الفصل الخامس

نقولا مالبرانش

١٦٣٨–١٧١٥

(١) حياته ومصنفاته

قسيس من جمعية الأوراتوار لم يجد في فلسفة أرسطو شيئًا من المسيحية مما كان يقول كثيرون، ولم يتذوق اللاهوت المدرسي القائم على الأرسطوطالية، واتخذ من القديس أوغسطين أستاذه الأكبر، ثم وقع له كتاب «الإنسان» لديكارت وهو في السادسة والعشرين، فأعجب إعجابًا شديدًا بمنهج الفيلسوف، وبمذهبه القائم على وجود الله وروحانية النفس وخلودها، وأفعم قلبه سرورًا لاهتدائه إلى فلسفة متفقة مع الدين مثل هذا الاتفاق، فشرع يعمل على إنشاء فلسفة مسيحية لا تدين للفلاسفة الوثنيين بشيء وظل في ديره بباريس إلى وفاته يؤلف ويجادل.

كان أول كتبه «البحث عن الحقيقة» (١٦٧٤–١٦٧٥) وقد ظل أشهرها، وأعقبه «بالاحاديث المسيحية» وهو ملخص مذهبه، ثم نشر على التوالي «تأملات قصيرة في التواضع والتوبة» (١٦٧٧) و«كتاب الطبيعة والنعمة» (١٦٨٠) أنكرته السلطة الكنسية، و«كتاب الأخلاق» (١٦٨٣) و«التأملات المسيحية» (١٦٨٣) و«أحاديث في ما بعد الطبيعة والدين» (١٦٨٨) وقد يعد خير كتبه، و«كتاب محبة الله» (١٦٩٧) و«حديث بين فيلسوف مسيحي وفيلسوف صيني في وجود الله» (١٧٠٧) دوَّنه على أثر اتصاله بأسقف من المرسلين إلى الصين وجميع هذه الكتب شروح مختلفة لبضعه أفكار رئيسية في أسلوب واضح رشيق كثير الإطناب.

(٢) الله

فلسفته كلها تلخص في هذه القضية: «ما من شيء إذا تأملناه كما ينبغي إلا ردنا إلى الله»، فإذا تأملنا المعرفة لم نقل مع أرسطو والمدرسيين إن الأشياء تطبع صورها في النفس، فإن الأدنى لا يؤثر في الأعلى (وهذا مبدأ متواتر عند الأفلاطونيين، بما فيهم أفلوطين وأوغسطين)، «إن الموضوع المباشر لذهننا حين يرى الشمس — مثلًا — ليس الشمس، بل شيئًا متحدًا بنفسنا اتحادًا وثيقًا، وهذا ما أسميه فكرة idée».١ وليس يمكن أن تتحد بالنفس أشياء بعيدة عنا مباينة لفكرنا، إن إدراكات الحواس انفعالات، ولا تنطوي على معرفة الأشياء الخارجية، بل تقتصر على تنبيهنا إلى ما بيننا وبين الأشياء من علاقات لأجل صيانة حياتنا، فمالبرانش يصطنع موقف ديكارت بكل دقة، ويسهب في بيانه، وبخاصة في كتاب البحث عن الحقيقة، فيتحدث عن أخطاء الحواس، وتعارضها فيما بينها، وتعارضها مع المعرفة العقلية، ويتحدث عن المخيلة فيقول إنها ليست أكثر تعريفًا لنا بالأشياء، وإنها تربط بين الصور برباطات غير عقلية، فتسبب أخطاء كثيرة، وتقر في الذهن معتقدات باطلة يفيض في شرحها، وعلى هذا يكون وجود العالم وعدمه سواء ما دامت الأشياء غير مدركة في أنفسها، وما دامت الانفعالات التي تحملنا على الاعتقاد بها تغيرات ذاتية ليس غير، قد نحسها في غيبة الأشياء أو عدمها، ولا يمكن أن يقال إن الأفكار غريزية في النفس، فإنها غير متناهية العدد والنفس متناهية، فلا يبقى إلا أن الله هو الذي يحدثها في النفس من حيث إن الأعلى هو الذي يؤثر في الأدنى، وإننا إنما نعتقد بوجود العالم لأن الوحي ينبئنا بأن الله خلق سماءً وأرضًا وغير ذلك، وفيما خلا الوحي فلا سبيل إلى الجزم بوجود العالم.
وبعبارة أدق نحن نرى أفكارنا في الله، أفكار الماديات والحقائق الكلية الضرورية، فإن الله «محل الأفكار جميعًا» و«هو وحده معلوم بذاته وما من شيء نراه رؤية مباشرة إلا هو»، ذلك بأن الله ليس مرئيًّا بفكرة تمثله كما ذهب إليه ديكارت: إن هذا شأن سائر الأشياء، أما الله الموجود اللا متناهي فليس يرى في شيء متناهٍ بل في ذاته دون واسطة، لأنه حاضر لجميع المخلوقات وحاضر لفكرنا، ونحن حاصلون دائما على فكرة اللا متناهي، ومتي كنا نفكر في الله وجب أن يكون الله موجودًا، فالدليل الوجودي كما يعرضه ديكارت دليل صحيح، ولكن له عيبًا هو أنه دليل: إنه يذهب من فكرة الله إلى وجود الله كأن وجود الله بالإضافة إلى الفكر مرحلة منفصلة عن فكرة الله، إن الفكرة بمعناها الدقيق تمثل موجودًا غير واجب الوجود، فهي تتضمن التمييز بين الماهية والوجود، أما الوجود اللا متناهي فليس هناك فكرة تمثله وتسمح بالتساؤل عمَّا إذا كان موجودًا أو غير موجود، إن تصوره عبارة عن رؤيته، وعلى ذلك فلا حاجة إلى ضمان صدق الأفكار الجلية من حيث إننا نراها في الله ذاته، فمبدأ اليقين اتحاد العقل بالله، أو حضور الله للعقل، وبهذا الصدد يستشهد مالبرانش بأوغسطين، ويقول صراحة إنه تعلم منه أن النفس متحدة مباشرة بالله الحاصل على القدرة التي تمنحنا الوجود، وعلى النور الذي ينير عقلنا، وعلى القانون الذي يدبر إرادتنا، ولكن مالبرانش يتجنى على أوغسطين، ولما أنكرت عليه هذه النظرية، فسر رؤية الله بأننا لا نرى الذات الإلهية في نفسها، بل فقط في نسبتها إلى المخلوقات ومن جهة ما هي قابلة لمشاركة المخلوقات فيها٢ وهذا تفسير لا طائل تحته، ونحن لا نتمثل الله كما نتمثل شيئًا ماديًّا ندركه إداركًا مباشرًا بل نحكم بوجود علة أولى، ولا نتمثل اللا نهاية، بل نحكم بأن العلة الأولى لا متناهية، ومثل هذا الحكم ميسور لنا.
الله موجود إذن. فما الله؟ يجب أن نضيف إلى الله جميع الصفات أو الكمالات القابلة لأن تطلق إلى اللا نهاية، أي التي لا تتضمن حدودًا جوهرية، هذه الكمالات إذا اعتبرناها في أنفسها، وجدناها معقولة أي متصورة بما يكفي من الجلاء للحكم بأنها تخص الذات الإلهية، وإذا اعتبرناها مطلقة إلى اللا نهاية، وجدناها تفوق التعقل، والحقيقة كمال من هذه الكمالات، فإن الله الحق بالذات، وما الحقائق السرمدية والقوانين الضرورية إلا ذات الله كما قال أوغسطين، وإذا لم يكن الحق حقًّا ولم يكن القانون ضروريًّا إلا بالقضاء الإلهي، كما يقول ديكارت، فمن يضمن لنا دوام الحقائق والقوانين؟ والفاعلية كمال آخر من الكمالات الإلهية، فإن الله وحده هو الفعال: ينمي النبات بمناسبة حرارة الشمس، ويفعل كل شيء بمناسبة شيء آخر، وليست المخلوقات عللًا، ولكنها هي وأفعالها «فرص» أو «مناسبات» لوجود موجودات وأفعال أخرى بفعل الخالق، وإذا سلمنا مع أرسطو والمدرسيين أن في الأجسام والنفوس صورًا وقوى وكيفيات قادرة على إحداث معلولات بقوة طبيعتها، فقد سلمنا بألوهية ثانوية إلى جانب الله الكلي القدرة، واعتنقنا رأي الوثنيين ونحن لا ندري، إن هذه الصور والقوى والكيفيات من مخترعات المخيلة المتمردة على العقل، والعقل يقضي بأن العلة الحقة هي التي يدرك بينها وبين معلولها علاقة ضرورية، وهو لا يدرك مثل هذه العلاقة إلا بين العلة الأولى ومعلولاتها، أما التجربة فلا تظهرنا على علية الجسم الذي يقال إنه يحرك جسمًا آخر، بل فقط على أن الجسم الآخر يتحرك، ولا تظهرنا على علية النفس عند حركة الجسم بالرغم من شعورنا بالجهد الباطن، إذ ما العلاقة بين إرادتي وحركة ذراعي، بين ذلك الفعل الروحي وحركة الأرواح الحيوانية التي تمر في أعصاب معينة من بين مليون من الأعصاب لا علم لي بها لأجل أن تحدث الحركة التي أرجوها بما لا عداد له من الحركات التي لا أرجوها، والعلة الحقة يجب أن تعلم ما تفعل وكيف تفعل، فالتعاقب المطرد بين إرادتي تحريك ذراعي وحركة ذراعي، وعلى العموم بين جميع الظواهر، قائم على أساس لا يتزعزع هو القضاء الإلهي، فقد ربط الله بين مخلوقاته وأخضعها بعضها لبعض بموجب قوانين كلية ثابتة دون أن يمنحها فاعلية ما، فوهمنا ناشيء من أننا نحكم بالعلية حيث لا يوجد سوى اقتران مطرد، وأننا لا ندرك بالحس أي شيء آخر يمكن أن يكون العلة.٣

(٣) العالم والإنسان

القوانين الكلية الثابتة تمثل أبسط الوسائل التي رأها الله ممكنة لتدبير العالم، إذ ليست حرية الله مطلقة مستقلة عن كل سبب كما يزعم ديكارت: إن حكمته تجعل يختار أكمل الممكنات، إن الله يعلم جميع الأنحاء التي يمكن أن يصنع عليها ما يصنع، فيختار النحو الذي يقتضي أقل عدد من الإرادات الجزئية فمثلًا يستطيع الله أن يضيف جمالًا إلى جمال ما يصنع، ولكنه لا يضيف لأن الإضافة تضطره إلى مخالفة بساطة الوسائل؛ ويستطيع بإرادة جزئية أن يمنع سقوط المطر في البحر سدى، وأن يرفع من العالم كل نقص ونقيصة، ولكن الأليق به أن يكفي نفسه مئونة الإرادات الجزئية، فلا ينبغي الفصل بين الصفات الإلهية حين ننظر في أسباب الخلق ومقتضياته، وبذا نرى أن العالم، إن لم يكن الأكمل في نفسه، فإنه الأكمل بالوسائل البسيطة الكاملة التي يستخدمها الله فيه، بيد أن فعل الله لا متناهٍ والعالم متناهٍ، فكيف يكون العالم صنع الله؟ إن دخول المسيح في نظام الخليقة هو الذي يجعل من العالم صنعًا لائقًا بالله، فلم يخلق الله العالم إلا لتجسد الكلمة، وحتى لو لم يرتكب آدم خطيئته لكان ميلاد المسيح ضروريًّا بالإطلاق وبذا تتصل الميتافيزيقا بالدين.٤
والعوالم امتداد فحسب، نرى في الله الامتداد المعقول، فيصير محسوسًا وجزئيًّا باللون، فما الألوان إلا إدراكات حسية تحصل في النفس حين يؤثر فيها الامتداد، أو «ما يسمى رؤية الأجسام إن هو إلا حضور فكرة الامتداد في النفس تمسها وتغيرها بألوان مختلفة»، وفكرة الامتداد الكلي أو اللا متناهي فكرة ضرورية ثابتة لا يمكن محوها من الذهن، كما لا يمكن أن نمحو منه فكرة الوجود؛ لذا كان العلم الطبيعي علمًا هندسيًّا قائمًا على فكرة الامتداد وأشكاله وقوانين الحركة، فجميع الأجسام آلات، الجماد والنبات والحيوان وجسم الإنسان، لا نفس لها ولا شعور، فالكلب الذي يعوي عند ضربه لا يشعر بالألم، ولكن مثله مثل الآلات التي يصنعها الإنسان ويرتب فيها حركات وأصواتًا على حركات أخرى، غير أن الآلية — إذا كانت نظام نمو الأحياء وفعلها — كما بين ديكارت، فليست نظام تكونها، ولكن الأحياء صادرة عن أصول بذرية، كما قال أوغسطين، إذ أن تكون الأحياء يدل على غائية، وتدل الغائية على حكمة الله.٥
أما النفس الإنسانية، فنحن نعلم وجودها بعلم أوضح من علمنا بوجود جسمنا والأجسام المحيطة بنا، ولكننا لا ندركها في ذاتها، ولا نكون عنها فكرة أو معنى، «إن ما لدي من شعور باطن ينبئني بأني موجود، وأني أفكر وأريد وأحس وآلم … ولكنه لا ينبئني بما أنا وبطبيعة فكري وإرادتي وعواطفي، ولا بما بين هذه الأشياء من علاقات». وهذا يعني أن الله حرمنا رؤية نفسنا فيه، وأن علم الأجسام أبين من علم النفس، خلافًا لما يقول ديكارت، أو أن علم النفس علم ناقص لأنه يستعصي على المنهج الرياضي، ولا يتناول إلا بالمنهج التجريبي،٦ وفي هذا كان مالبرانش أكثر توفيقًا من ديكارت، فإن الحق أننا لا ندرك ذات النفس، وأننا لا نعلم ماهيتها إلا بالاستدلال، ولكن مالبرانش يتعثر في مسألة اتصال النفس والجسم؛ فإنه يقرر أنهما متباينات وأن أفعالهما متباينة كذلك، فلا يؤثر الجسم في النفس، ولا تؤثر النفس في الجسم، وأن «كل اتحادهما يقوم في تقابل طبيعي بين أفكار النفس وحركات الجسم»،٧ مثلما نفكر في نفس الأشياء كلما قبل الدماغ نفس التأثيرات، ثم هو لا يخبرنا كيف يحدث هذا التقابل الطبيعي، هل يحدث تبعًا للوسائل البسيطة أو القوانين الكلية؟ إذن نقع في الآلية والجبرية، أو هل يحدث تبعًا لإِرادات جزئية من لدن الله؟ إذن نخرج على بساطة الوسائل ونخالف مقتضى الحكمة الإلهية.

ويتعثر مالبرانش كذلك في مسألة الإرادة، فهو يعرفها بأنها محبة الخير على العموم، ويلاحظ أننا لا نحب شيئًا إلا أن يكون خيرًا حقًّا، أو يبدو كذلك، ويقول إن هذه المحبة يطبعها الله فينا، وإنها مبدأ محبة الأشياء بالخصوص، فالإرادة هي الأثر المتصل الصادر عن صانع الطبيعة والموجه لنفس نحو الخير على العموم، وإذا ما جاء إلى النظر في حرية الإرادة، أثبت الحرية بشهادة الوجدان، وبما قال من أن موضوع الإرادة الخير على العموم، إذ متى كان الحال هكذا كان في استطاعة الإنسان أن يمتنع من محبة أي خير جزئي لقصور الخيرات الجزئية عن استنفاد كفايته للمحبة وإرضاء إرادته كل الرضا، ثم يضطر إلى القول بأن الاختيار فعل صوري فحسب أو فعل باطن عاطل من الفاعلية، من حيث إن الفاعلية لله وحده، والله هو الذي يحقق إرادات الإنسان، بل «إن الله هو الذي يصور لنا فكرة الخير الجزئي ويدفعنا نحوه»، فلا يبقى للنفس فعل، ومهما نقل إن الاختيار فعل صوري، فالمذهب ينفي كل فعل عن المخلوق، وإذا سألنا: كيف نعزو الخطيئة إلى الله؟ أجاب مالبرانش بأن «الخاطئ لا يصنع شيئًا من حيث إن الشر عدم، وإنما هو يقف ويطمئن عند الخير الجزئي، ولا يتبع الله» أوَليس وقف دفع الله وتوجيهه يستلزم بذل فعل؟

على أن مالبرانش يعتبر الاختيار فعلًا كافيًا نفسه بنفسه ومحققًا للخليقة والتبعة، ويضع مذهبًا في الأخلاق، وترجع مبادئ هذا المذهب إلى ما يأتي: إن قانون الإرادة العقل، وبالعقل نتصل بالله، وفي الله نوعان من النسب بين الأشياء: نسب مقدار ونسب كمال، الأولى تتعلق بالعلم النظري، والثانية تتعلق بالنظام؛ «فكما أننا نلاحظ فورًا نسبة عدم التساوي بين مقدارين، نلاحظ أيضًا أن الحيوان أعظم قيمة من الحجر، وأقل قيمة من الإنسان» لتفاوت نسبة الكمال، و«نسب الكمال هي النظام الدائم الذي يرجع الله إليه حين يفعل، وهذا النظام يجب أن يكون قانون العقول في تقديرها للأشياء ومحبتها لها»، ومن ثمة يكون قانون الإرادات ودستور الأخلاق، فتتجه المحبة إلى الله أولًا وفوق كل شيء لأنه الكمال المطلق، ثم إلى المخلوقات كل بحسب نسبته لله أي درجته من الكمال، فالفضيلة الوحيدة محبة النظام محبة متصلة، وكل ما نصنعه لغاية أخرى فليس فضيلة ولو كان مطابقًا للنظام، مثل الإحسان الصادر عن طلب المجد الدنيوي أو عن مجرد الشفقة، فالعقل صوت الله فينا، من لا يصغي إليه يقع في الخطأ والخطيئة، ويحكم على الأشياء بعقله الخاص لا بالعقل الكلي الموجود فينا كجزء لا شخصي إلهي يستطيع استكشاف النظام بالرغم من اختلاف تكوين العقول بالتربية والعادة وظروف المكان والزمان، هذا الاختلاف هو السبب في اختلاف الأخلاق، أما إذا عاد الناس إلى العقل الخالص، فإنهم يهتدون إلى نفس القواعد الأخلاقية، وفي كل هذا يتابع مالبرانش القديس أوغسطين ويخالف ديكارت.

لكن المذهب في جملته عبارة عن استخلاص النتائج المنطوية في مذهب ديكارت، فصل ديكارت بين الفكر والوجود، فاستحال عليه تفسير المعرفة وتفسير وجود الأشياء بغير الالتجاء إلى الله، وفصل بين النفس والجسم، فاستحال عليه تفسير التفاعل بينهما، وجرد الماديات من كل قوة وردها امتدادًا فحسب تجري الحركة فيه من جزء إلى جزء، فمحا العلية من الطبيعة، فلما شرع مالبرانش يفكر على هذا الأساس، أرجع المعرفة إلى رؤية في الله فجعل من الله المعقول الأوحد، وأثار مسألة العلية صراحة فقصر العلية على الله وجعل من الله الفاعل الأوحد، وكاد أن يجعل من الله الموجود الأوحد بعد أن قال إن الامتداد المحسوس جزء من الامتداد المعقول الذي هو فكرة في الله أو امتداد إلهي، وقد جرى قلمه بكثير من العبارات التي تشعر بوحدة الوجود، منها قوله: «الامتداد عين، وجميع الأعيان موجودة في اللا متناهي، فالله إذن ممتد كالأجسام من حيث إن الله حاصل على جميع الأعيان المطلقة أي جميع الكمالات؛ ولكن ليس الله ممتدًّا على نحو امتداد الأجسام لأنه بريء عن حدود مخلوقاته ونقائصها».٨ فبالرغم من حملته على «الشقي سبينوزا» نراه يصل إلى نفس النتيجة، وقد اعتقد مثله أن الامتداد لا متناهٍ كما يبدو للمخيلة، فظنه أحد الكمالات المطلقة التي تجب إضافتها إلى الله فلم يتردد في هذه الإضافة، ولطفها باستدراك أملاه عليه إيمانه المسيحي القاضي بالتفرقة بين الخالق والمخلوق، دون أن يوجد في المذهب ما يسوغ هذا الاستدراك.
١  «البحث عن الحقيقة» الكتاب الثالث، القسم الثاني، الفصل الأول.
٢  «البحث عن الحقيقة» الكتاب الثالث، القسم الثاني، ف ٦ و٧، والكتاب الرابع، ف ١١، والكتاب السادس، ف ٣. و«أحاديث في ما بعد الطبيعة» الحديث الثاني، والحديث الأخير.
٣  «البحث عن الحقيقة» الكتاب السادس القسم الثاني ف٢ و٣، والكتاب الرابع ف١٠، والكتاب الثالث القسم الثاني ف٣. «أحاديث في ما بعد الطبيعة» الحديث السابع.
٤  «الأحاديث المسيحية» الحديث الثالث ف٤ و٥، و«أحاديث في ما بعد الطبيعة» الحديث التاسع ف٥–٨، والحديث الرابع عشر ف٦–١٢.
٥  «البحث عن الحقيقة».
٦  «أحاديث في ما بعد الطبيعة» الحديث الثالث، وكتاب الأخلاق، القسم الأول ف٥–١٦–١٧.
٧  «البحث عن الحقيقة» الكتاب الثاني، القسم الأول، ف٥.
٨  «أحاديث في ما بعد الطبيعة» الحديث الثامن ٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤