتقام لا يجب أن يطبع إلا في نفوس الرؤساء، وأما أنت فلم تعد إلا شبه آلة، ويجب عليك أن تطيع.

فانحنى السير جورج ممتثلًا، ومن الغريب أن جذوة حقده على روكامبول قد انطفأت فجأة، واستحال كل بغضه لهذا الرئيس الجديد.

وبعد حين افترقا، فعاد السير جورج إلى منزله واليأس ملء قلبه، فكان أول ما بدأ به أنه دخل إلى غرفة معبده وقد زالت من نفسه كل عقائده الدينية، فضرب تمثال الإله وشنو برجله وهو يقول: انتقم لنفسك إذا كنت قادرًا، فسقط التمثال ولم يصعقه الإله.

ودنا من تمثال كالي وقال: أنت أيها التمثال الذي كرست له شبابي إذا كنت تمثل الإلهة كالي فلتنتقم مني، فإني أنكر وجودها.

ولما رأى أن الإلهة لم تجبه رفس التمثال برجله فسقط وتحطم.

ثم قام إلى البركة فأخرج السمكة وقتلها، ومزق جميع الصور، وأتلف كل ما كان هنالك من الرموز المقدسة وهو يجدف تجديف المجانين.

وبعد ذلك عاد إلى غرفة نومه، فوضع رأسه بين يديه، وجعل يفكر فيما صار إليه أمره، وصدره يتأجج حقدًا على نيفلي.

وفيما هو يمعن في طريقة للانتقام منه خطرت له وسيلة رجا أن ينال منها ما يريد، وهي أن يحالف بالسر روكامبول عدوه القديم على نيفلي عدوه الجديد، ويطلعه على جميع أسرار جمعية الخناقين، فيكون له خير عون على بلوغ مأربه من الانتقام، ولما تجسم هذا الخاطر في مخيلته خرج من منزله، وذهب توًّا إلى حيث يقيم روكامبول مع فاندا.

٥٣

مضى على ذلك ثمانية أيام ولم ير السير نيفلي السير ستوي في خلالها، فإنه لم يحضر إلى المعبد، ولم يعد إلى منزله منذ تلك الليلة التي سحق فيها تمثال الإلهة كالي، وقتل تلك السمكة التي كانت تقيم فيها روح أبيه.

وبقي السير نيفلي مطمئنًّا لا يهتم له ٣ أيام؛ لأنه كان يعتقد أن السير ستوي يخجل أن يظهر أمامه إلا بعد أن يعمل عملًا خطيرًا يدفع تهمة تقصيره السابق، وبعد أن يثق بأمر زواجه بسيسيليا.

فلما مضت الأيام الثلاثة بدت على محيا السير نيفلي دلائل القلق، وأخذ يبحث عنه، فغادر المعبد سرًّا في ليلة مدلهمة، وذهب إلى منزل ستوي فطرق بابه مرارًا دون أن يجيبه أحد، وكان سور حديقة المنزل واطيًا، فتسلقه ونزل إلى الحديقة، ثم صعد منها إلى المنزل فكسر الباب ودخل إلى غرفته، ففتشها بجملتها حتى انتهى إلى غرفة، ورأى آثار التخريب، وعلم أنه أثر على السير جورج حتى نزع منه عقائده الدينية.

ولكنه بقي منشغل البال لانقطاع أخباره عنه، واحتجابه عن الأنظار، فذهب إلى النادي الهندي، وهو النادي الذي كان يتردد إليه السير ستوي؛ عله يقف من أعضائه على شيء من أخباره، فلقيهم يتحدثون بأمر جليل قد استعظموه، وهو أن السير ستوي قد خطف مس سيسيليا برضاها؛ لأن والديها كانا مصرين على عدم تزويجه بها.

إلا أن الحب كان متمكنًا منهما، فوافقته على الفرار، ولا يعلم أحد حتى الآن إلى أين ذهبا.

فاطمأن خاطر السير نيفلي، وقال في نفسه: إن السير جورج لا يقدم على اختطاف الصبية إلا إرضاءً لي كي أنفي عنه تهمة التقصير، فما بعد الاختطاف إلا الزواج.

ولكنه لا بد أن يكون كتب لي عما حدث.

ثم برح النادي إلى منزله كي يرى ما كتب إليه السير ستوي، فوجد كتابًا باسمه.

ففضه وأسرع بنظره إلى التوقيع، ورأى بدلًا من توقيع السير جورج توقيع فاندا، فانذهل وقرأ ما يأتي:

إذا كانت السير جمس نيفلي صديق السير جورج ستوي من خيار النبلاء كما يذاع عنه، فإنه يسرع إلى مساعدة امرأة توشك أن تجن من الحزن واليأس وهي خادمته فاندا.

وقرأ بعد ذلك عنوان المحل الذي تقيم فيه، فوجده نفس المنزل الذي أخبره السير جورج أن الرجل الفرنسي يقيم فيه مع امرأته، فجعل يفحص الخط، فرأى ما يدل على أن يدًا مضطربة قد كتبته، فسر لهذا الدليل، ولم يعد يخشى أن يكون ذلك دسيسة.

إلا أنه لم يذهب في الحال، وأجل الزيارة إلى الصباح كي يتمعن.

ونام تلك الليلة في منزله، وفي الصباح تأنق بملابسه، وذهب ماشيًا إلى هاي ماركت حيث كانت تقيم فاندا بعد أن تسلح بمسدسين وخنجر.

حتى إذا وصل إلى المنزل وقرع بابه فتحت له فاندا، وقالت: أنت هو يا سيدي السير جمس نيفلي؟

فدهش نيفلي لجمالها، وأشفق لما رآه من احمرار عينيها لكثرة البكاء، ولظواهر يأسها، وقال لها: نعم يا سيدتي أنا هو، وقد أتيت لنصرتك إذا كنت لا تزالين في حاجة إلي.

فأخذت فاندا يده وقالت: تفضل يا سيدي بالدخول، لقد عقدت عليك آمالي، وكنت مشككة بحضورك؛ لأن الحزن دفعني إلى القنوط من كل نصير.

ثم دخلت به إلى قاعة صغيرة، وسقطت على مقعد فيها كأنما رجلاها قد ضعفتا عن حملها، وقالت: أرجوك العفو يا سيدي، فإني لا أعلم كيف أنا عائشة إلى الآن.

فنظر إليها السير نيفلي وحن عليها وهو عميد جمعية الخناقين، والشخص الذي شاهد جيبسي تحترق دون أن يتأثر، وقد دفعته عاطفة غريبة إلى هذا الحنو.

فقالت له فاندا وقد فهمت معنى نظراته: إنك تجدني جميلة يا سيدي أليس كذلك؟

فارتعش ولم يجب، ولكن عينيه كانتا تجيبان عنه.

فقالت: لقد كنت أمس جميلة، أما اليوم فقد زالت آثار هذا الجمال، وأنا تلك المرأة التي كانت تقيم مع ذلك الفرنسي الذي بارز صديقك السير ستوي، ولكن هذا الرجل قد تخلى عني منذ ٣ أيام بدناءة لا تخطر في بال.

وكانت عينا فاندا تتقدان، فقرأ السير نيفلي سور الحقد الهائل بين نظراتها، وقال لها: لماذا تخلى عنك؟

– لهيامه براقصة نورية من راقصات الطرق، سافر بها إلى فرنسا، وقد تخلى عني من أجلها بشكل يورث الخزي والعار، ويدل على انحطاط نفسه الدنيئة، فإني كنت أفديه بالحياة، ولكنه هجرني هجر بنات الهوى بعد أن سرق مالي ومجوهراتي، وغادرني وليس معي فلس.

فجلس السير نيفلي بالقرب منها، وأخذ يدها بين يديه، وقال لها: من عسى أن يكون هذا؟

فتنهدت تنهد القانطين وقالت: لا تسلني عنه، فإني أجهل اسمه الحقيقي، فقد كنت أحسبه من النبلاء الأغنياء، فركنت إليه وأحببته بقدر ما أبغضه الآن.

ثم نزعت شالًا كان يغطي صدرها، فظهرت فوقه أثر ضربة خنجر لا يزال داميًا.

فارتعد نيفلي وقال: ما هذا؟

– إني كنت عولت على الانتحار، فطعنت صدري بخنجر، وكدت أجهز على نفسي بضربة ثانية إلا أني عدت عن هذا القصد، وعولت على الانتقام من هذا السافل، ومن خصيمتي فيه، ولكن وا أسفاه كيف أبرح لندرا وأدركهما في باريس وليس لي مال؟ فخطر لي عند ذلك أن ألجأ إلى عدوه السير جورج، فعلمت أنه غائب عن لندرا، ثم قيل لي إنك من أصدقائه، فلجأت إليك وأنا أرجوك الآن يا سيدي أن تعطيني مائة جنيه كي أسافر بها إلى باريس، ومتى وصلت إليها أرجعت إليك مالك.

وكانت عيناها تتقدان بأشعة الحقد والغضب، فتبثان سحرًا، وتؤثران على فؤاد السير نفلي أشد تأثير إلا أنه لم يندفع في تأثره، ورجا أن يكون له بها خير معين، فقال في نفسه: هو ذا ساعد هبط إلي من السماء وقذفته لي جهنم.

ثم مد إليها يده وقال: إني يا سيدتي من أولئك الإنكليز الذين اشتهروا بغرابة الأطوار، والملل من المعيشة الثابتة، فأنا أشاركك في انتقامك إذا أردت وأسافر معك إلى فرنسا.

فصاحت فاندا صيحة فرح، وقالت: أنت تفعل هذا؟

– نعم يا سيدتي، ومتى أردت السفر أكون طوع أمرك.

فقالت بلهجة تبين منها ما طوي عليه فؤادها من الحقد والغيرة: إنك إذا انتقمت لي أحببتك، وكنت لك أطوع من الإماء.

فركع السير نيفلي أمامها، ولثم يدها؛ فابتسمت فاندا نفس ابتسامها في تلك الليلة الهائلة حين ألقت نقولا أرسوف في البركة، وفتحت حنفية الماء وهو فيها.

٥٤

كان الليل شديد الحلك، والهواء عاصفًا، والبحر تهدر أمواجه، فيسمع هديرها من مسافة بعيدة، ومع ذلك فقد كان الدخان يتصاعد من مطعم سومون؛ مما يدل على أنه لا يزال يستقبل الناس بالرغم من تلك الساعة المتأخرة من الليل.

وقد كان جاء إلى هذا الفندق اثنا عشر رجلًا بملابس نظيفة، ولكن ملامحهم لا تدل على أنهم من الأعيان، فاستقبلتهم صاحبة الفندق وهي توشك أن تقفل أبوابه، ثم علمت من حديثهم أنهم فرنسيون، فضعفت ثقتها بهم، وترددت في أمر قبولهم، فأدرك كبير هذه العصابة قصدها، وقال بالإنكليزية: لا، لا تخشين شرًّا فما نحن لصوص ولا سفاكون، بل نحن من مهربي البضائع، وسنسافر على باخرة سترسو على الشاطئ القريب من هذا الفندق، فأحضري لنا ما لديك من الطعام، ثم دفع لها مقدمًا ثمن ما طلبه، فارتاح فؤادها، وأحضرت لهم جميع ما طلبوه.

وكانت هذه العصابة عصابة روكامبول، فجلسوا على المائدة، وجعلوا يتحدثون، فقال مورت: أرأيتم كيف أن هذا الغلام مرميس بات على حداثة سنه نائب الرئيس، وتقدم في ليلة واحدة هذا التقدم السريع؟

فأجابه ميلون: ذلك لا ريب فيه؛ فإنه فعل ما يستحق من أجله التقدم.

وقال شانوان: لا ريب أن مرميس أصاب، فإن النور إذا لم يكونوا في جوار سانت بول فلا بد أن يكونوا في مكان آخر.

وكأنما ميلون قد حسد مرميس لانتزاعه الرئاسة منه، فقال مجيبًا شانوان: هو ما تقول، ولكن الرئيس أصدر لي أمره أن نبقى في ذلك المكان فلم يكن بد من البقاء.

– نعم إن مرميس لو لم يهتد إلى مكان الخناقين لكانوا فتكوا بالرئيس.

فتنهد ميلون وسكت.

وعاد مورت إلى استئناف الحديث فقال: كذلك الفتاة، فلولا مرميس لكانوا أحرقوها، فمن العدل أن يعينه نائبًا علينا.

فقال أحدهم: لقد أصاب الرئيس فيما فعل.

وقال آخر وقد أساءته هذه الرئاسة: سوف نرى إذا كانت تبقى له متى عدنا إلى فرنسا، أما الآن فإنه القائد علينا؛ لأنه يعرف أوامر الرئيس، ولا بد لنا من طاعته.

ثم انتقلوا بحديثهم إلى موضع آخر كثر فيه الجدال، وعلت الغوغاء، فأسرع إليهم مرميس وهو يقول: كفاكم صياحًا فإن الفتاة نائمة، وقد أشار بقوله إلى جيبسي، فإنه كان قد صعد بها إلى الدور العلوي من الفندق، وصبر إلى أن نامت بينما كان رفاقه يتحدثون بأمره، فلما سمع ضجتهم أشفق على جيبسي أن تصحو من رقادها، فأتى يزجرهم أن يسكتوا.

وكانت المسكينة قد فقدت صوابها لما مر بها من الحوادث الهائلة، فلم تعد تعرف أحدًا غير روكامبول، فإنها كانت تنقاد إليه انقياد الأطفال، ومرميس الذي كان يعتني بها اعتناء الأخ بأخته.

فلما صدر إليهم أمر مرميس جعلوا يتكلمون بأصوات منخفضة، فقال شانوان لميلون: أأنت واثق أننا نسافر هذه الليلة؟

– نعم.

– أتظن أن الرئيس يسافر معنا؟

– ربما.

أما مرميس فإنه لم يقل شيئًا، بل إنه خرج من الفندق، وجعل ينظر إلى البحر، فرأى نورًا يشق حجاب الظلام وهو يدنو من الشاطئ، وكلما دنا كبر وارتسم، فأطلق مرميس طلقًا ناريًّا فأجابته بمثله؛ مما يدل على اتفاق سابق، فأيقن أنها السفينة التي سيسافرون عليها، فعاد إلى الفندق، وقال لرجال العصابة: أسرعوا بالتأهب فإن السفينة دنت، ولا بد من السفر هذه الليلة.

بينما كان رجال العصابة يتحدثون بالشئون التي بسطناها كان روكامبول ونويل سائرين في مركبة كانت تنهب الأرض نهبًا في طريق دوفر.

وكان روكامبول قد استأجر سفينة شراعية لتنقل العصابة إلى فرنسا؛ لأنه خشي على رجاله أن يسافروا على باخرة نظامية؛ حذرًا من البوليس الفرنسي، فإن أكثرهم كان محكومًا عليهم أحكامًا مختلفة وهم هاربون.

وفيما هما سائران قال روكامبول لنويل: أرأيت فاندا؟

– نعم يا حضرة الرئيس.

– ألعلها اجتمعت بالسير جمس نيفلي؟

– نعم.

– إذن لا بد لها أن تكتب لي.

– هو ذا، فإننا سنجد تلغرافًا منها في دوفر.

فأمر روكامبول بالإسراع، وبعد حين وصلت المركبة إلى دوفر، أسرع روكامبول إلى مكتب التلغراف، وقال لعامله: إني أدعى ويليم بيرتريك، فهل لي عندك رسالة برقية؟

جمس لنا. وقع الطير في الشرك. نسافر هذه الليلة إلى باريس. الاجتماع فيها يوم الثلاثاء. أنت تعلم أين.

ف …

ولم يكن روكامبول يريد أن يعرف أكثر مما عرف، فخرج من مكتب التلغراف إلى المركبة التي كان ينتظره فيها نويل، وقال له: إني مسافر معكم، فإني أخشى إذا سافرت على الباخرة التي يسافر عليها نيفلي وفاندا أن يعرفني.

– ولكنه ما رآك ولا يعرفك.

– هو ذاك، ولكني أخشى أن تبدو نظرة من فاندا تفضح أمري، وقد يتفق أن يكون عرفني وأنا لا أدري، فهلم بنا إلى الفندق حيث تقيم العصابة.

فسارت بهم المركبة حتى وقفت أمام باب الفندق، فخرج منها روكامبول، ودخل إلى الفندق فرأى رجاله يتأهبون.

ولما رأوه داخلًا ذهلوا، وقالوا بلهجة الاحترام: هو ذا الرئيس.

فقال لهم: هلموا بنا يا أولادي، فقد حان وقت السفر.

وقال ميلون بلهجة السرور: لقد كان قلبي يدلني أنك مسافر معنا، ولكن مرميس لم يقل لنا شيئًا من هذا.

فابتسم روكامبول، وقال: لقد أصاب بسكوته، فإنه هو نفسه لم يكن يعلم، والآن قل لي كيف حال جيبسي؟

فقال له ميلون: إنها لا تزال مجنونة، ولا تسمح لأحد أن يدنو منها ما خلا مرميس.

– وأين هي الآن؟

– إنها نائمة في الدور العلوي.

– اصعد وأت بها.

فامتثل ميلون وجلس روكامبول على المائدة، فجعل يأكل ورجال العصابة وقوف وراءه.

ثم فتح الباب ودخلت جيبسي وهي متكئة على ذراع مرميس باطمئنان وارتياح، ومرميس ينظر إليها نظرات ملؤها الحب والاحترام، فلم تخف هذه النظرات على روكامبول، فتنهد وقال: ما أبلغ تأثير الشباب.

أما جيبسي فإنها لما نظرت روكامبول صاحت صيحة فرح، وأسرعت إليه فعانقته وهي تقول: لم أكن أرجو أن أراك.

فقبل روكامبول جبينها، وتأبط ذراعها، ثم مشى معها أمام رجال العصابة، وقال لهم: هلموا بنا إلى الرحيل.

•••

بعد ذلك بعدة ساعات كانت السفينة تمخر بروكامبول ورجاله، وقد بزغ النهار، وغابت الشواطئ الإنكليزية عن الأبصار.

وكان رجال العصابة نائمين بعضهم فوق بعض على ظهر السفينة، وفي مؤخرها غرفة صغيرة كانت جيبسي نائمة فيها على فراش من القش، ومرميس راكع أمامها يتأمل محاسنها، ويحبس أنفاسه حذرًا من أن تصحو.

وقد طال تمعنه بها إلى أن قال بملء البساطة بصوت منخفض: الله ما أبدع هذا الجمال!

ولم يكد يتم قوله حتى شعر بيد وضعت على كتفه، فالتفت وتراجع منذعرًا مضطربًا وهو يقول: الرئيس.

وقد كان روكامبول باغته وهو يقول هذا القول، غير أنه لم يقطب جبينه، ولم يظهر استياءه، بل قال له بلهجة الحنو: أتحبها يا مرميس؟

فغطى مرميس وجهه بيديه إخفاءً لاضطرابه، إلا أن روكامبول رأى دمعتين سقطتا بين أصابعه فقال له: طب نفسًا، فإن الأقدار ألقتك بين يدي حين كانت أبواب السجون مفتوحة أمامك، والمشنقة تنتظرك، ولكني رأيت بين جنبيك قلبًا حنونًا، ومن كان له مثل قلبك ينجو من تلك الهاوية، وسأنقذك بإذن الله.

فركع مرميس أمامه، وجعل يقبل يديه.

فتنهد روكامبول، وقال: اندفع في حبها يا بني ما استطعت؛ فإن الحب الصادق يطهر الآثام.

فانتثر الدمع من عيني مرميس، وقال بصوت مضطرب: أيها الرئيس، إني أفعل كل ما تريد، وأذهب إلى حيث تشاء … وأكون شريفًا طاهرًا حسب إرادتك؛ لأنك أنت أول من قال لي: إن لي قلبًا يحن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤