الفصل السادس

فلاسفة الحرية (طبقة أولى)

(١) جول لكيي (١٨١٤–١٨٦٢)

تخرج في مدرسة الهندسة بباريس، واشتغل بالفلسفة، وكان هدفه الأول التدليل على الحرية، نهج في ذلك منهج ديكارت في «البحث عن حقيقة أولى» (وهذا عنوان كتابه الذي لم ينشر إلا في سنة ١٩٢٤)، يريد أن الحرية شرط المعرفة أو أنها الحقيقة الأولى بين الحقائق التي توفق إلى اكتسابها، لكن لا باعتبارها ظاهرة وجدانية، على ما يذهب إليه الروحيون، إذ أن الشعور بانتفاء القسر (أو عدم الشعور بالقسر) لا يعد دليلًا على حرية الفعل، وأن التجربة الباطنة لا تعد حجة إلا إذا وجدت النفس في عين الظروف مرتين أو أكثر فجاء فعلها في كل مرة مختلفًا، وهذا مستحيل الوقوع، فالوسيلة إلى التدليل على الحرية هي أن نضع أنفسنا موضع الباحث عن حقيقة أولى، «وكيف أعتزم البحث، وأحدد الغاية، وأقاطع العادة والمألوف من الآراء، وأحاول وضع نفسي في حالة استقلال وإخلاص … إذا كانت أفكاري تتعاقب في نظام لا سيطرة لي عليه؟» الحرية هي إذن القدرة على التصرف بأفكاري وسلكها في نظام غير محتوم، فالحرية هي الحقيقة الأولى السابقة على كل حقيقة؛ ذلك بأني لا أستطيع أن أثبت أو أني أنفى إلا بواسطة الحرية أو الضرورة، وهناك أربعة فروض لا خامس لها: فإما توكيد الضرورة ضرورة، أو توكيد الحرية ضرورة، أو توكيد الضرورة بحرية، أو توكيد الحرية بحرية؛ فالفرض الأول لا يدع مجالًا للمعرفة كما تقدم، والثاني متناقض، والثالث متناقض كذلك، والرابع هو الفرض الممكن في ذاته وفاتح الطريق إلى المعرفة، فلا يقام على الحرية دليل بمعنى الكلمة، ولكنها تسلم تسليمًا، «وإني أفضل أن أثبت الحرية، وأن أثبت أني أثبتها بوساطة الحرية، وإثباتي هذا ينقذني ويحررني، وإني آبى مواصلة معرفة لا تكون معرفتي، وأعتنق اليقين الذي أنا صانعه».

(٢) شارل سكرتان (١٨١٥–١٨٩٥)

سويسري الموطن فرنسي اللغة، أستاذ بجامعة لوزان، أراد أن يقيم الأخلاق على تأويل فلسفي للعقيدة المسيحية، وعرض هذه المحاولة في كتابه «فلسفة الحرية» (١٨٤٨–١٨٤٩) فقال: إن الأخلاق لا تستغني عن الحرية فينبغي الفحص عن مبدأ أعلى كفيل بأني كون لها أصلًا وقانونًا، هذا المبدأ هو الله، إن مذهب وحدة الوجود يرى في الله موجودًا ضروريًّا بضرورة ذاتية، فيرى في فعله فعلًا ضروريًّا كذلك إذ كان من الممتنع الحصول على الممكن ابتداء من الضروري، فلن ننجو من وحدة الوجود إلا بالتسليم بأن الله حرية مطلقة، حتى بإزاء حريته نفسها، وأنه هو ما يريد أن يكون، فإن الموجود الذي يمنح نفسه الكمال بحرية لهو أكمل من الوجود الكامل بالطبع، فالميتافيزيقا تاريخ الأفعال الممكنة للحرية المطلقة، وليس يريد الله الخليقة تبعًا لنزوع فيه، فإن هذا يجعل من الخلق فعلًا ضروريًّا، فهو إذن يريد الخليقة لذاتها لا لذاته، وهذه هي المحبة، ويريدها كغاية، وإذن يريدها حرة، والأخلاق تحقيق الحرية، والواجب الذي ترجع إليه جميع الواجبات هو التحاب لأن الناس جميعًا متضامنون.

(٣) أنطوان كورنو (١٨٠١–١٨٧٧)

رياضي كبير، يمتاز بنظرتين: نظرية في نسبية المعرفة على وجه خاص به، ونظرية في وجود الاتفاق أو الصدفة، والنظريتان ترميان إلى ضمان الحرية، فإنه إذا كانت معرفتنا نسبية فليس يسوغ القول بالضرورة المطلقة، وإذا كان في العالم مجال للاتفاق كان فيه مجال للحرية، وقد فصل هاتين النظريتين في كتبه الآتية: «عرض نظرية الحظوظ والاحتمالات» (١٨٤٣) و«محاولة في أسس معارفنا وفي خاصية النقد الفلسفي» (١٨٥١) و«تسلسل الأفكار الأساسية في العلوم وفي التاريخ» (١٨٦١) و«اعتبارات في سير الأفكار والأحداث في الأزمنة الحديثة» (١٨٧٢) و«المذهب المادي والمذهب الحيوي والمذهب العقلي» (١٨٧٥).

نسبية المعرفة معناها أن المعرفة لا تقع إلا على نسب أو علاقات، غير أن هذه العلاقات موضوعية، فالمعرفة موضوعية، لكنها لما كانت واقعة على علاقات فهي تترتب في درجات من الاحتمال دون أن تبلغ إلى اليقين المطلق، فنحن من الجهة الواحدة متصلون بالأشياء تابعون لها في حياتنا، فمن الطبيعي أن ندركها من الناحية التي تهمنا لا في حقيقتها المطلقة، ومن جهة أخرى نحن ندرك هذه الأشياء في علاقاتها بعضها ببعض: مثال ذلك أن الإدراك المباشر الذي يرى الذهب أصفر هو أبعد عن الواقع من معرفة الفيزيقي الذي يعلم أن هذا اللون الأصفر مركب من لون الذهب وأثر انعكاس الضوء على سطحه، ويزيد اقتراب الفيزيقي من الواقع إذا استطاع ربط ما للذهب من خصائص بصرية بتركيبه الذري، ولكن علمنا صادق في هذه الحدود، والدليل على صدقه نجاحه، فإن هذا النجاح يدل على أن بين الوجود والعقل مطابقة، وكذلك القول في الفروض أو النظريات العلمية، فإنها تقبل متى سمحت بالربط بين الظواهر ربطًا معقولًا، وكلما اتسع نطاق التطبيق كانت النظرية أكثر احتمالًا، كما هو الحال في نظرية الجاذبية العامة، فالفرق بين كورنو وبين كنط أن النسبة عنده نسبة المعرفة إلى الشيء المعروف، وأنها عند كنط نسبة الشيء المعروف إلى طبيعة القوة العارفة.

والاتفاق يبدو أولًا في كون المعاني الأساسية في علومنا متباينة منفصلة بحيث يمتنع سلكها في نظام تام الوحدة؛ فليس هناك انتقال منطقي من فكرتي الزمان والمكان إلى فكرتي القوة والمادة، ومن هاتين إلى فكرة الألفة الكيميائية، ومن هذه الثلاث جميعًا إلى فكرتي الحياة والجسم العضوي، ومن هاتين إلى فكرتي العقل والمجتمع (على ما قال أوجست كونت)، ويبدو الاتفاق ثانيًا من ضرورة التمييز في جميع ميادين المعرفة بين القوانين أو العلاقات المطردة التي تسمح لنا بتوقع الظواهر، وبين ظروف الظواهر من زمان ومكان وغيرهما، وهي ظروف لا تتكرر، ولا تفسر إلا بالرجوع إلى ظواهر سابقة ومن هذه إلى أخرى سابقة وهكذا إلى غير نهاية، فسواء اعتبرنا ظواهر المادة البحتة أو الظواهر البيولوجية أو الظواهر الإنسانية، قلنا إن في أصلها وقائع تاريخية أي ظواهر اتفاقية: فبإزاء العلوم الفيزيقية يقوم علم تكوين العالم، وبإزاء البيولوجيا يقوم التاريخ الطبيعي وبإزاء علم النفس وعلم الاجتماع يقوم التاريخ الإنساني، ولا يوجد تفسير علمي لهذه الوقائع، من حيث إن العلم معرفة القانون وإن الاتفاق خارج عن القانون، ولكن ما يعجز العقل الإنساني عن تفسيره قد يكون معقولًا للعقل الإلهي باعتباره عقلًا مشخصًا حيًّا لا مجرد عقل منطقي، على أن الله ليس موضوع علم بل موضوع إيمان.

(٤) شارل رنوفيي (١٨١٥–١٩٠٣)

تخرج هو أيضًا في مدرسة الهندسة بباريس، وكان كمعظم طلابها مشايعًا لسان سيمون مناصرًا لفكرة الجمهورية، وكان أوجست كونت معيدًا له بهذه المدرسة، وكان جول لكيي قرينًا له وصديقًا، وقد قال هو عنه «إنه الرجل الذي قشع الغشاوة عن عينيه، وعلمه ما الحرية وما اليقين وما العلاقة بين الحرية والإيمان» فكانت الحرية الركن الأول من أركان مذهبه، وساقته إلى نقد كل مذهب يعتبر الحياة الخلقية مظهرًا ضروريًّا لقانون كلي أو لموجود مطلق أعني الآلية العلمية والجبرية التاريخية والدين، وقادته دراسته الرياضية إلى العناية بفكرة اللا نهاية، فرأى أن العدد اللا متناهي ممتنع وأن كل مجموع واقعي يجب أن يكون متناهيًا، فكان التناهي ركنًا آخر من أركان مذهبه ساقه إلى نقد كل نظرية من نظريات الاتصال التي تضع بين الأشياء فوارق غير متناهية فتندرج من شيء إلى آخر تدرجًا متصلًا، وجاء هذا النقد موافقًا لمواقفه من الحرية والأخلاق، ودرس ديكارت وكنط وهيوم، فأخذ بالتصورية وبنسبة المعرفة، أي بأن ليس هناك سوى ظواهر وأن ظاهرة ما لا تفهم إلا باعتبارها مركبة من ظواهر أخرى أو داخلة في تركيب ظواهر أخرى، فكان هذا الموقف الركن الثالث من أركان مذهبه وجاء مطابقًا للركنين الأولين، فإن متناقضات العقل التي حصرها كنط تحتم علينا الاختيار بينها، وإنما تختار القضايا التي تثبت للعالم خصائص متناهية فنعدها صادقة ونعد نقائضها كاذبة، بخلاف ما ذهب إليه كنط من أن القضايا ونقائضها غير قابلة للتفنيد، وساقه هذا الاعتبار إلى فلسفة نقدية سميت بالفلسفة النقدية الجديدة néo-criticisme. وتلك هي قسمات فلسفته تجدها منبثة في جميع كتبه.

هذه الكتب هي: «محصل الفلسفة القديمة» (١٨٤٢) «محصل الفلسفة الحديثة» (١٨٤٤) «محاولات في النقد العام»: المحاولة الأولى «تحليل عام للمعرفة» (١٨٥١) والثانية «في الإنسان» (١٨٥٨) والثالثة في «مبادئ الطبيعة» (١٨٦٤) والرابعة «المدخل إلى الفلسفة التحليلية للتاريخ» (١٨٦٤)، وكتاب «الخيال في التاريخ» (١٨٥٧) و«علم الأخلاق» (١٨٦٩)، وفي سنة ١٨٧٢ أسس مجلة «النقد الفلسفي» نشر فيها مقالات كثيرة، ثم أسس مجلة «النقد الديني» (١٨٧٨) لنشر البروتستانتية، وابتداء من ١٨٩١ أحل مجلة «العام الفلسفي» محل مجلة «النقد الفلسفي» ونشر الكتب الآتية: «الفلسفة التحليلية للتاريخ» في أربعة مجلدات (١٨٩٦–١٨٩٨) «المونادولوجيا الجديدة» (١٨٩٦) «متناقضات الميتافيزيقا الخالصة» (١٩٠١) وبعد وفاته نشرت (١٩١٠) مراسلته مع شارل سكرتان وهي تمتد من ١٨٦٨ إلى ١٨٩١.

قلنا إن الحرية هي الركن الأول من أركان مذهبه، وهو يضعها وضعًا كما فعل لكيي مع اختلاف في الطريقة، فإنه يقول: إن العلوم لا تفحص عن مبادئها ولا عن المعاني الأساسية فيها، ولكنها تقتصر على استخدام المبادئ لتسجيل العلاقات بين الظواهر، وفي هذه الوظيفة تنحصر قيمة المبادئ، وهذا هو السبب في اتفاق العلماء فيما بينهم، وعلى ذلك فالعلوم متمايزة بتمايز مبادئها، ولا يمكن سلكها في علم كلي، وإن الخطأ الأكبر الذي يقع فيه أنصار العلم تصورهم الفلسفة على أنها العلم الأعلى الذي يضم جميع الظواهر تحت مقولة الكم فحسب في حين أن هذه المقولة لا تنطبق إلا على أبسط الظواهر، ليست الفلسفة مثل هذا العلم، بل إنها ليست علمًا، إذ أنها تفحص عن مبادئها الخاصة وتضعها موضع المناقشة، فليس من مبدأ يفرض نفسه على الفكر دون منازع، وليس من مبدأ إلا وقد وجد من شك فيه ويمكن الشك فيه، فالفيلسوف يضع مبادئه بفعل ذاتي تتدخل فيه جميع قواه ومنها الهوى والإرادة (كما ارتأى فختي)؛ فليس اليقين حالة انفعالية للعقل، ولكنه حالة فعلية، بحيث يمكن القول أن ليس هناك يقين وإنما هناك أناس موقنون، فالحرية هي الحقيقة الأولى في ميدان المعرفة هي مسلمة من المسلمات يستخدمها الجبري نفسه حين يختار الجبر والضرورة مبدأ أول، ومع هذا الفارق وهو أنه يناقض نفسه بينما الحري يتفادى التناقض.

ورنوڤيي فيما يخصه يختار الإيمان بالعقل واصطناع مبدأ عدم التناقض الذي هو عماد العقل.

أما فكرة التناهي التي هي الركن الثاني من أركان مذهبه فتلزم من اعتبار أن كل موجود بالفعل فهو متناهٍ ضرورة وأن كل عدد فهو جملة معينة، وليس لفكرة اللا متناهي سوى معنى واحد مقبول هو قدرة العقل على اطراد سيره دائمًا، وإذا ما قصدنا بها موجودًا عينيًّا كانت متناقضة، ولما كان العالم، أي مجموع تصوراتنا، خاضعًا لقانون العدد، كان متناهيًا، ولو أن تجربتنا تعجز عن استيعابه، فليس يمكن القول بجوهر مادي ينقسم إلى غير نهاية، ولا بالمكان الذي هو خاصية من خصائص المادة، ولا بالزمان وهو متجانس متصل كالمكان، ولا بالحركة وهي انتقال في المكان والزمان؛ ولذا نستبعد الآلية التي ترد الموجودات جميعًا إلى جوهر مادي واحد، وترد الأفعال والأحداث إلى سلسلة متصلة، فتجعل في العالم محلًّا للإمكان والحرية، وهذا يعني أننا نتصور الأشياء مركبة من وحدات منفصلة أو مونادات، وأننا نتصور الأفعال والأحداث متمايزة منفصلة، على أن المونادا ليست جوهرًا روحيًّا كما قال ليبنتز ولكنها متقومة بالعلاقات الباطنة والظاهرة بين التصورات ليس غير، وقانون تصور الامتداد هو الذي يحدونا إلى تصورها كأنها ذرة أو جوهر فرد قائم بذاته، كذلك ليس يمكن القول بجوهر روحي غير متناهٍ: ما فكرة الله إلا فكرة النظام الخلقي الضامن لخلود النفس ومطابقة السعادة والفضيلة على ما قال كنط، دون حاجة إلى تصور الله خالقًا للطبيعة وموفقًا بينها وبين الفضيلة، الله مملكة الغايات أو نظام الغائية، وإذا أردنا أن نؤمن بإله وجب أن نتصوره متناهيًا حتى يكون معقولًا ويدع مجالًا لحريتنا، ومتى سقط اللا متناهي سقط أيضًا إمكان الانتقال بفوارق غير متناهية بين الظواهر، ولزم أن قيمة قانون العلية محدودة، وأن من الممكن أن توجد علل لا تكون معلولات، أي أن توجد «بدايات مطلقة» كما يقولون، أو أن حرية الإرادة ممكنة، وهذا هام جدًّا للأخلاق، ويدلنا التاريخ على أن ليس هناك قانون تاريخي كلي، وإنما هناك قوانين متعددة ينطبق كل منها على مرحلة من مراحل التاريخ، ولكل مرحلة بداية جديدة، أي فعل حر كان يمكن أن يكون غير ما كان، البدايات الجديدة هي عظماء الرجال، فإن ما يدلون عليه من قدرة خالقة يشهد ببطلان القول بأن الشخصية نتيجة تطور بطيء، وإن في المنهج التاريخي الذي يعتبر كل ما يحدث كأنه الممكن الوحيد، وعلى ذلك ينتهي رنوڤيي إلى التصورية المطلقة، ولكنه لا يبين أساس القوانين الطبيعية، ولا كيف يتحقق نظام الغائية بالقوانين الطبيعية، ولا أصل النظام الغائي؛ ولم ير أن فكرة الإله المتناهي هي الفكرة المتناقضة من حيث إن المتناهي لا يمكن أن يكون مبدأ أول وأن التناهي في العدد غير التناهي في الوجود.

وأما نسبية المعرفة التي هي الركن الثالث من أركان مذهبه فلازمة من كوننا لا ندرك سوى تصوراتنا وعلاقاتها، والعلاقات الأساسية هي المقولات ولا تستنبط المقولات استنباطًا قياسيًّا أو بالتركيب الأول كما حاول ذلك كنط، بل تستخلص من تحليل التجربة، وهذه إحدى النقط التي يفترق فيها رنوڤيي عن أستاذه الكبير، فإنه يقول: «لقد طلب كنط المستحيل إذ أراد أن يبرهن على أن مقولاته هي المقولات الحقة وأن ليس هناك أكثر ولا أقل من التي يوردها أما أنا فقد نهجت منهجًا تجريبيًّا، ولا أدري كيف أستطيع أن أفعل غير ذلك فليسأل القارئ نفسه إن كان هذا الجدول مرضيًا مستنفدًا كل مضمون التصور وهذا كل ما له علي» والمقولات تؤلف نظامًا من المعاني مرتبة، وهذا النظام عبارة عن فلسفة، وها هو ذا:

مقولة قضية نقيض القضية المركب
(إضافة) (تمييز) (توحيد) (تعيين)
عدد وحدة كثرة جملة
وضع نقطة (حد) مكان (مسافة) امتداد
تعاقب آن (حد) زمان (مسافة) ديمومة
كيفية فرق جنس نوع
صيرورة نسبة لا نسبة تغير
علية فعل قدرة قوة
غائية حالة ميل انفعال
شخصية ذات لا ذات وجدان

هذه المقولات ترجع كلها إلى مقولة الإضافة للأسباب التي تحتم القول بالنسبية، وإن مبدأ النسبية ناشئ من طبيعة شعورنا، فإن الشعور نفسه نسبة، ولكنه يتميز من سائر النسب بأنه نسبة بين الأنا كذات والأنا كموضوع أي نسبة بين حدين هما شيء واحد، وهكذا كان الشعور أساس سائر النسب إذ أنها لا تتضح إلا بردها إلى هذه النسبة الرئيسية، وإذا أريد تجاوز الظواهر فليس يمكن ذلك إلا بمسلمات دينية، بشرط ألا تتعارض ومبدأ النسبية بقبول فكرة إله لا متناهٍ، ورنوڤيي يوافق هيوم على استحالة البرهنة على موضوعية علاقة العلية والخروج بوساطتها من دائرة التجربة، ويفترق عنه بقوله إن مقولة العلة مرتبطة بطبيعة شعورنا كما تقدم، وبقوله إن الإرادة هي أساس هذه المقولة في الشعور، أي إن معنى الإرادة هو الذي يجعل معنى العلة مفهومًا فلا يرد إلى معنى أسبق منه بل يجب أن يقف عنده الفكر بموجب قانون النسبية، ولكننا نسأل: هل الحد الذي يحتم علينا هذا القانون الوقوف عنده هو حد أول بذاته، أو هو أول بالإضافة إلينا؟ في الحالة الأولى نصل إلى المطلق ويصبح قانون النسبية نسبيًّا مع أنه في طبيعة شعورنا، وفي الحالة الثانية لا يسوغ لنا كذلك اعتباره أول والوقوف عنده؛ فلا محيص عن التناقض، إن المنطق يقضي أن يقودنا قانون النسبية إلى اللا نهاية التي يأباها رنوڤيي كل الإباء فيقول بحق إن التسلسل لا يوفر لنا أي تفسير.

بناء على هذه الأركان الثلاثة: ما مكان الإنسان في العالم؟ هناك نظريتان: إحداهما تخضع الشخص «للشيء» أي للموضوع الذي لا شخصية له، والأخرى تتصور الأشياء بالمماثلة مع الشخص، التصويرية تحسم الخلاف وتنحاز إلى النظرية الثانية، إذ مهما يكن من تسلط الموضوع على العقل فإن العقل يدرك أن الموضوع موضوعه هو وليس مباينًا له، فالعقل متقدم على الموضوع تقدمًا منطقيًّا، ونحن لا نعقل العالم إلا بتأويله تبعًا لتجربتنا الباطنة وبالمماثلة معها فنعود إلى الموقف الأول للإنسان حين كان يشخص قوى الطبيعة، ولكننا نستخدم الفلسفة ولا نجري مع الخيال والأسطورة، فنتصور الأشياء مونادات كما ذكرنا، ولكن المونادا عند رنوڤيي جملة علاقات كما سبق القول، فكيف تكون شخصيًّا؟ نرى ههنا التعارض بين النسبية وبين النزعة الشخصية: الأولى لازمة من الفلسفة الحديثة، والثانية لازمة من «الإرادة» التي يؤكدها العصر الحديث ويبالغ في توكيدها.

وإذا سلمنا أن الإنسان شخص، وأن الشخص موجود خلقي، كما يريد رنوڤيي، فكيف تكون أخلاق الإنسان؟ يريد رنوڤيي أيضًا أن تقوم الأخلاق علمًا مستقلًّا بذاته لا يستند إلى الدين أو إلى الميتافيزيقا، والسبيل إلى ذلك في رأيه أن تبدأ بفكرة الإنسان باعتباره «موجودًا حاصلًا على العقل ومعتقدًا نفسه حرًّا»، هذا الموجود يعلم بالتجربة أن له غايات رئيسية وأخرى ثانوية، غايات بعيدة وأخرى قريبة، خيرات زائلة وأخرى دائمة، خيرات يعرضها العقل وأخرى تدفع إليها الشهوة؛ فيحكم أن غايات معينة هي الأفضل على كل حال، وهذا هو الحكم التركيبي الأساسي الذي يتحقق فيه معنى الواجب، أي كلما رأى العقل غاية «واجبة» التحقق بموجب قوانينه، رآها في الوقت نفسه «واجبة» الطلب بالإرادة؛ وحينئذٍ تنشأ واجبات الإنسان نحو نفسه، فإذا تصورناه في علاقة مع الطبيعة نشأ واجب احترام كل ما يتصف بالنظام والعقل، وإذا تصورناه في علاقة مع الحيوان ثم مع إخوانه في الإنسانية نشأ واجب العدالة، ونشأت مع العدالة معاني الكرامة والاحترام والحقوق والواجبات، وهكذا يتم علم الأخلاق العقلي، ولكن رنوڤيي لا يسوغ الانتقال من الوجوب العقلي إلى إلزام الإرادة، ونحن هنا بين حدين متباينين، إن هذا الانتقال لا يسوغ إلا بالتدليل على أن الوجوب العقلي يريده إلزامًا للإرادة مشرع هو خالق العقل والإرادة، وهذا التسويغ، وتسويغ تعريف الإنسان بأنه موجود عاقل حر خلافًا للمذهب الحسي مثلًا، يرجعان إلى الميتافيزيقا؛ فعلم الأخلاق علم تابع وليس علمًا مستقلًّا، وفلسفة رنوڤيي في جملتها قائمة على التصورية وما تستتبعه من نسبية أو شك وعلى خلط بين اللا نهاية التي تعني عدم التعيين، واللا نهاية التي تعني كمال الوجود بالفعل، وتشخيص الأولى تناقض، وتشخيص الثانية يحتمه معنى العلة الأولى الذي يحتمه النظر في الوجود، كما أوضحنا غير مرة وسنضطر إلى إيضاحه غير مرة، إذ أن هذا الخلط شائع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤