الفصل الثاني عشر

نقد العقل العملي

(١) المادة والصورة في الأخلاق

إذا أردنا أن نقيم فلسفة الأخلاق وجب أن نلتمس مبادئها في العقل الخالص من كل مادة، ليست هذه الفلسفة خليطًا من تلك الأخلاط التي تضم الظواهر التجريبية والمعاني العقلية، والتي يزعم أصحابها أنهم يوفِّقون بها بين مقتضيات النظر والتجربة، إن المذاهب التي تدعي تفسير الخليقة بطبيعة الإنسان كما هي معلومة بالتجربة والتاريخ، تشترك في عيب جوهري هو عجزها عن إقامة قوانين كلية للإرادة، فإن مثل هذه القوانين لا يطالع إلا في العقل الصرف، ويمكن ترتيب هذه المذاهب في طائفتين: واحدة تعتمد على مبادئ حسية، وأخرى تعتمد على مبادئ عقلية، وترجع مذاهب الطائفة الأولى إلى فكرة السعادة، فتقيم السعادة إما على الحساسية الطبيعية، كما فعل أرستيب وأبيقور وهوبس وأضرابهم، أو على العاطفة الأخلاقية، كما فعل شفستبري وأشياعه، وترجع مذاهب الطائفة الثانية إلى فكرة الكمال، فتصور الكمال إما حالة نفسية حادثة بالإرادة، كما نرى عند ليبنتز، أو الله نفسه المشرع الأعظم، كما يقول اللاهوتيون.

من بين هذه المذاهب الأربعة، المذهب الذي يجب استبعاده أولًا هو مذهب السعادة الشخصية؛ إذ أن الحساسية جزئية متغيرة، فلا يمكن أن نستخرج منها قانونًا كليًّا ضروريًّا كالذي تفتقر إليه فلسفة الأخلاق، ثم إن هذا المذهب يرد الخير إلى اللذة والمنفعة، فيمحو كل تمييز نوعي بين بواعث الفضيلة وبواعث الرذيلة، أما مذهب العاطفة الأخلاقية، فهو أرفع من غير شك لأنه يعترف بالفضيلة أولًا وبالذات، ولكنه من نوع المذهب السابق، إذ أنه يعرض على الإرادة منفعة حسية هي الرضا النفسي، وإنما لجأ أنصاره إلى العاطفة ليأسهم من العقل، ولم يقدروا أن العاطفة متغيرة نسبية لا تصلح مقياسًا للخير والشر.

وإذا انتقلنا إلى مذهب الكمال في صورته الأولى أو الميتافيزيقية، وجدناه أفضل؛ لأنه لا يدع حق التقرير في الأخلاق للحساسية، بل يسلمه للعقل، ولكن فكرة الكمال غير معينة من جهة الغاية التي ترمي إليها، وليس لدينا معيار لتعيين الحد الأقصى الذي يلائمنا في واقع الأمر، وهي غير معينة في ذاتها، فإن الكمال الذي يكتسبه الإنسان هو كفاية ما لتحقيق غاية، وليست هذه الغاية غاية أخلاقية دائمًا، فلا بد من علامة غريبة عن الكمال للحكم عليه حكمًا أخلاقيًّا، فنخرج من المذهب وينكشف نقصه، وإذا اعتبرنا هذا المذهب في صورته الثانية أو اللاهوتية، رأينا من الجهة الواحدة أنه لما لم يكن لنا حدس بالكمال الإلهي فإننا لا نستطيع تعيين الكمال إلا بمعانينا نحن فنقع في دور، أو نعود إلى الصورة السابقة، ورأينا من جهة أخرى أن الإرادة الإلهية إن لم تعرف أولًا بصفات أخلاقية أمكن تصورها مصدر أوامر ونواهٍ عديمة الصلة بالخلقية أو معارضة لها، وإذا تصورناها مطابقة للخلقية فقد قدمنا الخلقية عليها ولم تعد هناك حاجة لتبرير الخلقية نفسها والبحث لها عن دعامة غريبة عنها، فمن العبث ومن الخطأ محاولة إخضاع القانون الأخلاقي لموضوع ما أو لسلطان موجود أعلى.

ما هو إذن المبدأ الأخلاقي؟ شيء واحد يعتبره الناس خيرًا بغير تحفُّظ، هو الإرادة الصالحة، أما مواهب الطبيعة، كالذكاء وسرعة الحكم وأصالته والشجاعة والحزم، وأما مواهب الحظ، كالمال والجاه والسلطة، وأما لذَّات الحياة على اختلافها، فلا يراها الضمير العام خيرات بالذات، والسبب في ذلك أنها لا تعين بأنفسها طريقة استعمالها، ولكنها مجرد وسائل تستخدمها الإرادة كما تشاء، فتكون أحيانًا كثيرة مصدر إغراء سيئ وتسخر لأغراض مذمومة، أليست رباطة جأش المجرم تثقل جرمه وتزيد في مقت الناس له؟ أما الإرادة الصالحة فهي على العكس الشرط الضروري والكافي للخلقية، إذ أنها خيرة بذاتها لا بعواقبها، وتظل خيرة حين لا تستطيع تنفيذ مقاصدها، ما دامت قد عملت وسعها في هذا السبيل.

وما هي الإرادة الصالحة؟ لأجل تحليلها كما تبدو في الضمير العام، يجب إرجاعها إلى معنى «الواجب» وهو معنى يمثل لنا الإرادة الصالحة مفروضة علينا، إذ أن طبيعتنا ناقصة، وبسبب هذا النقص لا تكون كل إرادة صالحة بالضرورة، ولا تكون الإرادة الصالحة صالحة دفعة واحدة، الإرادة الصالحة إذن هي إرادة العمل بمقتضى الواجب أي للواجب دون أي اعتبار آخر، بأي علامة تميز العمل الذي من هذا القبيل؟ إن التمييز سهل بين الأفعال الصادرة عن الواجب والأفعال المطابقة للواجب مطابقة خارجية فقط ويفعلها الفاعل ابتغاء منفعة أو اندفاعًا مع رغبة، هذه الطائفة الثانية من الأفعال لا تمت إلى الفضيلة بسبب إذ ليس للمنفعة ولا للرغبة صفة خلقية، لكن التمييز يصبح عسيرًا حين تكون الأفعال صادرة عن الواجب وعن الرغبة معًا، فيجد المرء نفسه ميالًا إلى ما يفرضه الواجب، مثل أن يقال إن واجبي صيانة حياتي وتوفير السعادة لنفسي، وأنا أحرص طبعًا على الحياة وأسعي طبعًا لأكون سعيدًا، الحق أن الإرادة الصالحة لا تبدو بوضوح إلا متى كانت في صراع مع النزعات الطبيعية فاستمسكت بالواجب، وإنما يقصد الإنجيل إلى هذا المعنى حين يأمرنا بمحبة أعدائنا، فإن المحبة الحسية لا يؤمر بها، أما المحبة المعقولة الصادرة عن الإرادة فهي موضوع أمر، ويجب أن تتحقق بمعزل عن المحبة الحسية، بل بالرغم من الكراهية الحسية.

إذا كان الواجب معنى عقليًّا صرفًا فكيف يمكن أن يكون دافعًا نفسيًّا إلى العمل؟ يمكن ذلك بواسطة بين العقل والحس، فهناك عاطفة ليست كسائر العواطف منبعثة عن مؤثرات حسية، ولكنها متصلة اتصالًا مباشرًا بتصور الواجب، أي إنها صادرة عنه وأنه هو موضوعها: تلك هي عاطفة الاحترام، وعلى ذلك يكون الواجب «ضرورة العمل احترامًا للواجب»، فالاحترام من حيث طبيعته ومصدره ومهمته عاطفة أصيلة بالمرء، بينما سائر العواطف ترجع إلى الميل أو إلى الخوف، غير أن بينه وبين الخوف والميل بعض المماثلة؛ فالمماثلة بينه وبين الخوف تقوم في نسبته إلى قانون مفروض على حساسيتنا من حيث إنه الشعور بخضوعنا لسلطة القانون الخلقي، وتقوم المماثلة بينه وبين الميل في نسبته إلى قانون صادر عن الإرادة نفسها من حيث إنه الشعور بمشاركتنا فيما للقانون من قيمة لا متناهية فإذا كان من الوجهة الأولى يحط من قدرنا، فإنه من الوجهة الثانية يشعرنا بكرامتنا، ولا يتجه الاحترام لغير القانون، إنه لا يتجه مطلقًا إلى الأشياء، وإن بدا أحيانًا متجهًا إلى الأشخاص فكونهم يبدون بفضيلتهم أمثلة للقانون، وهكذا يكون الاحترام منبعثًا عن العقل وحده، عن قوة أخرى، ولا لغرض آخر غير القانون.

(٢) الواجب أو الأمر المطلق

إن التحليل السابق لا يكفي لإقامة فلسفة الأخلاق، يجب تكميله وتأييده بمنهج آخر هو منهج الاستنباط الفرضي المستخدم في العلوم لاستكشاف القوانين، وهو يقوم في افتراض مبدأ واستخراج نتائجه ومضاهاه هذه النتائج بالواقع، وبذا نقف على خصائص القانون الخلقي ومضمونه ومبدئه العقلي، فأما أن هناك قانونًا، فهذا ما يحتمه المبدأ القائل إن كل شيء في الطبيعة يفعل بموجب قانون، وأما أن هناك قانونًا عمليًّا إراديًّا، فهذا لازم مما للموجودات العاقلة، ولهم وحدهم، من عقل عملي أو إرادة أو قوة الفعل بناء على تصور قانون، ويختلف موقف الإرادة من القانون؛ فقد نفترض موجودًا تتطابق الإرادة فيه مع العقل دائمًا فلا تشتهي إلا ما يعتبره العقل الخالص خيرًا، وتلك حال إرادة فيه مع العقل دائمًا فلا تشتهي إلا ما يعتبره العقل الخالص خيرًا، وتلك حال إرادة قديسة كالإرادة الإلهية، وليست هذه حال الإرادة الإنسانية، إذ أنها خاضعة لدوافع حسية معارضة للقانون، فبالإضافة إليها تنقلب ضرورة القانون إكراهًا ويسمى تصورًا أمرًا، فإن الأمر يترجم عن علاقة بين قانون وإرادة ناقصة، وهذا الأمر مطلق لأنه يقرر أن الفعل ضروري في ذاته دون أية علاقة بشرط أو غاية، فيقيد الإرادة مباشرة ولا يعترف بإمكان مخالفته، بعكس الأمر الشرطي الذي يرتب ما يأمر به لغاية معتبرة شرطًا، فلا يفترض سوى أن من يريد الغاية يريد الوسيلة إليها، ولا يقيد الإرادة لأن الغاية التي هي شرطه متروكة للاختيار.

كيف نعرف الأمر المطلق؟ إن خاصية القانون هي الكلية، فالأمر المطلق لا يعرف إلا بكلية القانون الواجب على حكم الإرادة أن يطابقه، فنقول في تعريفه: «اعمل فقط حسب الحكم الذي تستطيع أن تريد في الوقت نفسه أن يصير قانونًا كليًّا»، هذا التعريف صوري بحت، لا يشتمل على غايات أو دواعٍ مستمدة من التجربة، وأمثال هذه الغايات والدواعي ذاتية حتمًا وليست كلية، غير أن هذا التعريف عام بعيد عن التطبيق العملي، فيتعين علينا أن نتدرج منه إلى ما هو أخص، فإذا لاحظنا أن تصور قانون كلي يصاحبه طبيعة، من حيث إن المعنى الصوري للفظ طبيعة يدل على أشياء خاضعة لقوانين، استطعنا أن نصوغ الأمر المطلق في صيغة جديدة هي: «اعمل كما لو كنت تريد أن تقيم الحكم الصادر عن فعلك قانونًا كليًّا للطبيعة»، وما علينا إلا أن نراجع هذه الصيغة ببعض الأمثلة لنرى كيف تطبق، مثال أول: هل يجوز للذي يضيق بالحياة أن ينتحر؟ إن مثل هذا الإنسان يصدر عن حب الذات ويرتب عليه هذا الحكم، وهو أنه يستطيع اختصار حياته إذا خشي أن تربى آلامها على لذاتها، ولكن الطبيعة التي يكون قانونها القضاء على الحياة بموجب النزعة التي وظيفتها الدفع إلى تنمية الحياة واستطالتها، تكون طبيعة مناقضة لنفسها ولا يقوم لها كيان كطبيعة، فلا يمكن أن يصير مثل هذا التطبيق لحب الذات قانونًا كليًّا للطبيعة، مثال ثان: هل يجوز اقتراض المال والوعد برده مع العلم بعدم القدرة على رده؟ كلا، إذ أن المفروض في الموعد هذا الصدق، فكيف يمكن أن يصير الوعد الكاذب قانونًا كليًّا؟ هذا أيضا تناقض، ونتيجته المحتومة ألا يصدق أحد مثل هذا الوعد، فيصبح الوعد نفسه مستحيلًا، ويستحيل نوال القرض المرجو منه، مثال ثالث: هل يجوز إيثار لذات الحياة على تثقيف النفس وتنمية الشخصية؟ إن هذا الحكم يمكن أن يصير قانونًا كلياًّ من وجه، لأنه لا يلاشي الطبيعة، فلا ينطوي على تناقض، ومع ذلك لا يمكن في واقع الأمر أن يصير قانونًا كليًّا، لأن الإنسان بصفته موجودًا عاقلًا يريد بالضرورة أن تبلغ قواه تمام النماء، من حيث إنها حينئذٍ تسعفه في تحقيق غايات مختلفة، وإنها وهبت له لهذا الغرض، مثال رابع وأخير: هل يجوز للغني أن يقول: ماذا يعنيني من أمر الغير؟ إن هذا الحكم أيضًا يمكن أن يتصور قانونًا كليًّا من وجه؛ لأن النوع الإنساني يمكن أن يبقى معه، ولكن الإرادة التي تأخذ به تناقض نفسها، لأنها بموجبه تقطع كل أمل وتفقد كل حق في الحصول على العون عند الحاجة؛ ففي المثالين الأولين الحكم مناقض لنفسه، فلا يمكن إطلاقًا تصوره على نحو كلي، وفي المثالين الأخيرين الإرادة هي التي تناقض نفسها في ماهيتها، فلا يمكن بهذا الاعتبار تصور حكمها على نحو كلي، وقس على ذلك سائر الأحكام.

هذا من جهة أن الإرادة قوة العمل بناء على تصور قانون، ولكنها أيضًا قوة العمل لغاية، ومن الغايات ما هو متروك للاختيار فلا يدخل إلا في أوامر شرطية، أما الامر المطلق فيجب أن يكون له غاية من نوع آخر، غاية بالذات يضعها العقل وحده فتفرض على كل موجود عاقل، هذه الغاية لا نجدها إلا في الموجود العاقل نفسه، فإنه في الواقع نفس العقل، فيجب عليه ألَّا يدع نفسه يرجع إلى شيء خارجي، أسوة بالعقل الذي لا يرجع إلى شيء خارجي (في مذهب كنط)، ولما كانت الصورة التي تبدو لنا فيها الطبيعة العاقلة هي الإنسانية، كانت الإنسانية غاية بالذات و«مادة» الإرادة الصالحة، فتخرج لنا صيغة جديدة للأمر المطلق، هي: «اعمل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي أي شخص آخر كغاية لا كوسيلة»، وإذا طبقنا هذه الصيغة الجديدة على الأمثلة المذكورة آنفًا، تبين لنا أن الذي ينتحر يتصرف بالإنسانية في شصخه كما لو كانت وسيلة ليس غير لحياة هنيئة أو محتملة، وأن الذي يبذل وعدًا كاذبًا يتصرف بالغير كما لو لم يكن الغير غاية بالذات بل كان مجرد أداة لرغباته، وأن الذي يهمل تثقيف نفسه فلا يساهم في كمال الإنسانية يعتقد أنه يستطيع استخدام الإنسانية في شخصه طبقًا لذوقه الخاص، وأن الذي يمسك معونته عن الغير، وإن كان لا يمنع الإنسانية من أن تكون غاية بالذات، فإنه لا يريدها كذلك ولا يعمل على ذلك.

وبالجمع بين الصيغتين المتقدمتين نحصل على صيغة ثالثة هي: «اعمل كما لو كنت مشرع القانون»؛ ذلك بأنه إذا كان واجب الموجود العاقل أن يعمل بمقتضى القانون، وأن يعامل نفسه كغاية بالذات، فواضح أنه لا يمكن الاقتصار على اعتباره خاضعًا للقانون، وإلا كان مجرد أداة ووسيلة بالإضافة إلى قانون يفرض عليه من خارج أو من علٍ، وإنما يجب أن يكون أيضًا صانع القانون، وهكذا نصل إلى فكرة إرادة مشرعة كلية، وهي فكرة أساسية مستخرجة من مجرد تحليل الأمر المطلق، وكافية لتوفير منفعة (عقلية) للإرادة تحملها على الطاعة له، إذ كان من الحق أن ليس يمكن إرادة شيء دون تصور منفعة ما، فيكون موقفنا أننا باعتبارنا موجودات عاقلة مشرعو القانون الذي نحن خاضعون له باعتبارنا موجودات عاقلة وحاسة معًا، فالمبدأ الأساسي والمبدأ الأعلى للخليقة هو «استقلال الإرادة» لأنه مبدأ كرامة الطبيعة الإنسانية وكل طبيعة عاقلة، ومتى كان القانون صادرًا عن العقل كان واحدًا عند جميع الموجودات العاقلة، وكانت هذه الموجودات بمثابة عالم معقول أو مملكة الغايات، أي اتحاد منظم خاضع لقوانين مشتركة رئيسة الموجود العاقل البريء من الحساسية الكامل الإرادة، يقرر القوانين ولا ينفعل بقوتها إلا كراهية، وهكذا تعينت الصيغة الأصلية للأمر المطلق بثلاث صيغ أخرى تتفق معنى ولا تتمايز إلا بأن الأولى خاصة بصورة الأحكام الأخلاقية (وهي القانون الكلي للطبيعة) والثانية خاصة بالمادة (وهي الموجودات العاقلة الغايات بالذات) والثالثة تعينها تمام التعيين (وهي الاستقلال بالتشريع في مملكة الغايات)، وهذه الصيغ الثلاث تتدرج بالأمر المطلق حتى تقربه إلى نفوسنا.

(٣) من الواجب إلى المتيافيزيقا والدين

قلنا إن الواجب أمر مطلق صادر عن إرادة خالصة إلى إرادة منفعلة بميول حسية: فكيف يمكن أن تتطابق هذه مع تلك؟ لا بد من واسطة تصل بينهما، هذه الواسطة هي الحرية، نعم ليس الواجب ممكنًا إلا بالحرية، ووجوده يدل على وجودها، وهما معنيان متضايفان، فإنه إذا كان على الإنسان واجب، كانت له القدرة على أدائه، وكان فيه — إلى جانب العلية الظاهرية — علية معقولة مفارقة للزمان تضع القانون وتفرضه على نفسها، فالحرية خاصية الموجودات العاقلة بالإجمال، فإن هذه الموجودات لا تعمل إلا مع فكرة الحرية، وهي إذن من الوجهة الخلقية، حرة حقًّا، وبعبارة أخرى إن للقوانين الواجبة نفس القيمة بالإضافة إلى موجود حر وبالإضافة إلى موجود لا يستطيع أن يعمل إلا مع تصور حريته، وذلك هو المعنى الذي يحق لنا به إضافة إرادة حرة لكل موجود عاقل، فالحرية والقانون يؤكدان العالم المعقول، والإنسان عضو فيه من حيث خضوعه لقوانين عقلية بحتة، وهذا ظاهر في نفس كل إنسان، حتى المجرم، فإنه يقر بسمو الفضيلة التي يخالفها، فهو بإقراره هذا يلاحظ العالم المعقول، فالقانون علة علمنا بالحرية، والحرية علة وجود القانون، القانون يبرهن على الحرية، والحرية تفسر القانون، وفكرة العالم المعقول واسطة التركيب بين الإرادة المنفعلة بالميول وبين الإرادة المشرعة الكلية، على أن هذا العالم المعقول ليس موضوع علم أصلًا، ولكنه «وجهة نظر» يجد العقل نفسه مضطرًّا للارتفاع إليها لكي يتصور نفسه موجودًا خلقيًّا، فليس للعقل أن يحاول تفسير إمكان الحرية، فإن مثل هذه المحاولة معارضة لطبيعة العقل من حيث إن علمنا محصور في نطاق العالم المحسوس وإن الشعور الباطن لا يدرك سوى ظواهر معينة بسوابقها، وهذه المحاولة معارضة لطبيعة الحرية نفسها من حيث إن تفسيرها يعني ردها إلى شروط وهي علية غير مشروطة، فيكفي أن يستطيع العقل استبعاد المذاهب التي تعتبر الإنسان شيئًا من أشياء الطبيعة فحسب، وأن يفهم وجوب استعصاء هذه المسألة عليه لما يعلم من قصوره.

بعد مسألة: ماذا يجب أن أعمل؟ تأتي مسألة: ما مصيري؟ ولكي نحل هذه المسألة ما علينا إلا أن نمضي مع العقل إلى هدفه الأسمى، وهو المطلق، لكن لا العقل النظري الذي موضوعه العلم، ولا العقل العملي الذي موضوعه الخير الخلقي، بل العقل بالذات الذي يظهر في العقلين ويجمع بينهما، ما حكمه في معنى الخير وهي المعنى الذي يتعين علينا أن نتصوره هنا على وجه الإطلاق؟ إذا اتخذنا هذا الموقف وجدنا أن معنى الخير مشترك بين الخير الخلقي والخير الطبيعي المحسوس، وإذن فليس الخير الخلقي هو الخير الأوحد أو الكامل والتام، وإن كان هو الخير الأعلى، بل هناك أيضًا الخير الذي هو موضوع ميولنا الحسية، فالخير المطلق مركب من هذين الخيرين، وهذا التركيب نتصوره في معنى الخير الأعظم، وهذا المعنى هو المبدأ الموحد بين ميول الطبيعة والإرادة الخالصة، هو الفضيلة من جهة، والسعادة بنسبة الفضيلة من جهة أخرى، الفضيلة هي الشرط من حيث إنها خير بذاتها، بينما السعادة متوقفة عليها فهي خير من وجه فقط، ولا يبرها إلا السيرة الفاضلة، وبكلمة واحدة الفضيلة تجعلنا أهلًا لأن نكون سعداء.

ما شروط تحقيق الخير الأعظم الذي يقضي به العقل؟ أو كيف نتصور اجتماع الفضيلة والسعادة؟ هذه صعوبة رأى الرواقيون والأبيقوريون أن يحلوها بوضع نسبة تحليلية بين الحدين، بحيث تكون الفضيلة شرطًا للسعادة، أو تكون السعادة شرطًا للفضيلة، ولكن هذا محال، قال الرواقيون إن الفضيلة تتضمن السعادة، وإن الإنسان الفاضل سعيد بالفضيلة تمام السعادة، والتجربة تدحض هذه القضية، وما ذلك إلا لأن الحدين متغايران تمام التغاير، السعادة معنى حسي والفضيلة معنى عقلي، وهما يرجعان إلى قانونين متغايرين تمام التغاير: ترجع الفضيلة إلى القانون الخلقي أي إلى الكلي بالذات، وتتوقف السعادة على القوانين الجزئية للطبيعة، وليست تعني الطبيعة بالخلقية، وليست تراعي الصلاح والطلاح فيما تقضي به من لذَّات أو آلام لبني الإنسان، وقال الأبيقوريون إن السعادة المعينة بالعقل تتضمن الفضيلة، فما الفضيلة إلا الاسم الكلي الذي تندرج تحته الوسائل إلى السعادة، والعقل ينكر هذه القضية، إذ لا فضل ولا فضيلة في طلب السعادة، بل إن طلبها يفسد الفعل الخلقي.

الحق أن النسبة بين الحدين تركيبية، إذا كان هناك عالم أعلى مطابق بذاته لشروط الخلقية، وأمكن التسليم بتأثير هذا العالم الأعلى في عالمنا المادي، فحينئذٍ يمكن قبول القضية الرواقية، ويمكن تصور الفضيلة علة السعادة بصفة غير مباشرة بفضل ذلك التأثير، بحيث العالم المعقول هنا أيضًا واسطة التركيب بين الحدين، فلكي يمكن أن يتحقق الخير الأعظم، يجب أولًا أن تكون الفضيلة الكاملة أو القداسة ممكنة، ولكن الإنسان المركب من طبيعتين متباينتين قاصر كل القصور عن البلوغ إلى القداسة، فإن معنى القداسة بالإضافة إليه قهر الحساسية قهرًا تامًّا، من حيث إنها أنانية في صميمها معارضة للخلقية بذاتها، على أن الإنسان — إذا لم يكن في طاقته أن يصير قديسًا بالإطلاق — فهو يستطيع أن يترقى إلى غير نهاية نحو القداسة بإضعاف ميول الحسية إضعافًا مطردًا، ولكي يكون هذا الترقي اللا متناهي ممكنًا، يجب أن تدوم شخصيتنا، وذلك هو خلود النفس، أي إمكان تحقيق شخصيتنا في سلسلة غير متناهية من الحيوانات المحسوسة تقربها من القداسة إلى غير حد.

ويجب ثانيًا لكي يتحقق الخير الأعظم أن يؤثر في الطبيعة فاعل تتحد فيه القداسة والسعادة اتحادًا تامًّا، هذا الفاعل هو الذي يدعى الله، ويكفي أن نعلم بالضبط النسبة بين الإنسان من جهة والطبيعة والخلقية من جهة أخرى حتى ندرك ضرورة الله؛ ذلك بأن السعادة حالة الشخص الذي تجري كل الأمور على ما يشتهي، فهي تتضمن توافقًا بين الطبيعة والغايات التي يسعى إليها الشخص، فإذا كان لا بد من وجود سعادة بالفضيلة وعلى قدرها، فلا يمكن أن تحقق هذه السعادة إلا بوجود عله للطبيعة مفارقة لها حاصلة على مبدأ هذا الجمع أو التركيب بين الحدين والمناسبة بينهما، هذه العلة هي الخير الأعظم الأصلي الذي يجعل الخير الأعظم الإضافي ممكنًا، أي الذي يحقق عالمًا يكون خير العوالم، «إن الحالة إلى السعادة، واستحقاق السعادة بالفضيلة، وعدم المشاركة فيها مع ذلك، هذاما لا يتفق أصلًا مع الإرادة الكاملة للموجود (الأعلى) العاقل الحاصل على القدرة الكلية، حالما نحاول فقط أن نتصور مثل هذا الموجود».

فالحرية والخلود والله أمور يؤدي إليها العقل العملي وإن عجز العقل النظري عن البرهنة عليها، هي «مسلمات العقل العملي» وهي عقائد، لا عقائد شخصية ذاتية، بل موضوعية كلية لأن العقل نفسه هو الذي يفرضها، فهي عقائد مشروعة، وإن التسليم بها إقرار بتقديم العقل العملي على العقل النظري، غير أن هذا التقدم لا يعني العلم بوساطة العقل العملي بما لا يستطيع العقل النظري العلم به، بل يعني فقط أننا نثبت باسم العمل ما يقتضيه العمل، فنؤمن به إيمانًا خلقيًّا أو عمليًّا قائمًا على «حاجة للعقل العملي» هي من ثمة حاجة كلية، ولا بأس في ذلك، بل على العكس إن هذا الإيمان موافق لنا كل الموافقة؛ فلو كان لنا بالله وبالخلود علم نظري كامل، لكان يكون من المستحيل استحالة ادبية ألَّا يضغط هذا العلم على إرادتنا ويجبرها، ولكانت خليقتنا آلية فكنَّا أشبه بالدمى يحركها الخوف أو الشهوة، في حين أن الإيمان يدع مجالًا لحرية الإرادة وللفضل في الفضيلة.

ونتيجة هذه النظرية أن يحق لنا أن نتصور واجباتنا أوامر صادرة ليس فقط عن العقل بل أيضًا عن الله، فننتهي إلى الدين، لا الدين الموضوع قبل الأخلاق والمعين لها، بل على العكس الدين القائم على الأخلاق القائمة على العقل. نعم إن الأخلاق تنتهي إلى الدين ولا تقوم عليه، هي تنتهي إلى الدين لأن الإنسان، وهو حاسٌّ عاقل معًا، لا يستطيع بقوته الذاتية البقاء إلى غير حد على الإرادة الصالحة ومقاومة مطالب الحساسية، وأن يحدث بأداء الواجب ما تقتضيه هذه الحساسية بحق من سعادة، والاخلاق لا تقوم على الدين؛ لأن في طاعة القانون الخلقي أصل الحاجة التي يرضيها الدين، ولهذا العكس أثر بالغ، فإن سلمنا به لم يبقَ الدين عقيدة نظرية، ومثل هذه العقيدة تفترض معارف ممتنعة علينا، ولم يبقَ الدين عبادات نرمي بممارستها إلى إحداث القداسة فينا، والعبادات أشياء حسية، ولئن كنا سلمنا بتأثير من العالم المعقول على العالم المحسوس، فلا يسعنا التسليم بتأثير من المحسوسات على المعقولات؛ وإذن فالدين قائم كله على الفعل الخلقي الباطن.١

(٤) تعقيب

هذا مذهب سامٍ بلا ريب، وقد طالما أثار الإعجاب، وإن القارئ لكنط في الأخلاق ليحمَد له سمو روحه وشدة غيرته على الفضيلة، وهو القائل: «شيئان يملآنني إعجابًا: السماء ذات النجوم فوق رأسي، والقانون الخلقي في نفسي» ولكن المقصد شيء وتبريره شيء آخر، وقد أخفقت محاولة كنط فيما نرى لإقامة الأخلاق على أسس وطيدة، ولا بد من بيان ذلك ههنا بكلمات موجزات ليتم إلمامنا بحقيقة المذهب … فنقول:
  • أولًا: إنه لا يمكن أن يكون الواجب صورة بحتة. أجل، إن مطابقة الفعل للواجب قد تكون خارجية فقط ويكون القصد اللذة أو المنفعة، وإن هذا يبين الفرق بين الصورة والمادة في الأخلاق، وبين الفضيلة والرذيلة، ولكن هذا يبين أيضًا أن الواجب هو عمل موضوع ما لذات الموضوع، أي لحكم العقل بأنه هو الملائم اللائق، فمنشأ صلاح الإرادة هو توجيهها إلى الخير الحق، بحيث تكون الصيغة الحقة للواجب: «افعل الخير واجتنب الشر»، وماذا يفيد المرء من مجرد القصد الحسن؟ إن الغرض من العمل تكميل النفس، والنفس جملة قوى تتطلب التحقق بالفعل الملائم، فهل تتكمل بالباطل وإن اعتقدته حقًّا؟ أو هل تتكمل بإرضاء شهوات الجسم بحجة أن التوجه إلى الله هو المقصود وأن الجسم عديم القيمة، كما يزعم بعض المتصوفين أو بالأحرى المتصاوفين؟ وليست الرغبة في الموضوع الملائم مخالفة للواجب أو مغايرة له، ولكنها متضمنة فيه، من حيث إن الواجب هو فعله، وأن إداركنا للخير الملائم لا بد أن يثير فينا ميلًا إليه، ولولا ذلك لما فعلنا شيئًا، ولما فهمنا أن موجودًا عاقلًا يفعل شيئًا، فيرتفع الواجب مادة وصورة.
  • ثانيًا: إن الواجب كما يضعه كنط هو أمر مطلق بالإضافة إلى العقل، لكن لا بالإضافة إلى الإرادة؛ ذلك بأن الواجب يعبر عن نسبة ضرورية بالفعل والطبيعة الإنسانية العاقلة، وأن العقل يدرك هذه النسبة وضرورتها، ولكن للإنسان طبيعة حسية، والخير عنده مشترك بين الخير الحسي والخير العقلي، وقد تأبى الإرادة أن تسير سيرة عقلية وتؤثر عليها اللذة والمنفعة، فتكون صيغة القانون الخلقي في الحقيقة هكذا: «إذا أردت أن تسير بموجب العقل فأفعل كذا»، بأي سلطة نواجه الإرادة؟ إذا كان الإنسان هو المشرع لنفسه، فلا يمكن أن يلزم نفسه، ومن البديهي أن القانون الخلقي لا يلزم الإرادة إلا إذا كان صادرًا عن سلطة عليا، وقد زعم كنط أن فلسفة الأخلاق يجب أن تقوم بذاتها، فكانت النتيجة أنه ترك الواجب أمرًا شرطيًّا غير موجب، وقد خشي أن تهدر الكرامة الإنسانية، ولكن القانون الإلهي هو في الوقت نفسه قانون الطبيعة الإنسانية يدركه العقل فيها، ويدركه أمرًا إلهيًّا حالما يعتبرها مخلوقة، وهل يمكن أن يكون المخلوق مستقلًّا كل الاستقلال، أي غير مخلوق؟
  • ثالثًا: إن الكلية وسيلة طيبة لتعرف الفعل السائغ من غير السائغ، ولكنها ليست صيغة صورية، ولا يلبث كنط أن يضع معادلة تامة بين الكلية والطبيعة حيث يقول: «إن تصور قانون كلي يصاحبه تصور طبيعة»، ولا يخرج لفظ الطبيعة عن معنيين: أحدهما أن الطبيعة جملة الأشياء، والآخر أنها ماهية الشيء؛ ففي الحالة الأولى تكون الكلية مساوقة للطبيعة، وفي الحالة الثانية تكون لاحقة على الماهية، ويأخذ كنط لفظ الطبيعة بالمعنيين المذكورين، ويفرع الثاني إلى اثنين هما الطبيعة الحسية والطبيعة العقلية في الإنسان، فيجتمع له ثلاثة معانٍ مختلفة ينتقل من أحدها إلى الآخر دون تحرُّج ولا تنبيه، كما يتضح من تحليله للأمثلة الأربعة، ففي المثال الأول يقول إن الذي ينتحر يناقض طبيعته التي تدفع إلى البقاء، فيأخذ لفظ الطبيعة بمعنى الماهية، وفي المثال الثاني يقول إن الوعد الكاذب مناقض لمفهوم الوعد، وإن النتيجة المحتومة ألا يصدق أحد وعدًا، فيعتمد على معنى الماهية أولًا وعلى معنى الطبيعة كجملة بني الإنسان ثانيًا، وفي المثال الثالث يقول إن الذي يتبع اللذة لا يلاشي الطبيعة فلا تشتمل سيرته على تناقض، ولكن الموجود العاقل يريد بالضرورة أن تبلغ قواه تمام النماء، فيأخذ لفظ الطبيعة بمعنى الطبيعة الحسية أولًا ومعنى الطبيعة العقلية ثانيًا، وفي المثال الرابع يقول أن الغني الذي لا يعنى بالفقير لا يلاشي النوع الإنساني، ولكنه يفقد كل أمل في عون الغير، فيعتمد على معنى الطبيعة كجملة بني الإنسان، وكان من أثر هذا التردد ذهابه إلى أن كلًّا من المثالين الثالث والرابع يمكن أن يصير قانونًا كليًّا من وجه، والحقيقة أن هذا غير ممكن لأن كلا الرجلين يخالف الطبيعة العقلية التي هي الملحوظة في الأخلاق، فتشتمل سيرته على تناقض، ثم إن اعتبار الماهية هو عين اعتبار الكمال الذي أبى كنط أن يجعل منه غاية.
  • رابعًا: إن وجود الواجب يدل على وجود الحرية، لكن لا في مذهب كنط، إذ كيف يكون «العمل مع تصور الحرية» عملًا حرًّا والفلسفة النقدية تقرر أن أفعالنا خاضعة للآلية، وأن تصور الحرية نفسه فعل من هذه الأفعال؟ وأي معنى يبقى للواجب الذي هو أمر صادر للإرادة المنفعلة بميول حسية، ويجب العمل به بالرغم من الميول الحسية، أي بالرغم من سلسلة العلل الآلية، وهذا مستحيل في تلك الفلسفة؟ يلجأ كنط إلى العالم المعقول ويقول إن كل نفس تختار فيه لنفسها «خلقًا معقولًا» ينتشر في الحياة المحسوسة على نحو آلي بمر الزمان، فيبعث قصة لأفلاطون، مع فارقين في مصلحة أفلاطون في: أحدهما أنه يسوق الفكرة في قصة، في حين أن كنط يضعها موضع الجد، والفارق الآخر أن أفلاطون يؤمن بحقيقة العالم المعقول مجرد «وجهة نظر» وينكر على العقل القدرة على البلوغ إليه، وقد نفترض وجود العالم المعقول فيستحيل علينا أن نرى فيه أي معنى للحرية والواجب طبقًا لمبادئ الفلسفة النقدية؛ فإنه إذا كان العالم المعقول معقولًا حقًّا، كان خاضعًا لمبدأ العلية ولم يتسع الحرية، وإذا كانت النفس فيه عقلًا خالصًا وإراده خالصة كما يلزم من تعريفه، كانت مستقيمة بالطبع فلا ينطبق عليها الواجب، ويبقى على كنط أن يفسر لنا كيف تسيء الاختيار، ثم كيف يتفق اختيارها مع سلسلة العلل الآلية في العالم المحسوس، ثم كيف يتفق اختيار النفوس جميعًا من تلك العلل التي تخضع لها النفوس في الحياة الأرضية، هل يذهب كنط مع أفلاطون إلى النفوس تختار بين نماذج حيوات معينة تبعًا لمجرى الكواكب، أو يقول مع ليبنتز إن الله نسق بين العالمين؟ إن حله لمسألة الحرية حل لفظي بحت، والنتيجة الثابتة من مذهبه أن يدع الإنسان حائرًا بين الواجب الذي يعلنه اليه العقل العملي، وبين الآلية الطبيعية التي يحتمها العقل النظري.
  • خامسًا: إن الاستدلال بفكرة الواجب على ضرورة الخلود وضرورة الله استدلال سليم، ولكن بشرط أن نعترف للعقل بقوة الإدراك الموضوعي، ولمبدأ العلية بقيمة موضوعية، وهذا الشرط غير متوفر في مذهب كنط، فلا يبقى للإيمان بالخلود وبالله أساس معقول، ويكون تقدم العقل العملي على العقل النظري افتئاتًا لا مسوغ له، لقد باعد كنط بين الخير الخلقي والخير الحسي أو السعادة في عرفه حتى ظننا كل الظن أنهما لن يتلاقيا، وها هو ذا يجمع بينهما في فكرة «الخير الأعظم» ويقول إن هذه الفكرة يذهب إليها العقل بالذات ويقودنا بوساطتها إلى الخلود وإلى الله؛ فأين كان هذا العقل بالذات وقت الشروع في إقامة فلسفة الأخلاق؟ وفيمَ كانت الإشادة بالفضيلة المجردة، وفيم كان التنديد بالسعادة؟ كيف صار للفضيلة ثمن ومكافأة، ولم تعد غاية بذاتها لذاتها؟ وإذا كان لا بد من السعادة، أفليست السعادة المجانسة للفضيلة — كما فهمها القائلون بالكمال — أولى من الأخرى؟ وكيف نأمن ألا تفسد السعادة الإرادة الصالحة بعد أن يجعل الله العالم المادي متفقًا مع الفضيلة بحيث يكافئنا باللذة كلما فعلنا الفضيلة؟ لقد أبى كنط كل الإباء أن يسند الواجب إلى الله، فما باله يعود فيقول إن لنا أن نتصور الواجب صادرًا عن الله؟ وماذا يصير باستقلال الإنسان وإرادته، وقد تشدد كنط في صيانهما أيما تشدد؟ هل يعقل أن تبقى حياتنا الخلقية بمعزل عن هذا الإيمان ولا تتأثر به؟ لقد أشفق كنط على حريتنا من العلم النظري بالخلود وبالله، فكيف لا يشفق عليها من الإيمان وهو يريده قويًّا راسخًا رسوخ فكرة الواجب؟ إن حل كنط لمسألتي الخلود والله حل لفظي فإنه يقيم هاتين الفكرتين على فكرة الواجب وهي صورة صرفة لا تمتاز بشيء عن باقي الصور العقلية التي يأبى كنط أن يعترف لها بالموضوعية، فيكون الخلود ويكون الله مجرد صورتين، فكنا إذن متسامحين لما سمينا الحرية والخلود والله «مسلمات العقل العلمي»: إنها في الواقع «مصادرات» لا يسمح المذهب بقبولها ويضعها الفيلسوف وضعًا، وماذا فعل في النهاية؟ محا الميتافيزيقا أول الأمر فأخطأ فهم المعاني الأخلاقية الكبرى، وقلب الوضع الطبيعي لفلسفة الاخلاق رأسًا على عقب، ثم عاد فأثبت الميتافيزيقا ليحتفظ للأخلاق ومعانيها بقيمة ما، فدلنا على استحالة الاستغناء عن الميتافيزيقا، وبعبارة موجزة إنه هدم بيده البناء الذي شاده، وتلك عاقبة المبطل مهما يؤتَ من مقدرة.
١  المرجع في هذا الفصل كتاب «تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق» وكتاب «نقد العقل العملي» في الكتاب الأول يتبع كنط المنهج التحليلي أولًا، فيرجع من الأحكام الاخلاقية إلى المبدأ الذي تقوم عليه، وهو معنى الإرادة الصالحة، وهذا موضوع القسم الأول، وفي القسم الثاني يعرف الواجب، وينقد سائر المذاهب، ثم يتبع في القسم الثالث المنهج التركيبي فيبدأ ممَّا للعقل الخالص من قوة عملية يترجم عنها معنى الحرية، وينزل إلي تعيين الواجبات بالتفصيل، أما الكتاب الثاني فمنهجه تركيبي، وهو مقسم إلي تحليل وجدل على غرار «نقد العقل النظري»: في التحليل يعود كنط إلي موضوع القسم الثالث من الكتاب السابق فيفصل القول فيه، وفي الجدل يبين موقف العقل العملي من الموضوعات الميتافيزيقية ووجوب التسليم بها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤