الفصل الرابع

الحركة الدينية

(١) نيومان (١٨٠١–١٨٩٠)

منذ أوائل القرن قامت في جامعة أكسفورد معارضة شديدة للمذهب التجريبي صادرة بالأكثر عن أسباب دينية، ثم ظهرت فيها معارضة فلسفية تعتمد على الفلسفة الألمانية وبخاصة على مذهب هجل، كما اعتمدت عليها المعارضة السابقة الممثلة بكولريدج وكارليل وهاملتون، غير أن الفلسفة الألمانية لم تدرس دراسة جدية في إنجلترا إلا في هذه الفترة الثانية أي في الربع الأخير من القرن، وكانت جامعة أكسفورد هي المتقدمة في هذا المضمار، ولكن هذه الحركة الدينية الثانية تجرد الدين عن العقائد السلفية ولا تحتفظ إلا بالعاطفة الدينية خالصة؛ لذا لم يرضَ عنها المؤمنون وعدوها أشد خطرًا من الإلحاد السافر.

من أبرز رجال الحركة الأولى نيومان، قرأ هيوم واعتقد مثله أن الاستدلال عاجز عن توفير اليقين، ولكنه كان منذ حداثته شديد التقوى حتى كان مقتنعًا اقتناعًا يمكن أن يسمى عمليًّا أو تجريبيًّا بوجود الله كما يظهرنا عليه الإنجيل، فرأى أن الذي يبحث عن الجماعة الدينية التي احتفظت للآن بالحياة الإنجيلية، فلن يجدها إلا في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، فانضم إليها (١٨٤٥) وصار قسيسًا فكردينالًا.

لم يبقَ طبعًا على تشككه في العقل، ولكنه ميَّز بين ضربين من التصديق أحدهما يرجع إلى المعرفة التجريدية التي هي ثمرة استدلالات العقل النظري والتي تظل بلا أثر فعال في السيرة، والضرب الأخر تصديق محسوس يخرج من صميم النفس ويقيد الحياة بأكملها، ومصدر هذا التصديق الضمير الذي هو القانون الإلهي للخلقية تدركه كل نفس في ذاتها، فالدين الحق هو الذي يقابل صوت الضمير ويدفع بالحياة الروحية إلى قمتها، وهو في هذا يساير هيوم الذي ميَّز بين «المعرفة» التي هي شكية حتمًا وبين التصديق العملي بدوافع الطبيعة الإنسانية، غير أن نيومان اتخذ من الضمير أساسًا موضوعيًّا تبنى عليه الحياة ويبنى عليه اليقين العقلي، فهو قد انتهى إلى ضرب من البراجماتزم، وكتابه «أجرومية التصديق» مليء بالاعتبارات في التجربة الدينية، وهذه وجهة لها حظ كبير عند كثيرين من المحدثين الذين يرون أن للضمير والحياة الروحية قيمة ذاتية، وأن علامة الحق في كل رأي معروض هي ما لهذا الرأي من نفع لحياتنا الأخلاقية والدينية.

(٢) سترلنج (١٨٢٠–١٩٠٩)

هو زعيم الحركة الثانية، فإن كتابه «سر هجل» (١٨٦٥) أول كتاب هام بالإنجليزية عن هذا الفيلسوف، والكتاب غريب يصطنع في بعض فصوله أسلوب النبوة بما فيه من حماسة وغموض، ويرى سترلنج أن الفلسفة الهجلية هي الفلسفة المسيحية بمعنى الكلمة؛ لأنها تبين أن المسيحية هي الديانة المطلقة وتوفق بين العقل والإيمان، ولما أنشأ اللورد Gifford المحاضرات الفلسفية الدينية المعروفة باسمه، افتتحها ستلرنج (١٨٨٩) بدروس في «الفلسفة واللاهوت».

(٣) توماس هل جرين (١٨٣٦–١٨٨٢)

أستاذ الفلسفة الخلقية بأكسفورد (١٨٧٨)، كان معتبرًا زعيم الحركة الهجلية الإنجليزية، وقد أثر في شباب الجامعة تأثيرًا بليغًا يرجع بالأخص إلى سمو شخصيته، أهم مؤلفاته: «المدخل إلى هيوم» (١٨٧٤) ينقده فيه نقدًا نافذًا، و«مقدمة للأخلاق» (١٨٨٣) يحاول فيها أن يهتدي إلى أساس للأخلاق غير تجريبي.

وجه همه منذ البداية إلى محاربة المذهب الحسي والإلحاد ومذهب اللذة، أي إلى إعادة العقل في المعرفة، والله في الدين، والخلقية في السيرة، فالمعرفة لا تستغني عن العقل إذ لا معرفة بدون علاقات تربط بين الظواهر فتؤلف الأشياء ومبادئ العلم (كما بين كنط)، وهذا الربط يكشف لنا عن وحدة الوجدان (كما بين كنط أيضًا)، فلا يمكن اعتبار الوجدان نتاجًا آليًّا للتطور البيولوجي عاطلًا من العقل، ليست توجد الطبيعة (في مذهب كنط) إلا بفضل الأنا الذي يكون موجوداتها ويدركها، فكيف تعكس الآية ويقال إن الطبيعة تخلقه؟

والله أو المطلق موجود بدليل أن الإحساس جزئي ناقص يفترض علاقة بمعرفة كلية تندرج تحتها جميع الإحساسات، وهذه المعرفة الكلية موجودة بالعقل الكلي أو الله، فالله أصل مفترض لكل معرفة، ثم إن رجوعنا إلى أنفسنا يكشف لنا عن مثل أعلى نحس أننا ملزمون بتحقيقه، والله متضمن في هذا الشعور بالمثل الأعلى، بل إن هذا الشعور هو أكثر من دليل على وجود الله، إن حضور الله فينا (بالمعنى الذي يريده هجل، أي إن الله يتحقق في الإنسان)، أما قول هاملتون وسبنسر إن المطلق غير معلوم فقول متناقض من حيث إن العلم بوجود المطلق إدراك لشيء عنه، فالعقل ينتهي إلى الإيمان ويتكمل به، على أن هذا الإيمان إيمان عقلي بحقائق عقلية، فلا ينبغي فهم العقائد المسيحية فهمًا حرفيًّا، بل يجب اعتبارها رموزًا لتلك الحقائق (كما بين كنط وهجل).

والأخلاق تصدر عن نفس المبدأ، إن الأنا الإنساني مشارك في الأنا الكلي، وتقوم الحياة الخلقية في التقدم نحو التوحيديين الطرفين (أي نحو تأليه الإنسان) وهذه الغاية لا تحقق بإرضاء نزعة جزئية أية كانت، بل بإرضاء طبيعتنا جمعاء، وإن الفرد ليجد في المؤسسات الاجتماعية عونًا في سبيل هذا التقدم نحو الكلي، فلا يسوغ له معارضة مؤسسة ما بخيره الذاتي (وبذا يقف جرين في صف المحافظة الاجتماعية كما وقف هجل).

وقد كان لهذه الحركة الدينية الهجلية أشياع بين اللاهوتيين والوعاظ من البروتستانت استغلوا فلسفة هجل بصور مختلفة، نذكر منهم جويت (١٨١٧–١٨٩٣) المعروف بترجمته لمحاورات أفلاطون وشرحه عليها، ونذكر كيرد (١٨٢٠–١٨٩٨) وأخاه (١٨٣٥–١٩٠٨).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤