الفصل الخامس

بين الواقعية والروحية

(١) إميل ليتري (١٨٠١–١٨٨١)

هو أشهر تلاميذ أوجست كونت، اعتزل أستاذه لما رآه يبتدع دين الإنسانية، وقال إن الدين كان المرحلة الأولى من مراحل العقل وإن هذه المرحلة انقضت ولا ينبغي أن يكون لها رجعة، فعمل على إذاعة المذهب الواقعي الأول ومعارضة الثاني، وأكمل تصنيف العلوم بإدخال الاقتصاد السياسي، وعلم النفس الفلسفي الذي يفحص عن طرائق المعرفة وقواعدها، وعلم الأخلاق وعلم الجمال وعلم النفس التجريبي، وله عبارة مأثورة في الميتافيزيقا هي أنها «محيط يضرب شاطئًا ولكنَّا لا نملك له سفينة ولا شراعًا».

(٢) أرنست رنان (١٧٢٣–١٨٩٢)

كاتب شهير ومستشرق معروف، كان يعد نفسه للإكليروس، ثم تشكك في الدين عن طريق النقد التاريخي، فتحول عن مشروعه، وقضى حياته يكتب في المسائل الدينية ويعقب على الكتب المقدسة، أشهر تآليفه «مستقبل العلم» دوَّنه سنة ١٨٤٨ ولم ينشره إلا سنة ١٨٩٠، و«حياة يسوع» (١٨٦٣)، و«ابن رشد والرشيدية» (١٨٦٩)، و«محاورات فلسفية» (١٨٧٦).

«مستقبل العلم» أن يحل محل الدين، والعلم يعنى بنوع خاص التاريخ وفقه اللغات، فهما علما الأمور الروحية، يظهران الإنسانية على ماهيتها خلال نموها، ويشعرانها بالقوة التي تسوقها، كما قال هجل،١ والمهمة الأولى للمؤرخ الفحص عن أصول المسيحية التي هي أرقى ديانة روحية، وفي هذا الفحص يفسر لنا رنان كل شيء تفسيرًا طبيعيًّا، فإن الدين عنده خرافة، أو بتعبير ألطف هو فرض مفيد يرفع النفس، وبذا يجمع رنان بين الواقعية والروحية، على أن التفسير الطبيعي ليس في رأيه رد الأحداث إلى «جدل باطن» كما يفعل الهجليون بل ردها إلى تأثير عظماء الرجال، وقد كان يسوع واحدًا منهم، بل كان «رجلًا منقطع النظير» وجد حقًّا (لا كما زعم شتراوس) ولكنه لم يكن على ما زعم له الحواريون.

هذا الاتجاه العام في التفكير يحتمل فوارق واختلافات كثيرة تقلب بينها رنان، فكان ينكر رأيًا ثم يعود فيصطنعه ثم يعود فينكره وهكذا، ولا تعوزه الحجة في كل مرة، وهو إذ يؤرخ لابن رشد وأشياعه من الغربيين يميل ميلًا ظاهرًا إلى الآراء الإلحادية وأصحابها، وهو إذ يكتب المحاورات الفلسفية يجري قلمه بشك لطيف عابث على طريقة ڤولتير.

(٣) إيبوليت تين (١٨٢٨–١٨٩٣)

أديب مؤرخ فيلسوف تدل عناوين كتبه على تنوع كفاياته: منها «تاريخ الأدب الإنجليزي» في خمسة مجلدات (١٨٥٣)، و«الفلاسفة الفرنسيون الكلاسيون في القرن التاسع عشر» في مجلدين (١٨٥٦)، و«المثل الأعلى في الفن» (١٨٦٧)، وكتابه الفلسفي المشهور «في العقل» في مجلدين (١٨٧٠)، و«أصول فرنسا المعاصرة» في اثني عشر مجلدًا صدرت تباعًا بعد سنة ١٨٧٠، ينصف فيها نظام الحكم القديم ضد الثورة وميولها.

في كتاب «العقل» يحذو حذو كوندياك والفلاسفة الحسيين من الإنجليز، فيصف الإحساس بأنه أولًا وقبل كل شيء ظاهرة عصبية قد يطرأ عليها الشعور وقد لا يطرأ، فالشعور ظاهرة عارضة لا أصلية، والوجدان في جملته ظواهر منفصلة تربط بينها قوانين التداعي كما أن الشيء الخارجي ذرات مستقلة تجمع بينها قوانين الحركة، والإدراك الظاهري واقع على صورة باطنة لا على شيء خارجي، فهو تخييل، غير أنه «تخييل صادق» والصورة المتخيلة «تخييل كاذب»، والمعنى المجرد لفظ ليس غير يذكر بالجزئيات، والحكم والاستدلال تركيب ألفاظ، إلى غير ذلك من الآراء التي ينقلها عن الحسيين وكل نصيبه فيها براعة العرض والتمثيل، وهو يجمع إلى هذا أشياء من سبينوزا وأخرى من هجل، فيتصور الله مجرد قانون، «القانون السرمدي» الذي تنتهي عنده سائر القوانين الجزئية، ولا يعتقد بخير أو شر بالذات، فلا يعنى بنتائج هذا الموقف في الحياة العلمية، وهو الذي عناه بول بورجي في قصته «التلميذ» يذيع آراء ثم يندهش لما تؤدي إليه من فواجع.

(٤) إميل ڤاشرو (١٨٩٠–١٨٩٧)

معروف بكتب ثلاثة: «التاريخ النقدي لمدرسة الإسكندرية» (١٨٤٦–١٨٥١)، و«الميتافيزيقا والعلم» (١٨٥٨)، و«المذهب الروحي الجديد» (١٨٨٤).

يعارض كوزان في طريقة التخير، ويقول بوحدة الوجود على طريقة هجل، فمن الوجهة الأولى يذكر أن مصادر المعرفة ثلاثة: المخيلة والوجدان والعقل، المخيلة تتصور الوجود كله على مثال المحسوسات فتؤدي إلى المادية، والوجدان يحملنا على تصور الوجود قوة روحية على مثال ما نعهده في أنفسنا، والعقل يدفعنا إلى أن نرى في الوجود نموًّا ضروريًّا لقوة لا متناهية بموجب مبادئ ضرورية على مثال مذهب سبينوزا، فالمواقف الأصلية متعارضة لا يمكن التوفيق بينها ولا اختيار أحدها، ومن الوجهة الثانية يقول إن الاختيار يتعين بين الموجود والمثل الأعلى؛ ذلك أن كل موجود فهو متناهٍ كالموجودات التي تمثلها المخيلة، أما الكمال اللا متناهي فمثل أعلى غير متحقق وغير ممكن التحقيق بتمامه لتنافي اللا نهاية والوجود، ولكن المثل الأعلى يضفي على الموجود معناه ويعين اتجاهه، فالله غير متحقق ولكنه يتحقق شيئًا فشيئًا بتحقيق المثل الأعلى (كما جاء عند هجل ورنان). وقد رد «كارو» (وهو من نفس المدرسة) على ڤاشرو ورنان وتين في كتاب بعنوان «فكرة الله» (١٨٦٤).

(٥) جول سيمون (١٨١٤–١٨٩٦)

هو روحي عقلي، صنف كتابًا في «تاريخ مدرسة الإسكندرية» (١٨٤٥) وكتبًا فلسفية أهمها: «الدين الطبيعي» (١٨٥٦)، و«حرية الضمير» (١٨٥٧)، و«الحرية» (١٨٥٩)، و«الواجب».

(٦) بول جاني (١٨٢٣–١٨٩٩)

هو أقرب إلى كوزان، ولكنه لا يفهم التغير على أنه انتخاب آلي للآراء المشتركة، بل على أنه تطبيق المنهج الموضوعي الذي أفلح في التوفيق بين العلوم، ويبدو هذا التطبيق في كتابه «تاريخ الفلسفة» وهو كتاب متداول ومترجم إلى الإنجليزية، حيث يقدم على تاريخ المدارس تاريخ المسائل فيتتبع الحلول في كل مسألة من بداية الفلسفة إلى أيامنا، وكتابه «العلل الغائية» (١٨٧٧) يستمد كل مادته من العلوم، وكتابه «الأخلاق» (١٨٧٤) يقرر أن أداء الواجب هو نمو الطبيعة الإنسانية نحو كمالها، فيوفق بين كنط وأرسطو، وكتابه الأخير «علم النفس وما بعد الطبيعة» (١٨٩٧) يدور على النقطة الجوهرية في روحانية كوزان وهي الوصول إلى الميتافيزيقا عن طريق الاستبطان.

١  ويعني العلم عنه آخرين من المعاصرين جملة العلوم الفيزيقية والكيميائية والحيوية وقد أثملتهم روائع مكتشافتها وبدائع تطبيقاتها، فرأوا في العلم التجريبي الفيصل الأوحد بين الحق والباطل، والمنبع الأوحد للسعادة المنشودة إذ به ينظم المجتمع تنظيمًا معقولًا وتتغلب الإنسانية على المرض والشيخوخة والموت، بل تجد فيه القاعدة الوحيدة للأخلاق، وقد سميت هذه النزعة Scientisme أي المذهب العلمي الذي هو المذهب الواقعي الذي هو المذهب المادي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤