الفصل السادس

كوندياك

١٧١٥–١٧٨٠

(١) حياته ومصنفاته

قسيس لم يزاول مهام الكهنوت قط، وإنما قرأ الفلاسفة المحدثين، وخالط معاصرية منهم، واعتنق مذهب لوك، فكان زعيم الحسية في وطنه، عرض هذه الحسية في كتاب «محاولة في أصل المعارف الإنسانية» (١٧٤٦) وأتبعه بآخر عنوانه (كتاب المذاهب) (١٧٤٩) نقد فيه مذاهب ديكارت ومالبرانش وسبينوزا وليبنتز وغيرهم من المعتمدين على العقل وحده، فلا يهتدون إلى الحق، بل لا يتفقون فيما بينهم، فالامتداد عند ديكارت جوهر، وعند سبينوزا عرض، وعند لبينتز معنى متناقض، ثم نشر كتابه المعروف «في الإحساسات» (١٧٥٤) يفصل فيه الكتاب الأول، وألحق به كتاب «الحيوان» (١٧٥٥) يبين فيه نشوء قوى الحيوان والفرق بينه وبين الإنسان، وفي ١٧٦٨ انتخب عضوًا بالأكاديمية الفرنسية خلفاً لقسيس آخر، والواقع أن أسلوبه رشيق وضاح، وبعد وفاته نشر له كتاب في «المنطق» لا على الطريقة المدرسية، ولكنه عبارة عن ملاحظة ونصائح في تدبير الفكر، وكتاب في «لغة الحساب» لم يتمكن من إتمامه، وكان يقصد به الي بيان الطريقة التي يمكن بها صوغ جميع العلوم، ومنها الأخلاق والميتافيزيقا، بمثل ما للرياضيات من دقة.

(٢) مذهبه

يذهب كوندياك في الحسية إلى أبعد من لوك، فإنه يقصر التجربة على الإحساس الظاهري، ويستغني عن «التفكير» كمصدر أصيل للمعرفة، فيدعي أن أي إحساس ظاهري يكفي لتوليد جميع القوى النفسية، ولبيان ذلك يفترض (في كتاب الإحساس) تمثالًا حيًّا داخل تمثال من رخام، ويقول إذا كسرنا الرخام في موضع الأنف أتحنا للتمثال الحي القدرة على استخدام حاسة الشم، وهي الحاسة المعتبرة أدنى الحواس، فعند أول إحساس يوجد شيء واحد في شعور التمثال، هو رائحة وردة مثلًا، ويكون شعوره كله هذه الرائحة، أو أية رائحة أخرى تعرض له، ومتى كان له إحساس واحد ليس غير، كان هذا هو الانتباه، ولا ينقطع الإحساس بالرائحة بانقطاع التأثير، ولكنه يبقى، وبقاؤه هذا مع حدوث رائحة جديدة هو الذاكرة، وإذا وجه التمثال انتباهه إلى الإحساس الحاضر والإحساس الماضي جميعًا، كان هذا الانتباه المزدوج المقارنة أو المضاهاة، وإذا أدرك بهذه المضاهاة المشابهات والفوارق، كان الحكم الموجب والحكم السالب، وإذا تكررت المضاهاة وتكرر الحكم كان الاستدلال، وإذا أحس التمثال إحساسًا مؤلمًا فتذكر إحساسًا لاذًّا، كان لهذه الذكرى قوة أعظم وكانت المخيلة، وتلك هي القوى العقلية، أما القوى الإرادية فتتولد من الإحساس باللذة والألم؛ ذلك بأنه إذا تذكر التمثال رائحة لذيذة وهو منفعل بإحساس مؤلم، كان هذا التذكر حاجة، ونشأ عنه ميل هو الاشتهاء، وإذا تسلَّط الاشتهاء كان الهوى، وهكذا يتولد الحب والبغض والرجاء والخوف، ومتى حصل التمثال على موضوع شهوته كان الرضا، وإذا ما ولدت فيه تجربة الرضا عادة الحكم بأنه لن يصادف عقبة في سبيل شهوته تولدت الإرادة، فما الإرادة إلا شهوة مصحوبة بفكرة أن الموضوع المشتهى هو في مقدورنا.

على أن التمثال، وقد حصل على جميع قواه، لا يعلم أن العالم الخارجي موجود، بل لا يعلم أن جسمه موجود، من حيث إن إحساساته انفعالات ذاتية ليس غير، فكيف يصل إلى إدراك المقادير والمسافات؟ وكيف يدرك أن شيئًا موجودًا خارجًا عنه؟ هاتان مسألتان يجب التمييز بينهما، والفحص عن كل واحدة على حدة، وهما موضوع القسم الثاني والقسم الثالث من كتاب الإحساسات، فعن المسألة الأولى يقر كوندياك رأي لوك أن الأكمه الذي يستعيد البصر لا يميز لفوره بين كرة وبين مكعب كان يعرفهما باللمس، إذ أن اللمس هو الذي يدرك الأشكال أولًا، ويدركها البصر بفضل علاقاته باللمس، ثم لا تعود به حاجة إلى تذكر الإحساسات اللمسية التي كانت مساعدة له، خلافًا لما يذهب إليه باركلي، وعن المسألة الثانية قال كوندياك في الطبعة الأولى لكتاب الإحساسات إن معرفة «الخارجية» ترجع إلى تقارن الإحساسات اللمسية، مثل أن يحس التمثال في آنٍ واحد حرارة في إحدى الذراعين وبرودة في الأخرى وألمًا في الرأس، وعاد فقال — في الطبعة الثانية (١٧٧٨) — إن إحساسات لمسية بمثل هذا الغموض يمكن أن تتقارن دون أن تتخارج، وإن فكرة الخارجية تنشأ من المقاومة التي نصادفها في حركتنا وبذلك نضيف جسمنا إلى أنفسنا ونميز بينه وبين سائر الأجسام، ولما كان اللمس يدرك القرب والبعد، فإن اختلاف احساسات الروائح والأصوات والألوان في القوة يوحي إلى التمثال بأن هذه الاحساسات ليست مجرد أحوال باطنة، ولكنها صادرة عن أشياء خارجية، وبذلك نرجع أحكام الخارجية إلى إحساسات ليس غير.

وللتمثال المقصور على الشم كما تقدم القدرة على تجريد المعاني وتعميمها، فإنه إذ يميز بين الحالات التي يمر بها يحصل على معنى العدد، وإذ يعلم أنه يستطيع ألَّا يبقي الرائحة التي هو إياها وأن يعود ما كان، يحصل على معنى الممكن، وإذ يدرك تعاقب الإحساسات يحصل على معنى الزمان، وإذ يتذكر جملة الإحساسات التي ينفعل بها يحصل على معنى الشخصية وأما المعنى الكلي فهو جزء من المعنى الجزئي، ولا حقيقة له إلا في الذهن، وما هذه الحقيقة إلا لفظ أو اسم، ليس في الطبيعة ماهيات وأنواع وأجناس، وإنما تعبر الألفاظ الكلية عن وجهات نظر الذهن حين يدرك ما بين الأشياء من مشابهات وفوارق، ومتى لم يكن في الطبيعة ماهيات كان الحد لغوًا ووجب الاستعاضة عنه بالتحليل: «معانينا إما بسيطة أو مركبة، البسيطة لا تحد ولكن التحليل يكشف لنا عن أصلها وطريقة اكتسابها، والمعاني المركبة لا تعلم إلى بالتحليل؛ لأنه هو وحده الذي يبين لنا عناصرها»، ومتى لم تكن المعاني المجردة إلا ألفاظًا، لم يكن هناك سوى وسيلة واحدة لتخيلها: تلك هي إجادة وضع اللغة؛ فإنه إذا لم يكن لدينا أسماء لم يكن لدينا معانٍ مجردة، فلم يكن لدينا معاني أجناس وأنواع، فلم نستطع الاستدلال، ففن الاستدلال يرجع كله إلى أحكام الكلام، وليس الاستدلال تأديًا من الكلي إلى الجزئي ولكنه «حساب» يتأدَّآ من الشيء إلى الشيء نفسه بتغير الإشارات الدالة، ومثله الأعلى استدلال الجبر الذي ترجع إليه سائر أنواع الاستدلال، (وهذا معناه رد القضية إلى معادلة، وتتصل هذه المحاولة بمحاولات ريمون لول وليبنتز وأصحاب المنطق الرياضي فيما بعد).

وهكذا بدل أن يفسر كوندياك الأفعال بالقوى، والانفعالات بالميول، يجعل الميول تصدر عن الانفعالات، ويجعل القوى عادات الأفعال، وما يسمى غريزة ثمرة التجربة الشخصية، أو عادة ولدها التفكير، أو «عادة خلت من التفكير الذي ولدها»، ولما كان أفراد النوع الواحد تحس نفس الحاجة فتعمل لنفس الغاية بنفس الأعضاء، كانت للنوع نفس العادات أو الغرائز، وكانت جميع المعاني وجميع قوى النفس «إحساسات محولة».

بيد أن كوندياك لم يكن ماديًّا؛ فإنه إذ يعتبر الإحساس ظاهرة أصيلة، يرى في الظواهر الجسمية التي يجعلها الماديون علة له مجرد «مناسبات» لظهوره، وهو يعارض لوك معارضة صريحة في افتراضه أن مادة معينة قد تكون حاصلة على قوة التفكير، فيقول إن المفكر يجب أن يكون واحدًا، وليس للمادة وحدة ولكنها كثرة، ويعترف للإنسان بنفس روحية عاقلة خالدة، ويضعه فوق الحيوان لأنه يميز الحق، ويحس الجمال، ويخلق الفنون والعلوم، ويدرك مبادئ الأخلاق، ويصعد إلى الله، ولكن كوندياك يذهب مذهب بعض مفكري العصر الوسيط ويقول: إن الحسية حال الإنسان بعد خطيئة آدم، وإن آدم كان قبل خطيئته يعقل بدون وساطة الحواس لأن النفس الإنسانية عاقلة بذاتها، وستعود إلى التعقل في الحياة الآجلة، وهو يدلل على خلود النفس بأنها خلقية وأنها لا تلقى في الحياة العاجلة ما يناسب أفعالها من ثواب وعقاب، ويدلل على وجود الله بدليل العلة الفاعلية، ودليل العلة الغائية، وسواء أكان مخلصًا في هذا القسم من أقواله أم لم يكن، فقد كان أثره الخاص إذاعة المذهب الحسي في وقت اشتدت فيه الحملة على الدين والفلسفية، كما سنرى فيما يلي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤