الفصل الثالث

هربرت سبنسر

١٨٢٠–١٩٠٣

(١) حياته ومصنفاته

ابن معلم ابتدائي، شغف منذ حداثته بالعلوم الطبيعية والتاريخ، وبالمناقشات العلمية والسياسية والدينية، كان مهندس سكك حديد بضع سنوات، وشغل بمسألة التطور حين قرأ كتاب ليل Lyell في طبقات الأرض الذي كان في طبعاته الأولى يعارض نظريات لامارك، وخرج من دراسة علم الأجنة بأن التطور هو الانتقال من المتجانس إلى المتنوع، وأنه قانون الطبيعة، ونظر في المذهب الحسي كما كان إلى وقته وتفسيره محتوى الوجدان من أفكار وعواطف بالتجربة الفردية، فارتأى أن هذا المحتوى يفسر بتجربة النوع تتعين وتتطور بالوراثة، فدون كتابًا أسماه «مبادئ علم النفس» (١٨٥٥) عرض فيه هذا الرأي ونظرية التطور في جملتها، وأول عرض قام به لفلسفة التطور ظهر في مقال عنوانه «التقدم، قانونه وعلنه» (١٨٥٧) فذكره دروين في مقدمة كتابه «أصل الأنواع» بين الذين سبقوه إلى نظريته، ثم رأى أن نسبية المعرفة على طريقة كنط وهاملتون ومنسل، تسمح له بإفساح مجال للدين إلى جانب مجال العلم وبناء فلسفة شاملة، فشرع يدون كتبه الكبرى في «الفلسفة التركيبية» حيث جمع علوم العصر كلها مؤلفة في مذهب متَّسِق حول مبدأ التطور، أي إنه وضع الفلسفة التركيبية الموضوعية التي كان أوجست كونت قد قال باستحالتها لاستحالة الانتقال لتدريبي من مرتبة إلى أخرى من مراتب الوجود، هذه الكتب تفصيل مقالات نشرها في مجلات مختلفة ثم جمعت في ثلاثة مجلدات بعنوان «محاولات»، ولكنه تفصيل فضفاض كدس فيه كل المعارف في حين أن المقالات قصيرة واضحة، وجاءت الكتب الكبرى في عشرة مجلدات تتالت من ١٨٦٠ إلى ١٨٩٣، وهذه أسماؤها: المبادئ الأولى، مبادئ البيولوجيا في مجلدين، مبادئ علم النفس في مجلدين، مبادئ علم الاجتماع في ثلاثة مجلدات، مبادئ الأخلاق في مجلدين، وله أيضًا كتاب في التربية (١٨٦١) وآخر في تصنيف العلوم (١٨٦٤) وآخر في ترجمته لحياته، أنجز هذا العمل الضخم بمثابرة حقيقة بالإعجاب تقاوم اعتلال صحته من جهة وضيق ذات يده من جهة، وبمقدرة فائقة في التحليل والتركيب.

(٢) المعلوم والمجهول

يذهب سبنسر إلى أن موضوع المعرفة ينحصر في جملة العلوم الواقعية، وقد انتقد تصنيف أوجست كونت لهذه العلوم، ولكنه أخذ عنه التمييز بين العلوم المجردة والعلوم المشخصة، وأضاف قسيمًا وسطًا سماه العلوم المجردة المشخصة فوضع الجدول الآتي:
  • (١)

    العلوم المجردة أو علوم الصور الجوفاء، وهي المنطق والرياضيات بفروعها.

  • (٢)

    العلوم المجردة المشخصة أو علوم الظواهر، وهي الميكانيكا وعلم الطبيعة والكيمياء.

  • (٣)

    العلوم المشخصة أو علوم الموجودات، وهي علم الفلك وعلم طبقات الأرض، وعلم الحياة (وفيه الأخلاق) وعلم النفس وعلم الاجتماع.

هذا التقسيم يشبه تقسيم العلوم النظرية عند أرسطو بحسب درجات التجريد الثلاث، ولكن سبنسر يظن أن المشخص بما هو كذلك موضوع علم في حين أنه موضوع وصف فحسب، فما في علمي الفلك طبقات الأرض من قضايا كلية يرجع في الحقيقة إلى علوم أخرى هي الرياضيات والطبيعة والكيمياء، وما يقال فيهما عن أشخاص الأفلاك ومداراتها وعن الطبقات الأرضية وأحوالها أمور جزئية، ثم إنه يضع بين العلوم المشخصة علوم الحياة والأخلاق والنفس والاجتماع وهي في الواقع تدرس ظواهر عامة وتتأدى إلى قوانين كلية، فالتقسيم غير محكم، ومهما يكن من قيمة هذا الجدول فهو يمثل في نظر سبنسر «مجال المعلوم» كما يبدو في «الفلسفة الواقعية» التي هي عبارة عن جملة القوانين المشتركة بين جميع فروع المعرفة العلمية، بحيث يمكن أن يقال إن المعرفة العامية عديمة الوحدة، والعلم معرفة ناقصة الوحدة، والفلسفة معرفة موحدة تمام التوحيد بفضل قانون التطور الذي هو أعم القوانين.

وكل ما خرج عن العلوم والفلسفة الواقعية يؤلف «مجال المجهول» أو ما يجاوز إدراكنا، وفي كتاب «المبادئ الأولى» يعرض سبنسر جملة العلوم عرضًا منظمًا، ويحاول أن يسوغ استبعاد الميتافيزيقا أو علم المطلق، ونقده صوري ومادي: من الوجهة الأولى يبين الاستحالة الصورية لإدراك المطلق، وذلك استنادًا إلى نسبية كل معرفة، ومن الوجهة الثانية يبطل المذاهب الميتافيزيقية في المطلق، يقول من الوجهة الأولى: إن العقل إذا حاول أن يتصور المطلق وضع نفسه بإزاء المطلق فحده وجعله غير مطلق، وكل معرفة فهي تفترض اختلافًا أو شبهًا، فإن فكرة ما لا تدرك إلا بمعارضتها بفكرة سابقة مختلفة عنها أو شبيهة بها، وعلى ذلك فكل فكر فهو نسبي، ولا يمكن أن يوجد شيء خارج المطلق حتى يختلف عنه أو يشبهه، ويقول من الوجهة الثانية: سواء اعتقدنا أن العالم هو المطلق وأنه موجود بذاته، أو أن المطلق موجود مفارق هو الذي أوجد العالم، انتهينا إلى هذا التناقض وهو أن شيئًا قد يستطيع أن يكون علة نفسه، وهناك متناقضات أخرى بين اللا نهاية من جهة والشخصية من جهة، إذ أن الشخصية حد وتمييز وأن اللا نهاية شمول كل شيء، وبين القدرة الإلهية من جهة والخيرية والعدالة من جهة، وبين العدالة من جهة والنعمة من جهة، وما إلى ذلك من المتناقضات، وكذلك الحال في المعاني العلمية الرئيسية، كالزمان والمكان والمادة والحركة والقوة والوجدان والشخصية، فإنها واضحة يجوز لنا استخدامها مادمنا نقتصر على عالم التجربة المحدود، ولكنها تؤدي إلى متناقضات حالما تريد استخدامها للتعبير عن ماهية موجود مطلق كأنها مظاهرة، إن معرفتنا تنتقل من ظواهر إلى أخرى دون أن تدرك البداية ولا النهاية، كل ما هنالك أن النظر في العالم المعلوم يؤدي بنا إلى وضع المطلق المجهول.

وعلى ذلك فليست اللا أدرية مرادفة للإلحاد، وليست تعني أننا مضطرون إلى الإيمان بالمطلق مجرد إيمان كما يقول هاملتون ومنسل لاعتقادهما أن معنى المطلق أو اللا متناهي معنى معدول سلبي فحسب، إنه معنى محصل، أجل إننا لا نفهمه، ولكن في هذا القول إثباتًا ضمنيًّا لوجوده، فإن من المستحيل أصلًا تصور أن لا موضوع لمعرفتنا سوى الظواهر دون أن نتصور في نفس الوقت موجودًا تكون هذه الظواهر ممثلة له، إننا في تصورنا للمتناهي نتصور الموجود والنهاية، وفي تصورنا للا متناهي ننفي النهاية ولا ننفي الموجود، إن بين أفكارنا جميعًا شيئًا مشتركًا هو ما ندل عليه بلفظ الموجود ونعني به شيئًا ثابتًا تحت الأعراض المتغيرة، هذا العنصر الفكري الأخير هو إذن بطبيعته غير معين وغير قابل للرفع، بحيث إن قوانين الفكر التي تحظر علينا تكوين تصور عن موجود مطلق، تحظر علينا أيضًا استبعاد تصوره، بل إننا نستطيع أن نتصوره بالمماثلة مع ما نشعر به أنه قوتنا الذاتية في الجهد العضلي، وذلك بأن نمحو شيئًا فشيئًا الحدود التي تبدو فيها القوة المجهولة في كل حالة جزئية دون أن نصل إلى تكوين معنى محصل عنها، المادة والحركة مظهران لها، والزمان والمكان صورتان لمظاهرهما.

إذا تقرر هذا لزم منه أن للدين مكانًا إلى جانب العلم، وإنما كان التعارض بينهما لأن الدين على اختلاف صوره، يدعى تعيين ماهية العلة المطلقة ويريد أن يحل مسائل لا تحل إلا بالعلم، وأن العلم يريد أن ينفذ إلى ميدان هو ميدان خاص بالدين، فما إن تعين حدود المعرفة كما ينبغي حتى يتفق العلم بالدين على أن ماهية الوجود مجهولة غير مدركة، وينحصر كل في دائرته وينتهي النزاع بينهما، إن للعاطفة الدينية أصلًا عميقًا في الإنسان، فهي من ثمة مشروعة: إنها عاطفة الاحترام بل الحب الذي تحسه النفس نحو ما يعلو عليها، وليس لها أن تخشى شيئًا من النقد المنطقي مهما اشتد، فإن القوة التي ينم عنها العالم تفوق إدراكنا، ذلك هو الدين الذي يعترف به العلم، لا دين الإنسانية الذي ابتدعه أوجست كونت وزعم له صفة الواقعية وأقامه على عبادة الطبيعة المنظورة وعظماء الرجال، وما سائر الأديان المعروفة عن الشعوب المتوحشة والمتحضرة إلا ترجمات مختلفة عن القوة العظمى التي هي علة الظواهر الطبيعية والتي كان الإنسان البدائي يحس شيئًا منها في فعله الإرادي.

واضح أن هذا المذهب ملفق من رقعتين؛ فإن سبنسر ينتمي إلى المدرسة الحسية فيقول إن المعرفة قائمة بأكملها على التجربة، ثم يصطنع نظرية في المطلق المجهول لكي يدع الباب مفتوحًا للدين والأخلاق، وهذه النظرية مأخوذة كلها عن سبينوزا وكنط وهاملتون ومنسل، وقد رددنا بما فيه الكفاية على ما تتضمن من قول بالنسبية ومن دعوى تناقض الميتافيزيقا، فلا نعد سبنسر هنا إلا مقلدًا ومنسقًا لعناصر معروفة في تاريخ الفلسفة، دون أن يتمكن من إقامة الدليل على أن فكرة المطلق تعبر عن وجود مفارق للطبيعة ضامن للدين والأخلاق، لا عن عظمة الطبيعة المادية فحسب فتفوتنا الأخلاق ويفوتنا الدين، هذا فضلًا عن ضآلة الدين عنده، وعن نقص فلسفته الأخلاقية كما سنرى.

(٣) تكوين العالم

قانون التطور يقضي بأن كل شيء يبدأ ظاهرة بسيطة فتلتئم حولها بالضرورة ظواهر أخرى فتركب كلًّا أعقد فأعقد، والطبيعة مادة وحركة، وما الحياة وما الشعور على اختلاف صوره إلا تعقد المادة والحركة، أي مجرد أثر الطبيعة في أجزاء من المادة، فهيئة العالم تفسر بنظرية لابلاس أو ما يشابهها، ونشوء الحياة يفسر بتفاعل القوى الكيميائية، وتفسر الأنواع الحية بتطور الأصول الأولى المتجانسة بفعل البيئة، وسبنسر يفيد هنا كثيرًا ببحوث دروين ويستشهد بها، ويحلل الإحساس إلى «صدمات» عصبية أولية يقابل كل منها اهتزازًا من الاهتزازات التي يحلل إليها العلم الحديث الكيفيات المحسوسة؛ وبذا يحصل على «مادة شعورية» تتكامل بتأليف الصدمات بعضها مع بعض، وبتأليف هذه التأليفات بواسطة قوانين التداعي يحصل على الصور الخيالية والمعاني المجردة والأحكام والاستدلالات والأخلاق والاجتماع، على ما سبق لنا بيانه عن الحسيين مرارًا كثيرة، بحيث يرجع ترقي الفكر إلى ترقي الجهاز العصبي وملاءمة تدريجية بين الكائن الحي وبيئته، ويرجع التطور إلى علاقات بين الظواهر الخارجية يقابلها علاقات بين الأجزاء العصبية يقابلها علاقات بين الظواهر الوجدانية، على أن هذا لا يعني إدراكاتنا شبيهة بالأشياء، بل يعني فقط أنها علامات على الأشياء وأن النسب القائمة بينها يقابلها نسب في الخارج، فسبنسر يأخذ بالتصورية ثم يصححها بنوع من الوجودية، وهو يفضل الوجودية على التصورية لسببين: الأول سلبي وهو أن هذه تعتمد على تلك، فنحن نؤمن عفوًا بوجود الأشياء ولا نحاول أن نبين أن الصوت مثلًا مجرد حالة ذاتية حتى نتحدث عن اهتزازات الجرس التي تنتقل إلى الأذن والتي تفعل كذا وكذا في أعضائها كأن كل هذه موجودات، والسبب الثاني إيجابي وهو أن ما مَرَّ بنا من نسبية موضوعات العلوم يقتضي شيئًا مطلقًا تكون هي مظاهره.

وتتأيد نظرية التطور إذا لاحظنا أن التجربة والعلم لا يفسران باكتساب الفرد فحسب، وأن العقل في الفرد وكما نعرفه ليس قابلية صرفة تكيفها التجربة الفردية على ما ارتأى لوك وهيوم ومل، إذ لو صح الرأي لكان الفرس مثلًا يقبل نفس التربية التي يقبلها الإنسان، وهذا باطل. الواقع أن العقل الإنساني كما نعرفه لا يقتصر على قبول التجارب ولكنه ينظمها، وهو إنما ينظمها بالمبادئ، فما منشأ هذه المبادئ؟ إن العقل وظيفة من وظائف الحياة، وقد خضع للتطور فتكون بتأثير البيئة في الدفاع تأثيرًا متصلًا كيفه شيئًا فشيئًا حتى بلغ به إلى هذه المطابقة التي نراها بينه وبين الطبيعة، ولما كان الناس قد عاشوا في بيئة متشابهة فقد تولدت نفس المبادئ عندهم جميعًا، وهذا أصل كليتها، ولما كان العقل قد تكيف هذا التكيف فقد أصبح عاجزًا عن تصور نقائض المبادئ، وهذا أصل ضرورتها، فالمبادئ التي تبدو الآن غريزية أولية، والتي يفسرها الحسيون بتجربة الفرد، والتي يضعها كنط وضعًا، قد اكتسبها النوع الإنساني بتكرار التجربة مدى أجيال طويلة فأصبحت عادات وراثية، يبقى أن يفسر لنا سبنسر كيف تتكون بالتدريج بديهيات تدرك دفعة واحدة أو لا تدرك، وفي أي وقت خرجت من دور التكون وصارت مبادئ تنظم بها بعد أن لم تكن تنظم.

على أن الحركة ومختلف صور الطاقة تتبدد باستمرار، فالتقدم يصاحبه انحلال، وستنتهي القوة العالمية إلى حالة توازن كلي أي موت كلي وعود إلى السديم الأول، ومن المستحيل علينا أن نعلم إن كانت هذه الحالة تدوم أو يعقبها دور تطور، إن دوامها فرض ممكن، ولكن يمكن أيضًا أن نعتقد أن وراء العوالم التي تدركها علومنا الراهنة طاقة مختزلة تكاد تكون غير متناهية تؤثر حينئذ في المادة فتستأنف التطور، فيتعاقب التطور والانحلال في أدوار هائلة، ولم يقل لنا سبنسر ما حظ الإنسان من هذا التعاقب، وما حظ هذا الفرض من الرجحان وكأنه أبى أن يعتقد بانتهاء التطور وانحلال الموجودات، وهذا الإباء صادر من غير شك عمَّا فينا من ميل طبيعي للبقاء والخلود تصدمه المادية بلا رحمة.

(٤) الأخلاق

هذا المذهب يحتم النظر إلى الأخلاق تبعًا للتطور واعتبارها ظواهر طبيعية، فهو لا يحتمل إلا علمًا للأخلاق من طراز العلوم الواقعية يستبعد المعاني والمبادئ الميتافيزيقية، ويقصر السيرة الإنسانية على أن تكون حالة خاصة من سيرة الكائنات الحية لا أكثر، إن الخلقية هي هذه السيرة في المراحل الأخيرة من التطور، ولما كان قانون تطور الكائن الحي الملاءمة بينه وبين بيئته، كما نشاهد في سلم الأحياء، كانت السيرة الإنسانية أو الأخلاق «جملة الأفعال الخارجية المتجهة مباشرة أو بالوساطة إلى صيانة الحياة وتنميتها»، ومن شأن تطور الإنسان وتقدم الحضارة تقسيم العمل بين الأفراد واستفادتهم بعضهم من بعض، فالتعاون الاجتماعي شرط ضروري لنمو الحياة الفردية؛ لأن به يتمكن كل فرد من تحقيق غايته الخاصة، وبذا تبدو تبعية المنفعة الفردية للمنفعة الاجتماعية مشروعة كلما اختلفتا، المنفعة إذن هي الحكم لا اللذة، أجل إن الخير يتفق على العموم مع اللذة، واللذة هي العنصر الجوهري في كل تصور للخلقية، وهي دليل وفرة الحيوية، والملامة التي تشهد للوجدان بالملاءمة الصالحة بين الأفعال ووظائف الحياة، فالغرض من اللذة هو الفعل الحيوي الذي هو طلب الغاية الطبيعية، والحياة الخلقية هي التي أفعالها متسقة مطابقة للإنسان، والحياة المخالفة للخلقية هي التي لا نظام بين أفعالها ولا اتساق، فتقدم الخلقية هو تقدم الملاءمة بين حياة الإنسان وقوانينها الأساسية، ومبدأ الأفعال الخلقية هو اعتبار النتائج الطبيعية الذاتية للأفعال دون أي شيء أخر، كالشعور بالواجب أو الخوف من جزاء عرفي.

لم تحصل الملاءمة بين الإنسان وبيئته من أول الأمر، وهي غير حاصلة الآن إلا حصولًا جزئيًّا، وقانون التطور يضمن لنا أن يتم في المستقبل، لقد تحقق التعاون بالانتقال التدريجي من الحالة العسكرية إلى الحالة الصناعية: الأولى تقوم على الحرب والإكراه والقانون العرفي فتتضمن تبعية الأفراد للجماعة تبعية دقيقة، والثانية تقوم على العمل والتعاقد فتفسح المجال للتعاون الإرادي، ومن الوجهة العاطفية مر الإنسان بحالة أولى كان فيها يطلب منفعته الذاتية، وهذه مرحلة الأنانية، ثم فطن إلى أن منفعته تزداد بالتعاون مع إخوانه، فأحبهم لهذه المنفعة، فكانت مرحلة الأنانية المختلطة بالغيرية، ثبت فيها بالوراثة هذا الجمع بين المنفعتين حتى بدا العلم لمصلحة الغير أمرًا مستحبًّا ولو لم يعد منه نفع ذاتي بل لو تعارضت المنفعتان، وهذه المرحلة ما تزال للآن، وهي مرحلة الصراع بين الأنانية والغيرية، وما الشعور بالواجب سوى مظهر سلطان التطور الماضي في أنفسنا، ونحن سائرون شيئًا فشيئًا إلى مرحلة ثالثة وأخيرة تتحد فيها المنفعتان تمام الاتحاد فتسود الغيرية وتصير الأخلاق الفاضلة طبيعية في الإنسان وتمحى فكرة الواجب.

في هذا المذهب أمور مقبولة وأخرى منافية لمفهوم الأخلاق، فالمقبول قول سبنسر إن الغاية الطبيعية هي الفعل المطابق لوظائف الحياة، وإن الحياة الخلقية هي الحياة المطابقة للإنسان، وإن اللذة (الحقة) هي التي تنشأ من الملاءمة الصالحة بين الأفعال ووظائف الحياة: في هذه الأقوال التي يتوخى منها سبنسر وضع غاية ومعيار للسيرة الإنسانية، نرى معنى ميتافيزيقيًّا يفترضه باستمرار ولا يعترف به صراحة، هو معنى الماهية أو الطبيعة الإنسانية التي إذا طابقها فعل كان خلقيًّا وإذا خالفها فعل لم يكن خلقيًّا، هذا المعنى تفترضه جميع المذاهب النفعية فتخالف المبدأ الحسي، ولا يتمشى مع هذا المبدأ إلا أمثال أرستيب الذين يقولون باللذة كيفما كانت، أما الأمور المنافية للأخلاق فأولها تعريف سبنسر للأخلاق بأنها «جملة الأفعال الخارجية المتجهة إلى صيانة الحياة وتنميتها»: هذا التعريف يلزم من المذهب الحسي، ولكنه يخالف فهم الناس جميعًا، فإنهم يريدون بالأفعال الأخلاقية أولًا وبالذات الأفعال الباطنة، سواء خرجت إلى الفعل أم لم تخرج، المتجهة إلى تنمية حياة النفس ولو اقتضى الأمر التضحية بالحياة الجسمية التي لا يعرف التطور المادي حياة غيرها، وثمة أمر ثانٍ هو أن القانون في مذهب التطور قانون طبيعي لا خلقي، قانون بيولوجي هو أثر البيئة فينا، يدفعنا إلى الأمام كما يدفع الطبيعة بأسرها، في حين أن القانون الخلقي قانون مثالي معروض على الإرادة لكي تحققه باختيارها فتحقق فوق النظام الطبيعي نظامًا إنسانيًّا بمعنى الكلمة، وأمر ثالث نجعله الأخير هو أن الغيرية التي يعدها سبنسر مرادفة للخلقية هي في مذهبه غير مقصودة بالذات ولكنها نتيجة الارتباط ين المنفعة الذاتية ومنفعة الغير، فهي الأنانية بعينها، ومتى كان قانون التطور محتومًا، فما الحاجة إلى إقناعنا بالعمل بموجبه؟ أليس لكل أن يكفي نفسه مؤنة الغيرية ويعول على الضرورة الطبيعية في تحقيق التقدم؟ ولقد عالج سبنسر مسألة الإحسان، وبخاصة الإحسان المنظم من الدولة، فكان موقفه فيها موقف الأنانية القاسية: قال إن الإحسان معارض للقانون الطبيعي الذي يقضي ببقاء الأصلح، ومؤدٍّ إلى انحطاط النوع الإنساني بالتدريج إذ أنه يعارض على تكاثر أقل الأفراد مواهب على حساب أكثرهم مواهب، وإن الفريق النشيط من الأهلين يدفع جزية ثقيلة لفريق عديم النفع هم الشيوخ والمرضى والمجانين، وإن تقدم الأقوياء وسقوط الضعفاء نتيجة ضرورية لقانون كل مستنير نافع، وإن الدولة إذ تحاول وقف هذا القانون الحكيم بدافع من حب للإنسانية زائف، تزيد في مقدار الألم بدل أن تنقص منه،١ هذا كلام قاسٍ يتضح منه جليًّا أن سبنسر لا ينظر إلى الإنسان إلا كما ننظر إلى الحيوان، ولا يفهم من الغيرية إلا أنها تبادل المنفعة، ويزيد في قسوته أن كثيرين من «الضعفاء» هم ضحايا لفساد المجتمع فهم مظلومون يتعين على المجتمع تخفيف الظلم عنهم، وما قيمة «الجزية» بالقياس إلى ازدياد الغيرية الحقة التي يراها سبنسر غاية التطور الإنساني، وبالقياس إلى احترام الكرامة الإنسانية في هؤلاء الضعفاء، وهذا الاحترام كسب خلقي من غير شك، ولكن المذهب المادي لا يعرف الخلقية، وسبنسر ينطق عنه بأفصح بيان، وقد بذل مجهودًا عظيمًا في شرحه وتأييده، فراح مجهوده عبثًا، وكان هو آخر رجال هذا المذهب في بلده.

(٥) توماس هكسلي (١٨٢٥–١٨٩٥)

من أشهر القائلين بنظرية التطور وأكثرهم ضجيجًا ومهاترة، طبق هذه النظرية على الإنسان قبل دروين في كتابه «مكان الإنسان في الطبيعة» (١٨٦٣) وله كتاب عن «هيوم، حياته وفلسفته» وله «محاولات» مختلفة (١٨٩٤)، هو واقعي يرى أن المادية والروحية خطأ على السواء لأنهما تفترضان أننا نعلم حقيقة الأشياء ونحن لا نعلمها، ويقال إنه هو الذي وضع لفظ agnosticism (لا أدرية) للدلالة على هذا الموقف فاصطنع سبنسر هذا اللفظ، وهو واضح لفظ Bathydius؛ ذلك أن بعضهم اعتقد أنه اكتشف في قاع البحر مادة هلامية هي حلقة الانتقال من عالم الجماد إلى عالم الحياة، ونظر فيها هكسلي فاعتقد أنها بروتوبلاسما ودعاها بذلك الاسم، ثم اتضح أنها طين لا أكثر أو راسب جرف مواد عضوية! وقد اعترف بذلك في دعابة لطيفة أثناء مؤتمر علمي بشفيلد في سنة ١٨٧٩ وأعلن أسفه لأنه كان السبب في تضليل كثيرين اعتمدوا على شهرته واستشهدوا به في تأييد التولد الذاتي.، وهذا مثال على ما للنظريات من قوة إيحاء متى تسلطت على النفس، أو مثال على أن الغرض مرض.
١  في كتابه «فيما للإحسان من شأن خلقي».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤