الفصل الثامن

جون لوك

١٦٣٢–١٧٠٤

(١) حياته ومصنفاته

هو أحد كبار ممثلي النزعة التجريبية الإنجليزية، جاء بعد هوبس وبيكون وكان أعمق منهما في توضيح المذهب الحسي والدفاع عنه، فاستحق أن يدعى زعيمه في العصر الحديث، ولئن كانت النزعة التجريبية الخاصة بإنجلترا ظاهرة في تفكيرها منذ العصر الوسيط، فمن الحق أن يذكر أن لإنجلترا نزعة روحية أفلاطونية اتصلت منذ العصر الوسيط كذلك، ووجدت لها ملجأ في منتصف القرن بجامعة كمبردج، بينما كانت جامعة أكسفورد تحافظ على المدرسية الأرسطوطالية، ومن ممثلي هذه الأفلاطونية اللورد بروك الذي سقط قتيلًا في الخامسة والثلاثين (١٦٤٣) وهو يناضل في سبيل البرلمان، وهو يذهب في كتابه «ماهية الحقيقة» (١٦٤١) إلى أن التجربة لا توفر لنا المعرفة الحقة، وأن العقل حاصل منذ الأصل على المعاني العليا الضرورية للعلم والأخلاق، فإن العلم يرتفع بالفعل فوق الحس، كما يشهد نظام كوپرنك مثلًا، وأن الأخلاق تدور على ما يجب أن يكون لا على ما هو كائن، ويصطنع بروك وحدة الوجود، ويقول إن العقل لا يجد اطمئنانه النهائي إلا بمعرفة العلة الأولى للموجودات، وأن كل كثرة وكل علاقة وزمانية ومكانية ما هي إلا مظهر، وإن معرفتنا وحدة الموجودات في الله تبرئنا من الحسد وتعلمنا أن في سعادة القريب سعادتنا، فمعارضة لوك للمذهب العقلي ولنظرية المعاني الغريزية، على ما سنرى، تتجه إلى هذه المدرسة كما تتجه إلى ديكارت ومدرسته.

ولد جون لوك بالقرب من بريستول، وكان أبوه محاميًا خاض غمار الحرب الأهلية دفاعًا عن البرلمان، فنشأ الابن على حب الحرية، وظل متعلقًا بها إلى آخر حياته، دخل أول أمره في مدرسة وستمنستر ومكث بها ست سنين يتلقى اللغات القديمة، إذ لم يكن يشتمل البرنامج على العلوم الطبيعية إلا قليلًا من الجغرافيا، ولما بلغ العشرين دخل أكسفورد وقضى بها ست سنين يتابع الدراسات المؤدية إلى الكهنوت، ولكنه لم يتذوق الفلسفة المدرسية، ولم يتهم بالفلسفة إلَّا حين قرأ ديكارت وجساندي، وبدا له أن الوجهة الأخلاقية من الدين أجدر بالعناية من الوجهة الاعتقادية، فولَّى وجهة شطر الطب ودرسه دون أن يتقدم للدكتوراه، وفي ١٦٦٦ اتصل باللورد أشلي الذي صار فيما بعد كونت شفتسبري ومن أعاظم السياسيين في عصره، فكان كاتبه وطبيبة مدة ثلاث سنين، في ذلك الوقت نشر رسالة صغيرة «في التشريح» (١٦٦٨) وانتخب عضوًا بالجمعية الملكية، ثم نشر رسالة أخرى «في الفن الطبي» (١٦٦٩) حيث يعلن أن النظريات العامة تقف سير العلم، وأن لا فائدة إلا في فرض الجزئي الموجه إلى إدراك العلل الجزئية فيبين بذلك عن اتجاهه التجريبي.

واضطره النزاع بين حزب البرلمان وتشارلس الأول إلى مغادرة إنجلترا، فقصد إلى فرنسا مرتين (١٦٧٢، ١٦٧٥–١٦٧٩) حيث كان معظم إقامته بمونيلپي، ثم إلى هولاندا (١٦٨٣) حتى نشوب ثورة ١٦٨٨، فعاد إلى وطنه في السنة التالية، فعرض عليه الملك الجديد السفارة لدى ناخب براندبورج، فطلب إعفاءه منها بسبب حالته الصحية، وقبل منصبًا آخر هو قوميسيرية التجارة والمستعمرات، ثم اعتزل الخدمة، في هذا الشطر الثاني من حياته ساهم في جميع الحركات الفكرية التي كان يضطرب بها عصره، وصنف فيها كتبًا، هي: رسالة «في الإكليروس» و«خواطر في الجمهورية الرومانية» و«لا ضرورة لمفسر معصوم للكتب المقدسة» و«في التسامح» و«في الحكومة المدنية» و«معقولية المسيحية» و«اعتبارات في نتائج تخفيض الفائدة وزيادة قيمة النقد» و«خواطر في التربية»، يحبذ فيها طرائق هي التي اتبعها أبوه في تربيته.

أما الفلسفة فقد اتَّجَه إليها فكرة في شتاء ١٦٧٠–١٦٧١ على إثر مناقشات مع بعض أصدقائه لم يوفقوا فيها إلى حل المسائل التي أثاروها، ففطن إلى أنه يمتنع إقامة «مبادئ الأخلاق والدين المنزل إلا بعد الفحص عن كفايتنا والنظر في أي الأمور هو في متناولنا وأيها يفوق إدراكنا»، وهكذا نبتت عنده فكرة البحث في المعرفة فوضع لفوره رسالة «في العقل الإنساني» يرجع فيها معانينا جميعًا إلى معانٍ بسيطة مستفادة من التجربة، ثم عكف على الموضوع يخصص له أوقات فراغه مدة تسع عشر سنة حتى أتم كتابة الشهير «محالة في الفهم الإنساني» (١٦٩٠) والكتاب مقسم إلى أربع مقالات: الأولى في الرد على نظرية المعاني الغريزية، والثانية في تقسيم المعاني بسيطة ومركبة وبيان أصلها التجريبي، والمقالة الثالثة في اللغة ووجوه دلالة الألفاظ على المعاني وتأثير اللغة على الفكر، ومعارضه الفلسفة المدرسية باعتبارها فلسفة لفظية، وإبطال حقيقة معاني الأنواع والأجناس، والمقالة الرابعة والأخيرة في المعرفة، أي في اليقين الميسور لنا، فتبحث في قيمة المبادئ الأخلاقية، وفي علمنا بوجودنا، ووجود الله، وبوجود الماديات، وفي العقل والدين، والمقالة الأولى هي القسم السلبي من الكتاب، والمقالات الثلاث التالية هي القسم الإيجابي أي عرض المذهب التجريبي المبطل لنظرية المعاني الغريزية، وقد دوَّن لوك هذه المقالات أولًا لتوقف المقالة الأولى عليها، بمعنى أن القارئ يقبل هذه المقالة بسهولة أكبر إذا ما رأي كيف يستطيع العقل أن يكتسب معارفه، كما يقول المؤلف نفسه (م٢ ف١)، وطبع الكتاب ثانية سنة ١٦٩٤ بزيادات كثيرة وتعديلات، وترجم إلى الفرنسية ونشرت الترجمة سنة ١٧٠٠ بعد أن راجعها المؤلف وأضاف إليها وأصلح منها.

على أن بضاعته الفلسفية ضئيلة سطحية، وأسلوبه يبين عن شيء كثير من السذاجة، من شواهد ذلك أنه يكثر من التمثيل، ويسهب في تفصيل الأمثلة كأنها المقصود بالذات، ويسخر ممَّا لا يعرف فتجيء سخريته ثقيلة جدًّا، استمع إليه يقول في حملته على القياس: «لو وجب اعتبار القياس الأداة الوحيدة للعقل والوسيلة الوحيدة للوصول إلى الحقيقة، للزم أنه لم يوجد أحد قبل أرسطو يعلم أو يستطيع أن يعلم شيئًا ما بالعقل، وأنه لا يوجد منذ اختراع القياس رجل بين عشرة آلاف يستمتع بهذه الميزة، ولكن الله لم يكن ضنينًا بمواهبه على البشر إلى حد أن يقنع بإيجاد مخلوقات ذوات قدمين، ويدع لأسطو العناية يجعلهم مخلوقات عاقلة» (م٤ ف١٧ فقرة ٤).

ثم يردد الأقاويل المتداولة بين الشكاك والحسيين منذ عهد قديم من أن قواعد القياس ليست هي التي تعلم الاستدلال، وأن القياس لا يفيد في كشف الخطأ في الحجج ولا زيادة معارفنا، فلم يميز لوك بين المنطق الفطري الموفور للناس وبين المنطق العلمي الذي وضعه أرسطو، ولم يميز بين العلم الناقص الصادر عن المنطق الفطري وبين العلم الكامل المحقق بقواعد المنطق العلمي، ولم يدرك حقيقة القياس، وفاتته أمور أخرى كثيرة، وهو مع ذلك يجزم فيها جميعًا.

(٢) أصل المعاني

أول ما يصنع لوك في كتابه «محاولة في الفهم الإنساني» هو أن ينحي المذهب الغريزي من طريقه لكي يعرض المذهب الحسي أو التجريبي، وهو يظن أن الغريزية تعني وجود معانٍ صريحة وقضايا صريحة في الذهن منذ الميلاد، ولم يقل ديكارت وليبنتز شيئًا مثل هذا، وهو يظن كذلك أن الغريزية تدع مجالًا واسعًا للتقدير الشخصي ما دامت معرفة باطنة، فلا يريد أن يتركها تعبث بنظرية المعرفة وتنكر وجود الله، وهما الأمران الضروريان لاتفاق العقول وطمأنينتها، ومعه أن ديكارت وليبنتز كان يعلمان الفرق بين الذاتي والموضوعي، وكان كلاهما يقيم مذهبه على وجود الله، غير أن لوك يصيب الحق في المعرفة الإنسانية حين يقول: «لكي نحصل على معرفة صادقة يجب أن نسوق الفكر إلى الطبيعة الثابتة للأشياء وعلاقاتها الدائمة، لا أن نأتي بالأشياء إلى فكرنا»، وتبعًا لهذا المبدأ يعتقد أن المذهب الحسي هو المذهب الوحيد الممكن، ويشرع في دحض النظرية الغريزية فيقول ما خلاصته:

لو كان المذهب الغريزي صحيحًا لما كان هناك حاجة للبحث عن الحقيقة بالملاحظة والاختبار، إن ديكارت متفق مع مذهبه الغريزي حين «يغمض عينيه ويسد أذنيه» ويستبعد كل ما يأتي عن طريق الحواس، ولكنه يخالف مذهبه حين يعكف على دراسة التشريح ووظائف الأعضاء، ولو كانت المبادئ التي يذكرونها غريزة للزم أن توجد عند جميع الناس دائمًا، ولكن الأقلين من الناس — حتى من بين المثقفين — يعرفون المبادئ النظرية، مثل مبدأ الذاتية ومبدأ عدم التناقص، وما الفائدة من هذه المبادئ؟ لكي نحكم بأن الحلو ليس المر، يكفي أن ندرك معنيي الحلو والمر فنرى فورًا عدم الملاءمة بينهما دون التجاء إلى المبدأ القائل: «يمتنع أن يكون شيء غير نفسه»، كذلك ليست المبادئ العملية غريزية، إن هذه المبادئ — من أخلاقية وقانونية — تختلف من شعب إلى شعب ومن دين إلى دين، وإجماع فريق كبير من الناس على مبدأ ما دليل على أن المبدأ المقابل ليس غريزيًّا، وما الضمير إلا «رأينا فيما نفعل»، ولو كان الضمير دليلًا على وجود مبادئ غريزية لكانت هناك مبادئ غريزية مختلفة متعارضة من حيث إن كلًّا يصدر في فعله عن مبدأ، أليس المتوحشون يقترفون الكبائر ولا يبكتهم ضميرهم؟ وليس يعني هذا أن المبادئ الأخلاقية عرفية، كلَّا، إنها طبيعية، ولكنها مكتسبة، نتقبلها من بيئتنا ونألفها فتبدو غريزية (م١ ف٢)، ويقول أصحاب المذهب الغريزي، ردًّا على الاعتراض بأن الأطفال والبُلْه وجمهرة الأميين يجهلون هذه المبادئ جهلًا تامًّا، إن من الممكن أن تكون المعاني والمبادئ في النفس دون أن تكون مدركة، ولكن كيف تكون هذه المعاني والمبادئ وهي غير مدركة؟ إن وجود المعنى في النفس هو إدراكه، فقولهم يرجع إلى أن المعاني موجودة في النفس وغير موجودة فيها، كأنهم يقولون إن الإنسان جائع دائمًا ولكنه لا يحس الجوع دائمًا … فواضح من هذا أن لوك لا يريد أن يعترف بالوجود بالقوة وباللا شعور، مع أن الذاكرة دليل ساطع عليهما.

متي بطل المذهب الغريزي وجب تفسير آخر للمعرفة، والحق عند لوك أن النفس في الأصل كلوح مصقول لم ينقش فيه شيء، وأن التجربة هي التي تنقش فيها المعاني والمبادئ جميعًا، والتجربة نوعان: تجربة ظاهرة واقعة على الأشياء الخارجية؛ أي إحساس، وتجربة باطنة واقعة على أحوالنا النفسية؛ أي تفكير (ولوك يفضل لفظ تفكير على لفظ شعور)، وليس هناك مصدر آخر لمعانٍ أخرى (م٢ ف١)، ودراسة اللغة تؤيد هذا الرأي؛ فإن الألفاظ في الأصل تدل على جزئيات مادية، ثم نقلت بالتدريج على ضربين، أحدهما من الجزئيات إلى الكليات بملاحظة التشابه وإسقاط الأعراض الذاتية، والضرب الآخر من الماديات إلى الروحيات بالتشبيه والمجاز؛ فألفاظ التخيل والإحاطة والتعلق والتصور والاضطراب والهدوء وما إليها، أخذت أولًا من الماديات، ولفظ النفس معناه الأصلي … وهكذا، بحيث «لا يوجد في العقل شيء إلا وقد سبق وجوده في الحس» (م٢ ف٢)، وإن لوك لعلى حق في قوله هذا، وليس في وسع الغريزيين أن يدلونا على معنى واحد من معاني المجردات والروحيات مطابق لموضوعه ومسمى رأسًا من موضوعه، وإذا أضفنا إلى هذه العبارة المشهورة ما أضافة لبينتز بقوله «إلا العقل نفسه» أصبنا الحقيقة الكاملة في المعرفة الإنسانية، ولكن لوك لا يقبل هذه الإضافة، ويزعم أن المعرفة كلها تفسر بالحس وحده على النحو الآتي:

معانينا طائفتان: معانٍ بسيطة مكتسبة بالتجربتين الظاهرة والباطنة، ومعانٍ مركبة ترجع إلى التفكير، أما المعاني البسيطة فطوائف ثلاث: أولاها المعاني المحسوسة بالحواس الظاهرة، مثل قولنا: بارد صلب أملس خشن مر امتداد شكل حركة…، والطائفة الثانية المعاني المدركة باطنًا، وهي التي ترجع إلى الذاكرة والانتباه والإرادة، والطائفة الثالثة المعاني المحسوسة والمعاني المدركة باطنًا معًا، مثل معاني الوجود والوحدة والدوام والعدد واللذة والألم والقدرة (م٢ ف٧)، اللذة والألم يصاحبان جميع معانينا الظاهرة والباطنة تقريبًا، والوجود والوحدة معنيان يمكن أن يثيرهما فينا كل إحساس خارجي وكل فكرة نفسية، والدوام معنى ينشأ من ملاحظة الزمن الذي يقضي بين معانينا في تعاقبها، وينشأ معنى العدد من تكرار الوحدة، ونشعر بالقدرة حين نفعل، وما الفعل الحر إلا الفعل نفسه، فإذا لم نقدر على الفعل لم نكن أحرارًا، إذ لا معنى للاعتقاد بالقدرة دون الفعل، وما اعتقادنا بالحرية إلا اعتقاد بإمكان تكرار فعل سابق لمجرد كون هذا الفعل قد سبق، وهكذا تفسر جميع المعاني التي من هذا القبيل، فإن النفس في إدراكها منفعلة تسجل الواقع.

أما المعاني المركبة فالنفس فيها فاعلة إذ أنها هي التي تصنعها، وهذه المعاني طائفتان: طائفة تؤلف فيها النفس المعاني البسيطة في معنى شيء واحد، مثل معنى الذهب أو معنى الإنسان، وطائفة تؤلف فيها النفس المعاني البسيطة بحيث تمثل مع ذلك أشياء متمايزة، مثل معاني الإضافة بالإجمال، كمعنى البنوة يجمع بين معنى الابن ومعنى الأب، وكمعنى العلة يجمع بين معنى شيء موجِد ومعنى شيء موجد منه، والأصل في هذا أن تعاقب الظواهر يخلق بينها علاقات في الذهن تحملنا على اعتقاد أنه إذا وضعت ظواهر معينة وقعت ظواهر معينة، ولكن هذا الاعتقاد ذاتي بحت، وليس للعلية من معنى سوى هذا التوقع الذاتي، وكمعنى اللا متناهي، سواء أضيف لله أو للزمان أو للمكان، فقد ظنه ديكارت بسيطًا وهو مركب مكتسب بإضافة الكمية المحدودة المعلومة بالتجربة إلى مثلها، وهكذا إلى غير نهاية، وكمعنى التشابه، ومعنى التغاير … إلخ (م٢ ف١٢)، والطائفة الأولى تنقسم بدورها إلى قسمين: قسم يشمل معاني الأعراض، وهي معاني أشياء لا تتقوم بأنفسها، كالمثلث أو العدد، وقسم يشمل معاني أشياء تتقوم بأنفسها كالإنسان، وتنقسم الأعراض إلى أعراض بسيطة، وهي المركبة من معنى بسيط واحد مع نفسه، كالعدد المركب من تكرار الوحدة، والمكان والزمان المركبين من أجزاء متجانسة، وإلى أعراض مختلطة، وهي المركبة من معانٍ بسيطة متنوعة، مثل معنى الجمال المركب من لون وشكل يحدثان سرورًا في الرأي، ومعاني القتل والواجب والصداقة والكذب والرياء …

وللتركيب ثلاث طرائق: المضاهاة والجمع والتجريد، أما المضاهاة فتكون المعاني المندرجة تحت اسم الإضافة، وأما الجمع فهو التأليف بين المعاني البسيطة، وأخيرًا التجريد وهو الانتباه إلى الخصائص المشتركة بين الجزئيات وفصلها عن الخصائص الذاتية لكل جزئي، فنحصل على معانٍ كلية ندل على كل منها بلفظ واحد يغنينا عن ألفاظ لا تحصى للدلالة على كل جزئي، كما يغنينا عن حفظ صور الجزئيات وهي لا تحصى كذلك (م٣ ف٦ و٧)، فالمعنى الكلي معنى ناقص يحتوي على بعض خصائص الشيء دون بعض، وكلما كان أكثر كلية كان أكثر نقصًا، فمعنى الجنس جزء من معنى النوع، ومعنى النوع جزء من معنى الفرد، فالمعنى الكلي من صنع الفكر لا يقابله في الخارج «صورة» ثابتة كما يظن المدرسيون (م٣ ف١١)، أجل إن الطبيعة تحدث أشياء متشابهة، والفكر يكون معانيه الكلية بمناسبة المشابهات، ولكن المعاني الكلية خلاصات لما نعرف من كيفيات الأشياء، فكلما تغيرت المعرفة تغيرت الأنواع (م٣ ف٦) والأشياء خاضعة للتغير، فكلما تغيرت الأنواع تغيرت المعرفة.

(٣) الفكر والوجود

بعد هذا التحليل تأتي مسألة قيمة المعرفة: هل لمعانينا مقابل في الوجود؟ وهل توجد جواهر مقابل للظواهر؟ يقول لوك: «من البين أن الفكر لا يدرك الأشياء مباشرة، بل بوساطة ما لديه عنها من معانٍ … فكيف يعلم الكفر أن معانيه مطابقة للأشياء؟» (م٤ ف٤)، ونقول: بل كيف يعلم أن هناك أشياء؟ هذا موقف ورثة لوك عن ديكارت، ولكنه لم يقدر المسألة حق قدرها ولم يشك قَطُّ في وجود عالم خارجي، وبعد أن وضع الحقيقة في صحة لزوم العلاقات بين المعاني بالاستدلال، عاد فجعل الحقيقة في المطابقة بين المعاني والأشياء، والمراد المعاني البسيطة؛ لأن المعاني المركبة عبارة عن نماذج يصنعها الفكر ويتأملها كما تقدم، وبعد أن نقد معنى الجوهر عاد فقال بوجود جواهر غير مدركة في أنفسها هي النفس والله والمادة، ونقده للجوهر يرجع إلى أنه معنى مركب؛ ذلك أن الفكر يلاحظ تلازم معانٍ بسيطة مكتسبة بحواس مختلفة، فيعتاد اعتبار هذا المجموع شيئًا واحدًا، ويطلق عليه اسمًا واحدًا كالإنسان والفرس والشجرة، ويتوهم أن هناك أصلًا تقوم فيه الكيفيات؛ لأنه لا يدرك كيف يمكن لهذه المعاني البسيطة أو الكيفيات أن تقوم بأنفسها (م٢ ف٢٣). وهذا يعني أن لوك يظن القائلين بالجوهر يريدون به موضوعًا عاطلًا من الكيفيات مخفيًّا تحتها، والواقع أن الكيفيات عندهم كيفيات الموضوع وأن التمييز بينه وبينها تمييز ذهني له أصل في حقيقة الأشياء هو أن الأشياء تتقلد كيفيات مختلفة مع بقائها هي هي بالماهية، على أن لوك يعتقد بوجود الجوهر كما ذكرنا، ويقول لو استطعنا إدراكها لأدركنا ائتلاف الكيفيات، ولكننا لا نستطيع لأن معرفتنا مقصورة على الإحساس والتفكير.

فالنفس مجموع معانٍ بسيطة مدركة بالتفكير، والأنا هو هذا الشيء المفكر المدرك لأفعاله، ووجوده موضوع حدس باطن لا يتطرف إليه شك ولا يحتاج إلى دليل، وجهلنا بجوهر النفس لا يخولنا الحق في إنكار وجودها، بيدَ أنَّ لوك لا يريد أن يقول أن «الذاتية الشخصية» تقوم في ذاتية النفس أي بقائها هي هي، ولكنه يردها إلى ذاتية الشعور بالأنا الذي يتذكر الآن فعلًا ماضيًا (م٢ ف٢٧)، غير أن هذا وصف لشعورنا بالشخصية، وليس تفسيرًا لإمكان الذاكرة والشخصية، أليس التذكر يستلزم بقاء الأنا الذي يتذكر هو هو؟ هذه مسألة يراها لوك مجاوزة لدائرة التجربة البحتة فلا يريد أن يعرض لها، كذلك يفعل في مسألة ما إذا كان الأنا روحيًّا أو ماديًّا، بسيطًا أو مركبًا، وهذه مسألة تقتضي حل مسألة أخرى هي ما إذا كانت المادة تستطيع أن تفكر أو لا تستطيع، ولا سبيل إلى حلها لأننا نجهل جوهر المادة كما نجهل جوهر النفس، فليس بوسعنا أن نتأكد إن كانت قوة التفكير تلائم طبيعة المادة أو لا تلائمها، وقد يكون الله كون جسمًا ما بحيث يقدر أن يفكر ونحن لا ندري.

والله موجود، ولكن ماهيته مجهولة لا يستطيع عقلنا أن يعينها، ولسنا نؤمن بوجود الله بناء على معنى غريزي، بل بناء على برهان، إن المعنى الغريزي معدوم بالمرة عند الذين يقولون إنهم ملحدون، وعند بعض القبائل المتوحشة، وهو إن وجد عند العامة فإنه مشبع بالتشبيه ولا يطابق حقيقة الله، فلو كان في النفس معنى غريزي عن الله لأمن بالله جميع الناس وتعقَّلوه كما هو، وليس بصحيح أن معنى اللا نهاية سابق على معنى النهاية، كما يدعي ديكارت، وإنما اللا نهاية معنى معدول، ونحن نتصور لا نهاية الله عددًا غير محدود من أفعال الله بالإضافة إلى العالم، ونتصور سرمدية الله زمانًا غير محدود، أي إن تصورنا اللا نهاية ليس تصور لا نهاية متحققة بالفعل، وإنما هو تصور تدرج لا نهاية له، وإن كانت اللا نهاية الإلهية في ذاتها شيئًا آخر يفوق تصورنا وكفايتنا المحدودة، سرمديًّا كليَّ القدرة، وعاقلًا أيضًا من حيث إنه خلق في العقل، وخالق المادة من حيث إنه خلق نفسي، وإن خلق المادة أيسر من خلق النفس، وهذا البرهان برهان على وجود الله وعلى ماهيته في آنٍ واحد دون حاجة إلى معنى غريزي، ولكن لوك يعول على مبدأ العلية، وهو عنده مركب بفعل النفس غير موضوعي، ويتحدث عن العقل والمادة والنفس والسرمدية كما لو كان يدرك كنهها، وقد قرر أن عقلنا يجهل الكنه ولا يدرك سوى الظواهر، فهو يعود إلى فطرة العقل برغمه ودون أن يشعر.

والأجسام موجودة، وعلمنا بوجودها محقق عمليًّا وإن لم يكن في مثل يقين علمنا بذاتنا وبالله، يدل على وجودها أولًا أن الذهن لا يستطيع إحداث صورها من تلقاء نفسه، وكل فاقد حاسة فهو عاطل من المعاني المتعلقة بتلك الحاسة، كالأكمه فإنه عاطل من معاني الألوان ولا يتصورها إن إمكن وصفها له، ثانيًا أننا نميز المعنى الآتي من الحس والمعنى الآتي من الذاكرة، فالأول مفروض علينا والثاني تابع للإرادة تذكره أو لا تذكره، وإن ما يصاحب الأول من لذة أو ألم لا يصاحب الثاني، ثالثًا أن الحواس يؤيد بعضها بعضًا، فالذي يرى النار يستطيع أن يمسها إن شك في وجودها، وحينئذٍ يحس ألمًا لا يمكن أن يحس مثله لو كان إدراكه مجرد تصور (م٤ ف١١)، على أن معانينا ليست صور الأشياء أو أشباهها، وإنما هي علامات دالة عليها، كما أن الألفاظ لا تشبه المعاني التي تقوم في النفس حال سماعها ولكنها تدل عليها، إن جوهر الأجسام خافية علينا كل الخفاء، ولكنها بقوة أو كيفية فيها تثير فينا معاني هي عبارة عن انفعالنا بتأثيرها، والكيفيات: أولية وثانوية، الكيفيات الأولية هي الامتداد والشكل والصلابة والحركة، وهي واقعية موضوعية ملازمة للأشياء في جميع الأحوال وإن كانت لا تمثلها حق التمثيل، فإن فكرة الامتداد غامضة لا تفسر وحدة الجسم أو تماسك أجزائه، وهي متناقضة لتناقض الانقسام إلى غير نهاية، والكيفيات الثانوية هي اللون والصوت والطعم والرائحة والحرارة والبرودة وهي ليست للأجسام في أنفسها، وإنما هي انفعالاتها بتأثير الكيفيات الأولية في الحواس بحسب حجمها وشكلها وحركتها، فعلى كل حال نحن لا ندرك سوى أنفعالنا بالأشياء، والجسم عبارة عن كيفيات مؤتلفة في تجربتنا.

والخلاصة أن معرفتنا مقصورة على التجربة الظاهرة والباطنة، فيتعين على الفلسفة أن تقنع بما يدرك بالملاحظة والاستقراء فحسب، وأن تعدل عن المسائل الميتافيزيقية وعن المناهج العقلية، وتلك نتيجة المذهب الحسي الذي بعثه روسلان وجدده أوكام وهوبس وبيكون، وسيكون لهذه النتيجة ما بعدها، فإن لوك ما يزال يعتقد بفاعلية الذهن، ولكن سيأتي فلاسفة من الإنجليز بنوع خاص ينكرون هذه الفاعلية ويفسرون الفكر كله بتداعي المعاني تداعيًا آليًّا، فيضمون المذهب الحسي إلى صورته القصوى.

(٤) السياسة

يعتبر لوك أحد مؤسسي المذهب الحري الجديد، فهو يعارض هوبس في تصويره الإنسان قوة غاشمة، وتصوره حال الطبيعة حال توحش يسود فيها قانون الأقوى، ويذهب إلى أن للإنسان حقوقًا مطلقة لا يخلقها المجتمع، وأن حالة الطبيعة تقوم في الحرية، أي إن العلاقة الطبيعية بين الناس علاقة كائن حر بكائن حر تؤدي إلى المساواة، العلاقات الطبيعية باقية بغَضِّ النظر عن العرف الاجتماعي، وهي تقيم بين الناس مجتمعًا طبيعيًّا سابقًا على المجتمع المدني، وقانونًا طبيعيًّا سابقًا على القانون المدني، وعلى ذلك ليس للناس بالطبع حق في كل شيء كما يزعم هوبس، ولكن حقهم ينحصر في تنمية حريتهم والدفاع عنها وعن كل ما يلزم منها من حقوق، مثل حق الملكية وحق الحرية الشخصية وحق الدفاع عنهما.

أما حق الملكية فإنه حق طبيعي يقوم على العمل ومقدار العمل، لا على الحيازة أو القانون الوضعي، وليس لأحد حق فيما يكسبه المرء بتعبه ومهارته، ولا تصير الحيازة حقًّا إلا إذا استلزمت العمل، على أن حق الملكية خاضع لشرطين، الأول أن المالك لا يدع ملكيته تتلف أو تهلك، والثاني أن يدع للآخرين ما يكفيهم فإن هذا حق لهم، فحرية العمل هي المبدأ الذي يسوغ الملكية والمبدأ الذي يحدها، إذا يجب أن تبقى حرية العمل مكفولة دائمًا للجميع.

وأما الحرية الشخصية فمعناها أن ليس هناك سيادة طبيعية لأحد على آخر، إن سلطة الأب أعطيت له لكي يربي الابن ويجعل منه إنسانًا أي كائنًا حرًّا، فهي واجب طبيعي أكثر منها سلطة، وهي مؤقتة ولا تشبه في شيء سلطة السيد على العبد، وتفقد بسوء الاستعمال والتقصير، والسلطة السياسية تراضٍ مشترك وعقد إرادي؛ وذلك لأن أعضاء المجتمع متساوون عقلًا وحرية، بخلاف الحال في علاقة الآباء والأبناء، فأساس الاجتماع الحرية والغرض من العقد الاجتماعي صيانة الحقوق الطبيعية، لا محوها لمصلحة الحاكم كما يزعم هوبس، فلا يستطيع الأعضاء أن ينزلوا إلا عمَّا يتنافر من حقوقهم مع حال الاجتماع، وذلك هو حق الاقتصاص، فالسلطة المدنية قضائية في جوهرها؛ لذا لم تكن السلطة المطلقة الغاشمة مشروعة، خلافًا لما يدعي هوبس، الحق أنها ليست شكلًا من أشكال الحكومة المدنية، وإنما هي محض استعباد، والملك المستبد خائن للعهد، والشعب في حل من خلع نيره.

ويجب الفصل بين الدولة والكنيسة، إن هدف الدولة الحياة الأرضية، وهدف الكنيسة الحياة السماوية، نحن إذ نولد ملك الوطن لا ملك الكنيسة، ولا ندخل فيها إلا طوعًا، ولما كان المجتمع المدني غير قائم على مصالح الكنيسة، فليس للدولة أن تراعي العقيدة الدينية في التشريع، ولا محل للقول بدولة مسيحية، مبدأ الدولة أن لكل أن يستمتع بجميع ما يعترف به للغير من حقوق، فيجب على الدولة أن تجيز جميع أنواع العبادة الخارجية، وتدع الكنيسة تحكم نفسها بنفسها فيما يتعلق بالعقيدة والعبادة وفقًا للقوانين العامة، فتسود الحرية جميع نواحي المجتمع المدني.

تلك هي الآراء البارزة في كتب لوك السياسية، وسيكون لها ولآرائه في المعرفة أكبر الأثر على القرن الثامن عشر في إنجلترا وفرنسا، فيشيع المذهب الحسي ويشيع المذهب الحري في الدين والسياسة والتربية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤