الفصل الأول

فختي

١٧٦٢–١٨١٤

(١) حياته ومصنفاته

ابن فلاح من أهل سكسونيا، كان يستمع إلى عظات الاحد فيحفظها عن ظهر قلب، فلما خبر فيه هذه المقدرة سريٌّ من سراة المنطقة تكفل بنفقات تعليمه، فترك الصبي رعي البقر والإوز وأخذ يقطع مراحل التعليم، حتى بلغ إلى المرحلة الجامعية وهو في الثامنة عشرة، فاجتازها بالرغم ممَّا نزل به من ضنك شديد بوفاة كفيله، درس اللاهوت وفقه اللغة والفلسفة في إيينا وليبزج، وطوَّف في أرجاء ألمانيا ليوسع من ثقافته.

وهو في الثامنة والعشرين وقف على كتب كنط، ومن ذلك الوقت وجد وجهته العقلية، وفي السنة التالية قصد إلى كونجسبرج، وتعرَّف إلى الفيلسوف الكبير، وعرض عليه كتابًا عنوانه «محاولة في نقد كل وحي» ذهب فيه إلى أن الوحي غير مقبول ما لم يكن بأكمله عقليًّا معقولًا، كان الكتاب عبارة عن تطبيق مذهب كنط على الدين قبل أن يضع كنط كتابًا في هذا الموضوع، فقدره، بل أن الكتاب نشر غفلًا من اسم المؤلف لخطأ عرض، فظنه كثيرون من قلم كنط، وبعد سنة عين أستاذًا بجامعة إيينا (١٧٩٣).

في هذه الجامعة بسط مذهبه، ثم نشره في كتاب «المبادئ الأساسية لنظرية المعرفة» (١٧٩٤) الذي يعد أهم كتبه والذي كان موضع عنايته المتصلة ينقحه باستمرار ليجعله أكثر كمالًا وأقرب مثالًا، ثم نشر كتابًا في «القانون الطبيعي» (١٧٩٦)، و«المدخل الأول إلى نظرية المعرفة» (١٧٩٧) هو خير عرض لمذهبه، و«الفلسفة الخلقية» (١٧٩٨)، وأذاع مقالًا في «مبدأ اعتقادنا بعناية إلهية» (١٧٩٨)، وأذاع مقالًا في «مبدأ اعتقادنا بعناية إلهية» (١٧٩٨) فاتهمه كاتب بالإلحاد، فكرر آراءه في رسالتين بعنف أشد، أحدهما بعنوان «نداء إلى الجمهور» والأخرى «دفاع قانوني» (١٧٩٩) ووجه خطابًا مثيرًا إلى أحد أعضاء حكومة ڤيمار، فثار الأعضاء جميعًا حتى جوتي، وقرروا عزله من منصبه، فغادر المدينة.

قضى بضع سنين في برلين يحرر عروضًا جديدة لمذهبه، ويلقي دروسًا شعبية، ونشر كتاب «مصير الإنسان» (١٨٠٠) ثم ثلاثة كتب هي «الخاصية الجوهرية للعالم ومظاهرها في ميدان الحقيقة» و«المنهج للوصول إلى الحياة السعيدة» و«الملامح الكبرى للعصر الحاضر» (١٨٠٦)، وفي برلين أعد كتابه «ظواهر الشعور» الذي لم يُنشر إلا بعد وفاته، وهو أسهل عرض لما كونه في سنيه الأخيرة من آراء عامة في الفلسفة وعلم النفس، وبعد موقعة إيينا التي انتصر فيها نابليون على الجيوش البروسية، احتل الفرنسيون برلين، فرحل إلى كونجسبرج وعلم بجامعتها، ثم وقعت هذه المدينة في أيدي الفرنسيين، فقصد إلى كوبنهاجن، ولما عقد الصلح عاد إلى برلين، وشرعت بروسيا تنهض من كبوتها فكان هو أحد الرجال الممتازين الذين عملوا على بعث ألمانيا، ففي شتاء ١٨٠٧–١٨٠٨، والفرنسيون يحتلون برلين، ألقى خطبته المشهورة «إلى الأمة الألمانية» يقول فيها: «لقد وقفت الحرب المسلحة مؤقتًا، والمطلوب الآن الجهاد في ميدان الأخلاق والأفكار، يجب العمل على إيجاد جيل قوي يهدف إلى عظائم الأمور ويضحي بنفسه في سبيلها، إن ألمانيا أنجبت لوثير وكنط وبستالوتزي، وأنتم وحدكم أيها الألمان، من بين جميع الشعوب الحديثة، حاصلون على جرثومة التقدم الإنساني بأظهر ما تكون، فإذا هلكتم هلكت معكم الإنسانية جمعاء»، وفي سنة ١٨٠٩ أنشئت جامعة برلين، وعين أستاذًا بها، فمديرًا لها، ولما نشبت حرب الاستقلال تطوعت زوجته للتمريض فأصيبت بالحمى، وانتقلت العدوى إليه فتوفي.

(٢) نظرية المعرفة

كان فختي قوي الإرادة مشغوفًا بالحرية شديد الرغبة في الامتياز والتأثير في معاصريه بالقلم واللسان، فنقل هذه النزعة إلى الفلسفة لاعتقاده أن المذهب الفلسفي ليس آلة صماء يصطنع أو ينبذ كما نشاء، ولكنه عقيدة تنبعث من صميم النفس، حتى إنه ليعلن في كتاب «المدخل الأول» أن الاختيار بين التصورية والوجودية تابع لغلبة الشعور بالاستقلال والفاعلية أو لغلبة الشعور بالتبعية والانفعالية، فجاءت فلسفته قائمة على أن الإرادة صميم الطبيعة الإنسانية، وأن الحياة الخلقية مقدمة على العقل النظري بمعنى أدق وأعمق ممَّا قال كنط، إن العقل النظري يتصور الوجود خاضعًا للضرورة، وفينا حرية تريد أن تعمل، وفينا ضمير يرسم لنا نظامًا مغايرًا لنظام الطبيعة، ويوجب الجهاد لتحقيق الغايات الكبرى التي ينزع إليها، ونحن نشعر بأننا جزء من هذا النظام المثالي كلما عملنا بناء على دواعٍ عقلية فحسب، وحاجتنا الضرورية إلى العمل أساس الأمر المطلق الذي قال به كنط دون أن يفسره، فكيف نوفق بين الوجود والحرية؟ نوفق بينهما بأن نقول «إن الطبيعة التي عليَّ أن أعمل فيها ليست شيئًا غريبًا عني منقطع الصلة بي» وإنه إذا كان باستطاعتي أن أنفذ إلى الطبيعة «فذلك لأنها مكونة بقوانين فكري، وأنها عبارة عن علاقات بيني وبين نفسي»، الحرية أول، والحرية تريد أن تترقى، فلكي تعمل تخلق الطبيعة وموضوعاتها، وهذه هي التصورية المطلقة التي ترد الأشياء تصورات، أو هذه هي الأحادية التصورية، أو مذهب إيكارت وبوهمي في لغة منطقية سوف نرى الآن شيئًا منها، وهذه التصورية المطلقة هي الموقف الوحيد الممكن إذا سلمنا بأن الفكر لا يدرك سوى تصوراته، فلا يعود لنا من سبيل إلى الأشياء أنفسها بالحدس، ولا يعود لنا من سبيل إليها بالاستدلال اعتمادًا على مبدأ العلية وهذا المبدأ صورة من صور الفكر، فمهمة «نظرية المعرفة» بيان كيفية صدور صور الأشياء عن فاعلية الفكر؛ إذ لا يمكن أن يوجد في الأنا إلا ما كان أثرًا لفاعليته.

نحن لا نشعر بأننا نحدث اللا أنا، فلا بد أن يكون في الأنا المتناهي المدرك في التجربة مبدأ أوسع منه هو الأنا الخالص أو الأنا اللا متناهي، وهو علة عالم الموضوعات المائلة في الأنا التجريبي، يشبه «الأنا أفكر» الذي قال به ديكارت والذي وضعه كنط وراء مبادئ الفهم، لا نشعر بفاعليته، ولا ندرك سوى آثارها أي مختلف التصورات، فالمبدأ الأول في نظرية المعرفة هو هذه الفاعلية الروحية، ثم تتسلسل معانيها ومبادئها متولدة بعضها من بعض وفقًا لقانون التقابل والتوفيق الذي أشار إليه كنط في تقسيمه الثلاثي للمقولات باِلإيجاب والسلب والحد، وكان كنط قد اقتصر على وضع المقولات وضعًا باعتبارها لوازم منطقية للفكر، أما فختي فيريد أن يستنبطها استنباطًا، فيبدأ من أبسط مبادئ المنطق العادي، وهو أن ا = ا، ويقول: إن هذا المبدأ يفترض «أنا» يعقله، وإذن فلي أن أضع بدل ا، وهو كمية غير معينة، الأنا الذي لولاه لم يكن المبدأ ليوضع، فأحصل على (أنا = أنا)، ولكن ا كمية ممكنة فحسب، والأنا كمية موضوعية ضرورة، فلي أن أقول «أنا موجود» ثم أستخرج من هذا القول: أولًا مبدأ منطقيًّا هو مبدأ الذاتية وثانيًّا مبدأ ميتافيزيقيًّا هو مقولة الوجود، وهذا هو منهج الإيجاب، أي إيجاب الأنا لنفسه، وكما قلت إن ا = ا، أستطيع أن أقول إن «لا ا غير مساوٍ لـ ا» ثم أن أستبدل بهذه القضية قولي «إن لا أنا غير مساوٍ لأنا» فأحصل على تقابل بين أنا ولا أنا، وأستخرج من هذا التقابل: أولًا مبدأ منطقيًّا هو مبدأ عدم التناقض، وثانيًا مبدأ ميتافيزيقيًا هو مقولة السلب، وهذا هو منهج السلب، أي نفي الأنا بوضع اللا أنا، على أن الأنا واحد، فهو لا يطيق هذا التعارض بين أنا ولا أنا، ولكني لا أجد طريقة تحليلية للتوفيق بين الحدين، فالأمر يقتضي فعلًا جديدًا من الفكر؛ أي تركيبًا، وإنما يتسنى هذا التركيب بوساطة فكرة الانقسام؛ ذلك بأنه إذا كان كل من الحدين المتعارضين يحد الآخر، فهناك محل للاثنين، ويجيء التركيب على هذا النحو: الأنا يعارض اللا أنا المنقسم بأنا منقسم؛ ومن هنا أستخرج أولًا مبدأ منطقيًّا هو مبدأ السببية، وثانيًا مبدأ ميتافيزيقيًّا هو مقولة التعيين، وهذا هو منهج الحد، أي وضع الأنا لنفسه باعتباره محدودًا باللا أنا، ووضع الأنا للا أنا باعتباره محدودًا بالأنا، التركيب الأول نقطة بداية الفلسفة النظرية التي تدرس الأنا باعتباره منفعلًا بموضوعات تبدو أول الأمر جواهر أو أشياء بالذات، والتركيب الثاني نقطة بداية الفلسفة العملية حيث يرى الأنا نفسه واضعًا حدًّا لفعل الأشياء الخارجية ومستخدمًا إياها لتحقيق ذاتيته، بيد أن التحليل يستكشف في هذين التركيبين متناقضات مماثلة للتناقض الذي خرج من الأنا، فيرفعها الفكر.

منهج الحد يعود بنا إلى الشعور المباشر حيث نجد الموضوعات والأنا فاعلًا ومنفعلًا بالإضافة إليها، وعندئذٍ نجد صورة الزمان في تعاقب ظواهر الأنا المتناهي، وهذا التعاقب ضروري لأن الأنا يريد أن ينمي حريته، فالزمان أداة الحرية، ونجد صورة المكان في وضع موضوعات اللا أنا كل على حدة، ونجد مبدأ العلية في تفاعل الأنا واللا أنا، ثم ننقله عفوًا إلى موضوعات اللا أنا إذ نتصورها متوقفة بعضها على بعض، وإلى هنا ينتهي الاستنباط، فإن فختي لا يريد (ولا يستطيع) أن يستنبط سوى المعاني العامة، دون الجزئيات الماثلة في الشعور، ولما كان الأنا الخالص يفعل طبقًا لقوانين، كانت صورة العالم في شعورنا موضوعية، وكانت واحدة في جميع الأناوات المحدودة، ونظننا بغير حاجة إلى التنبيه على ما في هذا الاستنباط من صناعة زائفة، وما في وقوفه عند الكليات من إقرار بالعجز ودلالة على البطلان.

(٣) الأخلاق والدين

قلنا إن في الأنا حاجة أولية للعمل، هذه الحاجة، حين تتعلق ببعض الأشياء المتغيرة، تبدو ميلًا طبيعيًّا وترمي إلى اللذة، واللذة تجعلنا تابعين للأشياء، والحاجة الأولية للعمل غير متناهية في ذاتها، فهي بهذا الاعتبار تعرب عن استقلال الأنا بإزاء الأشياء جميعًا، وتفسح له مجال الاختيار، فيتحرر من كل تبعية حسية، وهكذا نحصل على القانون الخلقي، وهو أن «كل فعل جزئي يجب أن ينتظم في سلسلة تقودني إلى الحرية الروحية كاملة»، وبذا يتحقق الأنا اللا متناهي في العالم المحسوس، فنشعر باحترام أنفسنا، ونشعر بغبطة مباينة بالمرة للذة الحسية التي يخلق بنا ألَّا نسميها لذة، والتي إذا طلبت لذاتها أشعرتنا باحتقار أنفسنا، فإن هذا الطلب وليد الكسل: كسل دون التفكير فيما يحقق الحرية وما لا يحققها، وكسل دون الارتفاع فوق الحاضر، ثم يجر الكسل إلى الجبن والنفاق، وتفضيل العبودية على الجهد.

كيف يمكن إيقاظ الميل إلى الحرية؟ قد تكون الحاجة الروحية الأولية من القوة في بعض الأفراد بحيث ترفعهم فوق المحسوسات وهم لا يفهمون ولا يقهم الغير، إذ أن هذه الحاجة لا تفسر بالأنا التجريبي الذي هو موضوع إدراك، فيكونون للغير مثلًا ونماذج، ويؤثرون فيهم، فإذا اعتبروا هم واعتبر الغير هذه القوة والأفعال الصادرة عنها بمثابة الخوارق، نشأت ديانة وضعية، وكانت عاملًا على إيقاظ النشاط والاهتمام الغافلين في معظم النفوس؛ لذا كان من الأهمية بمكان عظيم أن يعيش الفرد بين الأفراد، فما هو إنسان إلا بوجوده بين الناس، فإذا اتبع كلٌّ يقينه، عمل الكل على تنمية الاستقلال الباطن، وعلى تحقيق العقل أو الأنا الخالص، فإذا قيس الفرد من حيث هو كذلك إلى هذه الغاية اللا متناهية، بدا وسيلة ضئيلة القيمة، فالمطلوب أن يمحو الفرد فرديته، لا بالتأمل الصوفي، بل بالعمل جهد استطاعته على تحقيق الغاية الأزلية.

ماهية الدين إذن أن يؤمن الإنسان بالنظام الخلقي، ويعتبره مصدر واجباته، ويعاون على نموه، ولا بأس في أن يشخص شعوره بهذا النظام في موجود معين، إذا كان الغرض تقوية هذا الشعور في ضميره، أما إذا تصور الله سلطانًا حاكمًا بأمره، وانتظر من جوده لذات مقبلة، كان عابد صنم، وكان جديرًا بأن يُدعى ملحدًا، لا يوجد الشخص بدون موضوع يحده ولو كان هو ذلك الموضوع، ولا يتصور الله موجودًا محدودًا، وما الأنا المطلق إلا معنى مجرد إلا إذا اعتبرناه بمعزل عن الأفراد الذين يحققونه … إن الله الحقيقي هو الله الإنسان، وإن الله هو النظام الخلقي، والحرية التي تتحقق في العالم بالتدريج.

ولا نظننا بحاجة إلى التنبيه على ما في هذا المذهب من تناقض أساسي، فمن المعلوم أن كل ما خلا الأنا فهو من خلق الأنا الخالص، وإنما يخلق الأنا الخالص لكي يتحقق، فهو ينقسم إلى كثرة من الأناوات التجريبية، ويتحقق فيما يقوم بينها من علاقات أخلاقية، فما هذا الأنا الذي يضع اللا أنا ليحد به ذاته، ويفرضه على نفسه ليقاومه ويحاول التغلب عليه ويمحوه، فيحقق ماهيته التي هي الحرية؟ أوهام في أوهام وأضغاث أحلام دونها حرب دون كيشوت لطواحين الهواء … وسوف يتولى شلنج لفت نظر أستاذه إلى هذا التناقض الصارخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤