الفصل الثامن

مونتسكيو

١٦٨٩–١٧٥٥

(١) حياته ومصنفاته

هو ناقد اجتماعي ومفكر سياسي أدرك ما في بيئته من نقائص فعمل على التنبيه إليها، فكان قدوة طيبة لأهل طبقته من الأشراف، نشر «رسائل فارسية» (١٧٢١) تخيل فيها اثنين من أبناء فارس يزوران أوربا وبخاصة فرنسا ويبعثان بخواطرهما إلى أصدقائهما في وطنهما، وهذه الخواطر عبارة عن نقد المجتمع الفرنسي في أخلاقه وعاداته وحكومته وديانته، في تهكم تارة وفي جد أخرى، ثم بدا له أن يضع كتابًا شاملًا في «روح القوانين» فشرع يعد له العدة ويجمع مواده، أي يدرس القوانين والمؤلفين في إيطاليا وسويسرا والنمسا والمجر وهولاندا وإنجلترا (وقد أقام بلندن سنتين) حتى نشره بجنيف ١٧٤٨، وكان قد نشر قبل ذلك قسمًا منه وسمه بعنوان «اعتبارات في أسباب عظمة الرومان وانحطاطهم» (١٧٣٤).

(٢) تعريف القانون

«روح القوانين» لفظ مبهم يتحدد معناه بالملاحظات الآتية: يكاد يكون مونتسكيو بين مفكري عصره الذي ينظر إلى أمور السياسة في أنفسها دون صلة برأي صريح في العقل والطبيعة، وهو يقصر عنايته على القوانين الوضعية، فلا يعرض للبحث في القانون الطبيعي وأصل الاجتماع، وهو يريد أن يستكشف الأسباب الطبيعية للقوانين الوضعية، أو «قوانين وضع القوانين» فإنه لا يعتقد أن المشرع يصدر عن محض إرادته، ولكنه يخضع لأسباب خارجة عنها، هذه الأسباب هي من الجهة الواحدة طبيعة الحكومات القائمة أو التي يراد إقامتها، ومن جهة أخرى طبيعة الأرض والمناخ والموقع الجغرافي ومساحة البلد ونوع العمل وطريقة المعيشة والديانة والعادات ومبلغ الثروة وعدد السكان، فموضوع الكتاب الفحص عن علاقة القوانين بهذه الاسباب المختلفة، «وجملة العلاقات تؤلف ما يسمى روح القوانين» أي طبيعها (م١ ف٣)، وعلى ذلك لم يقصد مونتكسيو إلى أن يضع فلسفة القانون، أي فلسفة ترد أسباب القوانين إلى مبادئ عقلية كلية، وإنما قصد إلى تفسير القوانين بظروف طبيعية تعلم بالملاحظة والتاريخ، لكن لا على مذهب «المادية التاريخية» فإنه يصرح بأن للأسباب المعنوية، ومنها القوانين أنفسها، التقدم على الأسباب الطبيعية والاقتصادية، وبأن المشرع يستطيع أن يناهض ما يدفع إلى المناخ والمزاج من ميول وأخلاق، فيقوم اعوجاج الشعب ويوجهه إلى الصلاح.

ينتج من هذا التحديد أن «القوانين — بأوسع المعاني — هي العلاقات الضرورية اللازمة من طبيعة الأشياء، وبهذا المعنى للموجودات جميعًا قوانينها … فهناك إذن عقل أول، والقوانين هي العلاقات القائمة بينه وبين مختلف الموجودات، وعلاقات هذه الموجودات فيما بينها»، «فالقول بأن ليس هناك من عدل أو ظلم إلا ما تأمر به أو تنهى عنه القوانين الوضعية، يعدل القول بأنه قبل أن ترسم دائرة لم تكن جميع الأوتار متساوية» (م١ ف١).

الداعي للقانون الوضعي هو الرغبة في أخذ الناس بما ينبغي أن يكونوا عليه وما ينبغي أن يعملوا في المجتمع، إذ أنهم عرضة للخطأ وحاصلون على حرية العمل، ويعيش الناس في المجتمع بناء على استعداد طبعي لا بناء على عرف وتعاقد، وأول مسألة تصادف الباحث مسألة أشكال الحكم؛ إذ أن القوانين تصدر عن شكل الحكومة كما يصدر الماء عن العين، وثمة مسألة أخرى هي مسألة مبادئ الحكم أو الدوافع التي تحرك الحكومة، فلننظر في القوانين من هاتين الوجهتين.

(٣) أشكال الحكم

هي ثلاث: جمهورية، وملكية، وطغيان. وتنقسم الجمهورية إلى ديمقراطية وأرستقراطية بحسب ما يكون الحكم للشعب برمته، أو لفريق منه هم الأشراف، طبيعة الديمقراطية أن الشعب فيها ملك ورعية في آنٍ واحد: هو ملك باقتراعه، ورعية بطاعته لولاه الأمر المعينين منه لتنفيذ قوانينه وتدبير الشئون العامة، وفي مثل هذه الحكومة ينص على حق الاقتراع وطريقته في القوانين الأساسية، ويزاول الشعب بنفسه حق التشريع، ولا ينزل عن هذا الحق لممثلين أو وكلاء، وإلا تغيرت طبيعة الحكومة، ووظيفة الوكلاء تنفيذية وإدارية ليس غير، في هذا التصور يصدر مونتسكيو عن اليونان، فلا يتمثل الديمقراطية إلا في بلد ضيق المساحة قليل السكان بحيث يستطيع جميع المواطنين أن يقترعوا في نطاق مجلس واحد، وبهذا المعنى يرى أن الشعب «عجيب في اختيار الذين يريد أن يعهد إليهم بقسط من سلطانه»؛ لأن أقدار الرجال في مختلف الأعمال معلومة للجميع.

وطبيعة الأرستقراطية أن الشعب فيها رعية والأشراف حكام، ومتى كان الأشراف قليلي العدد كانوا حكامًا جميعًا! ومتى كانوا كثيرين انتخبوا مجلسًا من بينهم، فيكون المجلس أرستقراطية، وجمهرة الاشراف ديمقراطية، والشعب كمًّا مهملًا، على أن الأرستقراطية الحكيمة تعمل على انتشال الشعب من هذا العدم وتوفير مهمة له في الدولة، فإن خير أرستقراطية هي التي تقترب من الديمقراطية، وشر أرستقراطية هي التي تقترب من الملكية.

وطبيعة الملكية أنها حكم الفرد بموجب قوانين ثابتة أي دستور، وبوساطة هيئات منظمة كالأشراف والإكليروس والمدن تقيد إرادة الملك غير الدستورية، ولكي تكون الدولة ملكية حقًّا يجب فوق ذلك أن توجد فيها هيئة مكلفة بتسجيل القوانين ومراجعتها والتذكير بها إن نسيت، بهذه الهيئة يقصد مونتسكيو البرلمان ولو أنه لا يسميه صراحة.

وطبيعة الطغيان أن حكم الفرد لا يتقيد بدستور ولا يعبأ بهيئات إن وجدت، فالطاغية يحكم لمصلحته الخاصة ويضحي في سبيلها بمصلحة الشعب، مثله مثل المتوحش الذي يقطع الشجرة ليقطف الثمرة، وهو لجهله وكسله وميله للذة يولي الحكم وزيرًا يقوم عنه بجميع المهام ويتحمل التبعات، تلك طبائع الحكومات، فما مبادئها؟

(٤) مبادئ الحكم

مبدأ الديمقراطية الفضيلة، أي فضيلة؟ لقد عرفها مونتسكيو تعريفات مختلفة، فقال في التنبيه الذي قدم به للكتاب إنها «حب الوطن، أعني حب المساواة، إنها ليست فضيلة أخلاقية، ولا فضيلة مسيحية، ولكنها فضيلة سياسية»، وقال في موضع آخر: «هي حب القوانين والوطن، هي الإيثار المتصل للمنفعة العامة على المنفعة الخاصة» (م٤ ف٥)، ويقترب بها من الفضيلة الأخلاقية حيث يقول (م٥ ف٣)، إن حب الديمقراطية هو أيضًا حب العفة، إذ بدون عفة عامة تحد إلى الضروري حق استعمال الثروة تنعدم المساواة، يريد أن المواطن في الديمقراطية مطالب بالخضوع للقوانين من تلقاء نفسه ما دام هو الحاكم وهو الرعية في آنٍ واحد، وما دام هذا الخضوع الضروي لبقاء الديمقراطية لا يتسنى إلا برضاه.

وفي الأرستقراطية الفضيلة لازمة أيضًا، ولكن بقدر أقل، أي إنها لازمة للحكام يأخذون أنفسهم بالاعتدال والنظام بحيث يتساوون فيما بينهم، غير لازمة للمحكومين لأنهم يخضعون للقوانين بقوة الحكومة القائمة.

وفي الملكية تقوم الحكومة بغير حاجة ماسة للفضيلة، فإن مبدأها الكرامة أو الشرف أعني حرص هيئاتها على امتيازاتها، والدفاع عنها كي تحول دون انقلاب الملكية إلى طغيان، وبذلك تؤدي وظيفتها، فإذا اعتبرت كل هيئة أن كرامتها تقوم في صيانة حقوقها «مضى كل إلى الخير العام وهو يعتقد أنه يمضي إلى مصالحه الخاصة»، فللملكية ميزة — إن جاز هذا القول — هي أنها تقوم بدون الفضيلة الضرورية للديمقراطية والأرستقراطية، وهذه الفضيلة عسيرة نادرة.

ومبدأ حكومة الطغيان خوف الشعب من السلطان، وفي هذا الخوف كبح للشعب وحماية له في نفس الوقت، حماية من تفاقم عبث المقربين من السلطان، وهم الذين يفرضون القوانين على الشعب، فإنهم هم أيضًا تابعون لهوى السلطان، فانتفاء القوانين وانتقاء الطبقات، وتساوي الجميع في العبودية، تلك أظهر خصائص الحكم الاستبدادي، ولا محل فيه للفضيلة والكرامة، لا عند السلطان، ولا في الطاعة التي يقتضيها.

وكل من هذه الحكومات يفسد بفساد مبدئه: فتذهب الديمقراطية إما بذهاب روح المساواة فتنقلب إلى أرستقراطية أو إلى حكومة فردية، وإما بالمغالاة في هذا الروح فتنقلب إلى استبداد الكل وتنتهي إلى استبداد الفرد، وتذهب الأرستقراطية حين يمضي الأشراف مع الهوى في استخدام سلطتهم، ويطلبون مزايا الحكم دون متاعبه ومخاطره، وتذهب الملكية حين ينزل الاشراف على كرامتهم حبًّا بالألقاب والمناصب فيستعبدون، أو حين يتحول الملك من العدالة إلى القسوة فيعمل على محو الهيئات ليستأثر بالأمر، أما الطغيان فليس له أن يفسد من حيث إنه فاسد بالطبع.

والهدف الذي يصبو إليه مونتسكيو، والذي يبين خلال تعليقاته على الحكومات، هو أن تكفل الحكومة الحرية في أوسع مدى، وعلى خير وجهٍ مستطاع، فإنه يمقت الاستبداد ويؤيد الحرية الشخصية، وليست تقوم الحرية عنده في أن يعمل المرء ما يريد، بل في «أن يقدر المرء أن يعمل ما ينبغي عليه أن يريد، وألَّا يُكره على عمل ما لا ينبغي أن يريد … هي الحق في أن يعمل المرء كل ما تجيزه القوانين (العادلة)، وإذا كان لمواطن أن يعمل ما ينهى عنه كان لغيره نفس هذا الحق، فتلاشت الحرية» (م١١ ف٣)، وخير ما يكفل الحرية استقلال السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، فإن السلطة المعتدية تلقي حينئذٍ سلطة تقف في وجهها، بينما اجتماع السلطات الثلاث في يد حاكم واحد أو هيئة واحدة من الحكام، سواء أكانت ديمقراطية أم أستقراطية، يسوق إلى الطغيان (م١١ ف٦)، ولما كان الحكم يقتضي السرعة والدقة والكتمان، كانت الملكية خير الحكومات، والملك كما سبق تعريفه حاكم مقيد بدستور وبهيئات قوية محترمة ولكنه مستقل في إصدار القرارات المطابقة للقانون، أما الشعب فغير كفء لأن يحكم بنفسه، ولكنه يشارك في الحياة السياسية على صورتين: إحداهما أن يكون له مجلس ممثلين يتقدمون برغبات، والأخرى أن ينتخب «محلفين» يساهمون في تطبيق القوانين، وأما وضع القوانين فيعهد به إلى مجلسين يختلف أعضاؤهما في ميولهم فيعدل بعضهم بعضًا، على مثال المجلسين الإنجليزيين، ومونتسكيو يعطينا تحليلًا دقيقًا للدستور الإنجليزي، ويرى فيه خير ضمان للحرية السياسية، بيد أنه لا يمكن أن يقال إنه كان يَوَدُّ لو ينقل إلى فرنسا، وهو القائل في بدء كتابه: «يجب أن تكون القوانين خاصة بالشعب الموضوعة له حتى ليكون من قبيل الصدفة النادرة أن تلائم قوانين أمة أمة أخرى» (م١ ف٣) إلا أنه يجب أن يقال إن القصد الأول الذي رمى إليه مونتسيكو هو الإصلاح السياسي والاجتماعي، وإنه إنما اتخذ من التحليل العلمي وسيلة أمينة فعالة لتحقيق هذا الإصلاح، ولا شك أنه كان عاملًا قويًّا في تهيئة الجو للثورة الفرنسية، ولكن فيلسوف الثورة كان في الواقع روسو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤