الفصل السابع

المذهب الفلسفي

(١) لويس دي بونالد (١٧٥٤–١٨٤٠)

المذهب الفلسفي معارض للمذهب الفردي؛ فهو ينكر عليه دعواه أن الفرد من بني الإنسان كائن قام برأسه وأن الاجتماع وليد اتفاق بين الأفراد، ويعارض هذه الدعوى بتوكيد ضرورة الاجتماع، وهو ينكر عليه دعواه أن العقل الفردي يبلغ إلى الحق بقوته الذاتية، ويعارض هذه الدعوى بإرجاع العلم الإنساني إلى وحي أول نزلت به من لدن الله ألفاظ اللغة والمعاني المقابلة لها فتناقلها السلف، ولويس دي بونالد زعيم الناقمين على فلسفة القرن الثامن عشر الفردية، الحاملين على الثورة الفرنسية وليدة هذه الفلسفة، هاجمها في كتاب نشره سنة ١٧٩٦ بعنوان «نظرية السلطة السياسية والدينية» ثم دأب على شرح آرائه في كتب عدة أهمها «تحليل القوانين الطبيعية للنظام الاجتماعي» و«الشريعة الأولى» و«فحص فلسفي عن الموضوعات الأولى للمعارف الأخلاقية».

لقد أخطأ روسو وأخطأ مشرعو الثورة من بعده، إنهم جميعًا صدروا عن الخطأ الذي قامت عليه البروتستانتية وهو الفردية، ليس بصحيح أن الفرد كائن على حياله، وأنه طيب بالطبع رديء بالاجتماع، وأن التشريع يؤخذ من مجرد معنى الإنسان بدون نظر إلى استعداداته وطباعه وماضيه وظروف المكان والزمان، الحق أننا عرضة بالطبع للانقياد إلى الأهواء، وأننا إنَّما نستمد من المجتمع أسباب نمونا واستكمالنا والقوة التي نسيطر بها على أنفسنا، فالإنسان الطبيعي إنسان اجتماعي، والاجتماع ضروري لا عرفي، وإذا كانت القوانين هي «العلاقات الضرورية اللازمة من طبيعة الأشياء» كما عرفها مونتسكيو — وإنها لكذلك — كانت الطبيعة لا الغالبية هي التي تضع القوانين بإنشاء عادات تكتسب قوة القانون، أو بالتنبيه على عيب العادة أو القانون، بما يحدث عنهما من اضطراب، فيجب القول بأن السلطة في الأصل من عند الله، بمعنى أن الله وضع ضرورة السلطة في طبيعة البشر كما وضع قوانين علاقاتهم: «إن الناس متشابهون إرادة وعملًا، ولكنهم ليسوا متساوين إرادة وعملًا، وهم من جراء هذا التشابه وهذا التفاوت يؤلفون نظامًا ضروريًّا من الإرادات والأعمال يسمى المجتمع»، والمجتمع الأول هو الأسرة، يبدو فيها التشابه والتفاوت ووحدة السلطة، فيجب احترام الأسرة بما هي كذلك، وإذن يجب اعتبار الزواج عقدًا غير قابل للفسخ، فإن الطلاق يفترض أن الزوجين فردان على حين لا توجد فردية بعد عقد الزواج بل توجد الأسرة، ومهمة المجتمع تكميل الأسرة لا هدمها.

والعلم الإنساني من عند الله، إن المذهب الفردي يقيم من عقل الفرد حاكمًا في كل موضوع، فيؤدي إلى تضارب الأحكام، وهناك حقائق كلية مشتركة بين جميع الناس يجب الإيمان بها، إن الفرد حاصل على العقل، ولكنه لا يعقل المعنى إلا باللفظ الدال عليه، والمجتمع هو الذي يعلمه الألفاظ فينقل إليه المعاني بوساطتها، ليست اللغة من إنشاء الإنسان، والذين يدعون ذلك هم الذين يدعون أن الاجتماع اتفاق عرفي، ولكننا قلنا إنه ضروري، فيجب القول إن اللغة عطية من الله حملت إلى الناس قضايا نظرية وقواعد عملية، وإن الإنسان مدين بكل شيء للمجتمع، أجل قد تكفي الصور الحسية لمعاني الماديات، أما المعاني الروحية، كالفضيلة والعدالة وما إليهما، التي هي أساس الاجتماع والأخلاق، ومعاني الأفعال على اختلاف ضروبها، مثل قولنا أفكر وسأمشي فمستحيلة بدون الألفاظ المعبرة عنها، وليس اللفظ المحسوس علة الفكر الروحي، ولكن هذا الفكر كامن في العقل، واللفظ إرادة لا غنى عنها لكي ندرك المعنى، ويمتنع إدراك المعنى دون النطق الباطن باللفظ الدال عليه، وليس الفرد هو مبتدع اللفظ، فإن هذا الابتداع يستلزم تفكيرًا وهذا التفكير نفسه يفتقر إلى لفظ، والواقع أن الفرد يتلقى اللغة بالتربية، وبدون هذه التربية لا يحصل على أي شعور حتى على الشعور بوجوده، فكان لا بد أن يوحي الله باللغة إلى الإنسان الأول، والتجربة تؤيد هذا الدليل؛ فإننا بحاجة إلى تعلم كل حقيقة، حتى الحقائق الرياضية، وبنوع خاص الحقائق الأخلاقية والاجتماعية، بحيث إذا لم تلقن بالتعليم قضي على حياة المجتمع بل على حياة الفرد.

(٢) جوزيف دي مستر (١٧٥٣–١٨٢١)

سفير سافوي في بطرسبرج من ١٨٠٣ إلى ١٨١٧، كان قد آمن بمبادئ الثورة في شبابه، فردته مظالم الثورة إلى التفكير في تجديد النظام بالرجوع إلى الدين، ولما أرسل إليه دي بونالد كتابه الأول رد عليه يقول إنه كان قد وصل إلى نفس المذهب، أشهر كتبه «أسمار بطرسبرج» و«البابا» و«اعتبارات في الثورة الفرنسية» و«مراجعة فلسفة بيكون».

يرى هو أيضًا أن العناية الإلهية طبعت فينا الحقائق وعلمتنا الكلام، فتبلورت الحقائق في الألفاظ، ويعارض لوك في دعواه بأن جميع معارفنا مستفادة من الإحساس، ويعارض العلم الحديث في تفسيره للأشياء بالمادة فحسب، فيقول إن المادة لا يمكن أن تكون علة، وإن لنا في شعورنا بتأثير إرادتنا دليلًا على أن علة الحركة إرادة، وللعلماء أن يتوفروا على علومهم، وليس لهم أن يطبقوا مناهجها ونتائجها على الأمور الاجتماعية والدينية، في هذه الأمور كان الرأي الخاص وكانت حرية التعبير عن الآراء الخاصة أصل الشر في العصر الحديث، بدأ الشر بالبروتستانتية، واستمر بفلسفة بيكون وفلسفة لوك وفلسفة القرن الثامن عشر يمثلها فولتير «آخر البشر بعد الذين يحبونه»، ودواء هذا الشر الاعتماد على عصمة البابا، فيكفل للمجتمع النظام والسلام، وإن قيل إن هذه العصمة سر من الأسرار، أجاب أن الأسرار تكتنفنا من كل جانب: فالعقل ينكر الحرب والحرب قائمة في الطبيعة جمعاء كوسيلة خفية لاستبقاء الحياة، والجلاد ممقوت من الناس أجمعين، وهو عامل على صيانة كيان المجتمع، ويمضي دي مستر في تأييد السلطة إلى حد الارتياب في العقل، وهو القائل إن الله طبع فينا الحقائق وأن ليس أسخف من الزعم بأن الإنسان ترقى بالتدريج من الجهل إلى العلم ومن التوحش إلى الحضارة، فيقول إن الذين يصيبون في الحكم قلائل، وأن لا واحد يصيب في الحكم على جميع الأشياء، وإن كل مرتبة من مراتب الموجودات قاصرة عن التي فوقها، فلعل فوقنا مرتبة لا ندرك منها شيئًا فنكون بالنسبة إليها كالعجماوات بالنسبة إلينا، فالخير كل الخير في التعويل على السلطة، فهو لا يميز تمييزًا واضحًا بين ما للعقل وما للدين، وهو كاتب مجيد يجري في تفكيره على نسق أقرب إلى الخطابة منه إلى البرهان.

(٣) فليسيتي دي لامني (١٧٨٢–١٨٥٤)

قسيس أراد أن يعالج «عدم المبالاة بالدين» (وهذا عنوان كتاب له شهير ظهر ١٨١٧–١٨٢٣) فأرجع عدم المبالاة إلى البروتستانية التي ابتدعت فكرة الفحص الحر والثقة بالعقل الفردي فبلبلت الأفكار وزعزعت مبدأ السلطة في الدين والاجتماع، فانزلقت العقول من البدع في الدين إلى المذهب الطبيعي الذي يقيم الإيمان بالله وبخلود النفس والحرية والثواب والعقاب على حجج عقلية، ولما أدركت وهن هذه الحجج ورأت تناقض العقل، انتهت إلى الإلحاد في الدين والشك في العقل، فانهارت أسس الأخلاق، حجة الملحد أن عقله لا يصل إلى وجود الله ولا يفهم الخلود ولا الشر الطبيعي والخلقي، ولكنه مع ذلك يؤمن بأمور أخرى لا يفهمها، يؤمن بالجاذبية وبانتقال الحركة وبالمادة وبالفكر وبغير ذلك كثير دون أن يفهم. «يا له من أحمق، ليفسر لي حبة رمل أفسر له الله»، والطبيعيون يعتمدون على حجج شخصية تختلف باختلاف العقول، وليس من بينهم من يستطيع إقامة الدليل على أن أقواله هي الصحيحة دون غيرها، وأما المبتدعة في الدين فآية في التناقض، إذ أنهم يسلمون بالوحي ثم يدعون لأنفسهم الحق في رفض ما يرون رفض من قضايا الوحي، كأنما الله عني بإنزال وحيه ثم تركه عرضة للتغيير والتبديل، وكأنه أنشأ الكنيسة ثم عدل عن تأييدها بنوره، «إن الإدعاء بجواز إنكار جزء من الوحي لهو أكثر إمعانًا في البطلان من إنكار الوحي جملة».

الخطأ الأكبر إذن قائم في التعويل على إدراكنا الخاص، إن الحواس خداعة، والعاطفة متقلبة إلى غير حد، والاستدلال أداة طيعة لإثبات أو إبطال أية قضية كانت كما بين بسكال، ولكن عقلنا حاصل على حقائق لا يقوى عليها الشك، وأساس اليقين بها إجماع العقول عليها، وعدم التسليم بها هو الجنون بعينه، «فاليقين يقوم في قبول حقائق العقل الكلي والحقائق التي يستنتجها منها العقل الفردي»، وهناك قضية مجمع عليها في كل زمان ومكان، وهي وجود الله، بإقرار الملحدين أنفسهم، وفي كل جيل يرد الناس جميعًا هذه القضية إلى الجيل السالف وهذا إعلان منهم بأنها موحاة من الله نفسه، ولا بد أن يكون الله أوحى بالدين الحق ولم يترك هذا الأمر للعقول الفردية، فلا عجب أن نرى الكنيسة تعلن أنها مكلَّفة من قبل الله بالمحافظة على الوحي، تعاليمها قوية سامية، وهي تستند إلى نبوءات تحققت ومعجزات لا سبيل إلى الشك فيها، فهي «ليست مذهبًا معروضًا علينا، ولكنها شريعة يجب أن تخضع لها قلوبنا».

لم ترضَ الكنيسة عن هذا الكتاب وهي تعلم أن للعقل القدرة على إدراك الحقائق الطبيعية، وأن وجود الله حقيقة طبيعية يبرهن عليها العقل ولا يقنع بقبولها من المجتمع، ومن سخريات الدهر أن لامني، بعد أن دافع عن الدين والكنيسة هذا الدفاع الحار، وبعد أن نقل من اللاتينية كتاب «التشبه بالمسيح» وعلق على فصوله بفصول قد تضارعها قوة وجمالًا، ذهب في علاقة الكنيسة والدولة وفي السياسة إلى آراء أنكرتها الكنيسة فتمرد على حكمها وآثر عقله الفردي حتى ابتدع في الدين ودون «رسم فلسفة» (١٨٤١–١٨٤٦) يتخذ فيها عقيدة الثالوث مبدأ لنظرية في الوجود، وينبذ صراحة عقائد أخرى، كالخطيئة الأصلية والفداء والنعمة، ويصطنع ضربًا من وحدة الوجود في كلامه عن الخلق، ويصر على عصيانه إلى النهاية، ومن عجب أن هؤلاء السلفيين فاتهم الرجوع إلى الفلسفة السلفية الحقة، تلك التي كونتها الأجيال المسيحية حتى نمت على يدي القديس توما الأكويني والتي هي أصدق نظرًا في الدين والعقل جميعًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤