الفصل السادس

باروخ سبينوزا

١٦٣٢–١٦٧٧

(١) حياته ومصنفاته

وُلد بأمستردام من أسرة يهودية، وأراد والده على أن يصير حاخامًا، فتلقى اللغة العبرية والتوراة والتلمود والفلسفة اليهودية للعصر الوسيط وصناعة صقل زجاج النظارات لما كان مقررًا من أن يتعلم الحاخام صناعة يدوية، ولكن داخله الشك في الدين، فعدل عن مشروعه، وتحول إلى العلوم الإنسانية، وأخذ يتردد على الأوساط البروتستانتية، فلقي فيها طبيبًا تيوصوفيًّا من القائلين بوحدة الوجود لقنه الطبيعة والهندسة والفلسفة الديكارتية، ثم قرأ جيوردانوبرونو وغيره من فلاسفة العصر بين محدثين ومدرسيين، فازداد ابتعادًا عن اليهودية، ورأى زعماؤها أن يستبقوه في حظيرتها وعرضوا عليه مرتبًا فرفضه، واعتدى عليه رجل متعصب وجرحه بخنجر، فلم ينثنِ، فأعلن الزعماء فصله من الجماعة (١٦٥٦) وحصلوا من السلطة المدنية على أمر بإقصائه عن المدينة إذ كان البروتستانت أيضًا يعدونه رجلًا خطرًا، فأقام عند صديق في إحدى الضواحي، ومكث هناك خمس سنين يكسب رزقه بصقل زجاج النظارات، فكان أصدقاؤه يأتون من المدينة فيحملون الزجاج ويبيعونه فيها، وفي تلك الفترة شرع يكتب، ثم أخذ يتنقل في هولندا، وكان أينما يحل يلقى أصدقاء معجبين به معتنقين مذهبه، ومن المعجبين به القائد الفرنسي كوندي Condé عرض عليه أن يقيم بفرنسا ويتناول معاشًا فرفض، وأمير ألماني عرض عليه في نفس السنة منصبًا بجامعة هيدلبرج، فرفض كذلك مخافة أن لا تتوفر له الحرية في التعليم، وكان مصدورًا بالوراثة، فكان مرضه من جهة، وكانت الفلسفة من جهة أخرى، يحملانه على المعيشة البسيطة الهادئة الوادعة، فلقب بالقديس المدني، وكانت وفاته بمدينة لاهاي.

اتخذ اللاتينية لسانًا يحرر به، وكان أول ما كتب (١٦٦٠) رسالة «في مبادئ فلسفة ديكارت مبرهنة على الطريقة الهندسية» كتمهيد ومدخل لفلسفته الخاصة، وهذا أمر جدير بالذكر، ثم عرض فلسفته في «الرسالة الموجزة في الله والإنسان وسعادته» (١٦٦٠) كتبها لأصدقائه المسيحيين ولم تنشر، وقد ضاع الأصل وبقيت ترجمتان هولانديتان نشرتا سنة ١٨٥٢، ثم وضع رسالة «في إصلاح العقل» هي بمثابة مقدمة في المنهج وفي قيمة المعرفة، أو هي من طراز «المنطق الجديد» لفرنسيس بيكون، و«قواعد تدبير العقل» و«المقال في المنهج» لديكارت، و«البحث عن الحقيقة» لمالبرانش، وكلها كتب تريد الاستغناء عن منطق أرسطو وإقامة المنهج العلمي، غير أن سبينوزا ترك الرسالة ناقصة، فنشرت كما هي بعد وفاته، وكان الجدل شديدًا حول مسائل الوحي والنبوءة والمعجزات وحرية الاعتقاد، فدون في ذلك «الرسالة اللاهوتية السياسية» نشرت سنة ١٦٧٠ غفلًا من اسم المؤلف، فعدت خلاصة الكفر، وكان أثناء تلك السنين يعمل في كتابه الأكبر «الأخلاق» ويوالي تنقيحه وتفصيله، ويطلع أخصاءه على ما ينجز منه، فيتدارسونه ويكتبون إليه فيما يصادفون من مشكلات، وكان قد حظر عليهم إطلاع أي إنسان على ما لديهم منه قبل الاستيثاق من خلقه، ورفض الإذن لأحدهم بإطلاع ليبنتز ثم أطلعه هو على الكتاب بعد أن توثقت الصلة بينهما، وهَمَّ غير مرة بنشره، فكان يحجم خشية الفتنة، فلم ينشر الكتاب إلا بعد وفاته، وفي أواخر حياته (١٦٧٥–١٦٧٧) دون «الرسالة السياسية» ولم يتمها، فنشرت كما هي بعد وفاته كذلك.

يتم عرض مذهبه بتلخيص ثلاثة من كتبه وهي: إصلاح العقل، والأخلاق، والرسالة اللاهوتية السياسية، وأصحها كتاب الأخلاق، فإنه جامع يلخص الكتب السابقة ويكملها، وقد نهج فيه المنهج الهندسي، وهو المنهج اللائق بمذهب وحدة الوجود الذي ينزل من الواحد إلى الكثير، والكتاب مقسم إلى خمس مقالات: الأولى في الله، والثانية في النفس طبيعتها وأصلها، والثالثة في الانفعالات أصلها وطبيعتها، والرابعة في عبودية الإنسان أو في قوة الانفعالات، والخامسة في قوة العقل أو في حرية الإنسان، فالأخلاق موضوع المقالتين الأخيرتين، ولكن سبينوزا أطلق هذا الاسم على الكتاب كله لأن غاية النظر عنده العمل، ولأن اتجاهه الأساسي أخلاقي كما هو الحال عند الرواقيين والطريقة القياسية فيه مفتعلة، يتناول الفيلسوف الظواهر المعلومة بالملاحظة الظاهرة أو الباطنة، وهي كثيرة، فيحولها إلى نتائج أقيسة تحويلًا صناعيًّا، ويضع لذلك تعريفات هي أحرى بأن تكون مطالب تقتضي البرهان من أن تكون مقدمات مسلمة للبرهان، ومن المبادئ والتعريفات ما يعارض بعضه بعضًا، مثال ذلك: لكي يبرهن على أن الجوهرين المتغايرين لا يحدث أحدهما الآخر، يستند إلى مبدأ يقول إن شيئين ليس بينهما شيء مشترك لا يكونان علة ومعلولًا (المقالة الأولى، المطلب السادس) ولكي يبرهن على أن العقل الإلهي لا صلة له إطلاقًا بالعقل الإنساني، يستند إلى مبدأ يقول أنْ ليس بين العلة والمعلول شيء مشترك (المقالة الأولى، نتيجة المطلب ١٧)، بل أحيانًا يجيء البرهان على نقيض المطلوب، مثال ذلك: المطلب الخامس من المقالة الأولى معناه «لا يمكن أن يوجد جوهران متشابهان» وبرهانه يذهب إلى أنه «لا يمكن أن يوجد جوهران متغايران»، وأحيانًا يبرهن على المبادئ كأنها مطالب، فيقطع تسلسل المطالب الرئيسية، وقلما يجيء البرهان برهانًا بمعنى الكلمة، أي موضحًا للمطلب، ومنهجه المألوف أن يحيل القضية الموجبة سالبة ثم يبرهن على هذه بالخلف، كأنه يقصد قبل كل شيء إلى منع الرد عليه، هذه ملاحظات شكلية، أما الملاحظات الموضوعية فسنذكر بعضها فيما يلي:

(٢) المنهج١

«قبل كل شيء يجب التفكير في وسيلة شفاء العقل وتطهيره لكي يجيد معرفة الأشياء»، هذه الوسيلة هي التمييز بين ضروب المعرفة وتقدير قيمة كل منها لأجل الاهتداء إلى المعرفة الحقة، هناك معرفة سماعية تصل إلينا بالفعل، مثل معرفتي تاريخ ميلادي ووالدي وما أشبه ذلك، وهي معرفة غير علمية، فإذا صرفنا النظر عنها انحصرت المعرفة في ثلاثة ضروب: الضرب الأول معرفة بالتجربة المجملة أو الاستقراء العامي، وهي إدراك الجزئيات بالحواس على ما يتفق بحيث تنشأ في الذهن أفكار عامة من تقارب الحالات المتشابهة مثل معرفتي أني سأموت لكوني رأيت أناسًا مثلي ماتوا، وأن الزيت وقود للنار، وأن الماء يطفئها. هذه المعرفة متفرقة مهلهلة، وأصل اعتقادنا بهذه الأفكار وأمثالها أننا لم نصادف ظواهر معارضة لها، دون أن يكون لدينا ما يثبت لنا عدم وجود مثل هذه الظواهر، الضرب الثاني معرفة عقلية استدلالية تستنتج شيئًا من شيء، كاستنتاج العلة من المعلول دون إدراك النحو الذي تحدث عليه العلة المعلول، أو هي معرفة تطبق قاعدة كلية على حالة جزئية، كتطبيق معرفتي أن الشيء يبدو عن بعد أصغر منه عن قرب، على رؤيتي للشمس، فأعلم أن الشمس أعظم مما تبدو لي، هذه المعرفة يقينية، ولكنها هي أيضًا متفرقة لا رابطة بين أجزائها، الضرب الثالث معرفة عقلية حدسية تدرك الشيء بماهيته أو بعلته القريبة، مثل معرفتي أن النفس متحدة بالجسم لمعرفتي ماهية النفس أو مثل معرفتي خصائص شكل هندسي لمعرفتي تعريفه، وأن الخطين الموازيين لثالث متوازيان، هذه المعرفة الأخيرة هي الكاملة لأن موضوعاتها معانٍ واضحة متميزة يكونها العقل بذاته، ويؤلف ابتداء منها سلسلة مرتبة من الحقائق، فيخلق الرياضيات والعلم الطبيعي حيث تبدو الحقيقة الجزئية نتيجة لقانون كلي، ويبين العقل عن فاعليته وخصبه، واستقلاله عن الحواس والمخيلة.

يجب إذن الاستمساك بالمعاني البسيطة في بداية كل علم، فإن البساطة هي العلامة التي يعرفها بها المعنى الصادق، لاستحالة أن يكون المعنى البسيط معلومًا من جهة مجهولًا من أخرى، فالمعنى الصادق يقيني بذاته، لا يتعلق صدقه بعلامة خارجية؛ إذ أن الذهن الحاصل عليه يعلم بالضرورة أنه صادق، ولا يستطيع أن يشك فيه، ولا يطلب له ضمانًا، فالشك الديكارتي لا يتحقق إلا بالاعتقاد بإمكان وجود إله خادع، والمعنى الصادق مطابق لموضوعه، وليس يقال إن المعنى صادق لكونه مطابقًا لموضوعه، فإن الحقيقة تقوم في «صفة ذاتية» للمعنى نفسه، لا في المطابقة مع موضوع خارجي؛ ومن ثَمَّة فالمعنى الصادق حقيقي موضوعي، فإن المطابقة تامة بين العقل الحاصل على معانٍ واضحة متميزة وبين الوجود: فالمعاني المنفصلة يقابلها أشياء منفصلة، والمعاني المتصلة يقابلها أشياء متصلة (فسبينوزا يتابع ديكارت في اعتباره الفكر محصورًا في نفسه، ولكنه يرى أن الفكر صادق، وأنه موضوعي، كلما تحقق فيه المعنى تحققا كليا فأثبت نفسه بنفسه)، أما التخيل فيعلم أنه كذلك من عدم تعين موضوعه، إذ نستطيع أن نتخيله موجودًا أو غير موجود، أو أن نضيف إليه كذا أو كذا من الصفات المتضادة، وكذلك الحال، في الخطأ فإنه يضيف إلى الموضوع محمولًا لا يلزم من طبيعته بسبب أن العقل يتصور تلك الطبيعة تصورًا غامضًا، وكل الفرق بين الخطأ والتخيل أن الخطأ مصحوب بتصديق، وإنما يجيء هذا التصديق من عدم توفر المعرفة الحقة، مثال ذلك: حين ننظر إلى الشمس فتتخيل أنها تبعد عن الأرض حوالي مائتي قدم، فهنا لا يقوم الخطأ في هذا التخيل معتبرًا في ذاته، بل في جهلنا عند هذا التخيل المسافة الحقيقية بيننا وبين الشمس والسبب في هذا التخيل، وعلى ذلك ليس الخطأ تصور ما لا وجود له، ولكنه عدم تصور الموجود كله، والواقع أننا حين نعلم فيما بعد أن الشمس بعيدة عنا بمقدار قطر الأرض ستمائة مرة أو تزيد، لا نملك أنفسنا من أن نتخيل أنها قريية منا، فليس في المعاني شيء ثبوتي من أجله يقال إنها كاذبة، وإنما المعاني الكاذبة هي معانٍ غير مطابقة أو ناقصة تؤخذ على أنها مطابقة أو كاملة، ويتضح من هذا الخطأ يقع في معرفة الضربين الأول والثاني، وأن معرفة الضرب الثالث بريئة منه.

إذا كانت المطابقة تامة بين معاني العقل والموجودات، وكان المقصود العلم بالطبيعة، تعين على العقل أن يضع أولًا المعنى الذي يمثل منبع الطبيعة وأصلها، ثم يستنبط منه معانيه جميعًا، بحيث يكون هذا المعنى هو أيضًا منبع المعاني وأصلها، فنحصل بذلك على العلم الحق الذي شرطه أن يتأدى من العلة إلى معلولاتها، لكن لا المعلومات الجزئية في تعاقبها، فإنه لا يستنبط من المعاني الدائمة إلا معاني دائمة، والتعاقب لا متناهٍ من جهة عدد الأشياء والأحداث وظروفها، والغرض استنباط الماهيات والقوانين، وترتيبها بعضها من بعض، فإن بموجبها تقع جميع الجزئيات وتترتب فيما بينها، والعقل لا يدرك الاشياء في الزمان كما تدركها المخيلة، بل في «صورة الأبدية»، فلأجل استكشاف المعنى الأول الذي تلزم منه جميع المعاني، أو المبدأ الأول الذي تصدر عنه جميع الأشياء، يجب أن نلاحظ أن من خصائص العقل أنه يكون المعاني المحصلة قبل المعاني المعدولة، ومعنى المتناهي معدول في حقيقته إذ أننا نقول عن الشيء عن شيء إنه متناهٍ في جنسه متي إمكن حده بشيء آخر من طبيعته، فمثلًا نقول عن جسم إنه متناهٍ لأننا نستطيع دائما أن نتصور جسمًا أعظم منه، وعلى العموم «كل تعيين فهو حد أو عدول وسلب»، وعلى ذلك فالمعنى المحصل بمعنى الكلمة هو معنى اللا متناهي أو الجوهر المطلق أو الله، وبه يجب الابتداء.

(٣) الله أو الطبيعة٢

تعريف الجوهر أنه «ما هو في ذاته ومتصور بذاته، أي ما معناه غير مفتقر لمعنى شيء آخر يكون منه»، وهكذا يريد سبينوزا لكي يخلص من التعريف إلى النتائج التي يقصدها، وأولاها أن الجوهر علة ذاته، أي إن ماهيته تنطوي على وجودها، وإلا كان الجوهر موجودًا بغيره، فكان متصورًا بهذا الغير لا بذاته ولم يكن جوهرًا، (وهذا هو الدليل الوجودي، وإلى جانبه اصطنع سبينوزا حجة ديكارت القائلة إنه كلما كانت طبيعة الشيء حاصلة على حقيقة أعظم، كان الشيء أقدر على الوجود، وللموجود اللا متناهي — أو الله — قدرة لا متناهية على الوجود، ومن ثمة فهو موجود بالضرورة).

النتيجة الثانية أن الجوهرة لا متناهٍ؛ إذ لو كان متناهيًا لكان متصلًا بجواهر أخرى تحده وكان تابعًا لها متصورًا بها لا بذاته، النتيجة الثالثة أن الجوهر واحد، إذ لو كان هناك جوهران أو أكثر لكان كل جوهر يحد الآخر ولبطل أن يكون الجوهر جوهرًا أي متصورًا بذاته، وعلى ذلك فالجوهر موجود بالضرورة أو واجب الوجود سرمدي، لا يكون ولا يفسد، فإذا وجد شيء عداه، لم يكن أن يكون هذا الشيء، إلا «صفة» للجوهر الأوحد أو «حالًا» جزئيًّا يتجلى فيه الجوهر، وبعبارة أخرى: إن الجوهر هو «الطبيعة الطابعة» أي الخالقة من حيث هو مصدر الصفات والأحوال أنفسها، ولما كان هو الأوحد، كان مطلق الحرية بمعنى أنه هو الذي يعين ذاته، أما حريته فمرادفه للضرورة، والضرورة غير القسر، فإن الفعل الضروري فعل ذاتي منبعث من باطن، فالجوهر ضروري والحقائق الأزلية ضرورية لم يفرضها بإرادته (كما يذهب إليه ديكارت)، ولما كان اللا متناهي لم يكن شخصًا مثل إله الديانات، وإلا لكان معينًا، وقد سبق القول إن كل تعيين فهو سلب، فليس له عقل ولا إرادة؛ إذ أنهما يفترضان الشخصية، وإذن فالجوهر لا يفعل لغاية، ولكنه يفعل كعلة ضرورية فجميع معلوماته ضرورية كذلك، وليس في الطبيعة شيء حادث أو ممكن إلا بالإضافة إلى نقص في معرفتنا، أي إلى جهلنا ترتيب العلل، ولا يمكن أن يقال إن الله كان يستطيع أن يريد غير ما أراد، إذ ليس يوجد في السرمدية متى وقبل وبعد حتى يقال إن الله كان موجودًا قبل أن يريد ومستطيعًا أن يريد غير ما أراد.

ونحن نعلم ماهية الجوهر بصفاته، والصفة هي «ما يدركه العقل من الجوهر على أنه مكون لماهيته» (كما قال ديكارت)، والجوهر اللا متناهي حاصل على مالا يتناهى من الصفات، كل صفة منها تدل على ماهية سرمدية لا متناهية في جنسها، غير أننا لا نعلم من الصفات سوى اثنتين، هما الفكر والامتداد، تجتمعان فيه مع تمايزها وعدم إمكان رد إحداهما إلى الأخرى، فلا تبدو لنا ماهية الجوهر إلا في هاتين الصفتين أوالصورتين (اللتين ينقسم إليهما الوجود عند ديكارت).

وتبدو كل صفة في أحوال أو ظواهر، وتعريف الحال أنه ما يتقوَّم بشيء آخر ويتصور بهذا الشيء»، فالأجسام أحوال للامتداد نتصورها به ولا نتصوره بها كما تتوهم المخيلة، أي ليس الامتداد معنى كليًّا مكتسبًا بالتجريد من الأجسام ولكن الأجسام أجزاء من الامتداد الحقيقي المعقول، أو هي حدود فيه، كما أن كل متناهٍ فهو عدول اللا متناهي، فليس التمايز بين الأجسام تمايزًا حقيقيًّا، إذ أنها جميعًا امتداد، ولكنه تمايز حالي عرضي ناشئ من أن الحركة تفصل في الامتداد أجزاء تكون منها أجسامًا، والحركة حال للامتداد، وهي ثابتة الكمية في الطبيعة، أي إنها حال سرمدي كالصفة ذاتها، لأنها تدل على ما هو ثابت في الطبيعة تحت التغيرات المختلفة، أما الجسم الجزئي الذي يدوم فترة من الزمان، فليس فيه شيء يربطه بماهية الصفة السرمدية، وإنما علة وجوده أجسام أخرى متناهية مثله حركته وجعلته ما هو، وعله هذه الأجسام أجسام أخرى متناهية، وهكذا إلى غير نهاية، بحيث نصل إلى النظرية الآلية التي تنكر كل اختلاف بالماهية بين الأجسام، وترد الاختلافات الي اختلاف الحركة والسكون.

وكذلك القول في المعاني أو الأفكار، فإنها ترجع إلى صفة الفكر، وفي هذه الصفة حال يحوي النظام الشامل الثابت للطبيعة، هذا الحال هو العقل اللا متناهي أو «فكرة الله» التي هو معلول مباشر للقوة الفكرية الإلهية اللا متناهية، أي القوة الروحية الباقية هي هي أبدًا في الامتداد، وما يصدق على أحوال الامتداد يصدق على أحوال الفكر، فإن ترتيب المعاني في الفكر صورة من ترتيب الأعيان في الامتداد، وإذا كان من طبيعة الموجود المفكر أن يكون معاني مطابقة، فمن المحقق أن معانينا غير المطابقة آتية من كوننا جزءًا من موجود مفكر وأن عقلنا مكون من معاني ذلك الموجود بعضها كامل وبعضها ناقص.

(٤) الإنسان٣

الإنسان مركب من حال امتدادي هو جسمه، ومن حال فكري هو نفسه، الجسم آلة مؤلفة من آلات، والنفس فكر الجسم أي فكرة موضوعها الجسم الموجود بالفعل، فهي تبدأ وتنتهي مع الجسم، وعلتها خارجة عنها تلتمس في أحوال أخرى من الفكر مقابلة لأحوال الامتداد التي هي علة الجسم، والإحساس ظاهرة جسمية، أما الإدراك فظاهرة فكرية تقوم في تصوير النفس للإحساس وقت انفعال الجسم به، من حيث إن النفس هي دائمًا ما الجسم إياه، أجل إن انفعال الجسم معلول لفعل أجسام أخرى، ولكن هذا الفعل يتكيف بطبيعة جسمنا، فيلزم من ذلك إذن الإدراك يقابل طبيعة جسمنا أولًا وبالذات مع مقابلته لطبيعة الأسام الخارجية، والقوانين الطبيعة للفكر هي قوانين التداعي أو الترابط، تشبه قوانين الحركة في الامتداد وفكرة النفس عن ذاتها، وفكرتها عن جسمها، وفكرتها عن الجسم الخارجي، فكرات غير مطابقة، لأن النفس وجسمها والجسم الخارجي أحوال متناهية عللها في غيرها من الأحوال المتناهية، فمن شأن طبيعة الإنسان المتناهية ان تدعه غير معقول عند نفسه، وهو إنما يعقل ذاته بردها إلى النظام الكلي السرمدي، واعتبارها جزءًا من الجوهر الأوحد.

وليس هناك ما يسمى بقوى النفس، فلا تمييز بين نفس وقوى؛ ومن ثمة لا تمييز بين إرادة وعقل، ولكن الإرادة ترجع إلى العقل من حيث إن كل فكرة فهي تتضمن إيجابُا؛ أي إن الإرادة ميل العقل إلى قبول ما يروقه من المعاني واستبعاد ما لا يروقه، فما يسمى بالفعل الإرادي هو فكرة تثبت نفسها أو تنفي نفسها، وما يسمى بالتوقف عن الحكم هو حالة عدم إدراك الفكرة عن نحو مطابق، ولما كانت الأشياء جميعًا معينة بما في الطبيعة الإلهية من ضرورة الوجود والفعل، لم يكن في الطبيعة ممكنات، ولم يكن في النفس إرادة حرة، ولكن النفس معينة إلى فعل كذا أو كذا بعلة هي أيضًا معينة بعلة، وهكذا إلى غير نهاية، ليس الإنسان ممكلة في مملكة، فالشعور بالحرية خطأ ناشئ مما في غير المطابقة من نقص وغموض، وإنما يعتقد الناس أنهم أحرار لأنهم يجهلون العلل التي تدفعهم إلى أفعالهم، كما يظن الطفل الخائف أنه حر في أن يهرب، ويظن السكران أنه يصدر عن حرية تامة فإذا ما ثاب إلى رشده عرف خطأه، ولو كان الحجر يفكر لاعتقد أنه إنما يسقط إلى الأرض بإرادة حرة، وعلى ذلك فالغضب من الأشرار سذاجة، إذ ليس الأحمق ملزمًا أن يحيا وفق قوانين العقل، كما أن الهر ليس ملزمًا أن يحيا وفق قوانين طبيعة الأسد.٤

حياتنا العملية إذن تابعة لحياتنا العقلية، وتختلف باختلافها، ففي معرفة الضرب الأول، القاصرة على الحواس والمخيلة أي على أفكار غير مطابقة، نتصور ذاتنا شخصًا قائمًا بنفسه، والأشياء المحيطة بنا خيرات أو شرورًا في أنفسها، فنحس من جراء ذلك شتى الانفعالات المضنية المرهقة تتوالى علينا كما يتفق حسب توارد الأحداث، في هذه المرحلة نطلب الأشياء ونهرب منها لمحض الاشتهاء والكراهية، لا لحكمنا بأنها خير أو شر، بل إننا ندعو الشيء خيرًا أو شرًّا بسبب طلبنا إياه أو كراهيتنا له، فلا حياة خلقية في هذا الضرب من المعرفة، وإنما كل ما هنالك عبودية للشهوات.

وفي معرفة الضرب الثاني نعلم أن الطبيعة خاضعة لقوانين كلية، وأننا جزء من هذه الطبيعة، فنهتدي بأفكارنا المطابقة ونصير فاعلين بعد أن كنَّا منفعلين؛ ذلك أنَّنا حالما ندرك بالعقل أن أفراحنا وأحزاننا نتائج القوانين الطبيعية، نكف عن محبة الأشياء وبغضها، وعن استشعار الحزن والخوف والرجاء واليأس والغضب والسخرية، فلا نطلب شيئًا إلا لاتصاله بميلنا الأساسي الذي هو حب البقاء، وبالقدر الذي يكفل البقاء، مرجعين هذا الميل إلى ميل الطبيعة جمعاء ومعتبرين شخصنا جزءًا من الطبيعة لا يتجزأ، فتصدر أفعالنا عن طبيعتنا ونكون علتها الكاملة، في هذه المرحلة نحصل على الفضيلة بمعنى الكلمة، أي على قدر العمل طبقًا للقوانين الكلية، وتكون النفس في سرور متصل يترجم عن كمالنا وقدرتنا الناتجين من العلم، أما أفعالنا الصادرة عن رجاء الجنة وخوف جهنم، فليست فاضلة، والفضيلة الأساسية القوة أو الشجاعة تجعل الإنسان حرًّا مستقلًّا، فإن الحرية الحقة تقوم في اتِّباع ضرورة طبيعتنا بما نحن جزء من الكل، وفي هذه الحالة تعود الأشياء الخارجية خيرات أو شرورًا، لا في أنفسها، بل بالإضافة إلينا حسب ما توافق حب البقاء أو تضاده فتزيد في كمالنا أو تنتقص منه، فمن الحكمة أن نستمتع بالحياة ما وسعنا الاستمتاع، فنصلح جسمنا بغذاء لذيذ، ونمتع حواسنا بأريج الزهر ورونقه، بل أن نزين ثيابنا، ونستمتع بالموسيقى والألعاب والمشاهد وكل ما لا يضر أحدًا من الملاهي، والموت آخر ما يفكر فيه الرجل الحر، إذ ليست الحكمة تأمل الموت بل تأمل الحياة.

وبالمعرفة التي من الضرب الثالث ندرك ذاتنا، ليس فقط كجزء من الطبيعة، مما يدع مجالًا لضرب من التمييز والتضاد بين الإنسان والطبيعة، بل ندرك ذاتنا صادرة عن طبيعة الله، إذ أن الفرد في حقيقة الامر فكرة مجردة، وليس الموجود الحق هو الفرد منفصلًا عن الكون، ولا القانون الذي يربط الفرد بالكون، بل الكون نفسه معتبرًا، لا كجملة أجزاء، بل كوحدة جوهرية حاصلة في ذاتها على علة وجودها، في هذه المرحلة نرد السرور الذي يملأ نفسنا إلى الله علة الحقيقة ومبدأ القوانين السرمدية، هذا السرور مصحوبًا بفكرة الله هو محبة الله، والإنسان هو العلة الكاملة لهذه المحبة، وهي خالصة لا يقابلها محبة من جانب الله، لأن الله بريء من الانفعال، وتلك هي الحياة الأبدية المستقلة عن الزمان، إذ ليست الحياة الأبدية بقاء النفس بعد فناء الجسم أو الخلود في عالم مفارق، فإن النفس فكرة الجسم ولا توجد إلا بوجود الجسم، وإنما الحياة الأبدية معرفتنا ذاتنا من وجهة الأبدية وتأمل النظام الكلي، وبعبارة أخرى إن النفس سرمدية من حيث هي حاصلة على معرفة الحقائق السرمدية، وكلما ازدادت معرفتها إزداد حظها من الخلود، فإن الخير الوحيد الذي يدركه عقلنا والخير الخلقي ما أنمى العقل، والشر ما انتقصه وأفسده، وذلك هو الدين الحق الذي نجده في نفسنا.

(٥) الدين والسياسة٥

أما الدين الوضعي فقد مسَّت الحاجة إليه لقصور جمهرة الناس عن مطالعة أوامر الله في نفوسهم، وإن الكتب المقدسة لتدلنا على أن الله أنزل وحيه على الأنبياء بألفاظ وصور محسوسة أو متخيلة، ما خلا المسيح، فإنَّه عرف الله دون ألفاظ ولا رؤًى، واتصل بالله نفسًا لنفس، كما اتصل موسى بالله وجهًا لوجه، فالأنبياء لم يمنحوا عقلًا أكمل من عامة العقول، وإنما منحوا مخيلة أقوى، فقد كان منهم الأميون، وكان من الحكماء — مثل سليمان — من لم يوهبوا النبوة، واختلف الوحي عند كل نبي باختلاف مزاجة البدني ومخيلته وآرائه السابقة، فإن الله لاءم بين وحيه وبين أفهام الأنبياء وآرائهم، ولما كانت التخيل لا ينطوي بطبيعته على اليقين، كما ينطوي عليه المعنى الجلي، لم يكن الأنبياء على يقين من وحي الله بالوحي نفسه بل بعلامة ما، وقد نبه موسى اليهود على أن يسألوا النبي علامة؛ لذا كانت النبوة أدنى من المعرفة العقلية الغنية عن كل علامة، ولما كان الله رحيمًا بالكل كانت مهمة النبي تعليم الفضيلة الحقة لا الشرائع الخاصة بكل بلد بلد، فما من شك في أن جميع الأمم حصلت على أنبياء، وإذا كانت التوراة لا تذكر شيئًا من هذا القبيل، فلأنها تؤرخ لليهود فحسب؛ ذلك بأن جوهر الشريعة الإلهية الطبيعية معرفة الله ومحبته، وأن هذه الشريعة يدركها الإنسان في نفسه، فهي مشتركة بين جميع الناس، ولا تقتضي الإيمان بقصص تاريخية أيًّا كان موضوعها، وإن كان لنا في هذه القصص عبر عملية في تدبير حياتنا، إن مثل هذا الإيمان — حتى لو كان موضوعة صادقًا — لا يعطينا العلم بالله، ولا من ثَمَّةَ محبة الله، يجب أن يستمد العلم بالله من معانٍ كلية يقينية، كذلك تقتضي الشريعة الإلهية الطبيعية شيئًا من الطقوس، إذ ليست الطقوس في ذاتها خيرًا ولا شرًّا. وليست تزيد عقلنا كمالًا، والتقوى انفعال نافع للجمهور ضروري لهم، ولكنه عديم الجدوى للذي يستطيع أن يعمل بالعقل ما تحمل التقوى على عمله بالانفعال، ولا يمكن أن يكون الاتضاع فضيلة، لأنه يتضمن الحزن وشعور المهانة والعجز، كذلك ليس الندم فضيلة؛ لأنه نتيجة الجهل الذي يجعلنا نعتقد أنه كان بإمكاننا أن نفعل غير ما فعلنا، إن فضيلة العقل تقوم في أن يغتبط الإنسان بعقله ويطمئن في نفسه،٦ على أن الإيمان بما يرويه الكتاب المقدس من أخبار ضروري جدًّا للجمهور العاجز عن إدراك الأمور بالعقل، لأنها تؤيد عنده التعاليم النظرية الواردة في الكتاب من أنه يوجد إله صانع للأشياء، ومدبرها وحافظها، ومعني بالناس يثيب الأخيار ويعاقب الأشرار، والطقوس أيضًا لم ترتب إلا لتدبير حياة الناس في مختلف الظروف، وأضيفت للدين كي يؤديها الشعب طواعية أو كي تكون علامة خارجية عليه، ورجال الدين ضروريون للجمهور كي يلقنوه تعليمًا متناسبًا مع فهمه، أما المعجزات فهي عند الجمهور مصنوعات أو أحداث غير مألوفة مخالفة لما كون له من رأي في الطبيعة بالعادات المكتسبة وهي عنده أوضح بيان لقدرة الله وعنايته، والحقيقة أن حدثًا مخالفًا للطبيعة لا يقع أبدًا؛ لأن نظامها سرمدي ثابت، وما من شك في أنه من اليسير أن نعين بالمبادئ الطبيعية المعروفة علة كثير من الوقائع المدعوة بالمعجزات، وفضلًا عن ذلك فإن إدراك وجود الله وماهيته وعنايته، يتم بإدراك النظام الثابت للطبيعة خيرًا مما يتم بمعرفة المعجزات، فهي لا تفيد في الغرض المرجو منها.

والقاعدة العامة في تأويل الكتاب المقدس أن لا يضاف إليه من التعاليم إلا ما يدل البحث التاريخي على أنه علمه بالفعل، فإن العلم بالكتاب يجب أن يستمد كله من الكتاب وحده، هذا البحث التاريخي يجب أن يتناول أولًا طبيعة اللغة العبرية وخصائصها لكي يفهم المعنى المقصود تمام الفهم، بعد الفحص عن مختلف معاني النص الواحد، وثانيًا جميع العبارات في أقسام رئيسية وقيد العبارات المبهمة أو المتعارضة: فمثلًا قول موسى إن الله نار، أو إن الله غيور، هو من العبارات الواضحة طالما اعتبرنا معاني الألفاظ فحسب، وإذن نضعها ضمن العبارات الواضحة ولو أنها جد غامضة بالإضافة إلى العقل والحقيقة، فإنه يجب استبقاء المعنى الحرفي ولو كان معارضًا للعقل ما دام لا يتعارض صراحة مع مبادئ الكتاب، وعلى العكس يجب تأويل العبارات التي يعارض معناها الحرفي مبادئ الكتاب تأويلًا مجازيًّا، ولو كانت مطابقة للعقل، وثالثًا إحصاء جميع الظروف المتواترة، مثل سيرة النبي وأخلاقه، وغرضه، والمناسبة التي كتب لها، وزمن الكتابة، ولمن كتب، وتاريخ كتابه، كيف جمع في الأصل، وفي أي الأيدي وقع، ومختلف الروايات لعباراته … إلخ.

أما الاجتماع فالرأي فيه كما يلي: في الإنسان شهوة وعقل، وليس الناس معينين جميعًا من قبل الطبيعة لأن يسيروا طبقًا لقوانين العقل، فهم يولدون جهلاء ويقضون الشطر الأكبر من الحياة قبل أن يدركوا الفضيلة ويكتسبوها فما دمنا نعتبر الناس عائشين في حال الطبيعة فحسب، فلكل منهم مطلق الحق في اتباع الشهوة واصطناع القوة أو اتباع العقل، إذ أن كل ما يفعله الموجود تبعًا لقوانين الطبيعة فهو يفعله بحق مطلق، فالسمك معين بالطبيعة للسباحة، وكبيره معين بالطبيعة لالتهام صغيره، على أن من الحق أن الأنفع للناس أن يعيشوا طبقًا لقوانين العقل، وليس من إنسان إلا ويريد أن يعيش آمنًا من الخوف، وهذا مستحيل ما دام لكلٍّ أن يعمل ما يروقه، وإذا لم يتعاون الناس كانت حياتهم بائسة، لهذه الأسباب تاقوا للاتحاد، ونزل كلٌّ إلى الجماعة عمَّا له من حق طبيعي على جميع الأشياء، فصار للسلطة العليا الحق المطلق في الأمر بكل ما تريد، وصارت الطاعة واجبة بحكم الميثاق المعقود وبحكم العقل الذي يرى في الطاعة أهون الضررين؛ وبذا تنشأ «العدالة» أي علاقة خارجية بين السلطة والشعب يمثلها القانون الذي يأمر بأفعال معينة ويحظر أفعالًا معينة. على أنه لا تجب الطاعة إلا للقانون النافع، إذ كان أساس الاتحاد المنفعة العامة فللشعب أن يقدر الأوامر والنواهي، وأن ينقد السلطة، بل أن يثور عليها، وهذا فارق هام بين سبينوزا وبين هوبس، وثمة فارق آخر هو أن هوبس يدعو للحكم الاستبدادي، ويدعو سبينوزا للحكم الديمقراطي، ويقول: كلما اتسعت مشاركة الشعب في الحكم قوي التحاب والاتحاد، غير أنه يعود إلى موقف هوبس في الدين فيذهب إلى أن السلطة هي الحاكمة في الدين وهي حاميته، وأن حقها في ذلك مطلق، وإلَّا تفرَّق الرأي بتفرق العقول والأهواء، واختل النظام العام، ولا يكتسب الدين قوة القانون إلا بإرادة السلطة، من حيث أن ليس للعقل من حق في حالة الطبيعة أكثر مما للشهوة والقوة، وأن مظاهر العبادة يجب أن تعين تبعًا لأمن الدولة وفائدتها، والولاء للدولة أرفع صور التقوى، إذ لو زالت الدولة لما بقي خير ما، ونجاة الشعب القاعدة الكبرى لجميع القوانين المدنية والدينية، ولم يكن حق السلطة موضع نزاع قط عند العبرانيين، وكان ملوكهم يعلمونهم الدين، ولكن الحال اختلف عند المسيحيين فقد قام بتعليم الدين فيهم أفراد، واعتادوا زمنًا طويلًا الاجتماع في كنائسهم بالرغم من إرادة حكوماتهم، ولما أخذت المسيحية تدخل في الدولة ظل رجال الدين يعلمونها كما وضعوها، حتى للأباطرة، فكسبوا الاعتراف لأئمتها بصفة وكلاء الله.

على أن نفس الإنسان لا يمكن أن تكون ملكًا خالصًا لآخر، وما من أحد يستطيع أن ينزل لآخر عن حقه الطبيعي في استخدام عقله والحكم عن الأشياء، ومن الضار جدًّا للدولة أن تحاول استعباد العقول، كما أن من الضار جدًّا أن تترك للأفراد مطلق الحرية في الاعتقاد والعمل، ولكن الفرد لا ينزل إلا عن حق العمل بحكمه الخاص، وإلا استحال قيام الدولة، إما حق التفكير بحرية فخالص له تمامًا، ويجب أن يكفل له أيضًا حق الكلام بشرط ألا يجاوزه إلى العمل. وأن يدافع عن رأيه بالحجة لا بالحيلة أو العنف، ولا رغبة في تعديل نظام الدولة بسلطته الخاصة، بل يدع للسلطة حق الحكم، ويمتنع من كل فعل يعارض إرادتها، حتى لو اضطر للعمل بخلاف ما يعتقد، ولا خطر في ذلك على عدالته وتقواه، بل إن ذلك واجبه من حيث إن العدالة تتعلق بإرادة السلطة ليس غير.

(٦) تعقيب

ذلك هو المذهب، وقد نعتبر الاعتقاد بوحدة الوجود حدسًا شخصيًّا خطرًا لسبينوزا أو عرضه عليه ذلك الطبيب الذي علَّمه الفلسفة، فشرع هو يشيد هيكله بما وجد من مواد عند ديكارت والرواقيين، ولكن هذا الحدس تأيَّد عنده بالتفكير في صعوبات الفلسفة الديكارتية، وبأن في نظره علاجًا لها، هذه الصعوبات ترجع إلى فكرة العلية، فقد وزع ديكارت ظواهر الطبيعة إلى طائفتين، أحدهما مادية والأخرى فكرية، ثم عجز عن تفسير العلاقة بين النفس والجسم في الإنسان لتباين هذين الجوهرين، فاعتقد سبينوزا أن «العلة والمعلول يجب أن يكونا من نوع واحد»٧ بحجة أن ما يكون في المعلول دون أن يكون لذاته في العلة، يكون صادرًا عن العدم، مع أن ديكارت نفسه كان قد قال — أخذًا عن المدرسيين — فلزم عند سبينوزا أن الكل واحد ضروري، وأن الجوهر الأوحد علة باطنة لجميع الظواهر، هي في معلولاتها ومعلولاتها فيها، ومحا العلة المفارقة المتعدية إلى خارج، فمحا ثنائية الله والعالم، وثنائية النفس والجسم والتفاعل بينهما، تمايز العقل والإرادة، على ما يقتضي المذهب الأحادي من محو كل تمييزيات، فانتهى بذلك إلى الآلية المطلقة وهي المثل الأعلى الذي يرمي إليه العلم الحديث، ومحا الغائية، وقصر معنى العلية على علية الدعوى أو الترابط المنطقي دون علية الوجود أو الفاعلية، وفاته أن يسوغ المبدأ الذي يقوم عليه مذهبه كله وهو أن الوجود مطابق للمعاني وللعلاقات التي يكشفها العقل في نفسه.

ولكنه وقع في نفس الصعوبات وفي أخرى غيرها: فهو من الجهة الواحدة لم يوفق بين وحدة الجوهر وكثرة الصفات والأحوال، أي لم يبين كيف يمكن أن يصدر عن الجوهر الواحد الثابت غير المعين، صفات وأحوال لا نهاية لها متغيرة إلى ما لا نهاية، تعينه بالضرورة ما دامت هي صفاته وأحواله، بعد أن قال إن كل تعيين حد وسلب، ولم يبين بالقياس ضرورة كون الجوهر مفكرًا وممتدًّا، لا سيما أنه بدأ بأن نفى عنه العقل وجعل منه علة ضرورية فحسب، فكيف يصدر العقل بعد ذلك عن لا عقل؟ كما أنه لم يبين أن في الجوهر أو في صفتي الفكر والامتداد ضرورة منطقية للتخصص في أحوال جزئية، لقد أخذ من التجربة ومن ديكارت الصفتين وأحوالهما ثم أضافهما للجوهر إضافة خارجية، فالمنهج القياسي عنده مجرد دعوى، لا سيما أن القضايا التي يطلب تسليمها دون برهان تربى على الأربعين، وتعريفات الجوهر والصفة والحال غير مترابطة تؤلف ثلاثة مبادئ منفصلة.

ومن جهة أخرى لم يتفادَ سبينوزا التفاعل كما أراد: فإنه يقول في الواقع بنوعين من علاقة العلية: علاقة داخلية بين الجوهر والصفات والأحوال، وعلاقة خارجية بين الأحوال بعضها وبعض، فكيف نفسر هذه، وكيف نوفق بينها وبين تلك؟ إذا ساغ قبول العلية الخارجية في الاحوال، فلِمَ لا نقبلها في صدر الأحوال أنفسها عن الصفات، فنعود إلى العلية الفاعلية المتعدية إلى خارج؟ ولا سيما أن سبينوزا لم يبين إمكان استنباط الحركة من الامتداد، والحركة هي العامل في تكوين الأجسام الجزئية وتفاعلها، وكان أحد مراسليه كتب إليه أن هذه المشكلة محلولة عند ديكارت بقوله إلى الله خلق المادة متحركة، وسأله عن حلها عنده هو مع اعتقاده مثل ديكارت عدم تضمن فكرة الامتداد لفكرة القوة، فأجاب (في ١٥ يوليو ١٦٧٦) بأن تعريف المادة بأنها امتداد تعريف غير كافٍ وأنه يعتزم بحث المسألة بحثًا أدق وأعمق. ولكنه مرض ولم يعد إليها، ولو كان قد عاد لما كان اهتدى إلى حل … إلا أن يضع المطلوب نفسه وضعًا فيقول إن المادة امتداد متحرك.

ومن جهة ثالثة لما محا سبينوزا التمايز الجوهري بين الفكرة الصادقة والفكرة الكاذبة، وقال إن الفكرة الكاذبة ليست كذلك بذاتها ولكنها فكرة ناقصة تعتبر كاملة، وأن ليس هناك من ثمة سوى درجات في طلب الحقيقة، انساق إلى محو التمايز الجوهري بين الخير والشر، وإلى القول بأن الشر فكرة ناقصة تعتبر كاملة، وأن ليس هناك سوى درجات في طلب الخير، فأقام مذهبًا لا أخلاقيًّا بالرغم من دعواه، ليس فقط من هذه الوجهة، بل أيضًا من وجهات أخرى، إذ أنه أنكر الحرية والغائية والتمايز بين الممكن والضروري، على حين أن مفهوم الأخلاق أنها نظام معقول يتعين تحقيقه بالإرادة، وأن تفضيل حياة الضربين الثاني والثالث من ضروب المعرفة يقتضي إرادة وشجاعة ولا يكفي فيه مجرد العلم، وما ذلك الخلود الذي هو معرفة مؤقتة لما هو خالد؟ وما محبة الله في هذا المذهب إلا أن تكون الاغتباط بالذات بمعرفة الكلي الدائم؟ وما الله في مذهبه يؤله الطبيعة ولا يعترف بوجود شخصي مفارق لها؟ المذهب كله مليء بألفاظ توهِم أن لها مدلولات وهي لا تدل على شيء، أما آراء سبينوزا في الدين فلنا عليها ردود ليس هذا مكانها، وهي تمثل أصدق تمثيل المذهب العقلي الحديث، ولم يزد عليها اللاحقون شيئًا جديدًا، وإن كانت هي في واقع الأمر صدى لآراء سابقة.

١  انظر كتاب إصلاح العقل، والمقالة الثانية من كتاب الأخلاق.
٢  المقالة الأولي من كتاب الأخلاق.
٣  المقالة الثانية من كتاب الأخلاق وما بعدها.
٤  انظر أيضًا الرسالة اللاهوتية السياسية ف١٦.
٥  الرسالة اللاهوتية السياسية.
٦  كتاب الأخلاق، نهاية م٤.
٧  كتاب الاخلاق م١ مبدأ ٤–٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤